الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى
فصل
في اعتراض كلامه في إمامة عثمان
إعلم أن كل شئ بينا به فيما تقدم أن أبا بكر وعمر لا يصلحان للإمامة من ارتفاع العصمة، وكونهما مفضولين، وفقد القدر من العلم المحتاج إليه في الإمامة يدل على أن عثمان لا يصلح لها، لأن الكلام في الكل واحد وما مضى من الكلام فيما يدعي من الفضائل كاف أيضا في هذا الموضع إلا التزويج خاصة، فإنه لم يجر فيه كلام يخصه، وإن جرى فيما يقاربه ويشبهه عند كلامنا في تزويجه بعائشة مع علمه بما سيكون منها في المستقبل، والأمر فيه مع ذلك ظاهر واضح، فإن تزويجه عليه السلام أكثر ما يدل على سلامة ظاهره، وليس يدل على ما نعتبره في الإمامة من الخصال كلها، فما في تزويجه من الدلالة على صلاحه للإمامة.
فإن قيل: إذا كان جحد النص كفرا عندكم، وكان الكافر على مذاهبكم لا يجوز أن يتقدم منه إيمان ولا إسلام، والنبي صلى الله عليه وآله عالم بكل ذلك فكيف يجوز أن ينكح ابنته من يعرف من باطنه خلاف الإيمان.
قلنا: قد مضى في الكتاب الكلام على نظير هذا المعنى وجملته أنه ليس كل من قال بالنص على أمير المؤمنين عليه السلام يكفر دافعيه، ولا كل من
|
|
فصل
في اعتراض كلامه على الطاعنين على عثمان
باحداثه
إعلم أن هذا الباب مما لا يلزمنا الكلام عليه لأن إمامة الرجل لم تثبت عندنا وقتا من الأوقات فتؤثر في فسخها الأحداث المتجددة، وإنما يختص هذا الفصل بمن قال بإمامته قبل أحداثه، رجع عنها عند وقوع أحداثه، وهم الخوارج ومن وافقهم غير أنا نتكلف الكلام على ذلك، ونبين أن إمامته لو صحت فيما سلف لكان أحداثه ومتجدداته تبطلها وتفسخها.
قال صاحب الكتاب: (الأصل في هذا الباب أن من ثبتت عدالته، ووجوب توليه، إما على القطع وإما على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضي العدول، يبين ذلك أن من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه وتعظيمه يجب أن نبقى فيه على * هذه الطريقة وإن غاب عنا، وقد عرفنا أن مع الغيبة يجوز أن يكون مستمرا (1) * على حالته ويجوز أن يكون مستقلا ولم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه) ثم ذكر بعد أن أكد هذا الكلام وحققه (إن الحدث
____________
(1) كل عبارة تحت هذا الرقم وبين نجمتين ساقطة من " المغني ".
|
(واعلم أن الكلام فيما يدعي من الحدث والتغيير فيمن ثبت توليه قد يكون من وجهين، أحدهما هل (6) علم ذلك أم لا والثاني مع يقين حصوله هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا؟ ولا فرق بين أن لا يكون حادث أصلا وبين أن يعلم حدوثه، ويجوز أن لا يكون حدثا (7))، ثم ذكر إن كل واقع يحتمل لو أخبر الفاعل أن فعله على أحد الوجهين، وكان ممن يغلب على الظن صدقه، لوجب تصديقه، فإذا عرف من حالة المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك (8) جرى مجرى الاقرار بل ربما كان أقوى وقال:
____________
(1) غ " من حال من يتولاه في باب كونه إمارة ".
(2) غ " المتجددة أو المقارنة " المغني 20 ق 2 / 23 والزيادة بين المعقوفين منه.
(3) فرقد بن يعقوب السبخي نسبة إلى السبخة موضع بالبصرة يعد من زهاد البصرة مات سنة 131.
(4) مالك بن دينار يعد من الزهاد والوعاظ روى عن أنس بن مالك والحسن وابن سيرين توفي سنة 130.
(5) المغني 20 ق 2 / 34.
(6) غ " هل حدث ".
(7) غ " فيجب أن يجري في النفوس خلاف ذلك فيه " المغني 20 ق 2 / 35.
(8) غ " فيجب ".
|
____________
(1) غ " تقرر ".
(2) كلف بأقاربه أي مولع بهم، والكلام أورده الزمخشري في الفائق 2 / 420 وفي غ " كلف بأقاربه " ولا ريب أنه تحريف.
(3) الوليد بن عقبة بن أبي معيط - بضم الميم - أخو عثمان لأمه أسلم يوم الفتح، نشأ في كنف عثمان إلى أن استخلف فولاه الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص سنة 25 وعزل سنة 29 بسبب شربه الخمر (انظر الإصابة ق 1 حرف الواو بترجمته).
(4) سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص الأموي من أشراف قريش وأجوادهم وفصحائهم وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان واستعمله على الكوفة بعد الوليد بن عقبة (انظر أسد الغابة 2 / 310).
|
____________
(1) عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أسلم قبل الفتح وهاجر واستكتبه رسول الله صلى الله عليه وآله فيمن استكتبهم فكان يحرف ما يمليه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله ثم ارتد ورجع إلى مكة فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بقتله في جماعة سماهم ولو وجدوا تحت أستار الكعبة فغيبه عثمان - وكان أخاه من الرضاعة - ثم أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله العفو عنه فصمت رسول الله صلى الله عليه وآله طويلا ثم قال: نعم، فلما انصرف عثمان قال صلى الله عليه وآله لمن حوله: (ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه) فقال رجل من الأنصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله قال: (إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين) ولاه عثمان مصر وبسوء سيرته ثار المصريون على عثمان ثم لم يبايع عليا عليه السلام وانضم إلى معاوية يوم صفين وتوفي بعسقلان سنة 59 أسد الغابة 3 / 172.
(2) عبد الله بن عامر بن كريز ولاه عثمان البصرة بعد أبي موسى الأشعري وهو ابن خمس وعشرين سنة (انظر طبقات ابن سعد 5 / 30).
(3) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(4) الزيادة من المغني.
|
____________
(1) غ " وهي من صدقة المسلمين ".
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) غ " وقد كان من سيرة أبي بكر وعمر ".
(4) غ " وإيثاره الأقارب وتقديمهم في العطاء ".
(5) غ " وحده ".
(6) المسلمين، خ ل.
(7) غ " لما شك ".
|
____________
(1) غ " على ما قلناه ".
(2) غ " أعانوا عليه ".
(3) غ " لأنه ".
(4) الهرمزان: زعيم من زعماء الفرس وقائد من قادتهم أتي به أسيرا بعد انتصار المسلمين في القادسية فعرض عليه عمر الاسلام فأبي فأمر بقتله، فلما عرض عليه السيف قال: لو أمرت لي يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على ظمأ، فأمر له بها فلما صار الإناء بيده قال: أنا آمن حتى أشرب؟ قال: نعم فألقى الماء من يده، وقال: الوفاء - يا أمير المؤمنين - نور أبلج فقال: لك التوقف حتى أنظر في أمرك ارفعا عنه السيف، فلما رفع عنه قال: الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده فقال له عمر: ويحك أسلمت خير إسلام فما أخرك قال: خشيت أن يقال إن إسلامي إنما كان جزعا من الموت فقال عمر: إن لفارس حلوما بها استحقت ما كانت فيه من الملك ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه (العقد الفريد 1 / 125 و 2 / 171) قال ابن كثير: " وحسن إسلام الهرمزان فكان لا يفارق عمر " فلما قتل عمر اتهم الهرمزان بممالاة أبي لؤلؤة فجاءه عبيد الله بن عمر فقال: اصحبني ننظر إلى فرس لي - وكان الهرمزان بصيرا بالخيل - فخرج بين يدي عبيد الله فعلاه بالسيف فقتله، ثم قصد عبيد الله إلى جفينة - وهو رجل ذمي من النصارى من أهل الحيرة أقدمه سعد بن أبي وقاص المدينة ليعلم الناس الكتابة - فقتله، ثم قصد ابنة أبي لؤلؤة وهي طفلة صغيرة فقتلها وقد أعظم المسلمون فعله فحبس حتى يتم الاستخلاف فلما بويع عثمان استشار المسلمين في أمره فأشار عليه علي عليه السلام بقتله، وقال آخرون بالأمس قتل عمر واليوم تتبعوه بابنه فخلى عثمان سبيله، فلما بويع علي عليه السلام طلبه ليقتص منه فهرب إلى معاوية فكان معه إلى قتل بين يديه يوم صفين (انظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده 3 / 274).
|
____________
(1) غ " لو صح عند المسلمين ".
|
ثم ذكر: (إن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب نسبة الخطأ إلى جميعهم والضلال، فلا يجوز ذلك) وقال: (ولا يمكنهم أن يقولوا: إن علمهم بذلك حصل في الوقت الذي منع، لأن في جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم هذه الحال بل كلها أو جلها، تقدم هذا الوقت، وإنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في الوقت بما يذكرون من حديث الكتاب النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل وما أوجب كون ذلك حدثا يوجب كون غيره حدثا فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل واحتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر، وبعده ليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الأمة، أو من بعضهم، فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالاجماع لم يجز إبطالها بالخلاف، لأن الخطأ جائز على بعض الأمة، وإن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح، لأن من جملة الإجماع عثمان ومن كان ينصره، ولا يمكن إخراجه من الإجماع، بأن يقال إنه كان على باطل لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك لما يثبت) قال:
(على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين، أما ينصره فقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان ومعه الأنصار: ائذن لنا ننصرك وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، والباقون يمتنعون انتظارا لزوال العارض، لا لأنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه ما فعلوا بل المتعالم من حالهم ذلك) ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير
____________
(1) أي طريقة الخوارج لأنه قال قبل ذلك: إن هذه الأحداث حصلت في الست الأواخر.
|
ثم ذكر: (إن للإمام أن يجتهد رأيه في الأمور المنوطة به. ويعمل فيها على غالب ظنه ظاهرا وقد يكون مصيبا، وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة) وأكد ذلك وأطنب فيه (2).
يقال له: أما ما بدأت به من قولك: (إن من يثبت عدالته وجوب توليته إما قطعا أو على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن) فخطأ لا إشكال فيه لأن من نتولاه على الظاهر أو ثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن، يجب أن نرجع عن ولايته مما يقتضي غالب الظن دون اليقين. ولهذا يؤثر في جرح الشهود وسقوط عدالتهم أقوال الجارحين وإن كانت مظنونة غير معلومة، وما يظهر من أنفسهم من
____________
(1) ما بين النجمتين ساقط من " المغني.
(2) المغني 20 ق 2 / 38 - 44 وجميع كلام القاضي في هذا الباب لخصه المرتضى من الصفحات المذكورة.
|
فإن قال: لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن وإنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما، ولهذا يؤثر في عدالة من تقدمت عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب قبيح إذا كانوا عدولا وإن كانت أقوالهم. لا تقتضي اليقين، بل يحصل عندها غالب الظن وكيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على الظاهر بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية، ونحن إنما قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر مع التجويز لأن يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا لا يستحق به التولي والتعظيم ألا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم، ويكرر تلاوة القرآن، ويدمن الصلاة والصيام والحج يجب أن نتولاه ونعظمه على الظاهر وإن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه وغرضه في فعله قبيحا فلم نتولاه إلا على الظاهر ومع التجويز فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة، فأما من غاب عنا وتقدمت له أحوال تقتضي الولاية فيجب أن نستمر على ولايته، وإن جوزنا مع الغيبة أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدنا ها منه، إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل.
وهو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر، وإن كان في كل واحدة من الأمرين تجويز، وقد أصاب في قوله: (إن ما يحتمل ألا يجوز أن ينتقل له عن التعظيم والتولي) إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له وأما ما له ظاهر ويجوز مع ذلك أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره، فإنه لا يسمى محتملا. وقد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر على ما ذكرناه.
|
فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر لقوي في الظن حضوره للتغيير والنكير، أو على وجه الاكراه والغلط، وأن غيره يخالفه في هذا الباب فصحيح لا يخالف ما ذكرناه، لأن مثل مالك بن دينار ممن تناصرت إمارات عدالته، وشواهد نزاهته، حالا بعد حال، لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح، بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله، ونخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه، وإنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة أقوى وأولى بالترجيح والغلبة، فنجعلها قاضية على الفعل والفعلين، ومتى توالت منه الأفعال القبيحة الظاهرة، وتكررت قدحت في حاله. وأثرت في ولايته، وكيف لا يكون كذلك وطريق ولايته في الأصل هو الظن والظاهر، ولا بد من قدح الظاهر في الظاهر وتأثير الظن في الظن على بعض الوجوه.
فأما قوله: (إن كل محتمل لو أخبرنا عنه وهو ممن يغلب على الظن
|
فإن قال: (أردت بالمحتمل ما له ظاهر لكنه يجوز أن يكون الأمر بخلاف ظاهره).
قيل له: ما ذكرته لا يسمى محتملا، فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها، ولا شك في أنه إذا كان ممن لو خبر بأنه فعل الفعل القبيح على أحد الوجهين لوجب تصديقه، وحمل الفعل على خلاف ظاهره، فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له، ونعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الفعل الحسن، والوجه الجميل، إلا أنه متى توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة، فلا بد من أن يكون مؤثره في تصديقه متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره، كما يكون مانعة من الابتداء بالتأول له، وضربه المثل بأن من يراه يكلم امرأة حسناء في الطريق، إذا أخبر أنها أخته أو امرأته في أن تصديقه واجب، ولو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه لما تقرر له في النفوس صحيح إلا أنه لا بد فيه من مراعاة ما تقدم ذكره، من أنه قد تقوى الأمر لقوة الإمارات والظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه، ولا التأول له، ولولا أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة، ولا من العداوة إلى خلافها، لأنه لا شئ مما يفعله الفساق المتهتكون إلا ويجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر، ومع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز، يبين صحة ما ذكرناه، إنا لو رأينا من يظن به
|
ثم يقال له: خبرنا عمن شاهدناه من بعد وهو راكب فرج امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم، وإن لها في الحال زوجا غيره، وهو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة ماذا يجب أن نظن به؟ وهل نرجع بهذا الفعل عن الولاية، أو نحمله على أنه غالط، ومتوهم أن المرأة زوجته أو على أنه مكره على الفعل، أو غير ذلك من الوجوه الجميلة فإن قال: نرجع عن الولاية اعترف بخلاف ما قصده في الكلام، وقيل له: وأي فرق بين هذا الفعل وبين جميع ما عددناه من الأفعال، وادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها، وما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا الفعل، فإن قال: لا أرجع بهذا الفعل عن الولاية، بل أتأوله على بعض الوجوه الجميلة، قيل له: أرأيت لو تكرر هذا الفعل وتوالى هو وأمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار ومجالس اللهو واللعب، ونراه بشرب الخمر بعينها، وكل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها، وفي أنه القبيح بعينه غالطا، ما كان يجب علينا من الاستقرار على ولايته والعدول عنها فإن قال: نستمر ونتأول، ارتكب ما لا شبهة في فساده، والزم ما قدمناه ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد، ولو شاهدنا منه أعظم المناكير ووقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون القطع، فكيف لا نرجع عنها بمثل هذا الطريق فلا بد إذا من الرجوع إلى ما بيناه وفصلناه في هذا الباب.
|
وأما قوله: (إن ما ينقل عن الرسول وإن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب ويكون أقوى مما تقدم) غير صحيح على إطلاقه لأن تأثير ما ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه فأما تقويته على غيره فلا وجه له وقد كان يجب أن يبين من أي وجه يكون أقوى.
فأما عده الأحداث التي نقمت عليه، فنحن نتكلم عليها، وعلى ما أورده من المعاذير فيها بمشيئة الله تعالى عند ذكره لذلك.
فأما ما حكاه عن أبي علي من قوله: (لو كان ما ذكروه من الأحداث قادحا لوجب من الوقت الذي ظهرت الأحداث فيه أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة، لأن ظهور الحدث كونه) قال: (فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث) فليس ذلك بشئ معتمد، لأن تلك الأحداث وإن كانت مزيلة عندهم لإمامته وناسخة لها ومقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة، فإنهم لم يقدموا على نصب غيره مع تشبثه بالأمر خوفا من الفتنة والتنازع والتجاذب، وأرادوا أن يخلع نفسه حتى تزول الشبهة، وينشط من يصلح للإمامة لقبول العقد، والتكفل بالأمر، وليس يجري ذلك مجرى موته، لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته ولا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام، وليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده، وتبقى معه الشبهة في استمرار أمره، وليس نقول أنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه، بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم لحسم المواد، وإزالة الشبهة، وقطع أسباب
|
فأما قوله: (إنه معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حصر فيها وقتل، بل كانت تقع حالا بعد حال، فلو كانت توجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الانكار عليه، ولكان المقيمون بالمدينة من الصحابة بذلك أولى من الواردين من البلاد) فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه، حتى زاد الأمر وتفاقم، وبعد التأويل وتعذر التخريج ولم يبق للظن الجميل طريق فحينئذ أنكروا، وهذا مستمر على ما قدمنا ذكره، من أن العدالة والطريقة الجميلة تتأول في الفعل والأفعال القليلة، بحسب ما تقدم من حسن الظن به، ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل والعمل على الظاهر القبيح، على أن الوجه الصحيح في هذا الباب إن أهل الحق كانوا معتقدين لخلعه من أول حدث، بل معتقدين لأن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات، وإنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف والتقية، ولأن الاغترار بالرجل (1) كان عاما فلما تبين أمره حالا بعد حال، وأعرضت الوجوه عنه، وقل العاذر له، قويت الكلمة في عزله وهذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله، فليس يقتضي الامساك عنه إلى الوقت الذي وقع الكلام في نسبة الخطأ إلى الجميع على ما ظنه.
فأما دفعه أن تكون الأمة أجمعت على خلعه بإخراجه نفسه، وخروج من كان في حيزه عن القوم، فليس بشئ لأنه إذا ثبت أن من
____________
(1) لأن الاعتذار بالوجل خ ل فإذا كانت كذلك يكون المعنى الاعتذار بالخوف.
|
فأما قوله: (إن الصحابة بين فريقين أما من ينصره كزيد بن ثابت، وابن عمر وفلان وفلان، والباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض، لأنه ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه) فعجيب لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار، يقاتلون عنه، ويدفعون الهاجمين عليه فقط.
فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا لا يعد ناصرا، وكيف يجوز ممن أراد نصرته وكان معتقدا لصوابه وخطأ الطالبين لخلعه (2) يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض، وهل تراد النصرة إلا لدفع العارض وبعد زواله لا حاجة إليها؟ وليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها، بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى أذنه فيها ولا يحفل نهيه عنها، لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى فيه بالنهي عنه، فليس يجتاح في إنكاره إلى أمر غيره.
____________
(1) يعني سعد بن عبادة الأنصاري وخلافه في حديث السقيفة مأثور مشهور.
(2) وخطأ المطالبين له بالخلع خ ل.
|
وحرق زيد علي البلا | د حتى إذا اضطرمت اجذما (2) |
فنادته عائشة وقد خرج من العتبة يا ابن الحكم أعلى تمثل الأشعار!
قد والله سمعت ما قلت، أتراني في شك من صاحبك؟ والذي نفسي بيده لوددت أنه الآن في غرارة (3) من غرائري مخيطة عليها فألقيها في البحر الأخضر (4) قال: زيد فخرجنا من عندها على الناس (5).
وروى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار، وهو يدعوهم إلى نصر عثمان، فوقف عليها جبلة بن عمرو بن حية
____________
(1) الأساويف كذا في الأصل وفي شرح نهج البلاغة " الأشاريف قد اقتطعها " والمشارف: أعالي الأرض، ولعل المراد الاقطاع.
(2) البيت للربيع بن زياد العبسي، والأجذام: الإسراع، والمعنى: أنه أضرمها حتى استعرت، أسرع في الهرب، وذلك لأن قيسا أسعر الحرب في داحس فلما اضطرمت انتقل إلى عمان.
(3) الغرارة - بالكسر - واحدة غرائر؟؟ التبن. قال في مختار الصحاح: " وأظنه معربا ".
(4) رواية ابن أبي الحديد: " مخيط عليه، فألقيه في البحر الأخضر ".
(5) ش " على اليأس منها ".