الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى
بلا خلاف بين أهل العلم (1) وأنه عليه السلام كان يطعم المسكين واليتيم والأسير وحتى نزلت في ذلك سورة هل أتى على الإنسان (2) وفيه نزل وفي معنى نفقته ورد قوله: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (3) ولما تصدق بخاتمه وهو راكع نزل فيه قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (4) وهذه جهات لا تدفع ولا تجهل فأين نفقات أبي بكر والشاهد عليها إن كانت صحيحة. على أن الذي ادعى من إنفاق أبي بكر لا يخلو من أن يكون وقع بمكة قبل الهجرة لو كان صحيحا، أو بالمدينة، فإن كان بمكة فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله لم يجهز هناك جيشا ولا بعث بعثا ولا حارب عدوا وإنما يحتاج مثله عليه السلام إلى النفقة الواسعة في تجهيز الجيوش وإعداد الكراع (5) لأنه كان ممن لا يتفكه ولا يتنعم بإنفاق الأموال على أنه عليه السلام كان بمكة في كفاية واسعة من مال خديجة رضي الله عنها وقد كانت باقية عنده إلى سنة الهجرة وسعة حالها معروفة. ولما كان فيه من الكفاية والاتساع ضم أمير المؤمنين عليه السلام إلى نفسه وكفله واقتطعه عن أبيه تخفيفا عنه، وهذا لا يفعله المحتاج إلى نفقة أبي بكر، وإن كانت النفقة بعد الهجرة فمعلوم أن أبا بكر ورد المدينة فقيرا بلا مال، ولهذا احتاج إلى مواساة الأنصار.
وقد روى الناس كلهم أن النبي صلى الله عليه وآله كان في ضيافة
____________
(1) انظر تفسير الرازي 29 / 271 و 272.
(2) انظر الكشاف 4 / 97 وأسد الغابة 5 / 530 في ترجمة فضة.
(3) تفسير الرازي 12 / 26.
(4) المائدة 55.
(5) الكراع: اسم لجمع الخيل.
|
وقد بين أصحابنا في الكلام على نفقة أبي بكر وادعائها تارة أنه كان مملقا غير موسر ودلوا على ذلك من حاله بأشياء:
منها، أنه كان يعلم الناس ويأخذ الأجر على تعليمه، وليس هذا صنيع الموسرين.
ومنها، أنه كان يخيط الثياب ويبيعها.
ومنها، أن أباه كان معروفا بالمسكنة والفقر وأنه كان ينادي في كل يوم على مائدة عبد الله بن جدعان بأجر طفيف، فلو كان أبو بكر غنيا لكفى أباه.
وبعد، فلو سلمنا لهم يساره وإنفاقه على ما يدعون لكان غير دال على الغرض الذي أجروا إليه، لأن المعتبر في الانفاق بالمقاصد والنيات.
فمن أين لهم أن غرض أبي بكر كان محمودا؟ وهذا مما لا بد لهم فيه من الرجوع إلى غير ظاهر الانفاق.
فأما قوله: " إنه كان صاحبه في الغار " فإنا متى اعتبرنا قصة الغار لم نجد فيها لأبي بكر فضلا بل وجدناه منهيا، والنهي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوجه إلا إلى قبيح ونحن نبين ما يقتضيه استقراء الآية.
____________
(1) أي شد الحجر على بطنه لدفع النفخ الحادث عن الجوع وخلو الجوف.
|
وقد قيل: إن لفظة (معنا) تختص النبي وحده صلى الله عليه وآله دون من كان معه وقد يستعمل الواحد العظيم هذه اللفظة في العبارة عن نفسه كما قال تعالى: (إنا أرسلنا نوحا) (4) و (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (5) ثم قال: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) وإنزال السكينة إنما كان على النبي صلى الله عليه وآله بدلالة قوله
____________
(1) التوبة 40.
(2) الكهف 37.
(3) المجادلة 7.
(4) نوح 1.
(5) الحجر 9.
|
فأما قوله: " وصاحبه في الهجرة " فإن أراد بذلك تفضيل هجرته على هجرة غيره في ظاهر الحال فليس الأمر على ما ظنه لأن هجرة أمير المؤمنين عليه السلام أفضل وأجل وأعظم من قبل أنه جمع بين الهجرة وبين ما خلفه النبي صلى الله عليه وآله لإنجازه من أموره المهمة وإخراج أهله ونسائه ولأنه صلوات الله عليه هاجر وحده خائفا على نفسه وعلى من معه من الأهل الذين كلف إخراجهم وحراستهم مستوحشا حتى روي أنه كان يكمن نهارا ويسير ليلا وأنه امتنع من ظهوره نهارا ومشى حتى انتفخ قدماه، وليس يكون خوف من هاجر وحده ومعه النساء والأهل ومن يخاف عليه كخوفه على نفسه كهجرة من كان مصاحبا للنبي صلى الله عليه وآله مستأنسا بقربه واثقا بأنه مرعى محروس لمكانه، ولا خلاف أن هجرة أبي بكر كهجرة عارم بن فهيرة (3) لأنهما صحباه عليه السلام ثم لا خلاف أن هجرة أمير المؤمنين عليه السلام كانت أفضل من هجرة عامر بن فهيرة
____________
(1) التوبة 26.
(2) الفتح 26.
(3) عامر بن فهيرة التيمي بالولاء أحد السابقين ممن يعذب في الله، كان مع النبي صلى الله عليه وآله عندما هاجر إلى المدينة استشهد ببئر معونة (انظر ترجمته في الإصابة ق 1 حرف العين).
|
فأما أنه: " أنيسه في العريش يوم بدر " فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أفضل وأوثق بالله تعالى من أن يحتاج إلى مؤنس والوجه في احتباس أبي بكر في العريش معروف لأنه عليه السلام كان يعهد منه الجبن والهلع لما ظهر منه في مقام بعد مقام، فهو الفار في يوم خيبر، وأول المنهزمين يوم أحد وحنين، فلو تركه يختلط بالمحاربين لم يأمن أن يظهر من خوره ما يكون سببا للهزيمة. وطريقا إلى استظهار المشركين، فأجلسه معه لتكفي هذه المؤونة ويكفي في هذا الوجه أن يكون ما ذكرناه جائزا، ويبين صحته أنه لو أنس منه رشدا في القتال ووثق بكفايته واضطلاعه بالحرب لم يكن ليحرمه منزلة المحاربين، ودرجة المباشرين للحرب الذين قال الله تعالى فيهم: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) (1) والذين قال الله تعالى فيهم: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (2) فأما قوله: " إنه كان المستشار في أموره " فأول ما فيه أن النبي صلى الله عليه وآله لا يستشير أحدا لحاجة منه إلى رأيه، وفقر إلى تعليمه وتوقيفه لأنه عليه السلام الكامل الراجح المعصوم المؤيد بالملائكة، وإنما كانت
____________
(1) التوبة 111.
(2) النساء 95.
|
فأما قوله: " إنه كان أميره على الموسم في الحج وحين افتتحت مكة " فغير مسلم له لأن أصحابنا يقولون: إنه لما عزل عن سورة براءة عزل عن إمارة الموسم وحج وهو غير أمير، وأظن أن فيهم من يقول إنه بعد عوده إلى النبي صلى الله عليه وآله الذي لم يختلف فيه (2) لم يرجع إلى الموسم.
فأما تأميره على الصلاة حين فتح مكة فما نعرفه.
فأما أنه المقدم في الصلاة أيام مرضه، فقد تقدم من كلامنا في ذلك ما فيه كفاية وبينا أنه عليه السلام لم يأذن في تقديمه.
فأما قوله: " إنه شبه بميكائيل من الملائكة. وبإبراهيم من الأنبياء ".
فمما لا يحتج بمثله صاحب الكتاب لأنه طريقة أغتام القصاص (3) ومن لا يبالي ما يخرج من رأسه، وما يحتج بمثل هذا ويصدق به ويرويه إلا من يروي أنه تعالى بكى على عثمان حتى هاجت عينه (4) جل وتعالى علوا كبيرا، ومن يروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما أسري به رأى في السماء ملائكة متلففين بالأكسية فسأل عنهم، فقيل له: إنهم تشبهوا بأبي بكر في تجلله بالعباءة، ولهذا نظائر لا ينشط صاحب الكتاب لقبولها ولا لسماعهما.
____________
(1) الدخائل جمع دخيلة.
(2) في الأصل " له يختلف " ولا يستقيم المعنى والتصحيح من " ض ".
(3) أغتام جمع أغتم وهو من لا يفصح في كلامه.
(4) هاجت عينه: أي ورمت.
|
وأما ما ادعاه من بشارته له ولغيره بالجنة فأول ما فيه أن راويه واحد ولا شبهة في أنه غير معلوم ولا مقطوع به فكيف يحتج في هذا الموضع به؟
ثم الذي رواه أحد العشرة وهو سعيد بن زيد بن نفيل (1) وهو مزك لنفسه مع تزكيته غيره، ودخوله في جملة من تضمنه الخبر شبهة، وطريق إلى التهمة.
وبعد، فقد علمنا أن الله تعالى لا يجوز أن يعلم مكلفا يجوز أن يقع منه القبيح والحسن، وليس بمعصوم من الذنوب بأن عاقبته الجنة، لأن ذلك يغريه بالقبيح ولا خلاف أن التسعة لم يكونوا معصومين من الذنوب وقد أوقع بعضهم على مذهب خصومنا كبائر وواقع خطايا وإن ادعوا أنهم تابوا منها.
ومما يبين بطلان هذا الخبر أن أبا بكر لم يحتج به لنفسه ولا احتج له به في مواطن دفع فيها إلى الاحتجاج كالسقيفة وغيرها، وكذلك عمر وعثمان أيضا لما حصر وطولب بخلع نفسه وهموا بقتله وقد رأيناه احتج بأشياء تجري مجري الفضائل والمناقب، وذكر القطع له بالجنة أولى منها وأحرى أن يعتمد عليه في الاحتجاج، وفي عدول الجماعة عن ذكره دلالة
____________
(1) سعيد بن زيد بن نفيل العدوي، هو ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته فاطمة أسلم قبل عمر، وهو أحد العشرة المبشرة مات بالعقيق أو المدينة واختلفوا في سنة وفاته بين سنة 50 - 58 (انظر أسد الغابة 2 / 307).
|
فأما قوله: " إنهم شكوا (1) في الفضل بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام وإن ذلك يدل على التقارب وظهور الفضل وأكثر ما فيه الدلالة على الفضل الظاهر الذي لا يختلف فيه، ولأجله وقع التمثيل، فمن أين الفضل الباطن؟ على أنه يلزم صاحب الكتاب على هذا الاعتلال أن يكون معاوية مستحقا للإمامة ومستوفيا لشرائطها لأن الناس قد ميلوا (2) في الإمامة بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام.
وقد بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما فسقط قوله: " إن عصمته غير واجبة ".
وبينا أيضا الكلام على الأخبار التي ادعاها من قوله: " إن وليتم أبا بكر " وبشارته بالخلافة واستقصيناه.
فأما قوله عن أبي علي " إن من جوز مقامه على الكفر كمن جوز مقامه بمكة ونفى انتقاله إلى المدينة " فإنما يكون ذلك مثالا لمن نفى انتقاله إلى إظهار الاسلام، وقد بينا أن ذلك لا ينفيه عاقل.
فأما قوله: " إنه عليه السلام كان يحذر نبيه صحبة المنافقين ويمنعه من ذلك " فهذا وإن كان على ما ذكره فقد كان في جملة أصحابه والمختلطين به منافقون، معروفون لا شبهة على أحد في أمرهم الآن، فأي شئ قاله فيمن ذكرناه أمكن أن يقال له في غيره.
فأما ما عارض به من قول الخوارج في أمير المؤمنين عليه السلام فما
____________
(1) ميلوا، خ ل، والمعنى واحد.
(2) في ض " مثلوا " تصحيف.
|
والقول الذي عارضه بهذا، إنما بني على دفع النص وأنه ضلال وذلك مما قد دلت الأدلة على صحته، والرجوع إلى الأدلة يفرق بين الأمرين ويقتضي سلامة باطن أمير المؤمنين عليه السلام على وجه لا يقتضي سلامة باطن غيره.
فأما ما حكاه من الاحتجاج بالتزويج فليس ذلك مما يحتج به ولا يعول عليه، وهذا واضح.
قال صاحب الكتاب: " وقد ذكر شيخنا أبو علي من القرآن ما يدل على ذلك وهو قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) (1) وقال (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) (2) وقال: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل) (3) يعني قوله: (لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي
____________
(1) الفتح 11.
(2) التوبة 83.
(3) الفتح 15.
|
ثم قال: فإن قيل: إنما أراد تعالى بذلك أهل الجمل وصفين فذلك فاسد من وجهين:
أحدهما: قوله تعالى (يقاتلونهم أو يسلمون) والذين حاربوا أمير المؤمنين عليه السلام كانوا على الاسلام، ولم يكونوا يقاتلون على الكفر [ ولا كان هو يقاتلهم ليسلموا، بل كان يقاتلهم ليردهم إلى طاعته والدخول في بيعته ويردهم عن البغي ] (3).
____________
(1) التوبة 83.
(2) الفتح 16.
(3) جميع الزيادات تحت هذا الرقم من " المغني ".
|
قال: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا) (4) فلم نجد هذا التمكين والاستخلاف في الأرض الذي وعده الله من آمن وعمل صالحا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله إلا في أيام أبي بكر وعمر لأن الفتوح كانت في أيامهم وأبو بكر فتح بلاد العرب، وصدرا من بلاد
____________
(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".
(2) المائدة 54.
(3) الزيادة من المغني.
(4) النور 55.
|
وقال حاكيا عن أبي علي: " وكيف يتصور عاقل مع عظم حال الاسلام عند موت الرسول صلى الله عليه وآله أن يكون الجميع ينقادون لأبي بكر ولا ينكرون إمامته، وقد نص رسول الله نصا ظاهرا على واحد بعينه فلا يتخذه أحد إماما ولا يذكرون ذلك. ولو جاز ذلك لجاز أن يكون للرسول صلى الله عليه وآله ولد ولا نص عليه (5) ولم يذكر ذلك وكيف يكونون مرتدين مع أنه تعالى أخبر أنه جعلهم (أمة وسطا) (6) وكيف يصح مع قوله عز وجل: (السابقون الأولون من المهاجرين
____________
(1) غ " إلى جهة ".
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) العبارة في " المغني " ناقصة ومشوشة.
(4) آل عمران 110.
(5) في المغني " ولذا نص عليه " وهو تصحيف ظاهر وفي ض " ولد نص عليه ".
(6) البقرة من الآية 143.
|
ولنا في الكلام على هذه الآية وجهان.
أحدهما: أن ننازع في اقتضائها داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير النبي صلى الله عليه وآله ونبين أن الداعي لهم فيما بعد كان الرسول صلى الله عليه وآله والوجه الآخر أن نسلم أن الداعي غيره عليه السلام ونبين أنه لم يكن أبو بكر وعمر على ما ظن أبو علي وأصحابه، بل كان أمير المؤمنين.
____________
(1) التوبة 100.
(2) الحديد 10.
(3) الفتح 29.
(4) كل ما نقله المرتضى هنا تجده في المغني 20 ق 1 / 321 - 327.
|
____________
(1) الفتح 11، 12.
(2) انظر تفسير الطبري ج 26 / 48 و 49 وتفسير الرازي ج 28 / 88 والكشاف 3 / 543 والتبيان 9 / 319.
(3) الفتح 15.
(4) الفتح 16.
|
(فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) (4) وهو الغلط الفاحش من طريق التاريخ والرواية التي وعدنا بالتنبيه عليها لأن هذه الآية في سورة التوبة، وإنما نزلت بتبوك سنة تسع وآية الفتح نزلت سنة ست، فكيف يكون قبلها؟
وليس يجب أن يقال في القرآن بالآراء أو بما يحتمل من الوجوه في كل موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآية والأسباب التي وردت عليها وتعلقت بها.
____________
(1) مؤتة تقدم ذكرها.
(2) حنين: قال ياقوت في معجم البلدان 2 / 312: يجوز أن يكون تصغير الحنان وهو الرحمة - تصغير ترخيم - ويجوز أن يكون تصغير الحن وهو حي من الجن وهو الموضع المعروف بين مكة والطائف، ويوم حنين من أيام الاسلام المشهورة، وحنين يذكر ويؤنث فإن قصدت به البلد والموضع ذكرته، وصرفته، وإن قصدت به البلدة والبقعة أنثته ولم تصرفه قال الشاعر:
نصروا نبيهم وشدوا أزره | بحنين يوم تواكل الأبطال |
(3) تبوك - بالفتح ثم الضم وواو ساكنة: موضع معروف بين وادي القرى والشام، توجه إليه النبي صلى الله عليه وآله في سنة تسع للهجرة وهي آخر غزواته حين انتهى إليه تجمع الروم وعاملة ولخم وجذام فوجدهم قد تفرقوا فلم يلق كيدا ونزلوا على عين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا أحد يمس من مائها فسبق إليها رجلان وهي تبض بشئ من ماء فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها فقال لهما صلى الله عليه وآله (ما زلتما تبوكان منذ اليوم فسميت بذلك تبوك) والبوك إدخال اليد في شئ وتحريكه، وركز صلى الله عليه وآله عنزته فيها ثلاث ركزات فجاشت ثلاث أعين فهي تهمي بالماء إلى الآن (انظر معجم البلدان 2 / 14 مادة " تبوك ").
(4) التوبة 83.
|
(إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون * ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (2) واختلاف أحكامهم وصفاتهم يدل على اختلافهم لو أن المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية التوبة.
فأما قوله: " لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من التأويل " ذكرهما فباطل لأن أهل التأويل قد ذكروا أشياء أخر لم يذكرها لأن ابن المسيب (3) روى عن الضحاك في قوله تعالى: (ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) (4) الآية قال: هم ثقيف. وروى هيثم عن أبي بشير عن سعيد بن جبير قال: هم هوازن يوم حنين. وروى الواقدي عن معمر عن قتادة قال: هم هوازن وثقيف (5) فكيف ذكر
____________
(1) الفتح 16.
(2) التوبة 83 و 84.
(3) هو أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني من المفسرين في القرن الثاني.
(4) الفتح 16.
(5) انظر تفسير الطبري ج 16 / 51 / 52،
|
فأما الوجه الآخر: الذي نسلم فيه أن الداعي لهؤلاء المخلفين هو غير النبي صلى الله عليه وآله فنبين أيضا لأنه لا يمتنع أن يعني بهذا الداعي أمير المؤمنين عليه السلام لأنه قد قاتل بعده أهل الجمل وصفين وأهل النهروان، وبشره النبي صلى الله عليه وآله بأنه يقاتلهم، وقد كانوا أولي بأس شديد بلا شبهة.
فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله: (أو يسلمون) وإن الذين حاربهم أمير المؤمنين عليه السلام كانوا مسلمين، فأول ما فيه أنهم غير مسلمين عنده وعند أصحابه لأن الكبائر تخرج من الاسلام عندهم كما تخرج عن الإيمان، إذ كان الإيمان هو الاسلام على مذاهبهم (1)، ثم مذهبنا نحن في محاربي أمير المؤمنين معروف لأنهم عندنا كانوا كفارا بحربه بوجوه ونحن نذكر منها هاهنا طرفا ولاستقصائها موضع غيره.
منها: إن من حاربه كان مستحلا لقتله مظهرا لأنه في ارتكابه على حق، ونحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر فهو كافر بالاجماع، واستحلال دم المؤمن فضلا عن أكابرهم وأفاضلهم أعظم من شرب الخمر واستحلاله، فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا.
____________
(1) الضمير للمعتزلة والقاضي أحد أقطابهم وهم مجمعون على أن صاحب الكبيرة مخلد في النار إن لم يتداركها بالتوبة.
|
ومنها: أنه عليه السلام قال بلا خلاف أيضا: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) وقد ثبت عندنا أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل الملة.
فأما قوله: " إنا لا نعلم بقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام كما علمنا بقاءهم إلى أيام أبي بكر " فليس بشئ لأنه إذا لم يكن معلوما ومقطوعا عليه، فهو مجوز غير معلوم خلافه والجواز كاف لنا في هذا الموضع، ولو قيل له: من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في الآية على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد على وجه يلزمهم فيه الطاعة، وهذا بعينه يمكن أن يقال له، ويعتمد في بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يوجبه حكم الآية.
فإن قيل: كيف يكون أهل الجمل وصفين كفارا ولم يسر فيهم أمير المؤمنين عليه السلام بسيرة الكفار لأنه ما سباهم ولا غنم أموالهم ولا اتبع موليهم.
قلنا: أحكام الكفر تختلف وإن شملهم اسم الكفر، لأن فيهم من يقتل
____________
(1) تقدم تخريجه.