موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع
إجماعات فقهاء الإمامية
المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 603: ([1])
اختلف الناس في هذه المسألة: فقال أكثر المتكلمين [الصفحة 604] وجميع الفقهاء: إن إجماع أمة النبي صلى الله عليه وآله حجة، وإنهم لا يجوز أن يجمعوا على باطل، وخالف النظام ومن تابعه في ذلك، ونفى كون الإجماع حجة، وحكي عن قوم من الخوارج مثل ذلك، وحكي أيضا عن بعضهم أنه أحال كون الإجماع حجة، وذهب إلى أنه لا يجوز في جماعة يجوز الخطأ على كل واحد منها أن ينتفي عن جماعتها، وآخرون نفوا كونه حجة، بأن قالوا: إن أجمعوا على الشيء تبخيتا، فذلك لا يجوز اتباعه، وإن كان توقيفا عن نص، فيجب ظهور الحجة بذلك، ويغني عن الإجماع، وإن كان عن قياس، فلن يجوز مع اختلاف الهمم وتباين الآراء واختلاف وجوه القياس أن يتفقوا على ذلك.
وفي الناس من نفى الإجماع، لتعذر العلم باتفاق الأمة، مع أنها غير معروفة على مذهب من المذاهب.
والصحيح الذي نذهب إليه أن قولنا (إجماع) إما أن [الصفحة 605] يكون واقعا على جميع الأمة، أو على المؤمنين منهم، أو على العلماء فيما يراعي فيه إجماعهم، وعلى كل الاقسام لابد من أن يكون قول الإمام المعصوم داخلا فيه، لانه من الأمة، ومن أجل المؤمنين، وأفضل العلماء، فالاسم مشتمل عليه، وما يقول به المعصوم لا يكون إلا حجة وحقا، فصار قولنا موافقا لقول من ذهب إلى أن الإجماع حجة في الفتوى، وإنما الخلاف بيننا في موضعين، إما في التعليل، أو الدلالة، لانا نعلل كون الإجماع حجة بأن العلة فيه اشتماله على قول معصوم قد علم الله سبحانه أنه لا يفعل القبيح منفردا ولا مجتمعا، وأنه لو انفرد، لكان قوله الحجة، وإنما نفتي بأن قول الجماعة التي قوله فيها و موافق لها حجة لاجل قوله، لا لشيء يرجع إلى الاجتماع معهم، ولا يتعلق بهم.
ومن خالفنا يعلل مذهبه بأن الله تعالى علم أن جميع هذه الأمة لا تتفق على خطأ، وإن جاز الخطأ [الصفحة 606] على كل واحد منها بانفراده، فللإجماع تأثير بخلاف قولنا أنه لا تأثير له.
فأما نحن فنستدل على صحة الإجماع وكونه حجة في كل عصر بأن العقل قد دل على أنه لابد في كل زمان من إمام معصوم، لكون ذلك لطفا في التكليف العقلي، وهذا مذكور مستقصى في كتب الإمامة، فلا معنى للتعرض له هيهنا وثبوت هذه الجملة يقتضي أن الإجماع في كل عصر حجة، وهذه الطريقة من الاستدلال لا توافق مذاهب مخالفينا، لان الاصل الذي بنينا عليه هم يخالفون فيه، ولو تجاوزوا عنه، لكان ثبوت الحجة بالإجماع على هذا الوجه ينافي مذاهبهم في أن لإجماع الأمة تأثيرا في كونه حجة، وأن بعضهم في هذا الحكم بخلاف كلهم.
فأما ما يستدلون هم به على كون الإجماع حجة فإنما نطعن فيه نحن لانه لا يدل على ما ادعوه، ولو دل على ذلك [الصفحة 607] لم يضرنا، ولا ينافي مذهبنا، لان شهادة القرائن أو الآيات بأن الأمة لا تجتمع على ضلال، نحن نقول بفحواه ومعناه وليس في الشهادة بذلك تعليل ينافي مذهبنا، كما كان ذلك في تعليل قولنا: إن الإجماع حجة واستدلالنا عليه.
فبان بهذا الشرح الذي أطلناه هيهنا ما يحتاج إليه في هذا الباب، وإذا كنا قد دللنا على كيفية كون الإجماع حجة على مذهبنا، فينبغي أن نعطف إلى ما تعلق به مخالفونا فنورده، ثم نتكلم عليه، ونحن لذلك فاعلون. وقد تعلقوا في ذلك بأشياء:
أولها قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا}، فتوعد على اتباع غير سبيلهم، [الصفحة 608] وفي ذلك إيجاب لاتباع سبيلهم، فلولا أن الإجماع حجة، لم يوجب اتباعهم. وثانيها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
ومعنى “وسطا” أي عدلا، فكما يجب في شهادته صلى الله عليه وآله أن تكون حجة، فكذلك القول في شهادتهم، لان الله تعالى قد أجراهم مجراه.
وثالثها قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}. وهذه صفات لا تليق إلا بمن قوله حجة.
ورابعها ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: “لا تجتمع أمتي على خطأ”. فيقال لهم فيما تعلقوا به أولا: إن ظاهر الاية يقتضي إيجاب اتباع من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا وباطنا، لان من يظهر [الصفحة 609] الإيمان إنما يوصف بذلك مجازا، والمؤمن من فعل الإيمان، وهذا يقتضي إيجاب اتباع من قطعنا على عصمته من المؤمنين، دون من جوزنا أن يكون باطنه خلاف ظاهره، فكيف يحمل ذلك على أنه إيجاب لاتباع من أظهر الإيمان، وليس كل من أظهر الإيمان كان مؤمنا؟!.
فإن ادعوا أن هذه اللفظة تجري على من أظهر الإيمان حقيقة، واستدلوا عليه بقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}، وقوله عزوجل: {إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}، طولبوا بالدلالة على ما ادعوه، فإنه يتعذر عليهم.
والآيتان اللتان ذكروهما إنما علمنا أن المراد بهما من أظهر الإيمان بدلالة، والظاهر يقتضي خلاف ما حملناهما عليه.
وأيضا فإن الآية تضمنت حظر اتباع غير سبيل المؤمنين، ولم يجر لسبيل المؤمنين ذكر، و دليل الخطاب غير صحيح عندنا وعند أكثرهم، فلا يجوز الرجوع إليه في هذه الآية.
[الصفحة 610]
وليس لأحد أن يقول: إن المراد بلفظة (غير) هيهنا الاستثناء، كأنه قال: (لا تتبع إلا سبيل المؤمنين)، كما يقول أحدنا لغيره: (لا تأكل غير هذا الطعام)، أي لا تأكل إلا هذا الطعام، و: لا تلق غير زيد، الذي يفهم منه إيجاب لقائه. وذلك أن لفظة (غير) هي بالصفة أحق منها بالاستثناء، وإنما استثني بها في بعض المواضع تشبيها لها بلفظة (إلا)، كما وصفوا في بعض المواضع بلفظة (إلا) تشبيها لها بغير.
وبعد، فلو احتملت لفظة (غير) الصفة والاستثناء احتمالا واحدا، وليس الامر كذلك، لكانوا يحتاجون في حملها على الاستثناء دون الصفة إلى دلالة.
والذي يبين الفرق بين ما جمعوا بينه أنه يحسن أن يقول أحدنا لغيره: (لا تأكل غير هذا الطعام ولا هذا الطعام) ولا يجوز أن يقول: (لا تأكل إلا هذا الطعام ولا تأكل هذا الطعام).
[الصفحة 611]
فإن قيل متى لم يتبع غير سبيل المؤمنين، فبالضرورة لا بد من كونه متبعا لسبيلهم فحظر أحد الامرين إيجاب للآخر. قلنا: ليس الامر كذلك، لانه قد يجوز أن يحظر عليه اتباع سبيل كل أحد، ويلزم التعويل على الادلة، لان المفهوم من هذه اللفظة أن يفعل المتبع الفعل لاجل فعل المتبع، وقد يمكن أن ينهى عن ذلك كله.
وأيضا فليس يخلو قوله تعالى (المؤمنين) من أن يريد به المستحقين للثواب، والذين باطنهم في الإيمان كظاهرهم، أو يريد به من أظهر التصديق والإيمان، وإن جاز في الباطن أن يكون بخلافه، فإن كان الاول، فالظاهر يقتضي تناول اللفظة لجميع المؤمنين إلى أن تقوم الساعة، فكيف يحملونها على مؤمني كل عصر، وإنما هم بعض المؤمنين لا كلهم، [الصفحة 612] وإن جاز لهم حمل اللفظة على خلاف عموم ظاهرها، جاز لنا حملها على الائمة المعصومين، ففي كل واحد من الامرين ترك للظاهر.
وإن كان المراد بالآية الوجه الثاني، فهو باطل من وجهين؛ أحدهما: ما قلناه من أن ذلك يقتضى الجميع إلى أن تقوم الساعة، ولا يختص بأهل كل عصر. والثاني: أن الكلام خارج مخرج المدح والتعظيم، من حيث الامر بالاتباع والاقتداء، وذلك لا يليق إلا بمن يستحق التعظيم على الحقيقة، دون من يجوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره، ممن يستحق الاستخفاف والإهانة.
وأيضا فإنه تعالى علق وجوب الاتباع بكونهم مؤمنين، فمن أين لهم أنهم لا يخرجون من هذه الصفة؟، فلا يلزم اتباعهم، وإنما يقولون في أنهم لا يخرجون عن الإيمان على ما هو [الصفحة 613] مبني على أن الحق لا يخرج عنهم، والكلام في ذلك.
ثم من أين لهم في الاصل أنه لا بد في كل زمان من وجود مؤمنين، حتى يلزم اتباعهم؟! وليس يمكن التعلق في إثبات مؤمنين في كل حال بأنه إذا أمر باتباعهم، فلابد من حصولهم، ليمكن الاتباع، لأن ذلك تكليف مشروط بغيره، يجب إذا وجد الشرط، وليس يقتضي أن الشرط لابد من حصوله في كل حال، ألا ترى أنه تعالى قد أمر بقطع السارق، وجلد الزاني، ولا يقتضي ذلك القطع على أنه لا بد في كل حال من وجود سراق وزناة، حتى يمكن إقامة الحدود عليهم؟.
وأيضا فإن الآية كالمجملة لانه تعالى لم يوجب اتباع سبيلهم في كل الاحوال، ولا في حال مخصوص فمن أين لهم عموم الاحوال، وليس هيهنا لفظ عموم؟!.
وليس لهم [الصفحة 614] أن يقولوا: لو أراد التخصيص، لبين، لان ذلك يمكن عكسه عليهم. وهي أيضا مجملة من وجه آخر، لان لفظة (سبيل) منكرة، فمن أين لهم وجوب اتباعهم في كل شيء عموما؟!.
ويقال لهم فيما تعلقوا به ثانيا: هذه الآية يقتضي ظاهرها وصف الأمة بالعدالة والشهادة أيضا وهذا الوصف يقتضي ظاهره أن يكون كل واحد منهم بهذه الصفة، ومعلوم بيننا خلاف ذلك.
فإذا حملوا الآية على بعض الأمة دون بعض الذين هم العدول، لم يكونوا بذلك أولى منا إذا حملناها على المعصومين من الائمة.
فإن قالوا: لم نحملها على الجميع، للوصف الذي لا يليق بالجميع فحملناها على كل من يليق به الوصف. قلنا: ليس هيهنا لفظ عموم، كما كان في الآية الاولى، واللفظ محتمل للامرين، فإذا جاز أن يحملوه على بعض دون بعض، جاز لنا مثل ذلك وقمنا فيه مقامكم. على أنهم إذا حملوها على العموم في كل من كان ظاهره [الصفحة 615] العدالة، لزمهم توجه الآية إلى جميع من هو بهذه الصفة إلى يوم القيامة على سبيل الاجتماع، فيبطل قولهم: إن إجماع أهل كل عصر حجة.
وأيضا فإن وصفهم بالعدالة ليكونوا شهداء إنما يقتضي أن يجتنبوا ما أخرج من العدالة، والصغائر عندهم لا تخرج عن العدالة، فيجب أن تجوز عليهم، وهم لا يجوزون أن يجمعوا على قبيح صغير ولا كبير.
وأيضا فإن الآية كالمجملة، لانها غير متضمنة بأنهم جعلوا عدولا في كل شيء، و في جميع أفعالهم وأقوالهم، ومن ادعى عموم ذلك، فعليه الدلالة، والرسول عليه السلام لم تجب عصمته من القبائح كلها، لكونه شهيدا بل لنبوته.
ويقال لهم فيما تعلقوا به ثالثا: إن التأمل لما تكلمنا به على الآيتين المتقدمتين يبطل تعلقهم بهذه الآية، لان وصفهم بأنهم [الصفحة 616] يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يليق بجميع الأمة، فلابد من حمله على بعضهم، وإذا فعلوا ذلك، لم يكونوا أولى منا إذا حملناها على من ثبتت عصمته وطهارته.
وبعد، فليس في الآية ما يقتضي أنهم لا يأمرون إلا بذلك وليس يمتنع خروج من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر في بعض الاحوال عن ذلك.
ولان الآية لا تقتضي أن إجماع كل عصر حجة، فمن أين أن هذا الوصف واقع على أهل كل عصر على انفرادهم؟!.
ويقال لهم فيما تعلقوا به رابعا: من الخبر هذا الخبر يجب أن تدلوا على صحته، فهي الاصل. ثم على اقتضائه عصمة الأمة وكون إجماعهم حجة على ما تدعون، فلا شبهة في أن هذا الخبر إنما رواه الآحاد، وليس من الاخبار الموجبة للعلم.
[الصفحة 617]
وإنما يفزع مخالفونا في تصحيحه إلى أمور كلها عند التأمل مبنية على أن إجماعهم حجة، وقبولهم للشيء يقتضي صحته، وما أشبه ذلك، وهذا هو استدلال على الشيء بنفسه، و تمحل وتعلل، ونحن نبين ذلك.
وربما ادعى مخالفونا أن معناه متواتر، وإن كانت ألفاظه من جهة الآحاد، وأجروه مجرى شجاعة عمرو وسخاء حاتم، أما الطريقة الاولى، فأكثر ما فيها أن الأمة أطبقت، وأجمعت على تصحيحه، والرضا به، ودون صحة ذلك خرط القتاد، لان ذلك غير معلوم، ولا مسلم، وكل من خالف في الإجماع من العلماء قديما وحديثا ينكر ذلك غاية الانكار، فمن أين أنهم في ذلك مصيبون؟! ونحن قبل هذا الخبر الذي هو الحجة في صحة الإجماع نجيز عليهم الخطأ، فلعل قبولهم هذا الخبر من جملة ما هو جائز عليهم من الخطأ، وادعاؤهم أن لامتنا عادة ألفت منهم في رد الباطل وقبول الحق، مما [الصفحة 618] لا نوافقهم عليه، ولا يجابون إليه.
وإذا طولبوا بتصحيح هذه العادة، لم يحصلوا إلا على مجرد الدعوى، وليس كل من عرف منه أنه رد باطلا وقبل حقا لا يجوز عليه بالشبهة أن يقبل باطلا ويرد حقا، وأكثر ما يقتضيه حسن الظن بهم أن يكونوا عندنا ممن لا يدفع إلا ما اعتقد بطلانه، وأداه اجتهاده إلى وجوب رده، ولا يقبل أيضا إلا ما اعتقد بحجة أو شبهة صحته، فأما تجاوز ذلك إلى ما يقتضي عصمتهم، ونفي القبيح عنهم، من غير دلالة قاطعة، فلا سبيل إليه، وقد استقصينا هذه النكتة في الكتاب الشافي غاية الاستقصاء، وتكلمنا على ما يلزمه مخالفونا في هذا الموضع، مما هو عائد كله عند الكشف والفحص عنه إلى استيلاف عصمة القوم بغير دلالة.
ثم إذا سلمنا صحة الخبر، لم يكن فيه دلالة على ما يدعون، لانه [الصفحة 619] كالمجمل، من حيث إنه نفى خطأ منكرا، فمن أين لهم عمومه في جنس الخطأ، ولابد في حمله على ذلك من دليل ولن يجدوه؟!.
وبعد، فإن حملوا لفظة (أمتي) على جميع الأمة، أو على المؤمنين، لزمهم أن يدخل فيه كل من كان بهذه الصفة إلى أن تقوم الساعة على سبيل الاجتماع، ويبطل أن يكون إجماع كل عصر حجة، على ما تقدم بيانه.
وربما قيل لهم في الخبر: من أين لكم أنه خبر دون أن يكون نهيا، ولعل العين من لفظة (تجتمع) ساكنة غير مرفوعة؟ ومن الذي ضبط في إعرابه الرفع من التسكين؟.
وربما قيل لهم ما أنكرتم أن يكون خبرا معناه معنى النهي، كما جرى في نظائره، من قوله تعالى:{مَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وقوله صلى الله عليه وآله: “الزعيم غارم” و “العارية مردودة” وما لا يحصى كثرة. وهذا لا يلزمهم، ولهم أن ينفصلوا عنه بأن [الصفحة 620] اللفظ الذي ظاهره موضوع للخبر لا يجوز حمله على الامر أو النهى إلا بدلالة، والظاهر في الخبر معنا، وعلى من ادعى ما نقلنا عن ظاهره الدلالة.
فأما الكلام على من أحال أن يجوز على كل واحد منهم من الخطأ ما لا يجوز على جماعتهم، وضرب لذلك الامثال بأن الجماعة إذا كان كل واحد منها أسود، فلا يجوز أن تكون الجماعة ليست سودا، وما أشبه ذلك، فهو اعتماد من لم يحصل، ولم يتأمل، لان مراد من نفى الخطأ عن الجماعة ليس هو نفى القدرة، بل هو نفى التجويز والشك، وليس يمتنع أن تقوم دلالة ترفع الشك في الجماعة لا يقوم مثلها في الآحاد، ولو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وآله أشار إلى عشرة، فقال: (كل واحد منهم يجوز أن يخطئ منفردا، وإذا اجتمعوا، فإن الخطأ لا يقع منهم)، لكان ذلك صحيحا غير مستحيل، ولم يجر مجرى [الصفحة 621] السواد والطول اللذين الآحاد فيه كالجماعة، وكيف يمتنع من ذلك من يذهب إلى أن الانبياء والملائكة عليه السلام قد علم الله تعالى أنهم لا يفعلون القبائح، وإن كانوا قادرين عليها ومتمكنين منها؟! فارتفع التجويز والشك مع القدرة والتمكن.
ومما قيل في ذلك: أنه غير ممتنع أن يجوز على الآحاد ما لا يجوز على الجماعات، كسهو الواحد عن شيء مخصوص، وإن كان الجماعات الكثيرة لا يجوز عليها مثل ذلك، وخروجه في وقت مخصوص بهيأة مخصوصة، أو تشويهه بنفسه، وإن كان ذلك كله لا يجوز على الجماعات مع القدرة عليها.
وأما من نفي صحة الإجماع من جهة أنهم لا يجوز أن يجمعوا على الشيء الواحد قياسا مع اختلاف الهمم والاغراض، فباطل، لان الجماعات الكثيرة قد تجتمع على الفعل الواحد، والمذهب [الصفحة 622] الواحد، إما بحجة، أو بشبهة، كاجتماع المسلمين على مذاهب كثيرة، مع الكثرة وتباين الهمم، لاجل الحجة، واجتماع اليهود والنصارى والمبطلين على المذاهب الكثيرة، بالشبهة، وكما أجمعوا مع كثرتهم على القول بقتل المسيح عليه السلام وصلبه، وإن كان ذلك باطلا.
وأما قول من نفى الإجماع لتعذر الطريق إليه، فجهالة، لانا قد نعلم اجتماع الخلق الكثير على المذهب الواحد، وترتفع عنا الشبهة في ذلك، إما بالمشاهدة، أو النقل.
ونعلم من إجماعهم واتفاقهم على الشيء الواحد ما يجرى في الجلاء والظهور مجرى العلم بالبلدان والامصار والوقائع الكبار.
ونحن نعلم أن المسلمين، كلهم متفقون على تحريم الخمر ووطي الامهات وإن لم نلق كل مسلم في الشرق والغرب والسهل والجبل. ونعلم أيضا أن اليهود والنصارى متفقون على القول بقتل المسيح وصلبه وإن [الصفحة 623] كنا لم نلق كل يهودي ونصراني في الشرق والغرب. ومن دفع العلم بما ذكرناه، كان مكابرا مباهتا. وقد استقصينا الكلام على هذه الشبهة في الجواب عن المسائل التبانيات، وبلغنا فيه الغاية، وفيما أشرنا إليه كفاية.
وأرى كثيرا من مخالفينا يعجبون من قولنا: (إن الإجماع حجة)، مع أن المرجع في كونه حجة إلى قول الإمام، من غير أن يكون للإجماع تأثير، وينسبونا في إطلاق هذه اللفظة إلى اللغو والعبث، وقد بينا في الكتاب الشافي في هذه النكتة ما فيه كفاية، وفي الجملة فليس نحن المبتدئين بالقول بأن الإجماع حجة، لكنا إذا سئلنا و قيل لنا: ما تقولون في إجماع المسلمين على أمر من الامور، فلابد من أن نقول: إنه حق وحجة، لان قول الإمام المعصوم الذي لا يخلو كل زمان منه لا بد من أن يكون داخلا في هذا الإجماع، فجوابنا بأنه حق وحجة [الصفحة 624] صحيح، وإن كانت علتنا في أنه حجة غير علتهم، ولو أن سائلا سألنا عن جماعة فيهم نبي: هل قول هذه الجماعة حق وحجة؟ لما كان لنا بد من أن نقول: إنه حجة، لاجل قول النبي صلى الله عليه وآله ولا نمتنع من القول بذلك لاجل أنه لا تأثير لقول باقي الجماعة.
وقد بينا في كتاب الشافي أنه غير ممتنع أن يلتبس في بعض الاحوال قول إمام الزمان إما لغيبته، أو لغيرها، فلا نعرف قوله على التعيين، فنفزع في هذا الموضع إلى إجماع الأمة أو إجماع علمائنا، لنعلم دخول الإمام المعصوم فيه، وإن كنا لا نعرف شخصه وعينه، ففي مثل هذا الموضع نفتقر إلى معرفة الإجماع على القول. لنعلم دخول الحجة فيه، إذا كان قول الإمام هو الحجة ملتبسا أو مشتبها، وهذا يجري مجرى قول المحصلين من مخالفينا: [الصفحة 625] إن الإجماع الذي هو الحجة هو إجماع المؤمنين من الأمة، دون غيرهم، لان قول المؤمنين لما لم يكن متميزا، وجب اعتبار إجماع الكل ليدخل ذلك فيه.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 625:
اِعلم أن كل شيء أجمعت عليه الأمة لابد من كونه غير خطأ، وإن لم يكن خطأ، فلابد من كونه صوابا، وما هو صواب على ضربين: فمنه ما يصح أن يعلم بإجماعهم، وهذا القسم هو الذي يكون إجماعهم حجة فيه.
فأما ما لا يمكن أن يعلم بإجماعهم، فقولهم ليس بحجة فيه، وإن كان صوابا، وكون الشيء حجة كالمنفصل من كونه صوابا لان كونه صوابا يرجع إليه، وكونه حجة يرجع إلى غيره.
[الصفحة 626] فأما الذي يكون إجماعهم فيه حجة: فهو كل أمر صح أن يعلم بإجماعهم. والذي لا يصح أن يعلم بإجماعهم ما يجب أن تتقدم معرفته على معرفة صحة الإجماع، كالتوحيد والعدل وما أشبههما وإذا كنا إنما نرجع في كون الإجماع حجة إلى قول الإمام المعصوم الذي لا يخلو كل زمان منه، فيجب أن نقول: كل شيء تقدمت معرفة وجوب وجود الإمام المعصوم في كل زمان له، فقول الإمام حجة فيه، والإجماع الذي يدخل هذا القول فيه أيضا حجة في مثله. فأما ما لا يمكن المعرفة بوجود الإمام المعصوم قبل المعرفة به، فقوله ليس بحجة فيه، كالعقليات كلها.
والذي يمكن على أصولنا المعرفة به من طريق الإجماع أوسع وأكثر مما يمكن أن يعلم بالإجماع على مذهب مخالفينا، لانهم إنما يعلمون بالإجماع الأحكام الشرعية خاصة، ونحن [الصفحة 627] نتمكن من أن نعلم بالإجماع زائدا على ذلك فرضا وتقديرا النبوة والقرآن وما شاكل ذلك من الامور التي يصح أن يتقدمها العلم بوجوب الإمامة.
ولو أجمعت الأمة في شخص بعينه أنه نبيهم، وفي كلام بعينه أنه كلام الله سبحانه، لعلمنا صحتهما، لسلامة الاصل الذي أشرنا إليه، وصحة تقدمه على هذه المعرفة.
وعلى هذا يصح على مذاهبنا أن يعلم صحة الإجماع وكونه حجة من يجهل صحة القرآن ونبوة نبينا صلى الله عليه وآله، لان أصل كونه حجة لا يفتقر إلى العلم بالنبوة والقرآن، وعلى مذهب مخالفينا لا يصح ذلك، لان الكتاب والسنة عندهم هما أصل كون الإجماع حجة.
واختلفوا في إجماعهم على ما يرجع إلى الآراء في الحروب وما جرى مجراها: فذهب قوم إلى أن خلافهم في ذلك لا يجوز أيضا، واعتمدوا على أن الادلة حرمت مخالفتهم عموما، وجوز آخرون أن يخالفوا فيه، وقالوا ليس يزيد حالهم على حال الرسول صلى الله عليه وآله.
[الصفحة 628]
والصحيح أن كل ما لا يجوز خلاف الرسول أو الإمام فيه لا يجوز خلاف الإجماع أيضا فيه، لان المرجع في أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفته إلى أنه مشتمل على قول الحجة من الإمام أو من جرى مجراه، وخلاف النبي صلى الله عليه وآله في آراء الحروب لا يجوز، لانها صادرة عن وحي، ولها تعلق قوي بالدين، ولو رجعت إلى آرائه في نفسه، لم يجز مخالفته فيها، لاجل التنفير، وكذلك آراء الإمام فيما يتعلق بالسياسات الدينية والدنيوية لا يجوز مخالفتها، لانها تنفر عنه، وتضع منه.
وينقسم الإجماع إلى أقسام: وهي أن يجمعوا على الشيء قولا أو فعلا أو اعتقادا أو رضا به. وقد ينفرد كل واحد من هذه الاقسام، وقد يجتمع مع غيره.
ولا يجوز أن يجمعوا على الذهاب عن علم ما يجب أن يعلموه، والوجه في ذلك أن إخلالهم بالواجب يجري في استحقاق الذم والعقاب به مجرى فعل القبيح، وإذا كان [الصفحة 629] المعصوم لا يجوز عليه الامران، منعنا ذلك في كل جماعة يكون هذا المعصوم فيها.
فأما من استدل من مخالفينا على صحة الإجماع بالخبر، وطعن في دلالة الآيات، فيلزمه تجويز الذهاب عما يجب علمه عليهم، لان الخبر إنما نفى أن يجمعوا على خطأ، ولم يتضمن نفي الاخلال بالواجب، ولفظه لا يقتضيه.
فأما ما لا يجب أن يعرفوه، ولم ينصب لهم دليل عليه، فيجوز ذهابهم عن علمه. ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ في مسألتين، كما لا يجوز أن تجتمع على الخطأ في مسألة واحدة.
ودليل هذه المسألة على مذهبنا واضح، لان تجويز ذلك يؤدي إلى خطاء المعصوم، لانه إذا كان لابد من أن يكون إما في هذه الطائفة أو في الاخرى، وكل واحد منهما مخطئة، فهو مخطئ.
وأما مخالفونا في علة الإجماع، فإنما يعتمدون في نفى الخطأ عن الأمة، وإن كان في مسألتين على أن يقولوا: إن النبي صلى الله عليه وآله نفى الخطاء عن أمته [الصفحة 630] نفيا عاما، ولم يفرق بين المسألة والمسألتين، فيجب نفي الكل.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 630:
اِعلم أن الكلام في هذه المسألة على أصولنا في علة كون الإجماع حجة كالمستغنى عنه، لان الإجماع إذا كان علة كونه حجة كون الإمام فيه، فكل جماعة كثرت أو قلت كان قول الإمام في جملة أقوالها، فإجماعها حجة، لان الحجة إذا كانت، هو قوله، فبأي شيء اقترن، لا بد من كونه حجة لاجله، لا لأجل الإجماع. وقد اختلف قول من خالفنا في هذه المسألة: [الصفحة 631] فمنهم من قال: إن الإجماع الذي هو حجة هو إجماع جميع الأمة المصدقة بالرسول عليه السلام، ومنهم من قال: بل هو إجماع المؤمنين خاصة، وفيهم من ذهب إلى أن الإجماع الذي هو حجة هو إجماع الفقهاء. ولا معنى لخوضنا في هذا الخلاف، لان اصولنا تقتضي سواه، وقد بينا ما يجب أن يعتمد.
واختلفوا في الواحد والاثنين إذا خالفا ما عليه الجماعة: فمنهم من قال: لا يعتد بخلاف واحد واثنين، لانه شاذ خارج عن قول الجماعة، ومنهم من قال: إن خلاف الواحد والاثنين يخرج القول من أن يكون إجماعا. وهذا القول الثاني أشبه بالصواب على مذاهبهم، لان الإجماع الذي هو حجة إذا كان هو إجماع الأمة أو المؤمنين، فخروج بعضهم عنه يخرجه عن تناول الاسم.
والذي يجب أن نعول عليه في هذه المسألة أن نقول: ليس [الصفحة 632] يخلو الواحد والاثنان المخالفان لما عليه الجماعة من أن يكون إمام الزمان المعصوم أحدهما قطعا أو تجويزا، أو يعلم أنه ليس بأحدهما قطعا ويقينا: والقسم الاول يقتضي أن يكون قول الجماعة وإن كثرت هوا الخطأ، وقول الواحد والاثنين لاجل اشتماله على قول الإمام هو الحق والحجة.
فأما القسم الثاني فإنا لا نعتد فيه بقول الواحد والاثنين، لعلمنا بخروج قول الإمام عن قولهما، وأن قوله في أقوال تلك الجماعة، بل نقطع على أن إجماع تلك الجماعة وإن لم تكن جميع الأمة هو الحق والحجة، لكون الإمام فيه، وخروجه عن قول من شذ عنها، وخالفها.
ومن تأمل كلامنا في هذا الفصل، وما حققناه وفصلناه من سبب كون الإجماع حجة و علته، علم استغناءنا عن الكلام فيما [الصفحة 633] تكلم مخالفونا عليه في كتبهم من أقسام الإجماع، وما يراعى فيه، إجماع الأمة كلها، أو العلماء، أو الفقهاء، وما بينهم في ذلك من الخلاف، فإن خلافهم في ذلك إنما ساغ لان أصولهم في علة كون الإجماع حجة غير أصولنا، ففرعوا الكلام بحسب أصولهم، ونحن مستغنون عن الكلام في تلك الفروع. لان أصولنا لا تقتضيها، وقد بينا من ذلك ما يرفع الشبهة.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 633:
اِعلم أن القطع على أن إجماع كل عصر فيه الحجة لا يتم إلا على أصولنا، لان تعليل كون الإجماع حجة يقتضي عندنا استمرار حكمه في كل عصر. ومخالفونا في تعليل كون الإجماع حجة لايتم لهم ذلك، لانهم يرجعون فيه إلى أن الله تعالى علم من حال جماعتهم من نفي الخطأ ما لم يعلمه من الآحاد، [الصفحة 634] فمن أين لهم استمرار هذا الحكم في كل عصر؟! وقد ألزمناهم إذا كانوا مستدلين بالآية أن يراد بلفظة (المؤمنين) إذا حملت على العموم كل مؤمن إلى أن تقوم الساعة على الإجماع، ومتى خصوا بذلك أهل كل عصر، كانوا تاركين للظاهر، و غير منفصلين ممن حمل ذلك على بعض مؤمني كل عصر. وكذلك الكلام عليهم إذا استدلوا بالخبر. فوضح ما قلناه.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 634:
اِعلم أن علة كون الإجماع فيه الحجة على ما ذهبنا يبطل اعتبار انقراض العصر، ولمن ذهب من مخالفينا إلى أن للإجماع تأثيرا أن يقول: الدلالة قد دلت على أنه إنما كان حجة لكونه إجماعا، وهو قبل انقراض العصر بهذه الصفة، فلا معنى لاعتبار غيرها.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 635:
اختلف الناس في هذه المسألة: فذهب قوم إلى أن حكم الخلاف باق لا يزول بالإجماع الثاني، وقال آخرون: إن الإجماع على أحد القولين يمنع من القول بالآخر، ويجرونه مجرى الإجماع المبتدإ في المنع من خلافه، وفيهم من فصل بين أن يكون المجمعون ثانيا هو المختلفون أولا: فقال: إذا كان المجمعون هم المختلفون، كان إجماعا يمنع من القول الآخر، وإن كانوا غيرهم، لم يكن كذلك. وقد حكي عن بعضهم أنه منع من وقوع إجماع بعد اختلاف أصلا.
والصحيح أن الإجماع بعد الخلاف كالإجماع المبتدإ في أنه حجة يمنع من الخلاف على كل حال، لان علتنا في كون الإجماع حجة تقتضي ذلك، ولا تفرق بين إجماع [الصفحة 636] تقدمه خلاف أو كان مبتدأ.
وإنما ضاق الكلام وقويت الشبهة في هذه المسألة على مخالفينا، لقولهم بصحة الاجتهاد، لان عمدة من نفي أن يكون الإجماع بعد الخلاف قاطعا للخلاف هي أن الخلاف الاول متضمن لإجماعهم على جواز القول بكل واحد من المذهبين مطلقا، فإذا حرمنا ذلك بالإجماع الثاني، نقضنا كون الإجماع الاول حجة، وإذا ادعي كون الاول مشروطا، جاز أن يدعى في الثاني أيضا الشرط، فيقف الكلام هيهنا، أو يشتبه. وعلى مذهبنا لا يلزم شيء من ذلك، لانا لا نعلم أن المختلفين على قولين مجمعون على جواز القول بكل واحد منهما، لان عندنا أن الاجتهاد باطل، وأن الحق [الصفحة 637] مدلول عليه، وأن من جهله غير معذور، فمن سوغ لمخالفه أن يقول بخلاف مذهبه من المختلفين مخطئ عندنا. فبطل ما ادعاه من إجماع المختلفين على جواز القول بكل واحد من القولين، وبطلت الشبهة التي هي أم شبههم.
وأما من منع من وقوع إجماع بعد اختلاف، فإنه متى طولب بدلالة على ما ادعاه لم يجدها، وإنما هو تحكم محض.
وقد أبطل هذا القول بأن ذكرت مسائل كثيرة في الشريعة وقع فيها خلاف، ثم اجتمعوا على قول واحد فيها.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 637:
اِعلم أن أكثر الناس على أنه لا يجوز إحداث قول زائد، [الصفحة 638] وذهب قوم من المتكلمين وأصحاب الظاهر من الفقهاء إلى أن ذلك يجوز، ويعتلون بأنه لو لم يجز، لكان الاختلاف في أنه حجة كالإجماع. ويقولون أيضا: إذا جاز في الوقت إحداث قول زائد، فكذلك فيما بعد.
وعلى مذهبنا المنع من ذلك بين، لان الأمة إذا اختلفت على قولين، فالحق واحد منهما، والآخر باطل، وإذا كان الثاني بهذه الصفة، فأولى أن يكون كذلك الثالث وما زاد عليه.
ولانه لا يخلو من أن يكون الحق في جملة أقوال المختلفين، أو فيما عداها، والاول يقتضي أن الزيادة باطلة لانها خلاف الحق، والقسم الثاني يقتضي أن يكونوا قد أجمعوا على الذهاب عن الحق، وذلك ايضا باطل.
ومن يقول بالاجتهاد يضيق عليه هذا الموضع، لانه لا يسلم له أن الأمة إذا اختلفت على قولين فإنها محرمة للقول الثالث على كل حال، بل إنها [الصفحة 639] محرمة بشرط أن لايؤدي الاجتهاد إليه، ويجب أن يجوزه إذا أدى الاجتهاد إليه. وهذه جملة كافية.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 639:
اِعلم أن الدلالة بخلاف المذهب، والصحيح أنه يجوز أن يستدلوا في المسألة بدليل أو اثنين. فيزيد من بعدهم على ذلك طريقة أخرى، لان الدليل الثاني كالاول في أنه يدل على الحكم، ويوصل إليه، فلو أبطلناه لذهابهم عنه، لكان ذلك مبطلا لدليلهم أيضا، وقد يجوز أن يستغنوا عنه بدليل غيره، لقيامه مقامه. ولا يجوز ذلك في المذهب، لان الحق واحد [الصفحة 640] لا يختلف، ولا يقوم غيره مقامه. وكذلك القول في القدح و إبطال الاستدلال: إنه يجوز أن يزيد المتأخرون على ما سطره المتقدمون.
فأما تأويل الآي، وتخريج معاني الاخبار، فكل من صنف أصول الفقه يجعل حكم ذلك حكم المذاهب، لا حكم الادلة، ولا يجوز أن يزيد المتأخر على ما بلغ إليه المتقدم. والاقوى في نفسي أن ذلك جائز، كما جاز في الادلة، فإن تأويل الآي لا يجري مجرى المذهب، بل هو بالادلة أشبه. والذي يوضح عما ذكرناه أنا إذا تأولنا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} على أن المراد بها الانتظار، لا الرؤية، وفرضنا أنه لم ينقل عن المتقدمين إلا هذا الوجه، دون غيره، جاز للمتأخر أن يزيد على هذا التأويل، ويذهب إلى أن المراد أنهم ينظرون إلى [الصفحة 641] نعم الله، لان الغرض في التأويلين جميعا إنما هو إبطال أن يكون الله تعالى في نفسه مرئيا، والتأويلان معا مشتركان في دفع ذلك، وقد قام كل واحد مقام صاحبه في الغرض المقصود، وجرت التأويلات مجرى الادلة في أنه يغني بعضها عن بعض، وخالفت في هذا الحكم المذاهب.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 641:
اِعلم أن هذه المسألة تنقسم إلى قسمين: أحدهما أن يجمعوا على أنه لا فصل بين مسألتين في حكم معين من تحليل أو تحريم، والقسم الآخر أن يجمعوا على أنه لا فصل بينهما في الحكم أي حكم كان: والقسم الاول لا شبهة في تحريم المخالفة فيه، لان إجماعهم [الصفحة 642] على أنه لا فصل بين مسألتين في تحريمه هو إجماع على حكم من الاحكام، ويجري مجرى إجماعهم على تحريم أو تحليل، فمن فرق بين المسألتين، فقد خالف إجماهم لا محالة، ويجري مجرى مخالفي كل إجماع.
وأما المسألة الثانية، وهي أن يجمعوا على أنه لا فصل بينهما في الحكم من غير تعيين، فهو أيضا جار مجرى الاول في تحريم المخالفة، وإن استند ذلك إلى دليل سوى الإجماع، لانه إذا علم بدليل آخر أن ذلك الحكم هو التحريم، صار كنصهم على أن لا فرق في التحريم بينهما. ومثال هذا الوجه الاخير ما روي عن ابن سيرين من أنه قال في زوج وأبوين: أن للام ثلث ما بقي، وقال في امرأة وأبوين: أن للام ثلث جميع المال، فخالف كل من تقدم، لان الناس قبله كانوا بين مذهبين: [الصفحة 643] أحدهما أن للام ثلث المال في المسألتين، والمذهب الآخر أن لها ثلث ما بقي في المسألتين، ففرق ابن سيرين بين ما لم يفرقوا بينه.
وحكي عن الثوري: أنه كان يقول: إن الجماع مع النسيان يفطر، وإن الاكل مع النسيان لا يفطر، ففصل بينهما، وجميع الفقهاء على خلافه، لان من فطر بأحدهما، فطر بالآخر، ومن لم يفطر بأحدهما لم يفطر بالآخر.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 643:
حكي عن مالك أنه كان يجعل إجماع أهل المدينة حجة، وفي أصحابه من ينكر ذلك، ويقول: إن روايتهم مرجحة على رواية غيرهم.
والذي نقوله أنه إن كان إمام الزمان الذي قد دلت [الصفحة 644] الأدلة على عصمته مقيما في المدينة، فإجماع أهلها حجة لهذه العلة، لا لشيء يرجع إليها، لانه لو انتقل عنها إلى غيرها، زال هذا الحكم، فلا تأثير للمدينة. ومن خالفنا في ذلك يقول: إن الله تعالى جعل الإجماع حجة، وليس أهل المدينة كل الأمة، ولاهم أيضا كل المؤمنين ولا كل العلماء، فيما يراعى فيه إجماع العلماء.
وما يروى من تفضيل النبي لها، والثناء عليها لا يدل على أن إجماع أهلها هو الإجماع، وأن الخطأ لا يجوز عليهم، ولا تعلق له بذلك.
فإن قيل: فلو فرضنا أن الرسول عليه السلام قال: (إجماع أهل المدينة حجة) كيف كان يكون الحكم؟ قلنا: لو وقع هذا القول، لدل على أن إجماعهم حجة، وإن انتقلوا إلى الكوفة.
فإن قيل: فلو قال عليه السلام: الخطا لا يقع منهم ماداموا في المدينة. قلنا: ليس ينكر ذلك غير أنه ما جرى هذا الذي قدرتموه.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 645:
اِعلم أنه لا يجوز أن تجمع الأمة على حكم من الاحكام إلا بحجة توجب العلم، لان من جملة المجمعين من لا يجوز عليه الخطأ، ولا ترك الواجب، فإذا ظهر بينهم خبر واحد وعملوا بما يوافق مضمونه فليس يجوز أن يقطع على أن جميعهم إنما عمل لاجله، للعلة التي ذكرناها، وإن كان متواترا يوجب العلم، ولم يظهر سواه بينهم: فالاولى أن يكون عملهم لاجله.
ومخالفونا في علة كون الإجماع حجة يقولون: يمكن أن يكونوا ذهبوا إلى ذلك الحكم المخصوص لاجل اجتهاد أداهم إليه، أو لاجل خبر آخر لم يظهر بينهم، للاستغناء بالإجماع عنه، فلا يجب القطع على أنهم عملوا لاجل هذا الخبر الظاهر. وهذا منهم قريب.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 646:
اِعلم أن هذه المسألة فرع على القول بصحة الاجتهاد، وأنه طريق إلى العلم بالاحكام، وأن الله تعالى قد تعبدنا به، ومن دفع العبادة بالاجتهاد، وأن يكون طريقا إلى العلم بالاحكام، لا كلام له في هذا الفرع.
وسندل على أن الاجتهاد في الشريعة باطل، عند البلوغ إلى الكلام فيه، بإذن الله تعالى ومشيته. وإنما يتكلم في هذه المسألة من ذهب إلى العبادة بالاجتهاد.
وليس لاحد أن يقول: لم لا تجوزون وإن لم نتعبد بالاجتهاد أن يجمعوا مخطئين على حكم من الاحكام من جهة الاجتهاد.
[الصفحة 647]
قلنا: يمنع من ذلك أنه إجماع منهم على الخطأ، وقد بينا أنهم لا يجمعون على خطأ، لان في جملتهم من لا يجوز عليه الخطأ، و إذا كان بين الأمة اختلاف في صحة الاجتهاد، وأنه طريق إلى العلم، بطل تقدير هذه المسألة، لان الإجماع إذا كان هو إجماع جميع الأمة، وفيهم من ينفي القياس والاجتهاد، فلا سبيل إلى أن يكونوا مجمعين، وهذه حالتهم، على حكم واحد من طريق الاجتهاد.
واعتلال المخالفين في هذا الموضع بقولهم: (إن نفاة القياس قد تناقض، وتستعمل القياس وهي لا تشعر) تعلل منهم بالباطل، لان هذا إن جاز، فإنما يجوز على الواحد والاثنين، ولا يجوز على الجماعة التى تحصل، وتفطن، وتشقق الشعر في التدقيق والتحقيق، وهذا رمى منهم للقوم بالغفلة، وقلة الفطنة.
وتعللهم أيضا بأن الخلاف في خبر الواحد كالخلاف في القياس، وقد يجمعون لاجله، باطل أيضا، لانا لا نجيز على من [الصفحة 648] يخالف في خبر الواحد أن يجمع على حكم من الاحكام لاجله في موضع من المواضع، فالمسألتان واحدة. فأما العموم، وإن وقع خلاف في أن وضع اللغة يقتضي الاستغراق، فلا خلاف في أن العرف الشرعي يقتضيه، ومن ارتكب أنه لا عرف في العموم لغوي ولا شرعي لا يصح أن يستدل بظاهر العموم، بل بقرينة ودلالة.
فأما تعلق من أبى الإجماع على الحكم من طريق الاجتهاد بأن الإجماع مقطوع به، وما طريقه الاجتهاد لا يقطع عليه، فليس بشيء، لانه غير ممتنع أن يصير على بعض الوجوه ما ليس بمقطوع به مقطوعا عليه، ويتغير الحال فيه، لان الحاكم إذا حكم بما طريقه الاجتهاد، اقتضى حكمه القطع، وإن كان الاصل الذي هو الاجتهاد ليس بمقطوع به.
فأما ادعاؤهم في أحكام كثيرة أنهم أجمعوا عليها من طريق الاجتهاد، كإجماعهم على قتال أهل الردة بعد الاختلاف، وأن [الصفحة 649] الاتفاق لا وجه له إلا الاجتهاد، وكذلك الاتفاق على إمامة أبي بكر بعد الاختلاف، وطريقها الاجتهاد، فليس بمرضي، ومن أين لهم أن الاتفاق على قتال أهل الردة لم يكن إلا عن اجتهاد، وله وجه في نصوص القرآن قد تعلق بها؟!.
وأما إمامة أبي بكر، فإذا سلم الإجماع باطنا وظاهرا عليها، فغير مسلم أنه عن اجتهاد والبكرية تزعم أنها كانت عن نص من الرسول عليه السلام على إمامته.
وأجد كثيرا من مصنفي أصول الفقه يمتنع من القول بجواز أن تجمع الأمة على الشيء تبخيتا أو تقليدا.
وفي الفقهاء من يجيز ذلك، ويصرح بأن إجماعهم قد يكون تارة عن توقيف، وأخرى عن توفيق، وعلى أصولهم يجب أن يكون [الصفحة 650] ذلك جائزا لايمنع منه مانع، وإذا جاز الخطأ على كل واحد منهم، وجاز أن يعلم الله تعالى في جماعتهم خلاف ذلك، وجاز أيضا أن يكون قول كل واحد يسوغ مخالفته، ولم يجز ذلك في الجماعة، فألا جاز أن يجمعوا على القول بالتبخيت و التقليد إما من كلهم، أو من بعضهم، ويوجب الله سبحانه وتعالى اتباعه، وكونه حجة؟!، لان المعول هو ما يعلمه الله سبحانه من المصلحة، وهذا مما لا انفصال لهم عنه.
فإن قيل كيف لا يلزمكم أنتم مثل ذلك، وأنتم تقولون: أن الإجماع حجة؟ قلنا يجوز أن يبخت ويقلد كل من عدا الإمام، فأما الإمام نفسه، فذلك لا يجوز عليه، لانه قبيح، والقبيح قد أمناه منه لعصمته، فبان الفرق بيننا وبينكم في ذلك.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 651:
اِعلم أن القول إذا ظهر وانتشر، ولم يكن في الأمة إلا قائل به وعامل عليه، أو راض بكون ذلك القول قولا له، حتى لو استفتي، لم يفت إلا به، ولو حكم، لم يحكم إلا به، فهو الإجماع الذي لا شبهة في أنه حجة وحق.
فأما إذا انتشر القول، ولم يكن فيه إلا قائل به، أو ساكت عن النكير عليه، فقد اختلف الناس فيه: فذهب أكثر الفقهاء وأبو علي الجبائي إلى أنه إجماع وحجة، وذهب أبو هاشم وجماعة من الفقهاء: إلى أن ذلك حجة، وإن لم يكن إجماعا، وقال آخرون من الفقهاء: ليس ذلك بحجة ولا إجماع، وإليه ذهب كثير من أهل الظاهر، وهو مذهب أبي عبدالله البصري، وهو الصحيح الذي لا شبهة فيه.
[الصفحة 652]
وإنما قلنا: أنه الصحيح دون ما عداه، لان السكوت عن الانكار لا يدل على الرضا به، لانه قد يكون لامور مختلفة، ودواع متبائنة، من تقية، ورهبة، وهيبة، وغير ذلك من الاسباب المعتادة في مثله، وإنما يقتضي الرضا إذا علمنا أنه لا وجه له إلا الرضا، ولا سبب له يقتضيه سواه، وإذا لم يدل الامساك عن النكير على الرضا، فلا دلالة فيه على وقوع الإجماع، ومن رأى ممن يطعن على هذه الطريقة أن كل مجتهد مصيب يقول زائدا على ما ذكرناه:
إن الامساك عن النكير إنما يدل على أن ذلك الفعل أو القول ليس بمنكر، وقد يجوز أن لا ينكر القول على قائله، لاجل أنه صواب من القائل، وإن لم يكن عند من أمسك عن النكير صوابا في حقه، وقد يستصوب عند أهل الاجتهاد بعض الافعال من غيره، وإن لم يعتقد أنها صواب في حقه، وما يرجع إليه.
ومن لا يرى صحة الاجتهاد لا يفصل بهذا التفصيل، فإذا كان [الصفحة 653] ترك النكير لا يدل على الرضا، فلا يجب أن نستفيده منه، وإذا لم يقطع عليه، فلا إجماع في ذلك، ولا حجة.
فأما تعويل أبي هاشم وغيره في أنه حجة وإن لم يكن إجماعا على أن الفقهاء يعتمدونه، ويعولون عليه، ويحتجون به، فليس بشيء، لانه غير مسلم لهم أن جميع الفقهاء يحتجون به. ثم لو سلم ذلك، لم يكن في فعلهم حجة، لان تقليدهم غير جائز.
ومما طعن به على هذه الطريقة زائدا على ما ذكرناه أن قيل: الامساك عن النكير لا يدل على التصويب، لانه غير منكر أن يكون الممسك شاكا في كون ذلك منكرا، أو متوقفا، وإنما يجب أن ينكر المنكر إذا علمه منكرا.
وما يقال على هذه الطريقة من أنه لا يجوز أن ينقرض العصر، ويمتد الزمان على هذا الشك والتوقف، ليس بمعتمد أيضا لان الشك قد يجوز أن يستمر لاستمرار أسبابه، ولضعف الدواعي إلى تحقيق المسألة، والقطع على الحق فيها. وكل هذه الامور التي [الصفحة 654] يتعللون بها تقريبات لا تقتضي قطعا، ولا توجب علما.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 654:
اِعلم أن في الفقهاء من يجري هذه المسألة مجرى الإجماع، وهذا بعيد جدا، لان القول إذا لم تقع الثقة بسماع كل واحد من العلماء له، وجوزنا أن يكون فيهم من لم يسمعه، فكيف يقطع على رضاهم به، أو وجوب إنكاره عليهم وهو لم يسمعوه؟!
ولم يبق إلا أن يقال: إذا نقل في الحادثة قول واحد، ولم ينقل سواه، وجب أن يكون هوالحق، لان الحق لو كان في غيره، لنقل، كما نقل هذا.
وذلك أيضا لا يلزم، لانه لا يمتنع أن يكون المحق في هذه المسألة ما دعاه داع إلى أن يفتي بالحق فيها، فلا ينقل قوله، لانه لم يكن له قول يجب نقله.
فإن قدرنا أن الحاجة ماسة، والدواعي متوفرة إلى قول الحق فيها، و مع هذا لم يظهر [الصفحة 655] إلا قول واحد، فلا بد من شرط آخر زائدا على ما ذكروه، وهو أن لا يكون للمحق مانع من إظهار الحق، لانا إن جوزنا أن يكون هناك مانع، لم يقطع على أن الحق فيما ظهر، دون ما لم يظهر.
وهذه جملة كافية.
- الذريعة (أصول فقه) - السيد المرتضى ج 2 ص 655:
اِعلم أنه قد ذهب قوم من الفقهاء وغيرهم إلى أنه يجوز أن نأخذ مع اختلاف الصحابة بقول بعضهم دون بعض، وجوزوا أيضا للعالم أن يقلد من هو أعلم منه، وامتنع آخرون من ذلك كله، وذهبوا إلى أنه لا يجوز لمن يتمكن من العلم أن يقلد غيره، وأن يتبعه بغير دلالة، وهو الصحيح. ومعلوم أن هذه [الصفحة 656] المسألة مبنية على القول بصحة الاجتهاد، وأن كل مجتهد مصيب، وأن الحق ليس في واحد من الاقوال، وإذا كنا لا نذهب إلى هذا الاصل، فلا معنى للكلام في التفريع عليه.
وقد أجمع كل من نفى القياس والاجتهاد في الشريعة على أن ذلك لا يجوز. والذي نذهب إليه أن على السمعيات أدلة قاطعة توجب العلم كالعقليات، وكما لا يجوز لاحد أن يقلد غيره في العقليات، كذلك لا يجوز في السمعيات، فالعلة الجامعة بين الامرين أنه متمكن من أن يكون كالعالم بالنظر والفحص، وإذا تمكن من ذلك، لم يجز له التقليد، وإن جاز للمستفتي تقليد العالم، لانه لا يتمكن من العلم، ولا مما يتمكن منه العالم. وفي هذا القدر كفاية.
- الانتصار- الشريف المرتضى ص 79: مقدمة المؤلف:
ثم يقال لمن يخالفنا: إذا كان الإجماع عندكم على ضربين: إجماع العلماء فيما لا مدخل للعامة فيه، والضرب الآخر: إجماع الأمة من عالم وعامي فألا راعيتم علماء الشيعة في إجماع العلماء.
وإجماع عامتهم في إجماع الأمة وهم داخلون تحت لفظ النصوص التي تفزعون في صحة الإجماع إليها؟ فإن قالوا خلافهم الخاص معلوم لا ريب فيه، وإنما الكلام في أن الإجماع على خلاف ما ذهبوا إليه قد سبق فقد تقدم من الكلام على هذا الفصل ما فيه كفاية.
وإن قالوا: إنما لا نعتد بهم في الإجماع لأنهم على بدع وضلالة يخرج من اعتقدها من أن يعتد به في خلاف.
[الصفحة 80]
قلنا: لا تخرجوا عن قانون الكلام في فروع الفقه وتمزجوه بغيره مما يحوج إلى الكلام في أصول الديانات التي تستعفون أبدا من الخوض فيها وأكثركم والغالب عليكم ليس من رجالها، ولا تذكرونا في هذا الباب ما قد تركنا الالمام به مقاربة ومساهلة، فأنتم تعلمون أن الشيعة الإمامية تعتقد فيمن يخالفها في الأصول ما يمنع من أن يراعى قوله في إجماع المسلمين أو خلافه وينتهون في ذلك إلى غايات بعيدة لا تنتهون فيهم إليها فإنكم إذا بلغتم الغاية اعتقدتم فيهم أنهم أصحاب بدع يكونون بها فساقا ولا ينتهون إلى الكفر، والفاسق عند أكثر القائلين بالإجماع لا يخرج بفسقه من أن يكون قوله خلافا في الشريعة، وهذا فصل الاضراب عن تحقيقه أعود إليكم وأسلم لكم فما فرج الإمامي إلا في أن يعدل معه إلى هذا الضرب من الكلام فإنه يتسع له منه ما لا يتسع من الكلام على فروع الفقه.
على أنه كيف لا يعد خلافا من جعل النبي صلى الله عليه وآله مذاهبهم حجة يرجع إليها ويعول عليها كالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في قوله صلى الله عليه وآله: “إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض”.
أو ليس قد ذهب كثير من علماء المعتزلة ومحصليهم إلى أن إجماع أهل البيت خاصة وإن انفردوا عن باقي الأمة حجة يقطع بها؟
فمن إجماعهم حجة بشهادة الرسول صلى الله عليه وآله [الصفحة 81] كيف لا يكون قولهم خلافا وجاريا مجرى قول بعض الفقهاء في أنه خلاف يعتد به؟ إن هذا لعجيب.
ومما يجب علمه أن حجة الشيعة الإمامية في صواب جميع ما انفردت به أو شاركت فيه غيرها من الفقهاء هي إجماعها عليه، لأن إجماعها حجة قاطعة ودلالة موجبة للعلم.
فإن انضاف إلى ذلك ظاهر كتاب الله جل ثناؤه أو طريقة أخرى توجب العلم وتثمر اليقين فهي فضيلة ودلالة تنضاف إلى أخرى وإلا ففي إجماعهم كفاية.
وإنما قلنا: إن إجماعهم حجة لأن في إجماع الإمامية قول الإمام الذي دلت العقول على أن كل زمان لا يخلو منه، وأنه معصوم لا يجوز عليه الخطأ في قول ولا فعل فمن هذا الوجه كان إجماعهم حجة ودليلا قاطعا.
وقد بينا صحة هذه الطريقة في مواضع من كتبنا وخاصة في جواب مسائل أبي عبد الله ابن التبان، وفي جواب مسائل أهل الموصل الفقهية الواردة في سنة عشرين وأربعمائة، وفي غير هذين الموضعين من كتبنا، فإنا فرعنا ذلك وأشبعناه واستقصيناه وأجبنا عن كل سؤال يسأل عنه، وحسمنا كل شبهة تعترض فيه، وبينا كيف الطريق إلى العلم بأن قول الإمام المعصوم في جملة أقوال الإمامية، وكيف السبيل إلى أن نعرف مذاهبه ونحن لا نميز شخصه وعينه في أحوال غيبته، وأسقطنا عجب من يقول: من لا أعرفه كيف أعرف مذهبه.
ولا فائدة في شرح ذلك هاهنا، لأن التشاغل في هذا الكتاب بغيره، ومن أراد التناهي في معرفة صحة هذا الأصل يرجع إلى حيث أرشدناه فإنه يجد ما يوفي [الصفحة 82] على حاجته ويتجاوز قدر كفايته.
وإذا كانت الجملة التي أشرنا إليها هي الحجة في جميع مذاهب الشيعة الإمامية في أحكام الفقه فعلى من شك في شيء من مذاهبهم وارتاب بصحته أن يسأل عن صحة ذلك، فإذا أقيمت فيه عليه الحجة بالطريقة التي أشرنا إليها وجب زوال ريبه وحصول علمه، وبرئت عهدة القوم فيما ذهبوا إليه ببيان الحجة فيه والدلالة عليه، وما يضرهم بعد ذلك خلاف من خالفهم، كما لا ينفع وفاق من وافقهم، ولو اقتصرنا على هذه الجملة في تمام الغرض لكفينا وما افتقرنا إلى زيادة عليها.
ولا احتجنا إلى تفصيل المسائل وتعيينها فإن الحجة في صحة الجميع واحدة، لكنا نفصل المسائل ونعينها ونبين ما فيه موافق الشيعة الإمامية من غيرهم وإن ظن مخالفوهم أنه لا موافق لهم فيها ثم نبين ما انفردوا به من غير موافق من مخالفيهم، ونضيف إلى هذه الطريقة التي أشرنا إليها في صحته على جهة الجملة ما لعله يمكن فيه أن يستدل من ظاهر كتاب [الله جل ثناؤه] أو طريقة توجب العلم، وكل ما تيسر من تقويته وتقريبه وتسهيل مرامه لتكون الفائدة بذلك أكثر وأغزر وعلى الله توكلنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
- الانتصار- الشريف المرتضى ص 442: المسألة 253:
وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنه حجة، ويخص بمثله ظواهر الكتاب...
- الانتصار- الشريف المرتضى ص 452: المسألة 257:
قلنا: إجماع الإمامية قد تقدم الرجلين فلا اعتبار بخلافهما، وقد بينا في مواضع من كتبنا أن خلاف الإمامية إذا تعين في واحد أو جماعة معروفة مشار إليها لم يقع به اعتبار.
- الناصريات- الشريف المرتضى ص 67: المسألة 1:
والحجة في صحة مذهبنا: إجماع الشيعة الإمامية، وفي إجماعهم عندنا الحجة...
- الناصريات- الشريف المرتضى ص 141: المسألة 40:
والإجماع بعد الخلاف على أحد القولين يزيل حكم الخلاف، ويصير القول إجماعا.
- الناصريات- الشريف المرتضى ص 273: المسألة 115:
وأيضا فالإجماع منعقد بعد ابن عباس وابن مسعود على هذه العدة، ولا اعتبار بما يتجدد من الخلاف بعد الإجماع.
- الناصريات- الشريف المرتضى ص 166: المسألة 58:
وأيضا فإن المقادير التي تتعلق بحقوق الله تعالى لا تعلم إلا من جهة التوقيف والإجماع، مثل المقادير، والحدود، وركعات الصلاة...
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 11:
وهاهنا طريق آخر يجري في وقوع العلم مجرى التواتر والمشافهة، وهو أن يعلم عند عدم تمييز عين الإمام وانفراد شخصه، إجماع جماعة على بعض الأقوال، يوثق بأن قوله داخل في جملة أقوالهم.
فإن قيل: هذا القسم أيضا لا يخرج عن المشافهة أو التواتر، لأن إمام العصر إذا كان موجودا، فإما أن يعرف مذهبه وأقواله مشافهة وسماعا، أو بالمتواتر عنه.
قلنا: الأمر على ما تضمنه السؤال غير أن الرسول والإمام إذا كان متميزا متعينا، علمت مذاهبه وأقواله بالمشافهة أو بالتواتر عنه. وإذا كان مستترا غير متميز العين -وإن كان مقطوعا على وجوده واختلاطه بنا- علمت أقواله بإجماع الطائفة التي نقطع على أن قوله في جملة أقوالهم، وإن كان العلم بذلك من أحواله لا يعد وأما المشافهة أو التواتر، وإنما يختلف الحالان بالتمييز والتعيين في حال، وفقدهما في أخرى.
فإن قيل: من أين يصح العلم بقول الإمام إذا لم يكن متعينا متميزا، وكيف يمكن أن يحتج بإجماع الفرقة المحقة في أن قوله داخل في جملة أقوالهم. أو ليس هذا يقتضي أن تكونوا قد عرفتم كل محق في سهل وجبل [الصفحة 12] وبر وبحر وحزن ووعر، ولقيتموه حتى عرفتم أقواله ومذاهبه، أو أخبرتم بالتواتر عن ذلك، ومعلوم لكل عاقل استحالة هذا وتعذره. وليس يمكنكم أن تجعلوا إجماع من عرفتموه من الطائفة المحقة هو الحجة، لأنكم لا تأمنون من أن يكون قول الإمام الذي هو الحجة في الحقيقة خارجا عنه.
قلنا: هذه شبهة معروفة مشهورة، وهي التي عول عليها واعتمدها من قدح في الإجماع، من جهة أنه لا يمكن معرفة حصوله واتفاق الأقوال كلها على المذهب الواحد. والجواب عن ذلك سهل واضح.
وجملته: أنه لا يجب دفع حصول العلم الذي لا ريب فيه ولا شك، لفقد العلم بطريقة على سبيل التفصيل.
فإن كثيرا من العلوم قد تحصل من غير أن تنفصل للعالم طريقها. ألا ترى أن العلم بالبلدان والأمصار والحوادث الكبار والملوك العظام، فإنه يحصل بلا ارتياب لكل عاقل يخالط الناس حتى لا يعارضه شك، ولو طالبته بطريق ذلك على سبيك التفصيل لتعذر عليه ذكره والإشارة إليه.
ولو قيل لمن عرف البصرة والكوفة وهو لم يشاهدهما، وقطع على بدر وحنين والجمل وصفين وما أشبه ذلك: أشر إلى من خبرك بهذا، وعين من أنبأك به، وكيف حصل لك العلم به؟ لتعذر عليه تفصيل ذلك وتمييزه ولم يقدح تعذر التمييز والتفصيل عليه في علمه بما ذكرناه، وإن كان عند التأمل على الجملة أنه علم ذلك بالاخبار، وإن لم ينفصل له كل مخبر على التعيين. وإذا كانت مذاهب الأمة مستقرة على طول العهد وتداول الأيام، وكثرة الخوض والبلوى، وتوفر الدواعي وقوتها، فما خرج عن المعلوم منها نقطع على أنه ليس مذهبا لها ولا قول من أقوالها. وكذلك إذا كانت مذاهب فرق الأمة على اختلافها مستمرة مستقرة على [الصفحة 13] طول الأزمان، وتردد الخلاف، ووقوع التناظر والتجادل، جرى العلم بإجماع كل فرقة على مذاهبها المعروفة المألوفة وتميزه مما باينه وخالفه، مجرى العلم بمذاهب جميع الأمة وما وافقه وخرج عنه.
ومن هذا الذي يشك في أن تحريم الخمر ولحم الخنزير والربا، ليس من مذهب أحد المسلمين، وإن كنا لم نلق كل مسلم في البر والبحر والسهل والوعر. وأي عاقل من أهل العلم يرتاب في أن أحدا من الأمة لم يذهب في الجد والأخ إذا انفردا في الميراث، أن المال للأخ لا للجد، وأن الأخوة من الأم يرثون مع الجد.
وإذا كانت أقوال الأمة على اتساعها وانتشارها في الفتاوي تنضبط لنا، حتى لا نشك فيما دخل فيها وما خرج عنها، فكيف يستعبد انحصار أقوال الشيعة الذين نذكر أن قول الحجة فيهم، ومن جملة أقوالهم، وهو أقل عددا وأقرب انحصارا؟. أو ليس أقوال أبي حنيفة وأصحابه والشافعي، والمختلف من أقوالهم قد انحصرت، حتى لا يمكن أحدا أن يدعي أن حنفيا أو شافعيا يذهب إلى خلاف ما عرف وظهر وسطر، وإن لم تجب البحار وتحل الأمصار وتشافه كل حنفي وشافعي. فما المنكر من مثل ذلك في أقوال الشيعة الإمامية؟ وإن أظهر مظهر الشك في جميع ما ذكرنا منه العليل وهو الكثير الغريز وقال: إنني لا أقطع على شيء مما ذكرتم أنه مقطوع عليه، لفقد طريق العلم الذي هو المشاهدة أو التواتر. لحق بالسمنية جاحدي الأخبار، وقرب من السوفسطائية منكري المشاهدات. ولا فرق البتة عند العقلاء من تجويز مذهب للأمة لم نعرفه ولم نألفه ولم [الصفحة 14] ينقل إلينا، مع كثرة البحث واستمرار الخوض. وبين بلد عظيم في أقرب المواضع مما لم ينقل خبره إلينا، وحادثة عظيمة لم نحط بها علما.
وقيل لمن تعلق بذلك: إن كنت تدفع العلم عن نفسك والسكون إلى ما ذكرناه، فأنت مكابر كالسمنية والسوفسطائية. وإن كنت تقول: طريق العلم متعذر، لأنه المشاهدة والتواتر وقد ارتفعا.
قلنا لك: ما تقدم من أن التفصيل قد يتعذر مع حصول العلم، والتواتر والمشاهدة في الجملة طريق إلى ما ذكرناه، غير أنه ربما تجلى ويعتق، وربما التبس واشتبه. ولن يلتبس الطريق ويتعذر تفصيله إلا عند قوة العلم وامتناع دفعه.
ألا ترى أن العالم بالبلدان والحوادث الكبار على الوجه القوي الجلي، لو قيل له: من أين علمت؟ ومن خبرك ونقل إليك؟ لتعذر عليه الإشارة إلى طريقه. وليس هكذا من علم شيئا بنقل خاص متعين، لأنه يتمكن متى سئل عن طريق علمه أن يشير إليه. فقد صار تعذر التفصيل للطريق علما على قوة العلم وشدة اليقين، فلهذا أستغني عن تفصيل طريقه. وإنما يحتاج إلى تعيين الطريق فيما لم يستو العلم بالطريق المعلوم، فأما ما يستو فيه قوة المعلوم بوضوحه وتجليه وارتفاع الريب والشك فيه، فأي حاجة إلى العلم بتعيين طريقه؟
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 14:
وبعد، فالإجماع الموثوق به في الفرقة المحقة، هو إجماع الخاصة دون [الصفحة 15] العامة، والعلماء دون الجهال. ومعلوم أن الحصر أقرب إلى ما ذكرناه. ألا ترى أن علماء أهل كل نحلة وملة في العلوم والآداب، معروفون محصورون متميزون، وإذا كانت أقوال العلماء في كل مذهب مضبوطة، والإمام لا يكون إلا سيد العلماء وأوحدهم، فلابد من دخوله في جملتهم، والقطع على أن قوله كقولهم.
وهل الطاعن على الطريقة التي ذكرناها بأنا لم نلق كل إمامي ولا عرفناه، إلا كالطاعن في إجماع النحويين واللغويين على ما أجمعوا عليه في لغاتهم وطرقهم، بأنا لم نلق كل نحوي ولغوي في الأقطار والأمصار، ويلزمنا الشك في قول زائد على ما عرفناه من أقوالهم المسطورة المشهورة.
فإن قيل: لم يبق إلا أن تدلوا على أن قول الإمام مع عدم تميزه وتعينه في جملة أقوال الشيعة الإمامية خاصة دون سائر الفرق، حتى تقع الثقة بما يجمعون عليه ويذهبون إليه، ولا ينفع أن يكون قوله موجودا في جملة أقوال الأمة، من غير أن يتعين لنا الفرقة التي قوله فيها ولا يخرج عنها.
قلنا: إذا دل الدليل القاهر على أن الحق في قول هذه الفرقة دون غيرها، فلا بد من أن يكون الإمام الذي نثق بأنه لا يفارق الحق ولا يعتمد سواه، مذهبه مذهب هذه الفرقة، إذ لا حق سواه.
وكما نعلم مع غيبته وتعذر تمييزه أن مذهبه مذهب أهل العلم والتوحيد، ثم مذهب أهل الاسلام من جملتهم، من حيث علمنا أن هذه المذاهب هي التي دل الدليل على صوابها وفساد ما عداها، فكذلك القول في الإمام.
وإذا فرضنا أن الإمام إمامي المذهب، علمنا بالطريق الذي تقدم في مذهب مخصوص، أن كل إمامي عليه، وزال الريب في ذلك. فقد بان أن إجماع الإمامية على قول أو مذهب لا يكون إلا حقا، لأنهم لا يجمعون إلا وقول الإمام [الصفحة 16] داخل في جملة أقوالهم، كما أنهم لا يجمعون إلا وقول كل عالم منهم داخل في جملة أقوالهم.
فإن عاد السائل إلى أن يقول: فلعل قول الإمام وإن كان موافقا للإمامية في مذاهبها لم تعرفوه ولم تسمعوه، لأنكم ما لقيتموه ولا تواتر عنه الخبر على التمييز والتعيين. فهذا رجوع إلى الطعن في كل إجماع وتشكيك في الثقة بإجماع كل فرقة على مذهب مخصوص، وليس بطعن يختص ما نحن بسبيله. والجواب عنه قد تقدم مستقصى، وأوضحنا أن التشكيك في ذلك دفع للضروريات ولحوق بأهل الجهالات.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 16:
وإذ قد قدمنا تقديمه مما هو جواب عند التأمل عن جميع ما تضمنه الفصل الأول، فنحن نشير إلى المواضع التي تجب الإشارة إليها، والتنبيه على الصواب فيها من جملة الفصل.
أما ما مضى في الفصل من أنكم إذا اطلعتم على طرق مخالفيكم التي يتوصلون بها إلى الأحكام الشرعية، لا بد من ذكر طريق لا يلحقه تلك الطعون، توضحون أنه موصل إلى العلم بالأحكام، فلعمري أنه لا بد من ذلك.
وقد بينا فيما قدمناه كيف الطريق إلى العلم بالأحكام وشرحناه وأوضحناه، وليس رجوعنا إلى عمل الطائفة وإجماعها في ترجيح أحد الخبرين الراويين على صاحبه أمرا يختص هذا الموضع، حتى يظن ظان أن الرجوع إلى إجماع الطائفة إنما هو في هذا الضرب من الترجيح.
[الصفحة 17]
بل نرجع إلى إجماعهم في كل حكم لم نستفده بظاهر الكتاب، ولا بالنقل المتواتر الموجب للعلم عن الرسول أو الإمام عليه السلام، سواء ورد بذلك خبر معين أو لم يرد، وسواء تقابلت فيه الروايات أو لم تتقابل، لأن العمل بخبر الواحد المجرد ليس بحجة عندهم على وجه من الوجوه، انفرد من معارض أو قابله غيره على سبيل التعارض.
فأما ما مضى في الفصل من ذكر طرف المشارق والمغارب والسهول والوعور، وأن ذلك إذا تعذر لم يقع الثقة بعموم المذهب بكل واحد من الفرقة. فقد مضى الجواب عنه مستوفى مستقصى، وبينا أن العلم بذلك حاصل ثابت بالمشافهة والتواتر، وإن [لم] تجب البلاد وتعرف كل نسالها.
فأما التقسيم الذي ذكر أنه لا يخلو القائل بأن الفرقة أجمعت، من أن يريد كل متدين بالإمامة ومعتقد لها، أو يريد البعض، وتعاطي إفساد القسم الأول بما تقدم ذكره.
والكلام على الثاني بالمطالبة بالدليل المميز لذلك البعض من غيرهم، والحجة الموجبة لكون الحق فيه، ثم بإقامة الدلالة على أن قول الإمام المعصوم الذي هو الحجة على الحقيقة في جملة أقوال ذلك البعض دون ما عداهم من أهل المذاهب. فالكلام عليه أيضا مستفاد بما تقدم بيانه وإيرادنا له، غير أنا نقول: ليس المشار بالإجماع الذي نقطع على أن الحجة فيه إلى إجماع العامة والخاصة والعلماء والجهال. وإنما المشار بذلك إلى إجماع العلماء الذين لهم في الأحكام الشرعية أقوال مضبوطة معروفة، فأما من لا قول له فيما ذكرناه -ولعله لا يخطر بباله- أي إجماع له يعتبر.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 18:
فأما الدليل على أن قول الإمام في هذا البعض الذي عيناه دون غيره فواضح، لأنه إذا كان الإمام عليه السلام أحد العلماء بل سيدهم، فقوله في جملة أقوال العلماء. وإذا علمنا في قول من الأقوال أنه مذهب لكل عالم من الإمامية فلا بد من أن يكون الإمام عليه السلام داخلا في هذه الجملة، كما لا بد من أن يكون كل عالم إمامي، وإن لم يكن إماما يدخل في الجملة... قرينة للخبر لا يخلو من أن يعتبر فيه العلم بعمل المعصوم في جملة عملهم إلى آخر الفصل.
فالكلام عليه أن عمل المعصوم هو الحجة دون عمل غيره ممن انضم إليه ولا حجة في عمل الجماعة التي لا يعلم دخول المعصوم فيها، ولا هو أيضا إذا خرج المعصوم منه، إجماع جميع أهل الحق.
ولو انفرد لنا عمل المعصوم وتميز، لما احتجنا إلى سواه، وإنما راعينا عند فقد التمييز دخوله في جملة غيره، لنثق بأن قوله في جملة تلك الأقوال. ولا معنى لقول من يقول: فإذا كان علمه مستقلا بنفسه في كونه حجة ودلالة، فلا اعتبار بغيره. لأنا ما اعتبرنا غيره إلا على وجه مخصوص، وهو حال الالتباس، وما كان اعتبارنا لغيره إلا توصلا إليه ولنثق بما نعلمه.
[الصفحة 19]
فأما مطابقة فائدة الخبر بعمل المعصوم، فلا شبهة في أنها لا تدل على صدق الراوي فيما رواه، ومن هذا الذي جعل فيما رواه المطابقة دليلا على صدق الراوي.
والذي يجب تحصيله في هذا أن الفرقة المحقة إذا علمت بحكم من الأحكام أو ذهبت إلى مذهب من المذاهب، ووجدنا روايته مطابقة لهذا العمل لا نحكم بصحتها ونقطع على صدق رواتها، لكنا نقطع على وجوب العمل بذلك الحكم المطابق للرواية، لا لأجل الرواية، لكن بعمل المعصوم الذي قطعنا على دخوله في جملة عمل القائلين بذلك الحكم. اللهم إلا أن تجمع الفرقة المحقة على صحة خبر وصدق راويه، فيحكم حينئذ بذلك مضافا إلى العمل.
فإن قيل: وكيف تجمع الفرقة المحقة على صدق بعض أخبار الآحاد، وأي طريق لها إلى ذلك؟
قلنا: يمكن أن تكون عرفت ذلك بأمارة، أو علامة على الصادق من طريق الجملة. ويمكن أيضا أن يكونوا عرفوا في راو بعينه صدقه على سبيل التمييز والتعيين، لأن هؤلاء المجمعين من الفرقة المحقة قد كان لهم سلف قبل سلف يلقون الأئمة^ الذين كانوا في أعصارهم، وهم ظاهرون بارزون تسمع أقوالهم ويرجع إليهم في المشكلات.
وفي الجملة: إجماع الفرقة المحقة لأن المعصوم فيه حجة، فإذا أجمعوا على شيء قطعنا على صحته، وليس علينا أن نعلم دليلهم الذي أجمعوا لأجله [الصفحة 20] ما هو بعينه، فإن ذلك عنا موضوع، لأن حجتنا التي عليها نعتمد هي إجماعهم لا ما لأجله كان إجماعهم.
ومخالفونا في مسألة الإمامة بمثل هذا الجواب يجيبون إذا سئلوا عن علل الإجماع وطرقه وأولويته.
فإن قيل: فما تقولون في خبرين واردين من طرق الآحاد تعارضا وتنافيا، ولم تعمل الفرقة المحقة بما يطابق فائدة أحدهما، ولا أجمعوا في واحد منهما على صحة ولا فساد.
قلنا: لا نعمل بشيء من هذين الخبرين، بل يكونان عندنا مطروحين وبمنزلة ما لم يرد، ونكون على ما تقتضيه الأدلة الشرعية في تلك الأحكام التي تضمنها الأخبار الواردة من طريق الآحاد. وإن لم يكن لنا دليل شرعي في ذلك، استمررنا على ما يقتضيه العقل.
- رسائل المرتضى- الشريف المرتضى ج 1 ص 99: المسألة 1:
والدليل الواضح على ذلك: إجماع الإمامية عليه، لأنهم لا يختلفون فيما ذكرنا من الأحكام، وإجماعهم على ما أشرنا إليه حجة ودلالة توجب ال&!1193;لم، فيجب لذلك القطع على تحريم الفقاع ونجاسته...
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 160: المسألة 9:
وإجماع أهل الحق حجة في الدين، والأخبار الواردة عن الأئمة^ وعن أمير المؤمنين عليه السلام من قبل متظاهرة فاشية شائعة لولا خوف التطويل لذكرناها...
[الصفحة 161]
وليس يجوز الشك في تحريم الفقاع إلا مع الشك في صحة إجماع الإمامية، ومعلوم صحة إجماع الإمامية فما يبتنى عليه ويتفرع تجب صحته.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 205:
وهاهنا طريق آخر يتوصل به إلى العلم بالحق والصحيح من الأحكام الشرعية عند فقد ظهور الإمام وتميز شخصه، وهو إجماع الفرقة المحقة من الإمامية التي قد علمنا أن قول الإمام -وإن كان غير متميز الشخص- داخل في أقوالها وغير خارج عنها.
فإذا أطبقوا على مذهب من المذاهب، علمنا أنه هو الحق الواضح والحجة القاطعة، لأن قول الإمام الذي هو الحجة في جملة أقوالها، فكأن الإمام قائله ومتفردا به، ومعلوم أن قول الإمام -وهو غير مميز العين ولا معروف الشخص- في جملة أقوال الإمامية، لأنا إذا كنا نقطع على وجود الإمام في زمان الغيبة بين أظهرنا ولا نرتاب بذلك، ونقطع أيضا على أن الحق في الأصول كلها مع الإمامية دون مخالفيها، وكان الإمام لا بد أن يكون محقا في جميع الأصول، وجب أن يكون الإمام على مذاهب الإمامية في جميعها على مذهب من المذاهب في فروع الشريعة، فلا بد أن يكون الإمام وهو سيد الإمامية وأعلمها وأفضلها في جملة هذا الإجماع.
فكما لا يجوز فيما أجمعت عليه الإمامية أن يكون بعض علماء الإمامية غير قائل به ولا ذاهب إليه، فكذلك لا يجوز مثله في الإمام.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 205:
فإن قيل: هذا حجد (كذا) عظيم منكم، يقتضي أنكم قد عرفتم كل محق في [الصفحة 206] بر وبحر وسهل وجبل حتى ميزتم أقوالهم ومذهبهم، إما بأن لقيتموهم، أو بأن تواترت عنه إليكم الأخبار بمذاهب، ومعلوم بعد هذه الدعوى عن الصحة.
قلنا: قد أجبنا عن هذه المسألة بما فرغناه واستوفيناه، وجعلناه كالشمس الطالعة في الوضوح والجلاء في مسائل سألنا عنها أبو عبد الله محمد بن عبد الملك البتان&...
ثم لا نخلو السؤال الذي ذكره من جواب على كل حال، فنقول: هذه الطريقة المذكورة في السؤال هي طريقة من نفي إجماع الأمة، وادعى أنه لا سبيل إلى العلم بإجماعها على قول من الأقوال، مع تباعد الديار وتفرق الأوطان وفقد المعرفة بكل واحد منهم على التعيين والتمييز.
وقد علمنا مع طول المجالسة والمخالطة وامتداد العصر واستمرار الزمان تقدر مذاهب المسلمين وحصر أقاويلهم، وفرقنا بين ما يختلفون فيه ويجتمعون عليه، ومن شككنا في ذلك كمن شككنا في البلدان والأمصار والأحداث العظيمة التي يقع بها العلم ويزول الريب فيها بالأخبار المتواترة.
[الصفحة 207]
وأي عاقل يشك في أن جميع المسلمين في بر وبحر وسهل وجبل وقرب وبعد لا يذهبون إلى تحريم الزنا والخمر، وأن أحدا منهم لم يذهب في الجد والأخ إذا تفردا بالميراث إلى أن المال للأخ دون الجد، وأنهم لا يختلفون الآن وإن كان في هذه المسألة خلاف قديم بين الأنصار، في أن التقاء الختانين لا يوجب الغسل.
ولو شككنا في هذا مشكك فقال: في فقهاء الأمة وعلمائها من يذهب إلى مذهب الأنصار، إن الماء من الماء، لعنفناه ونكبناه، وإن كنا لا نعرف فقهاء الأمة وعلماءها في الأمصار على التعيين والتمييز.
وكما أن مذاهب الأمة بأجمعها محصورة معلومة، فكذلك مذاهب كل فرقة من فقهائها وطائفة علمائها، فإن مذاهب أبي حنيفة محصورة بالروايات المختلفة عنه مضبوطة وكذلك مذاهب الشافعي، وإن كانت له أقوال مختلفة في بعض المسائل، فقد فرق أصحابه والعارفون بمذهبه بين المذهب الذي له فيه أقوال وبين ما ليس له فيه إلا قول واحد.
فلو أن قائلا قال لنا: إذا كنتم لا تعرفون أصحاب أبي حنيفة في البر والبحر والسهل والجبل والحزن والوعر، فلعل فيهم من يذهب إلى ما يخالف من اجتمع ممن تعرفون علمه، وكذلك لو قال في مذاهب الشافعي، لكنا لا نلتفت إلى قوله، ونقول: قد علمنا ضرورة خلاف ما تذكرونه، وقطعنا على أن أحدا من علماء أصحاب أبي حنيفة أو أصحاب الشافعي لا يذهب قريبا كان أو بعيدا، إلى خلاف ما عرفناه ووقع الاطباق عليه من هذه المذاهب، وأن التشكيك في ذلك كالتشكيك في سائر الأمور المعلومة.
وإذا استقرت هذه الجملة وكان مذهب الإمامية أشد انحصارا وانضباطا [الصفحة 208] من مذهب جميع الأمة، وكنا نعلم أن الأمة مع كثرة عددها وانتشارها في أقطار الأرض قد أجمعت على شيء بعينه نأمن أن يكون لها قول سواه فأحرى أن يصح في الإمامية -وهي جزء من كلها وفرقة من فرقها- أن نعلم مذاهبهم على سبيل الاستقرار والتعيين، وإجماعهم على ما أجمعوا عليه، حتى يزول عنا الريب في ذلك والشك فيه، كما زال فيما هو أكثر منه.
وإذا كان الإمام في زمان الغيبة موجودا بينهم وغير مفقود من جملتهم، فهو واحد من جماعتهم، وإذا علمنا بالسر والمخالطة وطول المباحثة أن كل عالم من علماء الإمامية قد أجمع على مذهب بعينه، فالإمام وهو واحد من العلماء، داخل في ذلك وغير خارج عنه.
وليس يخل بمعرفة مذهبه عدم معرفته بعينه، لأنا لا نعرف كل عالم من علماء الإمامية وفقيه من فقهائها في البلاد المتفرقة، وإن علمنا على سبيل الجملة إجماع كل عالم عرفناه أو لم نعرفه على مذهب بعينه، فالإمام في هذا الباب كمن لا نعرفه من علماء الإمامية.
وإذا لم يعرض لنا شك في مذهب من لا نعرفه من الإمامية، لم يجز أن يعرض أيضا لنا الشك في قول الإمام أنه من جملة أقوال الإمامية، وإن كنا لا نميز شخصه ولا نعرف عينه.
واعلم أن الطريق المعتمد المحدد إلى صحة مذاهبنا في فروع الأحكام الشريعة هو هذا الذي بيناه وأوضحناه، سواء كانت المسائل مما تنفرد به الإمامية بها، أو مما يوافقها فيها بعض خصومها.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 284: المسألة 24:
والدليل على ذلك إجماع الشيعة الإمامية عليه، وإجماعهم حجة، لأنه لا يخلو هذا الإجماع في كل زمان من إمام معصوم يكون فيه.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 317: المسألة 3:
فعلى هذه الجملة لا تخلو الحادثة الشرعية التي تحدث من أن يكون حكمها مستفادا من نصوص القرآن، إما على جملة أو تفصيل، أو من خبر متواتر يوجب [الصفحة 318] العلم، وقلما يوجد ذلك في الأحكام الشرعية. أو من إجماع الطائفة المحقة التي هي الإمامية، فقد بينا في مواضع أن إجماعها حجة...
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 1 ص 425: المسألة 19:
ولا اعتبار بقول طائفة من أهل التناسخ بخلاف ذلك، لأن أصحاب التناسخ لا يعدون من المسلمين، ولا ممن يدخل قوله في جملة الإجماع، لكفرهم وضلالهم وشذوذهم من البين.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 2 ص 17:
فقد بان بهذه الجملة أن هذه المسألة مسألة إجماع، والإجماع عندنا حجة، لأن الإمام المعصوم الذي لا يخلو الزمان منه، قوله داخل فيه، وهو حجة، لدخول قول من هو حجة فيه...
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 2 ص 44:
ولو لم يكن في ذلك إلا إجماع الفرقة المحقة من الشيعة عليه، وإجماعهم حجة لدخول المعصوم عليه السلام فيه...
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 2 ص 117:
اعلم أن الطريق إلى صحة ما يذهب إليه الشيعة الإمامية في فروع الشريعة فيما أجمعوا عليه هو إجماعهم، لأنه الطريق الموصل إلى العلم، فذلك هو على الحقيقة الدليل على أحكام هذه الحوادث.
لأنا قد بينا في مواضع كثيرة أن إجماع هذه الطائفة حجة، وبينا العلة في ذلك والوجه المقتضي له.
وقد بينا كيفية الطريق إلى معرفة إجماعهم على حكم الحادثة، على تباعد ديارهم واختلاف أزمانهم، وشرحناه وأوضحناه، فلا معنى لذكره هاهنا.
وليس يمتنع مع ذلك أن يكون في بعض ما أجمعوا عليه من الأحكام، ظاهر كتاب يتناوله، أو طريقة تقتضي العلم، مثل أو يكون ما ذهبوا إليه هو الأصل في العقل، فيقع التمسك به، مع فقد الدليل الموجب للانتقال عنه. أو طريقة قسمة، مثل أن تكون الأقوال في هذه الحادثة محصورة، فإذا بطل ما عدا قسما واحدا من الأقسام، ثبت لا محالة ذلك القسم، وكان الدليل على [الصفحة 118] صحته بطلان ما عداه.
فإن اتفق شيء من ذلك في بعض المسائل، جاز الاعتماد عليه من حيث كان طريقا إلى العلم، وصار نظيرا للإجماع الذي ذكرناه في جواز الاعتماد عليه.
هذا فيما اتفقوا عليه من المذهب، فأما ما اختلفوا فيه: فقال بعضهم في الحادثة بشيء، وقال آخرون بخلافه.
فلا يخلو من أن يصح دخوله تحت بعض ظواهر القرآن ومعرفة حكمه من عمومه، فيعتمد على ذلك فيه. أو أن يكون مما يرجع فيه إلى حكم أصل العقل، فيرجع فيه إليه مع فقد أدلة الشرع، إذ يمكن فيه طريقة القسمة وإبطال بعضها وتصحيح ما يبقى، فيسلك ذلك فيه.
أو يكون جميع الطرق التي ذكرناها فيه متعذرة، فحينئذ يكون مخيرا بين تلك الأقوال التي وقع الاختلاف فيها، ولك أن تذهب وتفتي بأي شيء شئت منها، لأن الحق لا يعدوها، لإجماع الطائفة عليها، وقد فقد الدليل المميز بينها، فلم يبق في التكليف إلا التخيير.
وأما ما لم يوجد للإمامية فيه نص على خلاف ولا وفاق، كان لك عند حدوثه أن تعرضه على الأدلة التي ذكرناها، من عمومات الكتاب وظواهره، فقل ما يفوت تناول بعضها من قرب أو بعد له.
فإن لم يوجد له فيها دليل، عرض على أصل العقل وعمل بمقتضاه.
وإن كانت طريقة القسمة فيه متأتية، عمل بها. فإن قدرنا تعذر ذلك كله، كنت بالخيار فيما تعمله فيه على ما ذكرناه.
وهذا الذي بيناه هو طريق معرفة الحق في جميع أحكام الشرع، ولم يبق إلا كيف نناظر الخصوم في هذه المسألة.
واعلم أن كل مذهب لنا في الشريعة عليه دليل من ظاهر كتاب، أو حكم [الصفحة 119] الأصل في العقل وما أشبه ذلك، فإنه يمكن مناظرة الخصوم فيه.
فأما ما لا دليل لنا عليه إلا إجماع طائفتنا خاصة، فمتى ناظرنا الخصوم واستدللنا عليهم بإجماع هذه الطائفة، دفعوا أن يكون إجماعهم دليلا، فيحتاج أن نبين ذلك بأن الإمام المعصوم في جملتهم، وننقل الكلام إلى الإمامة، ونخرج عن الحد الذي يليق بالفقهاء ويبلغه أفهامهم.
وهذا الذي أحوجنا إلى عمل مسائل الخلاف، واعتمدنا فيها على سبيل الاستظهار على الخصوم في المسائل على القياس وأخبار الآحاد، وإن كنا لا نذهب إلى أنهما دليلان في الشرع، ليتأتى مناظرة الخصوم في المسائل من غير خروج إلى أصول لا يقدرون على بلوغها.
غير أن الذي استعملنا في ذلك الكتاب من الاعتماد على القياس وأخبار الآحاد في مناظرة الخصوم في المسائل مما يدل على صحة مذاهبنا ولا يمكننا أن نعتقد له ومن أجله هذا المذهب.
وقد عزمنا إلى أن نبيح طريقا يجتمع لنا فيه إمكان مناظرة الخصوم، وأنه يوصل إلى العلم وطريق إلى معرفة الحق، وهو أن يقصد إلى المسألة التي يقع الخلاف فيها بيننا وبين خصومنا، إذا لم يكن لنا ظاهر كتاب يتناولها، ولا ما أشبه ذلك من طريق العلم، فنبنيها على مسألة أخرى قد دل الدليل على صحتها.
فنقول: قد ثبت وجوب القول بكذا وكذا، لقيام الدليل الموجب للعلم عليه، وكل من قال في هذه المسألة بكذا، قال في المسألة الأخرى بكذا، والتفرقة بينهما في الموضع الذي ذكرناه خروج من إجماع الأمة لا قائل منهم به مثال ذلك: أن يقصد إلى الدلالة على وجوب مسح الرأس والرجلين ببلة اليد من غير استيناف ماء جديد.
فنقول: قد ثبت وجوب مسح [الرأس و] الرجلين على التضييق، وكل [الصفحة 120] من قال بذلك قال بإيجاب مسح الرأس والرجلين ببلة اليد، والقول بوجوب مسح الرأس مضيقا مع نفي وجوب المسح بالبلة خلاف الإجماع.
وإنما اخترنا بذكر التضييق، لأن في الناس من يقول بمسح الرجلين على التخيير، ولا يوجب ما ذكرناه في المسألة الأخرى.
ولك أن تسلك مثل هذه الطريقة فيما تريد أن تدل عليه من مسائل الخلاف التي يوافق فيها بعض الفقهاء وإن خالفها بعض آخر، وأنه لا فرق في صحة استعمال هذه الطريقة فيه بين ما يخالفنا فيه الجميع، مثل ما قد بينا من وجوب مسح الرأس ببلة اليد، وبين ما يخالفنا بعض ويوافقنا فيه بعض آخر، [وأنه لا فرق في صحة استعمال هذه الطريقة فيه، بين ما يخالفنا فيه بعض ويوافقنا فيه بعض آخر].
مثال ذلك أن نقول: قد ثبت وجوب مسح الرجل مضيقا، وكل من أوجب ذلك أوجب الترتيب في الوضوء أو النية أو الموالاة.
وهذا ترتيب صحيح وبناء مستقيم، لأن كل من أوجب مسح الرجلين دون غيره يوجب النية والموالاة والترتيب في الوضوء، وإنما يوجد من يوجب تلك الأحكام من الفقهاء من غير إيجاب مسح الرجلين.
وليس في الأمة كلها من يوجب مسح الرجلين مضيقا، وهو لا يوجب ما ذكرناه، لأنه ليس يوجب مسح الرجلين على الوجه الذي ذكرناه إلا الإمامية وهم بأجمعهم يوجبون النية والترتيب والموالاة في الوضوء.
ولك أن تبني بناء آخر فنقول إذا أردت مثلا أن تدل على وجوب الترتيب في الوضوء: قد ثبت وجوب الموالاة فيه على كل حال، وكل من أوجب من الأمة [الصفحة 121] الموالاة على هذا الوجه أوجب الترتيب، لأن مالكا وإن أوجب الموالاة فإنه يوجبها على من أداه اجتهاده إليها، ويسقطها عمن أداه الاجتهاد إلى خلافها، وليس يوجبها على كل حال إلا الإمامية.
وليس يجوز لك أن تبني الموالاة على الترتيب في الاستدلال، كما بنيت الترتيب على الموالاة، وذلك أن معنى ظاهر الكتاب يدل على وجوب الموالاة، وهو آية الطهارة، لأنه أمر فيها بغسل هذه الأعضاء، والأمر بالعرف الشرعي يدل على الفور.
فالآية تقتضي غسل كل عضو عقيب الذي قبله، وليس معنى في وجوب الترتيب مثل ذلك، فإن آية الطهارة لا يوجب بظاهرها الترتيب، والواو غير موجبة له لغة، وإنما نقول في إيجاب الواو للترتيب في الشرع في أخبار آحاد، وليست عندنا حجة في مثل ذلك، فبان الفرق بين الأمرين.
وليس كذلك أن تبنى مسألة على أخرى، وما دل على ما جعلته أصلا يدل على الفرع ويتناوله، فإن ذلك لا يصح، لأن العلم بحكم المسألتين يحصل في حالة واحدة، فكيف تبنى واحدة على الأخرى. وإنما يصح أن تبنى مسألة على أخرى فيما ينفرد العلم بالأصل عن العلم بالفرع.
مثال ذلك: لا يجوز أن تبنى القول بأن المذي لا ينقض الطهر على أن الرعاف أو القيء لا ينقضه، لأنا إنما ندل على أن الرعاف أو القيء لا ينقض الطهارة، بأن نقض الطهارة حكم شرعي لا يقتضيه أصل العقل.
[الصفحة 122]
ولا دليل في الشرع يقطع به على أنه ناقض، لأن معول المخالفين في ذلك على قياس أو أخبار آحاد، وليس فيهما ما يوجب العلم، وهذا بعينه قائم في المذي، فكيف تبني أحد الأمرين على الآخر؟ وليس ينفرد الأصل في العلم عن الفرع.
فإن قيل: هذا ينقض كل ما قدمتموه، لأن وجوب مسح الرجلين إنما تعلمونه بإجماع الإمامية عليه، وهذا الإجماع بعينه قائم في جميع ما بنيتموه عليه.
قلنا: قد قدمنا أن الطريق إلى معرفة صحة ما أجمعت عليه الإمامية هو إجماعهم، وإنما استأنفنا طريقا يتمكن من مناظرة الخصوم به من غير انتقال إلى الكلام في الإمامة، فسلكنا ما سلكناه من الطرق راجعة إلى إجماع الأمة، كلها مما يتفق على أنه حجة، وإلا فإجماعهم كاف لنا في العلم بصحة ما أجمعوا عليه.
على أنه غير منكر أن يكون الشيعة ناظر في وجوب مسح الرجلين إلى الدلالة بالآية على ذلك، من غير أن يفكر في طريقة الإجماع من الطائفة، فيعلم بالآية صحته من غير علم بما يريد أن ينبه عليه من وجوب موالاة أو ترتيب أو غير ذلك، لم يبتني المسائل على الطريقة التي ذكرناها، ويصح بناؤه بصحة علمه بالأصل من غير أن يعلم الفرع.
ولهذه الجملة لا يصح أن يبتنى أن الطلاق في الحيض لا يقع على أن الطلاق بغير شهادة لا يقع، ولا أنه بغير شهادة لا يقع على أنه في الحيض لا يقع، لأنا إنما نعلم الجميع بطريقة واحدة، وهي أن تأثير الطلاق حكم شرعي لا يثبت إلا بأدلة الشرع، ولا دليل على ثبوت الفرقة بالطلاق في الحيض ولا بغير شهادة [الصفحة 123] فيجب نفي ذلك كما [لا] يجب نفي كل حكم شرعي لا دلالة في الشرع عليه.
فإن قيل: ليس يصح لكم على أصولكم طريقة النساء التي ذكرتموها، وذلك أن إجماع الأمة عندكم إنما يكون حجة لدخول إجماع الإمامية فيه، فإجماع الإمامية الذي قول الإمام في جملته هو الحجة في الحقيقة.
إذا كان الأمر على ذلك، لم يصح للإمامي أن يكون طريقة بناء المسائل التي عددتموها على مسألة مسح الرجلين يوجب له العلم بحكمة تلك المسائل، وذلك أنه لا يصح أن يعلم أن التفرقة بين وجوب مسح الرجلين وبين وجوب مسح الرأس ببلة اليد، ليس بمذهب لأحد من الأمة، إلا بعد أن يعلم أن الإمامية قد أجمعت على كل واحد منهما.
فإذا علم إجماع الطائفة على المسألتين، حصل له العلم بصحتهما معا، من غير حاجة إلى حمل واحدة على أخرى، فعاد الأمر إلى أن هذه الطريقة التي استأنفتموها وقلتم أنها تصلح المناظرة مع الخصوم، ويمكن أن تكون طريقا إلى العلم أنها تختص بالمناظرة دون حصول العلم.
قلنا: هذا لعمري تدقيق شديد: وتحقيق في هذا الموضع تام، ولو صح أن هذه الطريقة إنما تنفع في المناظرة دون إيجاب العلم، لكان في تحريرها و تهذيبها فائدة كثيرة ومزية ظاهرة، ويكون أكثر فائدة من طريق القياس التي تكلفنا الكلام فيها مع الخصوم للاستظهار. وكذلك الكلام في أخبار الآحاد.
والفرق بينهما أن طريقة القياس وأخبار الآحاد لا يمكن أن تكون طريقا [الصفحة 124] إلى العلم بشيء من الأحكام البتة، والحال على ما نحن عليه من فقد دليل التعبد بهما. وليس كذلك الطريقة التي بنينا فيها بعض المسائل على بعض ورتبناها على الإجماع، لأنه إنما لم يكن طريقا إلى العلم لأن العلم يسبق إلى الناظر بصحة الحكم الذي بنيته لإجماع الإمامية عليه، ويحصل له قبل البناء. ولو لم يسبق إليه لكان البناء طريقا إلى حصوله، فإن إجماع الأمة على كل طريق إلى العلم بصحة ما أجمعوا عليه لو لم يسبقه إجماع الإمامية الذي عنده يحصل العلم وفيه الحجة، والقياس وأخبار الآحاد بخلاف ذلك، لما تقدم ذكره.
غير أنه يمكن على بعض الوجوه أن يكون هذه الطريقة تحصل بها العلم للإمامي، وذلك أن العلم بأن قول الإمام هو على الحقيقة في جملة أقوال الإمامية دون غيرهم ليس بضروري، والطريق إليه الاستدلال. ويمكن أن يحصل ذلك لبعض الإمامية، هو يعلم على الجملة أن قول الإمام الذي هو الحجة لا يخرج من أقوال جميع الأمة، فإذا علم أن الأمة كلها مجمعة على شيء علم صحته، لدخول قول الحجة فيه، فيصح على هذا التقدير أن يكون الطريقة التي ذكرناها توجب العلم للإمامي زائدا على إمكان مناظرة الخصوم لها.
فإن قيل: هذا يوجب أن تبنوا جميع مسائل الفقه على مسألة واحدة مما أجمعتم عليه، وتدلوا على صحة كل المسائل التي يخالف فيها خصومكم، بأن تردوا تلك المسائل إلى هذه على الطريقة التي ذكرتموها. وكان مسألة وجوب مسح الرجلين إذا صحت لكم بدليلها، فقد صح لكم سائر الفقه بالترتيب الذي رتبتموه وما تحتاجون إلى تبديل المسائل التي تجعلونها أصولا ولا تغيرها فلا معنى لذلك.
[الصفحة 125]
قلنا: الأمر على ما قلتموه، وما المنكر من ذلك؟ وما الذي يدفعه ويفسده؟ ثم نحن بالخيار أن نجعل الأصل مسألة واحدة، أو نبدل ذلك على حسب ما نختاره من وضوح دلالة الأصل أو أشباهها.
فإن قيل: كيف ومسألة إلى أخرى وبناؤها عليها ولا نسبة بينهما ولا تشابه، وهذه مثلا من الطهارة وتلك من المواريث، وإنما فعل الفقهاء ذلك فيما يناسب ويقارب من المسائل.
فقالوا: إن أحدا من الأمة ما فرق بين مسألة زوج وأبوين ومسألة امرأة وأبوين، فمنهم من أعطى الأم في المسألتين معا ثلث ما بقي، ومنهم من أعطاها في المسألتين ثلث أصل المال.
وبدعوا ابن سيرين في التفرقة بين المسألتين، لأنه أعطى الأم في مسألة زوج وأبوين الثلث مما يبقى، وفي مسألة زوجة وأبوين ثلث كل المال. وكذا قالوا: إن أحدا من الأمة لم يفرق بين من جامع ناسيا في شهر رمضان وبين من أكل ناسيا، فمنهم من فطره بالأمرين، ومنهم من لم يفطره بكل واحد من الأمرين. وبدعوا الثوري في تفرقته بين المسألتين وقوله إن الجماع يفطر مع النسيان والأكل لا يفطر، فجمعوا بين مسائل متجانسة، أنتم فقد سوغتم الجمع بين ما لا تناسب فيه.
قلنا: لا فرق بين المتجانس في هذه الطريقة وبين غير المتجانس، لأن المعتبر هو مخالفة الإجماع والخروج عن أقوال الأمة، وذلك غير سائغ، سواء كان في متجانس من المسائل أو مختلف، لأن وجه دلالة المتجانس ليس هو كونه متجانسا، وإنما هو رجوعه إلى الإجماع على الطريقة التي بيناها.
[الصفحة 126]
وإذا كان هذا الوجه قائما بعينه فيما ليس بمتجانس كان وجه الدلالة قائما، ولهذه العلة لا يفرق بين أن يبتنى مسألة حظر على مسألة إباحة أو إباحة على حظر، أو يبتنى نفيا على إثبات أو إثباتا على نفي، أو إيجابا على إباحة أو إباحة على إيجاب، بعد أن يكون طريقة الإجماع التي ذكرناها وأوضحناها في ذلك متأتية، وإنما ينظر من مثل من لا ينعم التأمل ويفطن بالعلل والمعاني.
فإن قيل: لم يبق عليكم ألا أن تدلوا على صحة الطريقة التي ذكرتموها في اعتبار الإجماع، ففي ذلك خلاف، فبينوا أنه يجري مجرى أن يجمعوا على حكم واحد في أنه لا يجوز مخالفته.
قلنا: لا شبهة في صحة هذه الطريقة على أحد من أهل العلم بأصول الفقه، وأن مخالفة ما ذكرناه يجري مجرى مخالفة ما أجمعوا فيه على حكم واحد في مسألة واحدة.
ألا ترى أنهم قد بدعوا ابن سيرين والثوري لما خالف الإجماع، وإن كان في مسألتين وفي حكمين، وأجروه مجرى الخلاف في مسألة واحدة وحكم واحد. وما اشتباه ذلك من بعده عن الصواب ألا كاشتباه الحال على من جوز إذا اختلف الأمة على أقاويل محصورة، أن يقول قائل بزائد عليها، ما يدعى أن ذلك لا يجري مجرى إجماعهم على قول واحد، فهو يد زائد أو يختلفوا على أقاويل ثلاثة، فيقول قائل بمذهب رابع، لأن في كلتي المسألتين قد خولف الإجماع وقيل بما اتفقوا على خلافه، ومثل ذلك لا يشتبه على ذوي النقد والتحصيل.
[الصفحة 127]
واعلم أنك إذا سلكت مع الفقهاء في مسائل الخلاف في هذه الطريقة التي أشرنا إليها في الرجوع إلى أصل ما في العقل ضاقت عليهم الطريق في مناظرتك وقطعتهم بذلك عن ميدان واسع من القياسات واعتماد أخبار الآحاد،، وحصرتهم بذلك حصرا لا يملكون معه قبضا ولا بسطا.
مثال بعض ما أشرنا إليه وهو: أن يسأل عن إباحة نكاح المتعة فنقول: قد ثبت أن المنافع التي لا ضرر فيها عاجلا ولا آجلا في أصل العقل مباحة، ونكاح المتعة بهذه الصفة فيجب إباحته. فإن سألت الدلالة على انتفاء الضرر عن هذا النكاح الذي فيه انتفاع لا محالة. قلت: الضرر العاجل يعرف بالعادات والأمارات المشيرة إليها ويعلم فقد ذلك، والضرر الأجل إنما هو العقاب، وذلك تابع للقبح.
ولو كانت هذه المنفعة قبيحة يستحق بها العقاب، لدل الله تعالى على ذلك، لوجوب إعلامه المكلف ما هذه سبيله. فلم يبق بعد ذلك إلا أن يسأل الدلالة على أن المنافع التي صفتها ما ذكرناه في العقل على الإباحة، فينتقل من الكلام في الفروع إلى الأصول.
ثم الدلالة على ذلك سهلة يسيرة، أو يعارض بقياس أو خبر واحد، فلا يقبل ذلك. لأنهما غير حجة عندك في الشرع. فإن انتقل إلى الكلام في التعبد بالقياس أو خبر الواحد، كان أيضا منتقلا من فرع إلى أصل. وإذا انتقل الكلام إلى ذلك، كان أسهل وأقرب من غيره، أو ليس كنا نسامح الخصوم في بعض الأزمان، بأن نقبل المعارضة منهم بالقياس أو خبر الواحد، استظهارا أو استطالة عليهم، فصار ذلك من الواجب علينا، بل المناقشة أولى وأضيق عليهم.
فإذا أردت بعد ذلك أن نتبرع بما يجب عليك من قبول ما [الصفحة 128] يعارضون به، والكلام عليه تغلب على بصيرة وبعد بيان وإيضاح. وكذلك متى سلكت معهم في بعض مسائل الخلاف الاعتماد على ظاهر كتاب. ومثال ذلك: أن يستدل على إباحة نكاح المتعة بقوله {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء} وبقوله تعالى {فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وهذا الظاهر عام في نكاح المتعة. فإن الكلام يضيق عليهم، لأنهم إن عارضوا بقياس أو خبر واحد وليس لهم إلا ذلك لم يتقبل منهم ذلك، لأن مذهبك بخلاف، فيقف الكلام ضرورة عليهم.
فإن قيل: قد بنيتم بناء المسائل على الإجماع، بنيتم كيف يستدل أيضا بالأصل في العقل وبظواهر الكتاب، فاذكروا أمثلة طريقة القسمة التي ذكرتم أنها طريقة صحيحة، ومما يعتمد عليه في إيجاب العلم في مناظرة الخصوم.
قلنا: مثال هذه الطريقة أن من قال لزوجته: أنت علي حرام. فقد اختلف أقوال الأمة فيه، فمن قائل: إنه طلاق بائن أو رجعي. ومن قائل: إنه ظهار. وقال قوم: هو يمين. وقال قوم وهو الحق: إنه لغو ولا تأثير له والمرأة على ما كانت عليه، وهذا قول الإمامية وصح مذهبهم، لأنه ليس بعد إبطال تلك المذاهب.
وطريق إبطال ما عدا مذهب الإمامية الواضح أن نقول: كنه طلاقا بائنا، أو رجعيا، أو ظهارا، أو يمينا أحكام شرعية، والحكم الشرعي لا يجوز إثباته إلا بدليل شرعي، ولا دليل على ذلك، فإن الذي سلكه القوم في ذلك من القياس ليس بصحيح، لأنه مبني على التعبد بالقياس ولم يثبت ذلك، فإذا بطلت تلك [الصفحة 129] الأقسام صح ما عداها.
ولك أيضا أن تبطلها بأن تقول: لفظة (حرام) ليس في ظاهرها طلاق ولا ظهار ولا يمين، فكيف يفهم منها ما ليس في الظاهر، وهل حملها على ذلك والظاهر لا يتناوله إلا كحملها على ما لا يحصى مما لا يتناوله الظاهر.
واعلم أنه لا خفاء على أحد أن بما أوضحناه ونهجناه قد وسعنا الكلام لمن أراد أن يناظر الخصوم في جميع مسائل الخلاف التي بيننا وبينهم غاية التوسعة، وقد كان يظن أن ذلك يضيق على من نفى القياس ولم يعمل بخبر الواحد. فلا مسألة إلا ويمكن أصحابنا على الطرق التي ذكرناها أن يناظروا خصومهم فيها، لأن مسألة الخلاف لا يخلو من أن يكون خصومنا القائلين فيها بالحظر ونحن بالإباحة، أو نحن نذهب إلى الحظر فيها وهم على الإباحة، أو يكون خصومنا هم الذاهبين فيها إلى ما هو عبارة وحكم شرعي ونحن ننفي ذلك، أو يكون نحن المثبتين للحكم الشرعي وهم ينفون ذلك. فدللنا على بطلان قولهم وصحة مذهبهم في هذه المسألة التي نقول فيها بالإباحة وهم بالحظر أن الأصل في العقل الإباحة، فمن ادعي حكما زائدا على ما في العقل، فعليه الدليل الموجب للعلم. وإذا أوردوا قياسا أو خبر واحد أعلموا أن ذلك ليس بجهة للعلم ولا موجب للعمل.
مثال ذلك: ما تقدم ذكره من الخلاف في إباحة نكاح المتعة، وما نحله من لحوم الأهلية ويحرمونه، ونبيحه من خطأ المطلقة بلفظ واحد والاستمتاع بها ويحظرونه. وأمثلته أكثر من أن تحصى.
وهذه الطريقة نسلك إذا كان الخلاف معهم في إثبات عبادة أو حكم شرعي، ونحن ننفي ذلك، لأن الأصل في العقل نفي ما أثبتوه فعليهم الدليل، ولا [الصفحة 130] يقبل القياس ولا أخبار الآحاد لما تقدم ذكره.
مثال ذلك: أنهم يثبتون القيء والرعاف والمذي ومس الذكر أو المرأة ناقضا للطهارة، وذلك حكم شرعي خارج عن أصل ما هو في العقل، فعلى مثبت ذلك الدليل. وكذلك إذا أثبتوا الزكاة في الحلي وفي الذهب والفضة وإن لم يكونا مطبوعين، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى.
وأما إذا كان الحظر في جهتهم وإثبات العبادة أو الحكم الشرعي هو مذهبنا وهم ينفون ذلك، كما نقوله في تحريم الشراب المسكر، وإيجاب التشهدين الأول والثاني، والتسبيح في الركوع والسجود، وإيجاب الوقوف بالمشعر الحرام، وأمثله ذلك أيضا أكثر من أن تحصى وأنت منتبه عليها.
فحينئذ يجب الفرع إلى الطريقة التي ذكرناها، وهو أن يقصد مسألة من المسائل التي قد دلت عليها دليل يوجب العلم من ظاهر كتاب أو غيره. فنقول: قد ثبت كذا في هذه المسألة، وكل من ذهب إلى ذاك فيها ذهب في المسألة الفلانية -تذكر المسألة التي تريد أن تدل عليها- كذا، والتفريق بينهما خلاف الإجماع على ما شرحناه فيما تقدم. فقد بان أنه لا يعزل طريق يسلكه مع الخصوم في كل مسائل الخلاف. فقد بينا على كيفية ما يعمله في جميع المسائل.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 2 ص 156:
والمعتمد في القطع على أن الأنبياء أفضل من الملائكة إجماع الشيعة الإمامية [على ذلك]، لأنهم لا يختلفون في هذا، بل يزيدون عليه ويذهبون إلى أن الأئمة^ أفضل من الملائكة. وإجماعهم حجة لأن المعصوم في جملتهم...
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 2 ص 262:
الإجماع: اتفاق علماء الدين في عصر بعد الرسول في الحادثة الشرعية على فتوى واحد ورضا واحد وعمل واحد.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 2 ص 367:
اِعلم أن قول إمام الزمان وفتياه في كل واقعة وحادثة من الشرائع، لا بد أن يكون في جملة أقوال علماء الفرقة الإمامية، وليس كل عالم من علماء الإمامية نعلمه بعينه واسمه ونسبه على سبيل التمييز، وأنه إنما نعلمه على سبيل التفصيل بالعين والاسم والنسب من علماء هذه الطائفة من اشتهر منهم باشتهار كتبه ومصنفاته ورياسته وأحوال له مخصوصة، وإلا فمن نعلمه على سبيل الجملة وإن لم نعلمه على سبيل التفصيل أكثر ممن عرفناه باسمه ونسبه.
ومن هذا الذي يدعي معرفة كل عالم من علماء كل فرقة من فرق المسلمين بعينه واسمه ونسبه في كل زمان، وعلى كل حال. فعلى هذا الذي قررناه لا يجب القطع على أن من لم نعرفه بعينه واسمه ونسبه من علماء الإمامية يجب نفيه والقطع على فقده.
وليس إذا كنا لا نعلم عين كل عالم من علماء الإمامية واسمه ونسبه، وجب أن لا نكون عالمين على الجملة بمذهبه، وأنه موافق لمن عرفنا عينه واسمه ونسبه. لأن العلم بأقوال الفرق ومذاهبها يعلم ضرورة على سبيل الجملة، إما باللقيا والمشافهة أو بالأخبار المتواترة، وإن لم يفتقر هذا العلم إلى تمييز الأشخاص وتعينهم وتسميتهم. لأنا نعلم ضرورة أن كل عالم من علماء الإمامية يذهب إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما منصوصا عليه، وإن لم نعلم كل قائل بذلك [الصفحة 368] وذاهب إليه بعينه واسمه ونسبه.
وهكذا نقول في العلم بإجماع علماء كل فرقة من فرق المسلمين: أن الجملة فيه متميزة من التفصيل، وليس العلم بالجملة مفتقرا إلى العلم بالتفصيل وقد علمنا أنه لا إمامي لقيناه وعاصرناه وشاهدناه إلا وهو عند المناظرة والمباحثة يفتي بمثل ما أجمع عليه علماؤنا، سواء عرفناه بنسبه وبلدته أو لم نعرفه بهما.
وكذلك كل إمامي خبرنا عنه في شرق وغرب وسهل وجبل عرفناه بنسبه واسمه أو لم نعرفه، قد عرفنا بالأخبار المتواترة الشائعة الذائعة التي لا يمكن إسنادها إلى جماعة بأعيانهم لظهورها وانتشارها، أنهم كلهم قائلون بهذه المذاهب المعروفة المألوفة، حتى أن من خالف منهم في شيء من الفروع عرف خلافه وضبط وميز عن غيره. وقد استقصينا هذا الكلام في جواب المسائل التبانيات، وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات.
فإذا قيل لنا: فلعل الإمام لأنكم لا تعرفونه بعينه يخالف علماء الإمامية فيما اتفقوا عليه.
قلنا: لو خالفهم لما علمنا ضرورة اتفاق علماء الإمامية الذين هو واحد منهم على هذه المذاهب المخصوصة، وهل الإمام إلا أحد علماء الإمامية، وكواحد من العلماء الإمامية الذين لا نعرفهم بنسب ولا اسم.
ونحن إذا ادعينا إجماع الإمامية أو غيرها على مذهب من المذاهب، فما نخص بهذه الدعوى من عرفناه باسمه ونسبه دون من لم نعرفه، بل العلم بالاتفاق عام لمن عرفناه مفصلا ولمن لم نعرفه على هذا الوجه. وليس يجب إذا كان إمام الزمان غير متميز الشخص ولا معروف العين أن لا يكون معروف المذهب ومتميز المقالة، لأن هذا القول يقتضي أن كل من لم [الصفحة 369] نعرفه من علماء الإمامية أو علماء غيرهم من الفرق، فإنا لا نعرف مذهبه ولا نحقق مقالته وهذا حد لا يبلغه متأمل.
فإن قيل: أتجوزون أن يكون في جملة الإمامية عالم يخالف هذه الطائفة في بعض المسائل ولم ينته إليكم خبره، لأنه ما اشتهر كاشتهار غيره، ولا له تصنيفات سارت وانتشرت. فإن أجزتم ذلك فلعل الإمام هو ذلك القائل، وهذا يقتضي ارتفاع الثقة، لأن قول إمام الزمان داخل لا محالة في جملة أقوال علماء الإمامية ويبطل ما تدعونه من أن الحجة في إجماعهم. وإن منعتم من كون عالم من علمائهم يخفي خبر خلافه لهم في بعض المذاهب كابرتم.
قلنا: لا يجوز أن يكون في علماء الإمامية من يخالف أصحابه في مذهب من مذاهبهم، ويستمر ذلك ويمضي عليه الدهور، فينطوي خبر خلافه، لأن العادات ما جرت بمثل ذلك، لأن ما دعى هذا العالم إلى الخلاف في ذلك المذهب يدعوه إلى إعلانه وإظهاره، ليتبع فيه ويقتدى به في اعتقاده.
وما هذه سبيله يجب بحكم العادة ظهوره ونقله وحصول العلم به، لا سيما مع استمراره وكرور الدهور عليه.
وما تجويز عالم يخفي خبر خلافه إلا كتجويز جماعة من العلماء يخالفون من عرفنا مذاهبه من العلماء في أصول الدين، أو فروعه، أو في علم العربية والنحو واللغة، فيخفى خلافهم وينطوي أمرهم.
وتجويز ذلك يؤدي من الجهالات إلى ما هو معروف مسطور، على أن لإمام الزمان عليه السلام في هذا الباب مزية معلومة. فلو جاز هذا الذي سألنا عنه في غيره لم يجز مثله فيه، لأن الإمام قوله [الصفحة 370] حجة والجماعة توافقه في مذهبه إنما كانت محقة لأجل موافقتها له، فلا بد من أن يظهر ما يعتقده ويذهب إليه، حتى يعرف من يوافقه ممن يخالفه، وليس إظهاره لاعتقاده وتصريحه بمذهبه مما يقتضي أن يعرف هو بنسبه، لأنا قد نعرف مذاهب من لا نعرف نسبه ولا كثيرا من أحواله. وكيف يجوز أن يكون للإمام مذهب أو مذاهب تخالف مذاهب الإمامية لا يكون معروفا مشهورا بين الإمامية، وهو يعلم أن المرجع في أن إجماع هذه الطائفة حجة إلى أن قوله في جملة أقوالها. فإذا أجمعوا على قول وهو مخالف فيه، هل له منه مندوحة عن إظهار خلافه وإعلانه، حتى يزول الاغترار بأن إجماع الإمامية على خلافه.
ولهذا قلنا في مواضع من كتبنا أن ما اختلف فيه قول الإمامية من الأحكام لا يجوز أن يحتج فيه بإجماع الطائفة، لأنها مختلفة ونحن غير عالمين بجهة قول الإمام ولمن هو موافق من هؤلاء المختلفين، فلا بد في مثل ذلك من الرجوع إلى دليل غير الإجماع يعلم به الحق فيما اختلفوا فيه.
فإذا علمنا قطعنا على أن قول الإمام موافق له، لأن قوله لا يخالف الحق وما يدل عليه الأدلة.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 3 ص 202:
أنا قد بينا في جواب مسائل ابن التبان ما إذا تأمل كان فيه جواب عن هذه الشبهة، واستوفينا بيان الطريق إلى القطع على ثبوت إجماع الإمامية، وأن قول إمامهم في جملة أقوالهم، وانتهينا في ذلك إلى غاية لا مزيد عليها، غير أنا نقول هاهنا: ليس يخلو السائل عن هذه المسألة من أن يكون بكلامه هذا طاعنا في إجماع المسلمين وغيرهم، وشاكا في كل ما يدعى من اتفاق شيء، فإن كان الأول فالطعن الذي أورده لازم فيما عداه. لأن لقائل أن يقول: كيف تقطع في بعض المسائل أن المسلمين أجمعوا فيها على قول واحد وأجمعوا على أحد قولين لا ثالث لهما، مع التجويز لأن [الصفحة 203] يكون ببلاد الصين من يخالف في ذلك وأخباره غير متصلة.
وكذلك القول فيما يدعى من إجماع أهل العراق وأهل الحجاز على مسألة، لأن هذا الطعن يؤثر في ذلك كله ويقتضي في جميعه، ويوجب أيضا أن لا يقطع على أن أهل العربية أجمعوا على شيء منها لهذه العلة، ولا نأمن أن يكون في أقاصي البلاد من يخالف في أن اعراب الفاعل الرفع والمفعول به النصب، وفي كل شيء ادعيناه إجماعا لأهل العربية.
وإن كان السائل شاكا في الجميع وطاعنا في كل إجماع، لكفى بهذا القول فحشا وشناعة وبعدا عن الحق ولحوق قائله بأهل الجهالات من السمنية ومنكري الأخبار، من حيث ظنوا أن الشك في مذهب رأية على المعروف يجري مجرى الشك في تلك زائد على المقبول المشهور وخادمه عما نقل وسطر، وهذا لا يلزم، لأن القول الذي إذا كان لم يجب نقله إلينا.
فكما لا نقطع على حوادث أقاصي الصين، ولا نعلم تفاصيل قولها وبلدانها وإنما نحكي عنهم إذا كان العلم بالغائبات كلها، وأن الإخبار لا يقضي علما (وبهم يقينا)، فلزمهم الشك في الحوادث الكبار والبلدان العظام وكل أمر يوجب العادة نقله وتواتر الأخبار به والقطع عليه.
عن الشبهة عن هذا التجويز والتقدير، إن لنا معاشر الإمامية جوابا يختص به، ولمن يدعي الإجماع من مخالفينا جوابا عنه يخصهم، ونحن نبين الجميع.
أما قول الإمامي الذي فرضنا أنه في أقاصي البلاد وبحيث لا يتصل بنا أخباره فليس يخلو هذا الإمامي من أن يكون هو إمام الزمان نفسه، أو يكون غيره. فإن كان غيره، فلا يضر فقد العلم بخلافه، لأن قول الإمام الذي هو الحجة فيما عداه من الأقوال.
[الصفحة 204]
وإن كان هو الإمام نفسه، فلا يجوز من الإمام وقوله الحجة في أحكام الشريعة أن يخلي سائر المكلفين من معرفة قوله، وأن يسلبهم الطريق إلى إصابة الحق الذي لا يوجد إلا في مذهبه، ويجب عليه إظهار قوله لكل مكلف حتى يتساوى من العلم به سماعا وادراكا ومنقولا من جهة الخبر كل من يلزمه ذلك الحكم ولهذا القول، متى علم الإمام أن شيئا من الشرع قد انقطع نقله، وجب عليه أن يظهر لبيانه، ولا يسع له حينئذ التقية. ولا فرق بين أن يخفي قوله وهو الحجة عن كثير من أهل التكليف حتى لا يكون لهم إليه طريق، وبين أن يرتفع عن الجميع.
فلا بد على هذا التقدير أن يوصل الإمام قوله في الحوادث كلها إلى كل مكلف، ولا يجوز أن يختص بذلك بعض المكلفين دون بعض.
فقد برئنا من عهدة هذه الشبهة، وصح لنا القطع على إجماع الإمامية والاحتجاج به، ولم يضر أن يكون للإمامي قول يخالف ما نحن فيه، إذا فرضنا بعد مكانه وانقطاع الأخبار بيننا وبينه.
فأما الجواب عن هذه الشبهة التي يختص بها مخالفونا في الإمامة، مع تعويلهم على الإجماع والاحتجاج به وحاجتهم إلى بيان طريق يوصل إليه، فهو أن يقولوا: قد علمنا على الجملة إن الإجماع حجة في الشريعة، وأمرنا الله تعالى في كتابه وسنة نبيه عليه السلام بأن نعول عليه ونحتج به ونرجع إليه. فكل طعن قدح في العلم به وشك في اساره (كذا)، لا يجب الالتفات إليه، لأن الله تعالى لا يوجب علينا الاجتماع بما لا طريق إليه والتعويل على ما لا يصح إقراره وثبوته فإن كان قول القائل، لم يجب إيصاله بنا ولا نقله إلينا، إما لبعد مسافة، أو [الصفحة 205] لغير ذلك، فهو خارج عن الأقوال المعتبرة في الإجماع.
وإنما تعبدنا في الإجماع بما يصح أن نعلمه ولنا طريق إليه، وما خرج عن ذلك وما عداه فلا حكم له ووجوده كعدمه، فنحن بين إحالة القول يخالف ما عرفناه ورويناه واستقر وظهر، وبين إجازة لذلك لا يضر في الاحتجاج بالإجماع إذا كان التعويل فيه إنما هو على ما إلى العلم به طريق وعليه دليل، دون ما ليس هذه سبيله.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 3 ص 312:
فإن الإمامية كلها تعلم أن مذهب أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق وآبائه وأبنائه من الأئمة^ إنكار غسل الرجلين، وإيجاب مسحهما، وإنكار المسح على الخفين، وأن الطلاق الثلاث لا يقع، وأن كل مسكر حرام ما [الصفحة 313] جرى مجرى ذلك من الأمور التي لا يختلج بشك بأنه مذاهبهم.
وما سوى ذلك لقلته بل الأقل، نعول فيه على إجماع الإمامية، لأنا نعلم أن قول إمام الزمان المعصوم عليه السلام في جملة أقوالهم، وكل ما أجمعوا عليه مقطوع على صحته. وقد فرعنا هذه الجملة في مواضع وبسطناها.
فأما ما اختلفت الإمامية فيه، فهو على ضربين: ضرب يكون الخلاف فيه من الواحد والاثنين، عرفناهما بأعيانهما وأنسابهما، وقطعنا على أن إمام الزمان ليس بواحد منهما، فهذا الضرب يكون المعول فيه على أقوال باقي الشيعة الذين هم الجل والجمهور، ولأنا نقطع على أن قول الإمام في تلك الجهة دون قول الواحد والاثنين.
والضرب الآخر من الخلاف: أن تقول طائفة كثيرة لا تتميز بعدد ولا معرفة إلا الأعيان الأشخاص بمذهب والباقون بخلافه، فحينئذ لا يمكن الرجوع إلى الإجماع والاعتماد عليه، ويرجع في الحق من ذلك إلى نص كتاب أو اعتماد على طريقة تفضي إلى العلم، كالتمسك بأصل ما في العقل ونفي ما ينقل عنه، وما أشبه ذلك من الطرق التي قد بيناها في مواضع، وفي كتاب (نصرة ما انفردت به الإمامية في المسائل الفقهية).
فإن قدرنا أنه لا طريق إلى قطع على الحق فيما اختلفوا فيه، فعند ذلك كنا مخيرين في تلك المسألة بين الأقوال المختلفة، لفقد دليل التخصيص والتعيين.
وكذلك القول في أحكام الحوادث التي تحدث ولا قول للإمامية على وفاق ولا خلاف.
- رسائل المرتضى - الشريف المرتضى ج 4 ص 299:
وهذا خروج من جميع الأديان والملل، ولا مذهب لكم عنه إلا بترك مذهبكم. وليس لذكر الإجماع في هذا مدخل، ولا يتعلق به من يفهم شيئا، لأن الاجماع إنما يعلم سمعا لقول الرسول، لولا ذلك لم يكن إجماع المسلمين أولى بالصحة مما أجمع عليه غيرهم من طريق الرأي ودخول الشبهة.
([1]) النسخة المعتمدة: نشر دانشگاه تهران.