الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى
على ما ذكره إلا أن الأمر بخلافه، لأنا قد بينا فيما تقدم أن الإمام حجة في الشرع وأدائه، وأنه يستفاد من جهته، وأن الحال ربما انتهت إلى أن يكون الشرع لا يعلم إلا من جهته، بأن يعرض الناقلون عن نقله، فكيف يحتاج الإمام في تعلم العلم واستفادته على هذا إلى من يحتاج إليه في ذلك بعينه، ولا شبهة في ارتفاع التناقض عن حاجته إلى الشهود مع حاجتهم إليه لاختلاف وجه الحاجة وقد بينا أن الأمر فيما نتكمل عليه بخلاد ذلك.
فأما الموضع الآخر فليس يجوز أن تكون الحاجة إلى أمر من الأمور واجبة وذلك الأمر جائز حصوله وارتفاعه مع القول بأن المحتاج إليه مزاح العلة، لأن وجوب حاجته يقتضي وجوب وجود ما يحتاج إليه حتى يكون مزاح العلة، وهذه الجملة تقتضي أن تكون الأمة إذا وجب عملها بالشرائع إلى أن تقوم الساعة، ووجب بوجوب ذلك علمها بالشرائع يرجع في العلم إلى من يجب حصوله له، ولا يجوز عدمه من جهته، لأن ذلك يؤدي إلى انتفاء إزاحة العلة في التكليف، وقد اعترف صاحب الكتاب بمعنى ما ذكرناه بقوله عقيب هذا الكلام. " ولذلك نقول: إن جملة العلوم يجب أن تكون محفوظة في الأمة وإن تفرقت في العلماء لكي يصح أن يظفر بها من يطلبها من أهل العلم. فأما وجوب حصول ذلك في الواحد فغير واجب لأنه لا فرق بين أن يوجد مفترقا في صحة التوصل إليه أو مجتمعا عند واحد " وهذا تصريح منه كما ترى لوجوب حصول العلم وإمكان الوصول إليه لتكون العلة مزاحة وما استأنفه من ذلك كالناقض لما قدمه، لأنه أراد أن يبين أن حصول المحتاج إليه ليس يجب من حيث تعلقت الحاجة به، وشبهه بالرزق وهو الآن قد اعترف بوجوب وجوده وحصوله، إلا أنه قال: ليس يجب أن يحصل عند واحد بعينه بلا فرق في إزاحة العلة بين وجوده مفترقا ومجتمعا، والأمر في ذلك على ما قال لأن
|
|
فصل
في اعتراض كلامه في الأفضل
(1)
إعلم أنه قد بني هذا الفصل على أن العقل لا يدل على كون الإمام أفضل، وعلى أن هذه الصفة غير واجبة لمن كان إماما، وأن المرجع في أنها مراعاة وغير مراعاة إلى الشرع وأدلته، وهذا بناء منه على فساد وتفريع على خطأ، لأنا قد بينا فيما سلف من هذا الكتاب أن العقل دال على أن الإمام لا يكون إلا الأفضل وأن الشرع لا مدخل له في هذا الباب، وقد كان من حقنا أن نتجاوز هذا الفصل من كلامه لكنا نتكلم على نكت منه، ففي الكلام عليها ضرب من الفائدة.
أما استدلاله على أن الفضل في غالب الظن، وفي الظاهر غير معتبر في الإمام بقول عمر لأبي عبيدة: امدد يدك أبايعك، مع ظهور فضل أبي بكر على أبي عبيدة، وتأويله قول أبي عبيدة في جوابه: ما لك في الاسلام فهة (2) غيرها، على أنه لم يرد بذلك الخطأ في الدين، بل أراد الزلل في الرأي والتدبير، واستدلاله على صحة تأويله بأن أبا عبيدة كان يجوز الخطأ في الدين على عمر بعد الاسلام، فلا يجوز أن يريد بهذا النفي
____________
(1) لخص المرتضى ما قاله قاضي القضاة في هذا الفصل وهي في " المغني " من ص 215 إلى 234.
(2) الفهة: السقطة والجهلة ونحوها.
|
فأما تصحيحه لتأويله بأن أبا عبيدة كان يجوز الخطأ على عمر بعد الاسلام، فطريف لأنه وإن كان يجوز ذلك عليه فليس يمتنع أن يكون أبو عبيدة لم يظهر له من عمر خطأ بعد الاسلام إلا ما دعاه إليه من المبايعة، وإن كان لا يجوز الخطأ عليه فليس في تجويز الشئ دلالة على وقوعه وظوره.
وقوله - " إن عمر كان أعلم بفضل أبي بكر من أبي عبيدة، فكذلك عمر كان أعلم بمزية أبي بكر في سكون الناس إليه والأخبار المأثورة فيه من أبي عبيدة " فكيف جاز أن يقول ما قاله فليس له في هذا الباب إلا مثل ما عليه، لأنه إن جاز له أن يدعي أن مزية أبي بكر فيما بينه من السكون وغيره وخفيت على عمر جاز لخصمه أن يدعي أن مزيته في الفضل خفيت على عمر، وإن قال: إن ذلك لم يخف عليه، وإنما عرض البيعة على أبي
____________
(1) في النفوس، خ ل.
(2) غ " أو ما له مزية في الأخبار ".
|
فأما ارتضاؤه في علة تقديم أبي بكر للإمامة مبادرة إطفاء الفتنة المتخوفة عقيب موت الرسول صلى الله عليه وآله لما كان من الأنصار، وأن تأخير العقد في تلك الحال كان يؤدي إلى أمور يبعد تلافيها فلهذا قدموا المفضول على الفاضل، فأول ما يقال له في ذلك: لسنا نرضى منك بادعاء فتنة لم تظهر أسبابها، ولم تقو إمارتها، ولم تلح دلالتها، حتى يجعل ذلك ذريعة إلى دفع الفاضل عن مقامه، فأشر إلى هذه الفتنة التي ادعيتها، وزعمت أنها كانت متخوفة، فإن أشاروا إلى ما كان من الأنصار من حضور السقيفة، وجذب الأمر إلى جهتهم، فهذا لم يكن من الأنصار ابتداء حتى يحمل على تقديم المفضول على الفاضل، والمعروف في الرواية أن النفر من المهاجرين ابتدؤا بحضور السقيفة فبلغ الأنصار أن المهاجرين قد اجتمعوا للخوض في باب الإمامة فصاروا إلى السقيفة وجرى بينهم ما جرى، على أن الأنصار لم يكونوا عندكم ممن يرتكب العناد، ويحمله اللجاج على خلاف الرسول صلى الله عليه وآله ولم يحضروا السقيفة للمغالبة والمجاذبة، وإنما حضروا للتدبير والمشاورة، ولهذا يقولون إنهم رجعوا عند رواية الخبر المتضمن لإخراجهم من نصاب الإمامة، وسلموا وانقادوا وأذعنوا ولم يبق منهم من هو مقيم على الخلاف إلا واحد يدعي قوم استمراره على الخلاف، وتنفون أنتم ذلك عنه، فأي فتنة تتخوف ممن هذه حاله في الإمامة، وطلب السلامة، والانقياد للحق.
فأما ما لا يزال يقول مخالفونا في هذا الموضع من أن العقد إنما بودر إليه خوفا من فتنة المنافقين الذين كانوا في خلال المؤمنين، يتربصون بهم الدوائر، فإن موت رسول الله صلى الله عليه وآله قوي في نفوسهم وشد من
____________
(1) المراد به سعد بن عبادة.
|
ثم يقال لصاحب الكتاب: إذا جاز أن يحمل خوف الفتنة على تأخير المقدم وتقديم المؤخر في باب الفضل فألا جاز أن يحمل خوف الفتنة على العقد للفاسق؟ أو لمن لا علم له جملة ولا فضل، أو لمن هو في أدنى طبقات العلم والفضل، فلا يكون أفضل، ولا كالأفضل.
فإن قال: لأن كونه أفضل ليس من الشرائط الواجبة التي لا بد منها، وإنما هو كالترجيح، وكونه عدلا من الشروط الواجبة كذلك كونه ذا حظ من العلم.
قيل له: هذا اقتراح لا فرق بينك وبين من عكسه، وقال: إن الفضل هو الذي لا بد منه، وإن العدالة هي التي تجري مجرى الترجيح.
____________
(1) لعلها " مسند " أي مستقيم أو " مشتد " بمعنى قوي، وإن ل " مستبد " وجه بمعنى متباعد ويريد به الكثرة والسعة ولكنه بعيد.
|
فإن قال: فكأنكم بطعنكم على الوجه الذي اخترناه في علة تقديم أبي بكر مصوبون لمن اعتل في تقديمه بأنه كان أفضلهم من حيث لم يكن بأعزهم عشيرة، ولا بأكثرهم مالا.
قلنا: أليس يجب من حيث طعنا على بعض العلل أن نكون مصوبين لغيرها، وكل ما حكيته من التعليل فاسد عندنا، لأنه مبني على أن الاختيار كان صوابا صحيحا، وإنما الخلاف في علة تقديم المفضول على الفاضل ونحن إن لا نقول بصحة ذلك الاختيار وصوابه فنحتاج إلى ذكر علته وعندنا أنه كان فاسدا وإنما حمل قوما عليه الحمية والعصبية، وانقاد آخرون للشبهة، وأمسك الباقون للتقية، فلا معنى للكلام في طلب العلل، وهذا المعنى قد مضى فيه كلام كثير وسيأتي فيه كلام آخر عند الحاجة إليه بعون الله تعالى.
ثم ذكر صاحب الكتاب الخلال التي تقدم المفضول على الفاضل لأجلها في كلام طويل جملته أنه عد من جملة ذلك أن تكون بعض الشرائط التي يحتاج إليها في الإمامة مفقودة في الفاضل، موجودة عند المفضول، كالعلم والمعرفة بالسياسة، أو يكون الفاضل عبدا أو ضريرا أو زمنا أو شديد الجبن والجزع، أو يكون الأفضل من غير قريش، أو يكون المفضول مشتهر الفضل عند العامة والخاصة، والأفضل خفي الفضل، أو يعرف من انقياد الناس للمفضول، وسكونهم إليه، واستنامتهم (1) إلى ولايته ما لا يعرف في الفاضل، أو يكون المفضول في البلد الذي مات فيه
____________
(1) استنام إلى الشئ سكن واطمأن.
|
يقال له: إن من كان ناقص العلم والسياسة أو مفقود الشجاعة، أو معروفا بالحدة والعجلة، والبخل الشديد، فليس الأفضل بالإطلاق، وإنما أوجبنا الإمامة لمن كان أفضل في كل الخلال المراعاة في باب الإمامة، فمن كان أفضل في شئ ومفضولا في غيره لم يكن الأفضل بالإطلاق.
فإذا قال لنا قائل: أفرأيتم لو اتفق أن يكون الأفضل في العبادة والثواب ناقصا في العلم والسياسة، ويكون الأفضل في السياسة والعلم مفضولا في الثواب والعبادة، من الذي ينصب إماما منهما.
قلنا: متى لم يكن الأفضل في سائر الخلال واحدا، وانقسم الفضل القسمة التي ذكرها السائل، وجب أن ينصب الفاضل في العبادة، والناقص في السياسة، إماما لمن كان دونه في كل ذلك، وينصب الفاضل في السياسة المفضول في الثواب والعبادة إماما لمن كان أيضا دونه في كل ذلك، ولا يقدم المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه، وليس ينكر ما ذكرناه لأن اختصاص ولاية الإمام بفريق دون فريق من طريق العقل جائز، ولا يمتنع أيضا لو اتفق ما ذكروه أن يجعل الفاضل في العبادة إماما للمفضول فيها، والفاضل في السياسة إماما للمفضول، وهذا أيضا غير منكر.
فأما ظهور الفضل عند العامة والخاصة، فليس بعلة توجب تقديم
____________
(1) انظر المغني 20 ق 1 / 230 علما بأن ما في المتن تلخيص لما هناك.
|
فأما الاستنامة والسكون والانقياد للمفضول، والانحراف عن الفاضل، والنفور عن ولايته فليس يجوز أن يكون علة في تقديم المفضول وتأخير الفاضل لأن الاستنامة والسكون إذا كانا إلى من لم تتكامل صفاته، أو من كان غيره أحق منه وأولى بالتقديم لم يكن بهما اعتبار، ألا ترى إن الناس لو سكنوا إلى الفاسق، ومن لا علم عنده بشئ من الأحكام، ونفروا عن العدل العالم بالأحكام لم يكن ذلك علة في تقديم الفاسق الجاهل، وتأخير العدل العالم، على أن صاحب الكتاب كأنه ناقض لهذا الموضع بقوله بعد هذا الفصل: " ولذلك قال شيخنا أبو علي: إن نفور الناس عن أمير المؤمنين عليه السلام لما كان منه من قتل الأقارب " لا يعد علة بها يقدم الغير عليه، لأن ذلك من عظيم مناقبه في الدين، وأقوى ما يدل على شدته في ذات الله تعالى.
قال: " وعلى هذا الوجه حمل ما ذكر من فظاظة عمر وحدته لأن ذلك كان في ذات الله تعالى وفي دينه، فما حل هذا المحل لا يجوز تقديم
____________
(1) نزر المعرفة: قليلها.
|
فأما كون المفضول في البلد الذي مات فيه الإمام وبعد دار الفاضل، وخوف الفتنة من تأخير العقد، فإنما يصح له أيضا أن يكون سببا عند من جعل الإمامة بالاختيار، وذلك فاسد، على أنه يوجب أن يعقد للفاسق، والخالي من كل علوم الدين إذا كان في البلد الذي توفي فيه الإمام وخيفت الفتنة من تأخير العقد، وهذا مما لا فضل فيه.
ثم قال صاحب الكتاب: " فإن قيل: إن كان الأفضل أولى بالإمامة فيجب بعد العقد للإمام الذي هو الأفضل إذا صار غيره أفضل منه أن يعقد له وينقض عقد الأول " ثم قال: " قيل له: لا يمتنع في هذا الشرط أن يعتبر في الأول على بعض الوجوه، ولا يعتبر بعد ذلك لأن كثيرا من الأحكام قد تعرض ولا يمنع من صحة العقد، وإن كان في الابتداء يمنع منه كالعلة (2) التي تطرأ على النكاح فلا تمنع من صحته، وإن منعت في الابتداء إلى غير ذلك فهو موقوف على الدلالة، وقد ثبت بالدليل أن عقد الإمام لا ينقض بذلك، وهو الإجماع، على أن شيخنا أبا علي قد ذكر فيما أظن أن الإمام إذا كف بصره لا يفسخ إمامته وإنما ينوب عنه غيره وهو على جملة الإمامة فلم ينقض عقد الإمامة لهذه الخلة، وهو في باب المنع أقوى من كون المفضول مفضولا... " (3).
____________
(1) غ " تقديم المفضول عليه ".
(2) غ " كالعدة ".
(3) المغني 20 ق 1 / 231.
|
وأما ادعاؤه الإجماع على أن عقد الإمامة لا ينقض بذلك، فباطل لأنا خارجون عن هذا الإجماع، وعندنا أن الإمامة لو كانت بالاختيار، وكان الفضل فيها مراعى ابتداء لوجب أن يكون مراعى في المستقبل، ويجب أن تنقض إمامة من صار مفضولا كما يمنع من العقد للمفضول.
فأما ما حكاه عن أبي علي في الإمام إذا كف بصره، فإن كان أبو علي ممن يقول: إن كف البصر مانع من العقد في الابتداء فيجب أن ينقض به متى عرض في الإمام، وهو مناقض متى لم يلتزم ذلك، والحجة ما اعتبرناه في أن المانع من العقد ابتداء يمنع منه ثانيا، وإن لم يكن يقول ذلك فلا معنى للاحتجاج بقوله.
ثم قال صاحب الكتاب: " فإن قيل: لو قطع بالنص على فضل الواحد أكان يجوز العدول عنه إلى غيره؟ قيل له: قد يجوز ذلك لأن الذي
____________
(1) خ " ونقض الإمامة ".
|
يقال له: لا شبهة في أن الفضل المقطوع عليه أولى أن يقدم صاحبه من الفضل المظنون، وإنما يعتبر الفضل في الظاهر دون الباطن من يعتبره في هذا الباب من حيث لم يكن له إلى الباطن سبيل، ولا عليه دليل لأن الظن إنما يكون له حكم، ويقوم مقام العلم عند تعذر العلم فأما مع حصول العلم فلا حكم للظن، ولهذا لو علمنا بخبر الرسول صلى الله عليه وآله عدالة بعض الشهود لكانت شهادته أولى من شهادة من يظن عدالته ولا يقطع عليها، وما أظن أحدا يسوي في هذا الباب بين شهادة المقطوع على عدالته، والمظنونة عدالته، ولا يجعل الرجحان والمزية في جهة العلم.
فأما الذي جعله أصلا من وصف الرسول صلى الله عليه وآله لرجل بأنه قرشي فلا يمتنع أن يقدم غيره ممن يظن أنه قرشي، والخلاف في الأمرين واحد والحجة على فساد قوله في الأصل والفرع جميعا ما ذكرناه.
____________
(1) غ " أن كل قرشي ".
(2) المغني 20 ق 1 / 231.
|
فصل
في اعتراض كلامه في " أن الأئمة من قريش
"
(1)
إعلم أن المذهب في هذا الباب وإن كان واحدا لأنا نوافقه على أن الإمامة لا تصلح في غير قريش، فلنا أن نتكلم فيه من حيث اختلفنا في الدلالة، والطرق الموصلة إلى هذا المذهب، وإنما ذكرنا هذه المقدمة لئلا يظن ظان أن الخلاف منا واقع في المذهب.
قال صاحب الكتاب: " قد استدل شيوخنا على ذلك بما روي عنه صلى الله عليه وآله (إن الأئمة من قريش) وروى عنه أنه قال: (إن هذا الأمر لا يصلح إلا في هذا الحي من قريش) وقووا ذلك بما كان يوم السقيفة من كون ذلك سببا لصرف الأنصار عما كانوا عزموا عليه، لأنهم عند هذه الرواية انصرفوا عن ذلك، وتركوا الخوض فيه، وقووا ذلك بأن أحدا لم ينكره في تلك الحال، وأن أبا بكر استشهد في ذلك الحاضرين فشهدوا به [ على النبي صلى الله عليه ] (2) حتى صار خارجا عن باب خبر الواحد إلى الاستفاضة (3) وقووا ذلك بأن ما جرى (4) هذا المجرى إذا ذكر
____________
(1) انظر " المغني 20 ق 1 / 234.
(2) الزيادة من " المغني ".
(3) غ " إلى الكثرة ".
(4) غ " من جرى ".
|
يقال له: ليس يصح احتجاجك بهذه الطريقة التي سلكتها إلا بعد أن تبين أشياء منها أن أبا بكر ذكر يوم السقيفة ما حكيته، واحتج به، وأن ذلك وارد من جهة توجب العلم، ومنها أنه لما احتج بذلك سلمت الأمة له احتجاجه، وصدقته عليه، ورضيت به، ومنها أن اللفظ موجب لنفي الإمامة عمن ليس بقرشي وأنها لا تجوز إلا في قرشي، وما رأينا صاحب الكتاب بين شيئا مما ذكرناه، وإنما عول على جملة الدعوى، ونحن نبين أن شيئا من ذلك لم يثبت.
أما احتجاج أبي بكر على الأنصار بالخبر المتضمن (إن الأئمة من قريش) فأكثر من روى الخبر، ونقل السير نقل خبر السقيفة وما جرى فيها لم يذكره بلفظ ولا معنى بل ذكر من احتجاج أبي بكر وغيره على الأنصار وجوها وطرقا ليس من جملتها هذا الخبر المدعى، وقد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه التاريخ قصة السقيفة وما جرى فيها من الاحتجاج (1) ونحن نذكر ما حكاه على طوله ليعلم خلوه من ذلك، قال روي (2) عن هشام بن محمد عن أبي مخنف عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري (3) أن النبي صلى الله عليه وآله لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر من بعد محمد صلى الله عليه وآله سعد بن عبادة وأخرجوه إليهم وهو
____________
(1) انظر تاريخ الطبري 3 / 218 - 223 حوادث سنة 11.
(2) في الطبري " حدثنا هشام ".
(3) هو عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي قال ابن الأثير في أسد الغابة 3 / 200: " له صحبة ".
|
بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه " يا معشر الأنصار إن لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الاسلام، ليست لقبيلة من العرب، إن محمدا صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، والله ما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسوله، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، فرزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، وكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا واخرا وحتى أثخن الله لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله إليه وهو عنكم راض، وبكم قرير العين، استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس " فأجابوه بأجمعهم أن قد وفقت في الرأي وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت نوليك هذا الأمر فإنك فينا مقنع، ولصالح المؤمنين رضا، ثم إنهم ترادوا الكلام، فقالوا: فإن أتت مهاجرة قريش، فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوا الأمر من بعده، فقالت طائفة منهم: فإنا نقول إذا فمنا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا أبدا، فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن، وأتى عمر الخبر فأقبل إلى منزل النبي صلى الله عليه وآله فأرسل إلى أبي بكر، وأبو بكر في الدار وعلي بن أبي طالب عليه السلام دائب في جهاز النبي
|
فما شئ كنت أريد أن أقول به، إلا وقد أتى عليه، قال عبد الله بن عبد الرحمن فبدأ أبو بكر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى يزعمون أنها لمن عبدها شافعة، ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت، وخشب منجور، ثم قرأ (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) (3) (وقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (4) فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخص المهاجرين
____________
(1) عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان حليف الأنصار كان سيد بني العجلان صحابي توفي سنة 45 بعد أن عمر 115 أو 120 سنة (انظر أسد الغابة 3 / 75).
(2) في نسخة " عويمر " والصواب " عويم " كما في الطبري، وهو عويم بن ساعدة الأنصاري قال ابن الأثير في أسد الغابة 4 / 158: " له أثر في بيعة أبي بكر الصديق ".
(3) يونس 18.
(4) الزمر 3.
|
____________
(1) في الطبري " وشنف الناس لهم " والشنف: البغض.
(2) يقال: تفوت فلان على فلان في كذا، وافتات عليه إذا انفرد برأيه ولم يستشره.
(3) في الأصل " المنذر بن حباب " والصواب ما أثبتناه.
(4) في الأصل " الحسان بن المنذر " وليس في الصحابة من هو بهذا الاسم فهو تحريف " حباب " وما في المتن من المخطوطة وانظر تلخيص الشافي 3 / 63.
(5) القرن - بفتح القاف وسكون الراء - الحبل المفتول من لحاء الشجر.
|
بل إياك يقتل، فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير، فقام بشير بن سعد (4) أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار أما والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا
____________
(1) دل بباطل: جاء بدليل باطل، والجنف - بالتحريك - الجور والميل عن الحق. والإثم: فعل ما لا يحل، والمتورط: الواقع في الورطة - بفتح الواو وسكون الراء أي الهلكة.
(2) لاحظ ما تقدم ص 187 برقم 4.
(3) قال الزمخشري في الفائق 1 / 180 " الجذيل تصغير جذل - بالكسر - وهو في الأصل عوه ينصب للجربى تحتك به فتسشفى به، والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مملسا، والمرجب المدعوم بالرجبة وهي خشبة ذات شعبتين ومعناه أني ذو رأي يشفي بالاستشفاء به كثيرا في مثل هذه الحادثة وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الأحوال فيها وفي أمثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة " الحمل ".
(4) بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، قال ابن الأثير: " يقال: إنه أول من بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من الأنصار، وقتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة سنة اثنتي عشرة " (أسد الغابة 1 / 195).