عقائد الشيعة الإمامية / العلامة الأميني
القرن الرابع -18- أبو القاسم الصنوبري المتوفى 334
ما في المنـــازل حاجة نـــــقضيها * إلا الـــــســـــــلام وأدمـــــع نـــــذريها وتفـــــجع للـــــعين فـــيها حيث لا * عـــــيش أوازيـــــه بـــعـــــــيشي فيها أبكي المنازل وهي لو تدري الذي * بحـــــث البكاء لكــــــنت أستبكـــــــيها بالله يـــــا دمع السحــــائب سقنها * ولئـــــن بخـــــلت فأدمعي تسقـــــــيها يا مغـــــريا نـفسي بوصف عزيزة * أغـــــريت عـــاصية على مغـــــــريها لا خير في وصف النساء فاعفني * عـــــما تكلـــــفنيه مـــــن وصفـــــــيها يا رب قـــــافية حلـــــى إمضاؤها * لم يـــــحل ممضـاها إلـــــــى ممضيها لا تطـــــمعن النفس فــي إعطائها * شيـــــئا فتطـــــلب فـــــــوق ما تعطيها حـــــب النبي محـــــمد ووصيـــــه * مـــــع حـــــب فــاطمة وحـــــــب بنيها أهــل الكساء الخمسة الغرر التي * يبـــــني العـــــلا بعـــــلاهم بانـــــــيها كـــــم نعـــــمة أوليــــت يا مولاهم * فـــــي حـــــبهم فالحــمد للمـــــــوليها إن السفـــــاه بشغـــل مدحي عنهم * فيحـــــق لـــي أن لا أكون سفـــــــيها هـــــم صفــوة الكرم الذي أصفاهم * ودي وأصفـــــيت الـــذي يصفـــــــيها أرجـــــو شـــــفاعتهم فتلك شفاعة * يلتـــــذ بـــــرد رجــــائها راجـــــــيها صلـــــوا عـــــلى بـنت النبي محمد * بعـــــد الصلاة عــلى النـــــــبي أبيها وابـــــكوا دمـــاء لو تشاهد سفكها * فـــــي كـــربلاء لما ونت تبكيهـــــــا تلـــــك الـــــدماء لو أنها توقى إذن * كـــــانت دمـــاء العالمين تـــــــقيهـا لـــــو أن منـــــها قطـــرة تفدى إذن * كـــــنا بهـــــا وبغـــــيرنا نفــــــــديها إن الـــــذين بغوا إراقـــــتها بغــــوا * مشـــــؤمة العـــــقبى عــلى باغيها / صفحة 368 / قــــتل ابن من أوصى إليه خير من * أوصى الوصــــايا قـــــط أو يوصيها رفع النبي يميـــــنه بيـــــميـــــنــــه * ليـــــرى ارتـــــفاع يميـــــنه رائــيها في مـــــوضع أضــحى عليه منبها * فـــــيه وفـــــيه يـــــبدئ التـــــنبـــيها آخـــــاه في (خـــــم) ونـــوه باسمه * لـــــم يأل فـــــي خـــــير بــــه تنويها هـــــو قال : أفضـــــلكم عـــلي إنه * أمضـــــى قـــــضيته الـــتي يمضيها هـــــو لي كهــــارون لموسى حبذا * تشبـــــيه هـــــارون بـــــه تشـــبيها يـــــوماه يوم للعـــــدى يـــــرويهـم * جـــــورا ويـــــوم للقـــــنى يـــرويها يســـــع الأنـــــام مثــــوبة وعقوبة * كـــــلتاهما تمـــــضي لمــــا يمضيها [ إلى آخر القصيدة 42 بيتا ] وله من قصيدة ذكرها صاحب (الدر النظيم في الأئمة اللهاميم) : هل أضاخ كما عهدنا أضاخا ؟ (1) * حـــــبذا ذلـــــك المنـــــاخ منـــــاخـا يقول فيها : ذكـــــر يوم الحــسين بالطف أودى * بصمـــــاخي فـــــلم يــدع لي صماخا متبـــــعات نساؤه النـــــوح نـــــوحا * رافـــــعات إثـــــر الصـــراخ صراخا منعـــــوه مـــــاء الفـــــرات وظـلوا * يـــــتعاطونـــــه زلالا نـــــقــــاخا (2) بأبـــــي عـــــترة النـــــبي وأمـــــي * ســـــد عـــــنهم معاند أصمـــــاخـــــا خـــــير ذا الخـــــلق صبــية وشبابا * وكهـــــولا وخـــــيرهـــــم أشـــــياخا أخــــذوا صدر مفخر العز مذ كانوا * وخـــــلوا للعـــــالمين المخـــــاخـــــا النقـــــيون حـــــيث كـــــانوا جـيوبا * حـــــيث لا تـــــأمن الجــيوب اتساخا يألفـــــون الطــــوى إذا ألف الناس * اشـــــتواء مـــــن فيـــــئهم واطـّباخا خـــــلقوا أسخـــــياء لا متـــساخين * وليـــــس الســـــخى مـــــن يتساخى أهـــــل فـضل تناسخوا الفضل شيئا * وشـــــبابا أكـــــرم بـــــذاك انـتساخا بهـــــواهم يـــــزهو ويشمـخ من قد * كـــــان فـــــي الـناس زاهيا شماخا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ م (1) اضاخ : جبل يذكر ويؤنث ). م (2) النقاخ : الماء البارد الصافى ).
/ صفحة 369 / يا بن بـــــنت النـــــبي أكــرم به ابنا * وبـــــأسنـــاخ جـــــده أسنـــــاخـــــا وابـــــن مـــــن وازر النــبي ووالاه * وصـــــافـــــاه فـي (الغدير) وواخى وابـــــن من كــــــان للكريهة ركابا * وفـــــي وجـــــه هـــــولـــها رساخا للطــــلى تحت قسطل الحرب ضرابا * وللهـــــام فـــــي الـــــوغـى شداخا ذو الـــــدماء التي يطـــــيل مــواليه * اختضابـــــا بطيـــــبها والتـــــطاخـا مـــــا عـــــليكم أنــــاخ كلكله الدهر * ولـــــكن عـــــلى الأنـــــام أنــــاخا * (الشاعر) *: أبو القاسم وأبو بكر وأبو الفضل (1) أحمد بن محمد بن الحسن بن مرار الجزري الرقي (2) الضبي (3) الحلبي الشهير بالصنوبري. شاعر شيعي مجيد. جمع شعره بين طرفي الرقة والقوة، ونال من المتانة وجودة الأسلوب حظه الأوفر، ومن البراعة والظرف نصيبه الأوفى، وتواتر في المعاجم وصفه بالاحسان تارة (4) وبه وبالإجادة أخرى (5) وإن شعره في الذروة العليا ثالثة (6) وكان يسمى حبيبا الأصغر لجودة شعره (7) وقال الثعالبي : تشبيهات ابن المعتز. و أوصاف كشاجم، وروضيات الصنوبري، متى اجتمعت اجتمع الظرف والطرف، وسمع السامع من الاحسان العجب. وله في وصف الرياض والأنوار تقدم باهر، وذكر ابن عساكر : أن أكثر شعره فيه. وقال ابن النديم في فهرسته : إن الصولي عمل شعر الصنوبري على الحروف في مأتي ورقة. فيكون المدون على ما التزم به ابن النديم من تحديد كل صفحة من الورقة بعشرين بيتا ثمانية آلاف بيت، وسمع الحسن بن محمد الغساني من شعره مجلدا(8). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) كناه به كشاجم زميله في شعره. (2) نسبة إلى الرقة : مدينة مشهورة بشط الفرات عمرها هارون الرشيد. (3) نسبة إلى ضبة أبي قبيلة. (4) تاريخ ابن عساكر 1 ص 456 . (5) أنساب السمعاني. (6) شذرات الذهب 2 ص 335. (7) عمدة ابن رشيق 1 ص 83. (8) أنساب السمعاني / صفحة 370 / وله في وصف حلب ومنتزهاتها قصيدة تنتهي إلى مائة وأربعة أبيات توجد في (معجم البلدان) للحموي 3 ص 317 - 321، وقال البستاني في (دائرة المعارف) 7 ص 137 : هي أجود ما وصف به حلب، مستهلها : إحبسا العيس احبساها * وســـــلا الـــدار سلاها وأما نسبته إلى الصنوبر فقد ذكر ابن عساكر عن عبد الله الحلبي الصفري إنه قال : سألت الصنوبري عن السبب الذي من أجله نسب جده إلى الصنوبر حتى صار معروفا به. فقال لي : كان جدي صاحب بيت حكمة من بيوت حكم المأمون فجرت له بين يديه مناظرة فاستحسن كلامه وحدة مزاجه وقال له : إنك لصنوبري الشكل. يريد بذلك الذكاء وحدة المزاج. ا ه. وذكر له النويري في (نهاية الإرب) ج 11 ص 98 في نسبته هذه قوله : وإذا عـــــزينا إلـــــى الصــنوبر لم * نعـــــز إلـــى خامل من الخشب لا بـــــل إلـــــى باسـق الفروع علا * مناســـــبا فــــي أرومة الحسب مثـــــل خـــــيام الحـــــرير تحـملها * أعـــــمدة تحـــــتها مـــن الذهب كـــــأن مـــــا فـــــي ذراه مـن ثمر * طـــــير وقوع على ذرى القضب بـــــاق عــلى الصيف والشتاء إذا * شابـــــت رؤوس النبات لم يشب محـــــصن الحب فـــي جواشن قد * أمـــــن فـــــي لبـسها من الحرب حب حكى الحب صين في قرب الـ * أصـــــداف حـــــتى بدا من القرب ذو نـــــثة مـــــا يــــــنال من عنب * مـــــا نيـــــل مـن طيبها ولا رطب يا شجـــــراً حبـــــه حــــــداني أن * أفـــــدي بـــــأمي محـــــبة وأبــي فالحمد لله إن ذا لقب * يزيد في حسنه على النسب وأما تشيعه فهو الذي يطفح به شعره الرائق كما وقفت على شطر منه وستقف فيما يلي على شطر آخر، ونص بذلك اليماني في نسمة السحر، وعد ابن شهر آشوب له من مادحي أهل البيت عليهم السلام يوذن بذلك. وأما دعوى صاحب النسمة أنه كان زيديا واستظهاره ذلك من شعره فأحسب أنها فتوى مجردة فإنه لم يدعمها. بدليل، وشعره الذي ذكره هو وغيره خال من أي ظهور ادعاه، وإليك نبذا مما وقفنا عليه في / صفحة 371 / المذهب. قال في قصيدة يمدح بها عليا أمير المؤمنين عليه السلام : وأخـــــي حبـــــيبي حـبيب الله لا كذب * وابنــــاه للمصطفى المستخلص ابنان صلـــــى إلــــى القبلتين المقتدى بهما * والنـــــاس عـن ذاك في صم وعميان مـــــا مـــــثل زوجته أخرى يقاس بها * ولا يـــــقاس عـــــلى سبــطيه سبطان فمضمـــــر الحــــب في نور يخص به * ومضمـــــر البغض مخصوص بنيران هذا غـــدا مالك فـــــي النار يملـــــكه * وذاك رضـــــوان يلـــــقاه بـــــرضوان ردت لــــه الشمس في أفلاكها فقضى * صلاتـــــه غـــــير مــا ســــاه ولا وان أليـــــس مـــــن حـل منه في إخــــوته * محل هارون من موسى بن عمران؟! وشـــــافع الملـــــك الــراجي شفاعته * إذ جـــــاءه ملـــــك فـــــي خلق ثعبان قـــــال النـــــبي لــه : أشقى البرية يا * عـــــلي إذ ذكـــــر الأشـــــقى شــقيان هـــــذا عــــصى صالحا في عقر ناقته * وذاك فيـــــك سيلـــــقاني بعـــــصيـان ليخضـــــبن هـــــذه مـــــن ذا أبا حسن * فـــــي حـــين يخضبها من أحمر قان ويرثي فيها أمير المؤمنين وولده السبط الشهيد بقوله : نعم الشهيدان رب العــرش يشهـــد لي * والخـــــلق أنهما نعـــــم الشهــــيدان مـــــن ذا يعــزي النبي المصطفى بهما * مـــــن ذا يعزيه من قاص ومن دان؟ مــن ذا لفـــــاطمة اللهفـــــاء ينبـــــئها * عـــــن بعـــــلها وابنها إنباء لهفان؟ من قابض النفس في المحراب منتصبا * وقابض النفس في الهيجاء عطشان؟ نجمان في الأرض بـل بـــــدران قد أفلا * نعـــــم وشـــمسان إما قلت شمسان سيفان يغـــــمد سيـــف الحرب إن برزا * وفي يمينـــــيهـــــما للحــرب سيفان وله يرثي الإمام السبط الشهيد عليه السلام (1): يا خــــير مــن لبس النبـ * ـــوة مـــن جميع الأنبياء وجدي على سبطيك وجــ * ــد ليــــس يؤذن بانقضاء هــــذا قتــــيل الأشقــــيـا * ء وذا قــــتيل الأدعــــيـاء يوم الحسين هرقت دمـ * ـع الأرض بل دمع السماء ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ج 2 ص 232 من مناقب ابن شهر آشوب.
/ صفحة 372 / يوم الحسيــــن تـركت باب * العــــز مهجــــور الفـــناء يا كــــربلاء خلــــقــت من * كــــرب عــــلي ومـن بلاء كــــم فيك من وجه تشرب * ماؤه مــــاء البــــهــــــــاء نفسي فداء المصطلي نار * الــــوغــــى أي اصـطـــلاء حيث الأسنة في الجواشن * كالكــــواكب فــــي السماء فـــاختار درع الصبر حيث * الصـــــبر من لبس السناء وأبــــى إبــــاء الأســد إن * الأســــد صــــادقة الإبــــاء وقضى كريمــــا إذ قــضى * ظمآن فــــي نفــــر ظـــماء منعوه طعــــم المــــــاء لا * وجدوا لمــــاء طعــــم ماء من ذا لمعــــفور الجـــواد * ممال أعــــواد الخــــباء ؟ من للطريح الشلو عريانا * مخــــلى بـــــالعــــــــراء ؟ مـن للمحنــــط بالــــتراب * وللمغســــل بــــالدمــــاء ؟ من لابن فاطمـــة المغيب * عن عــــيــــون الأولياء ؟ ويؤكد ما ذكرنا للمترجم من المذهب شدة الصلة بينه وبين كشاجم المسلم تشيعه، وتؤكد المواخاة بينهما كما ستقف عليه في ترجمة كشاجم، ويعرب عن الولاء الخالص بينهما قول كشاجم في الثناء عليه : لي مـن أبي بكر أخي ثقة * لــــم استــــرب بإخائه قط ما حـــال في قرب ولا بعد * سيــــان فيه الثوب والشط جسمان والروحان واحدة * كالنقطتــــين حــواهما خط فإذا افتـــقرت فلي به جدة * وإذا اغتربت فلـي به رهط ذاكره أو حـــاوله مختبرا * تر منه بحــرا ما لــــه شط في نعمة منه جلبت بـــها * لا الشيب يبلغهـا ولا القرط وبدلة بيضاء ضــــافــــية * مثل الملاءة حـــاكها القبط متذلل سهــــــل خــــلايقه * وعلى عدو صديقـــه سلــط ونتاج مغـــــناه متــــممة * ونتاج مغنى غــــيره سقــط / صفحة 373 / وجــــنان آداب مثــــمـرة * مــــا شأنها أثل ولا خمط وتــواضع يزداد فيه علا * والحــــر يعلو حين ينحط وإذا أمرؤ شيبت خلائقه * غـــدرا فمــا في وده خلط وقصيدته الأخرى وقد كتبها إليه : ألا أبلغ أبـــــا بــــكر * مقـــــالا مـــــن أخ بر يـــناديك بإخـــــلاص * وإن نـــاداك من عقر أظن الدهــــر أعداك * فـــــأخلدت إلـى الغدر فما ترغب في وصل * ولا تعــرض مـن هجر ولا تخـــــطرني منك * عـــــلى بال من الذكر أتنـــــسى زمنــا كنا * به كالماء في الخمر؟! أليـــــفين حــــليفين * عــلى الايسار والعسر مكبـين على اللذات * في الصحو وفي السكر ترى في فلك الآداب * كالشـــــمس وكـــالبدر كمـــــا ألفت الحكمـــ* ــة بــين العود والزمر فألهتـــــك بساتيــنك * ذات النـــــور والــزهر وما شيدت للخــــلوة * مـــــن دار ومــن قصر [ القصيدة ] كان المترجم يسكن حلب دمشق وبها أنشد شعره ورواه عنه أبو الحسن محمد ابن أحمد بن جميع الغساني كما في أنساب السمعاني، وتوفي في سنة 334 كما أرخه صاحب (شذرات الذهب) وغيره. وعده ابن كثير في تاريخه 11 ص 119 ممن توفي في حدود الثلمائة، وهذا بعيد عن الصحة جدا من وجوه، منها : أنه اجتمع (1) مع أبي الطيب المتنبي بعد ما نظم القريض وقد ولد بالكوفة سنة 303. ومنها : مدحه سيف الدولة الحمداني وقد ولد سنة 303. أعقب المترجم ولده أبا علي الحسين، حكى ابن الجني (2) قال حدثني أبو علي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) عمدة ابن رشيق 1 ص 83. (2) كما في يتيمة الدهر ج 1 ص 97.
/ صفحة 374 / الحسين بن أحمد الصنوبري قال : خرجت من حلب أريد سيف الدولة فلما برزت من الصور إذا أنا بفارس متلثم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدده إلى صدري، فكدت أطرح نفسي عن الدابة فرقا، فلما قرب مني ثنى السنان وحسر لثامه فإذا المتنبي (الشاعر المعروف) وأنشدني : نـــــثرنا رؤوســا بالأحيدب منهم * كما نثرت فوق العروس الدراهم ثم قال : كيف ترى هذا القول ؟ أحسن هو ؟ فقلت له : ويحك قد قتلتني يا رجل ؟ قال ابن جني : فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيب فعرفها وضحك لها. وتوفيت للصنوبري بنت في حياته رثاها زميله [ كشاجم ] وعزاه بقوله : أتـــــأسى يـــــا أبا بـكر * لمـــــوت الحـرة البكر وقـــــد زوجـــــتها قـبرا * ومــا كالقبر من صهر وعـــــوضت بهـا الأجر * ومـــــا للأجر من مهر زفـــــاف أهـــــديت فيه * مـــــن الخدر إلى القبر فـــــتـــــاة أسبـــــل الله * عـــــليها أسبــغ الستر ورده أشـــــبه النعــمة * فـــــي المـــوقع والقدر وقد يختار في المكروه * للعـــــبد ومـــــا يــدري فقـــابل نعـمة الله التي * أولاك بالــــــشـــــكـــــر وعــز النفس مما فات * بالتسلـــــيم والصـــــبـر وكتب المترجم على كل جانب من جوانب قبة قبرها الستة بيتين توجد الأبيات في تاريخ ابن عساكر 1 ص 456، 457. حكاية : حدث المترجم له أبو بكر أحمد بن محمد الصنوبري قال : كان بالرها (1) وراق يقال له : سعد. وكان في دكانه مجلس كل أديب، وكان حسن الأدب والفهم، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ م (1) الرهاء بضم أوله والمد والقصر : مدينة بين الموصل والشام، استحدثها الرهاء بن البلندي فسميت باسمه.
/ صفحة 375 / يعمل شعرا رقيقا، وما كنا نفارق دكانه أنا وأبو بكر المعوج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر، وكان لتاجر بالرها نصراني من كبار تجارها ابن إسمه عيسى من أحسن الناس وجها، وأحلاهم قدا، وأظرفهم طبعا ومنطقا، وكان يجلس إلينا ويكتب عنا أشعارنا وجميعنا يحبه، ويميل إليه، وهو حينئذ صبي في الكتاب فعشقه سعد الوراق عشقا مبرحا ويعمل فيه الأشعار، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكانه قوله : إجعـل فؤادي دواة والمداد دمي * وهاك فابر عظامي موضع القلم وصيــر اللوح وجهي وامحه بيد * فــــإن ذلك بــــرء لي من السقم ترى المعــلم لا يدري بمن كلفي * وأنت أشهر في الصبيان من علم ثم شاع بعشق الغلام في الرها خبره، فلما كبر وشارف الائتلاف أحب الرهبنة وخاطب أباه وأمه في ذلك، وألح عليهما حتى أجاباه وخرجا به إلى (دير زكي) بنواحي الرقة (1) وهو في نهاية حسنه فابتاعا له قلاية ودفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها فأقام الغلام فيها وضاقت على سعد الوراق الدنيا بما رحبت، وأغلق دكانه، و هجر إخوانه، ولزم الدير مع الغلام، وسعد في خلال ذلك يعمل فيه الأشعار، فمما عمل فيه وهو في الدير والغلام قد عمل شماسا (2). يا حـــــمة قـــــد عــلت غصنا من البان * كـــــأن أطـــــرافها أطـــــراف ريحـان قد قايسوا الشمس بالشماس فاعترفوا * بانمـــا الشمــــس والشمـــــاس سيان فقل لعــــــيسى : بعـيسى كم هراق دما * إنـــــسان عـــــينك من عـين لانسان؟! ثم إن الرهبان أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعد به ونهوه عنه وحرموه أن أدخله وتوعدوه بإخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلى ما سألوه من ذلك، فلما رأى سعد امتناعه منه شق عليه، وخضع للرهبان ورفق بهم ولم يجيبوه وقالوا : في هذا علينا إثم وعار ونخاف السلطان، فكان إذا وافى الدير أغلقوا الباب في، وجهه، ولم يدعوا الغلام يكلمه، فاشتد وجده، وازداد عشقه، حتى صار إلى الجنون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) الرقة كل أرض منبسط جانب الوادي يعلوها الماء وقت المد. ولا يظن أن الرقة البلد الذي على شاطئ الفرات فإن الرها بين الموصل والشام. (2) الكلمة سريانية معناها : الخادم.
/ صفحة 376 / فخرق ثيابه وانصرف إلى داره فضرب جميع ما فيها بالنار، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم، ويعمل الأشعار ويبكي. قال أبو بكر الصنوبري : ثم عبرت يوما أنا والمعوج من بستان بتنا فيه فرأيناه جالسا في ظل الدير وهو عريان وقد طال شعره، وتغيرت خلقته، فسلمنا عليه وعذلناه وعتبناه، فقال : دعاني من هذا الوسواس أتريان ذلك الطائر على هيكل ؟ وأومأ بيده إلى طائر هناك فقلنا : نعم. فقال : أنا وحقكما يا أخوي أناشده منذ الغداة أن يسقط فأحمله رسالة إلى عيسى. ثم التفت إلي وقال : يا صنوبري معك ألواحك ؟ قلت : نعم. قال : اكتب : بـــــدينك يا حـــــمامة ديـــر زكى * وبالإنجـــــيل عــــندك والصليب قـــــفي وتحـــــملي عــني سلاما * إلـــــى قــمر على غصن رطيب حمـــــاه جـــماعة الرهبان عني * فقـــــلبي مـــــا يقـر من الوجيب عـليه مسوحه (1) وأضاء فيها * وكـــــان البــدر في حلل المغيب وقالـــــوا : رابـــــنا إلـمام سعد * ولا والله مـــــا أنـــــا بالمـــريب وقولي : سعدك المسكين يشكو * لهيب جـــوى أحــــر من اللهيب فصلـــــه بنظـــــرة لــك من بعيد * إذا مـــــا كنــــت تمنع من قريب وإن أنــــامت فاكتب حول قبري * محـــــب مـــات من هجر الحبيب رقيـــــب واحد تنغـــــيص عيش * فكيـــــف بمـــــن لــــه ألفا رقيب ثم تركنا وقام يعدو إلى باب الدير وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه وما زال كذلك زمانا، ثم وجد في بعض الأيام ميتا إلى جانب الدير، وكان أمير البلد يومئذ العباس بن كيغلغ فلما اتصل ذلك به وبأهل الرها خرجوا إلى الدير، وقالوا ما قتله غير الرهبان. وقال لهم ابن كيغلغ : لا بد من ضرب رقبة الغلام وإحراقه بالنار، ولا بد من تعزير جميع الرهبان بالسياط، وتعصب في ذلك فافتدى النصارى نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم (2 ). ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) المسوح : ما يلبس من نسيج الشعر تقشعا وقهرا للبدن جمع مسح بكسر الميم. (2) توجد ملخصة في تزيين ، الأسواق ص 170. |