موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع
إجماعات فقهاء الإمامية
المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع
- قوانين الأصول- الميرزا القمي ج1 ص 346:([1])
الإجماع لغة العزم والاتفاق، وفي الاصطلاح اتفاق خاص يدل عليه حقية مورده. واختلف العلماء في حده ولا فايدة في ذكر ما ذكروه وجرحها وتعديلها فلنقتصر على تعريف واحد يناسب مذهب العامة ثم نذكر ما يناسب مذهب الخاصة، أما الأول فهو أنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة على أمر ديني في عصر من الأعصار، فقيد الاجتهاد لعدم اعتبار وفاق العوام وخلافهم والتخصيص بهذه الأمة لأنهم لا يقولون بحجية إجماع سائر الأمم وإن اقتضى بعض أدلتهم ذلك.
وأما الشيعة فيلزمهم القول بالحجية لان حجية الإجماع عندهم اعتبار دخول المعصوم عليه السلام وهو لا يختص عندهم بزمان دون زمان، وأما ما ذكره العلامة في أول نكاح القواعد وغيره من أن عصمة الأمة من خواص نبينا صلى الله عليه وآله، فقد نقل المحقق البهائي& [الصفحة 349] عن والده وعن مشايخه رحمهم الله تعالى أن مراده العصمة من المسخ والخسف ونحو ذلك فلا اعتراض عليه والتقييد بالأمر الديني لإخراج ما ليس منه مثل العقليات المحضة والديني أعم من الاعتقادي والفروعي، وقيد عصر من الأعصار لعدم اشتراط اجتماع ما معنى وما يأتي وإلا فلا يتحقق بعد إجماع.
وأما الثاني فهو اتفاق جماعة يكشف اتفاقهم عن رأي المعصوم عليه السلام، فقد يوافق ذلك مع ما حده العامة به وقد يتخلف عنه فإنهم يعتبرون اتفاق جميع علماء الأمة، ومع اتفاق الجميع يظهر موافقة المعصوم عليه السلام أيضا لعدم خلو العصر عن معصوم عليه السلام عندهم أو لأن مع اتفاق جميعهم يحصل العلم بأنه مأخوذ من رئيسهم، ثم إن أصحابنا متفقون على حجية الإجماع ووقوعه موافقا لأكثر المخالفين ولكن منهم من أنكر إمكان حصوله ومنه من أنكر إمكان العلم به ومنهم من أنكر حجيته، والكل ضعيف وأدلتهم سخيفة وسنشير إليها بعد ذلك.
فلنقدم الكلام في مدرك حجية الإجماع وكونه مناطا للاحتجاج ثم نتبعه بذكر الشكوك والشبهات في المقامات الثلاثة ولما كان مدرك حجيته مختلفا بالنسبة إلى مذاهب العامة والخاصة فلنذكر أولا ما اعتمد عليه الخاصة ثم نذكر ما اعتمد عليه العامة.
أما الخاصة فاعتمدوا في ذلك على كشفه عن رأي المعصوم عليه السلام فلا حجية عندهم في الإجماع من حيث أنه إجماع بل لانه كاشف عن رأي رئيسهم المعصوم عليه السلام ولهم في بيان ذلك وجوه ثلاثة.
أولها: ما اشتهر بين قدمائهم وهو أنهم يقولون إذا اجتمع علماء أمة النبي صلى الله عليه وآله على قول فهو قول الإمام المعصوم عليه السلام القائم بعده لأنه عليه السلام من جملة الأمة وسيدها، فإذا ثبت اجتماع الأمة على حكم ثبت موافقته لهم.
فإن قيل إن علم أنه قال بمثل ما قال سائر الأمة فلا معنى للاعتماد على اتفاق سائرهم فالمعتمد هو قوله عليه السلام وإلا فكيف يقال أنه موافق لهم، قلنا فرق بين العلم الإجمالي والتفصيلي، وكلامنا إنما هو في العلم الإجمالي وما علم قوله فيه بالتفصيل فالكلام فيه هو ما ذكرت وذلك من باب كلية الكبرى في الشكل الأول، فإن العلم بجسمية الإنسان في ضمن قولنا كل حيوان جسم إنما هو بالإجمال لا بالتفصيل حتى يستلزم الدور كما أورده بعض المتصوفة على أهل الاستدلال، وبهذا يندفع الشبهة التي أوردوها من عدم إمكان العلم بمذاهب العلماء المنتشرين في شرق العالم وغربه مع عدم معرفتهم وعدم إمكان لقائهم فإن العلم الإجمالي مما يمكن حصوله بلا شك ولا ريب كما في ضروريات المذهب وسيجيء تمام الكلام.
وبالجملة مناط هذا التقرير في حجية الإجماع إني علمت بالعلم الإجمالي أن جميع أمة محمد صلى الله عليه وآله متفقون على كذا فكلما كان كذلك فهو حجة لان الإمام عليه السلام في [الصفحة 350] جملتهم فهو حجة وهذا هو السر في اعتبار هؤلاء وجود شخص مجهول النسب في جملة المجمعين ليجامع العلم الإجمالي ولو (بذلوا)؟ اعتبار وجود مجهول النسب بعدم العلم بأجمعهم تفصيلا لكان أولى، ولعلهم أيضا يريدون بمجهول النسب ذلك، وحاصله فرض إمكان صورة يمكن القول بكون الإمام فيهم إجمالا لا تفصيلا، وعلى هذه الطريقة فإن حصل العلم باتفاق الجميع إجمالا فيتم المطلوب وكذا إن خرج منهم بعض من يعرف بشخصه ونسبه مع العلم الإجمالي باتفاق الباقين.
ولكن الإنصاف إن على هذه الطريقة لا يمكن الاطلاع على الإجماع في أمثال زماننا إلا على سبيل النقل، وإن قال بعضهم أن المراد من موافقة الإمام عليه السلام موافقة قوله لقولهم لا دخول شخصه في أشخاصهم حتى يستبعد ذلك في الإمام المنتظر عليه السلام.
وثانيها: ما اختاره الشيخ في عدته بعدما وافق القوم في الطريقة السابقة، والظاهر أن له موافقا من أصحابنا أيضا ممن تقدم عليه وممن تأخر في هذه الطريقة، وهي أنه اعتمد في ذلك على ما رواه أصحابنا من الأخبار المتواترة من أن الزمان لا يخلو من حجة كي إن زاد المؤمنون شيئا ردهم وإن نقصوا أتمه لهم، ولولا ذلك لاختلط على الناس أمورهم.
ويظهر ثمرة هذه الطريقة حيث لم يحصل العلم بالطريقة الأولى كما لو وجد في الامامية قول ولم يعرف له دليل ولم يعرف له مخالف أيضا ولكن لم يعرف مع ذلك أيضا كونه قول الإمام ومختاره فقال حينئذ إنا نعلم أنه قول الإمام عليه السلام ومختاره، لأنه لو لم يكن كذا لوجب عليه أن يظهر القول بخلاف ما أجمعوا عليه لو كان باطلا فلما لم يظهر ظهر أنه حق.
ويظهر ذلك منه في مواضع وبعض عباراته في العدة هو هذا إذا ظهر قول بين الطائفة ولم يعرف له مخالف ولم نجد ما يدل على صحة ذلك القول ولا على فساده وجب القطع على صحة ذلك القول وأنه موافق لقول المعصوم عليه السلام لانه لو كان قول المعصوم مخالفا لوجب أن يظهره وإلا كان يقبح التكليف الذي ذلك القول لطف فيه وقد علمنا خلاف ذلك.
وقال قبل ذلك في مقام أخر وهو فيما لو اختلف الامامية على قولين لا يجري فيهما التخيير كالوجوب والحرمة مثلا وكان أحدهما قول الإمام عليه السلام ولم يشاركه أحد من العلماء فيه وكان الجميع متفقين على الباطل، فقال: ومتى اتفق ذلك وكان على القول الذي انفرد به الإمام عليه السلام دليل من كتاب أو سنة مقطوع بها لم يجب عليه الظهور، والدلالة على ذلك لان ما هو موجود من الكتاب والسنة كاف في باب إزاحة التكليف، ومتى لم يكن على القول الذي انفرد به دليل على ما قلناه يعني على النحو الذي فرضه من الكتاب أو السنة المقطوع بها وجب عليه الظهور وإظهار الحق وإعلام بعض ثقاته حتى يؤدي الحق إلى الأمة بشرط أن يكون معه معجزة تدل على صدقه وإلا لم يحسن التكليف.
وقد أورد عليه [الصفحة 353] بعض المحققين بأنه يكفي في إلقاء الخلاف بينهم بأن يظهر القول وإن لم يعرفه العلماء أنه إمام بل يكفي قول الفقيه المعلوم النسب في ذلك أيضا بل يكفي وجود رواية بين روايات أصحابنا دالة على خلاف ما أجمعوا.
وفيه نظر ظاهر إذ مناط كلام الشيخ ليس ان الاجتماع على الخطأ لما كان باطلا وجب على الإمام عليه السلام دفع ذلك، وهذا يتم بنقض الإجماع ولو كان بوجود مخالف بل مناط كلامه أن لطفه تعالى الداعي إلى نصب الإمام عليه السلام أوجب ردع الأمة عن الباطل، وذلك لا يتم إلا بما يوجب ردعهم فلما لم يحصل ذلك علم أنه راض على ما اجتمعوا عليه.
والتحقيق في جوابه منع ذلك وإنما الواجب على الله تعالى نصبه عليه السلام والواجب عليه عليه السلام الإبلاغ والردع عن الباطل إن لم يمنعه مانع ولم يثبت حكمة في غيبته واستتاره عليه السلام لا مطلقا، وبهذا رد هذا القول السيد المرتضى& وقال ولا يجب عليه الظهور لانه إذا كنا نحن السبب في استتاره فكل ما يفوتنا من الانتفاع به (وبتصرفه)؟ وبما معه من الاحكام يكون قد أتينا من قبل نفوسنا فيه ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدى إلينا الحق الذي عنده.
وحاصل هذا الكلام هو الذي ذكره المحقق الطوسي& في التجريد حيث قال وجوده عليه السلام لطف وتصرفه لطف آخر وعدمه منا هذا مع أنا نرى أن خلاف مقتضى اللطف والتبليغ موجود إلى غير النهاية والأقوال المختلفة في غاية الكثرة مع تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإجراء الاحكام والحدود، وقد يجاب عن وجود الاختلاف في الأقوال بأنهم أوقعوا الخلاف وبينوا لنا علاجه وهو وإن كان كذلك في الغالب لكن بعض الخلافات الذي لا يمكن ذلك فيه لا يتم فيه ما ذكر، بل لا يتم في الغالب أيضا كما سيجيء.
وقد ينتصر لطريقة الشيخ ردا على الجواب الذي ذكرنا من أن عدم إظهار الإمام عليه السلام المخالفة لعله كان لأجل تقية أو مصلحة بأن هذا هو الذي يذكره العامة في الرد على الشيعة من أن الحكمة لعلها اقتضت خلو الزمان عن الحجة أيضا وبأن ذلك ينافي كون تقرير المعصوم عليه السلام حجة خصوصا تقرير كل الشيعة على أمر مع أن الحكمة إذا اقتضت إبقائهم على ذلك فيكون راضيا بما اتفقوا عليه حتى يتغير المصلحة فيثبت المطلوب، مع أنه يمكنه ردعهم بأن يظهر بعنوان المجهول النسب ويلقي الخلاف بينهم ويبين لهم، ولا يكفي في ذلك وجود رواية أو مجتهد معروف مخالف كما توهم لانه لا يوجب ردعهم كما هو المعهود من طريقتهم من طرحهم (مقتضى اللطف) الرواية الشاذة والقول النادر.
وأما عدم ردعهم في المسائل الخلافية وعدم رفع الخلاف من بينهم فلأنه رضى باجتهاد المجتهدين وتقليد المقلدين مع أنهم أوقعوا الخلاف بينهم فيظهر منه في الخلافيات بأنه راض بأحد طرفي النقيض لمجتهد وبآخر لمجتهد آخر، وأما فيما اجتمعوا عليه فليس إلا [الصفحة 354] رضاه بشيء واحد فلا يجوز مخالفته.
أقول فرق بين بين الحكمة الباعثة على نصب الإمام وعلى إنفاذه جميع الاحكام سيما إذا تسبب لعدمه المكلفون فلا يرد نقض العامة وليس هنا مقام بسط الكلام وهذا واضح سيما في مسائل الفروع، وأما كون تقرير المعصوم عليه السلام حجة فهو إنما يسلم إذا علم إطلاعه عليه وتمكنه من المنع لو كان باطلا ولم يمنع وهو فيما نحن فيه ممنوع، وأما رضاه على بقائهم على معتقدهم فهو لا ينافي جواز مخالفتهم بدليل دل المتأخر منهم على المخالفة إذ ذلك أيضا من باب الرضا باجتهادهم في حال الاضطرار كما في الخلافيات إذ ليس في كل قول من الأقوال المتخالفة حديث أو آية بل ربما اعتمد بعضهم على دليل ضعيف من قياس ونحوه خطأ وغفلة، ومع ذلك نقول بأن الإمام عليه السلام راض باجتهاده وبتقليد مقلده له فلعل اجتماع هؤلاء أيضا يكون من هذا القبيل ولا مانع من مخالفتهم إذا دل عليه دليل لمن بعدهم إلا مخالفتهم للشهرة، فهذا الكلام يفيد عدم جواز مخالفة الشهرة وإنه لا يمكن ان يثبت دليل يترجح على الشهرة، وهو ممنوع لم يقم عليه دليل ولا يفيد إثباث الإجماع كما هو مرادك، والعلم برضا الإمام عليه السلام بذلك بالخصوص من حيث هؤلاء من حيث أنه أيضا من الاجتهادات المعفوة، وأما ردعهم بعنوان مجهول النسب فمع تجويز رضا الإمام عليه السلام باجتهاد المجتهد وعمل المقلد به كما ذكرت فلا دليل على وجوب الردع عن هذا الاجتهاد الخاطئ الذي اجتمع عليه جماعة، ورضاه على هذا الاجتماع لا يسلم إلا من جهة كونهم باجتهادهم المعفو عنهم وذلك لا يوجب عدم رضاه بمخالفتهم إذا أدى دليل إلى مخالفتهم مع أن جريان ما ذكره في مثل زماننا في غاية البعد بل لا وجه له.
نعم يمكن تتميم هذه الطريقة فيما لو اجتمع الطائفة على فتوى ولم يعلم موافقة الإمام عليه السلام لهم وكذا على قولين أو ثلاثة بالأخبار مثل قوله صلى الله عليه وآله “لا تجتمع أمتي على الخطأ” ونحوه بأن يقول يمتنع اجتماعهم على الخطأ فلو كان ما اجتمعوا عليه خطأ لوجب على الإمام عليه السلام ردعهم عن الاجتماع ويلزمه الاكتفاء بمجرد إلقاء الخلاف، ولكن الكلام في إثبات دلالة تلك الأخبار وحجيتها وسيجيء الكلام فيها مع أن مدلولها المطابقي يقتضي اجتماع كل الأمة ومع عدم العلم بقول الإمام عليه السلام يخرج عن مدلولها.
وثالثها: ما اختاره جماعة من محققي المتأخرين وهو أنه يمكن حصول العلم برأي الإمام عليه السلام من اجتماع جماعة من خواصه على فتوى مع عدم ظهور مخالف لهم، وكذلك يمكن العلم برأي كل رئيس بملاحظة أقوال تبعته، فكما لو فرض أن فقيها له تلامذة ثقات عدول لا يروون إلا عن رأي فقيههم ولا يصدرون إلا عن معتقده فاجتمعوا على فتوى من ان دون ان يسندوه إلى فقيههم ولم يعلم مخالفة لأحدهم فيه يمكن حصول العلم بذلك بأنه رأي فقيههم، فكذلك يمكن العلم بفتوى جمع كثير من أصحاب الصادق عليه الصلاة والسلام من قبيل زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وليث المرادي وبريد بن معاوية العجلي والفضيل بن يسار [الصفحة 355] من الفضلاء الثقات العدول وأمثالهم من دون ظهور مخالف منهم أن ذلك فتوى إمامهم عليه السلام ومعتقده، وطريقة ذلك هو الحدس والوجدان، وهذه طريقة معروفة لا يجوز إنكارها.
فإذا حصل العلم بذلك بمعتقد الإمام عليه السلام فلا ريب في حجيته بل يمكن أن يدعى ثبوته في أمثال زماننا أيضا بملاحظة تتبع أقوال علمائنا فإنه لا شك في أنه إذا أفتى فقيه عادل ماهر يحكم فهو بنفسه يورث ظنا بحقيته وأنه مأخوذ من إمامه، وإذا ضم إليه فتوى فقيه آخر مثله يزيد ذلك الظن فإذا انضم إليه آخر وآخر استوعب فتويهم بحيث لم يعرف لهم مخالف، فيمكن حصول العلم بأنه رأي إمامهم، وإذا انضم إلى ذلك البعض المؤيدات الأخر مثل أن جمعا منهم نسبوه في كتبهم إلى مذهب علمائنا وجمعا منهم نفي الخلاف فيه وبعضهم ذكر المذهب مع سكوته عن ذكر مخالف، بل وإذا رأى بعضهم أو جماعة منهم ذكر في كتابه أنه إجماعي فيزيد ذلك الدعوى وضوحا، وإذا انضم إلى ذلك كون الطرف المخالف مدلولا عليه بأخبار كثيرة صحيح السند فيزيد وضوحا أكثر مما مر، وإذا انضم إلى ذلك عدم ورود خبر في أصل الحكم أو ورود خبر ضعيف غير ظاهر الدلالة فيتضح غاية الوضوح إذا انضم إلى ذلك ملاحظة اختلاف مشاربهم ووقوع الخلاف بينهم في أكثر المسائل، وقلما يوجد خبر ضعيف إلا وبه قائل، وملاحظة غاية اهتمامهم في نقل الخلافات ولو كان قولا شاذا نادرا بل القول النادر من العامة فضلا عن الخاصة، وملاحظة أنهم لا يجوزون التقليد للمجتهدين سيما تقليد الموتى وأن كثيرا منهم يوجبون تجديد النظر.
فلو قيل لا يمكن حصول العلم من جميع ذلك بأن الباعث على هذا الاجتماع هو كونه رأيا لإمامهم ورئيسهم الواجب الإطاعة على معتقدهم سيما ولا يجوزون العمل بالقياس والاستحسان والخروج عن مدلولات النصوص، وخصوصا مع كون القياس وأمثاله من الأدلة العقلية مما يختلف فيه المشرب غاية الاختلاف من جهة تخريج المناط بالمناسبات الذوقية واستنباط العلة بالترديد والدوران ونفي الفارق ونحو ذلك؛ لكان ذلك مكابرة صرفة لا يستحق منكره الجواب بل الظاهر أن مدار كل من يدعي الإجماع من علمائنا المتأخرين على هذه الطريقة، ولا يتفاوت فيه زمان الغيبة والحضور، مع أنه إذا كان يمكن حصول العلم بمذهب الرئيس إلى حد الضرورة كما وصل في ضروريات الدين والمذهب كوجوب الصلوات الخمس ومسح الرجلين وحلية المتعتين فجواز حصول العلم إلى حد اليقين بالنظر أولى، وكما أنه يجوز [الصفحة 356] أن يصير بعض أحكام النبي صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام بديهيا للنساء والصبيان بحيث يحصل لهم العلم بالبديهة أنه من دين نبيهم ومذهب إمامهم بسبب كثرة التضافر والتسامع فكذا يجوز أن يصير بعض أحكامه يقينيا نظريا للعلماء بسبب ملاحظة أقوال العلماء وفتاوى أهل هذا الدين والمذهب إذ الغالب في الضروريات أنه مسبوق باليقين النظري فكيف يمكن حصول المسبوق بدون حصول السابق.
وبالجملة فعلى هذه الطريقة الإجماع عبارة عن اجتماع طائفة دل بنفسه أو مع انضمام بعض القرائن الأخر على رضا المعصوم عليه السلام بالحكم ويكون كاشفا عن رأيه، فلا يضره مخالفة بعضهم ولا يشترط فيه وجود مجهول النسب ولا العلم بدخول شخص الإمام عليه السلام فيهم ولا قوله عليه السلام فيهم، ولا يتفاوت الأمر بين زمان الحضور والغيبة، ويعلم من ذلك أنه لا يشترط وحدة العصر في تعريفهم الإجماع أيضا بل يجوز انضمام أهل عصر آخر في إفادة المطلوب.
فإن قلت أمثال ذلك لا تكون إلا من ضروريات الدين أو المذهب، قلت إن كنت من أهل الفقه والتتبع فلا يليق لك القول بذلك وإن لم تكن من أهله فاستمع لبعض الأمثلة تهتدي إلى الحق فنقول لك قل أي ضرورة دلت على نجاسة ألف كر من الجلاب بملاقاة مقدار رأس إبرة من البول، فهل يعرف ذلك العوام والنسوان والصبيان وهل يعلم ذلك العلماء الفحول من جهة الأخبار المتواترة مع أنه لم يرد به خبر واحد فضلا عن المتواتر، فإن قلت أنهم قالوا في ذلك هذا القول من غير دليل فقد جفوت عليهم جدا وإن قلت دليلهم غير الإجماع من آية أو عقل أو غيره فأت به إن كنت من الصادقين، وإلا فاعتقد بأن الدليل هو الإجماع بل مدار العلماء في جميع الأعصار والأمصار على ذلك ووافقنا المنكرون على ذلك من حيث لا يشعرون، بل لا يتم مسألة من المسائل الفقهية من الكتاب والسنة إلا بانضمام الإجماع إليه بسيطا أو مركبا، فانظر إليهم يستدلون على نجاسة أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه مطلقا بقوله صلى الله عليه وآله اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه مطلقا من أن ذلك ليس مدلولا مطابقيا للفظ ولا تضمنيا ولا التزاميا، إذ وجوب الغسل أعم من النجاسة والثوب غير البدن وغيره من الملاقيات المأكولة والمشروبة وغيرهما وكذلك البول غير الروث إلى غير ذلك من المخالفات، فليس فهم النجاسة الشرعية منه إلا من جهة إجماعهم على أن العلة في هذا الحكم هو النجاسة وليس من باب التعبد، وأنه لا فرق بين الثوب والجسد ولا البول والروث وكذلك غيرهما من المخالفات، وكذلك في مسألة نجاسة الماء القليل كل من يستدل على التنجيس فيستدل ببعض الأخبار الخاصة ببعض [الصفحة 357] النجاسات وبعض المياه الخاصة كالكلب والماء الذي ولغ فيه في الإناء وكل من يستدل على الطهارة يستدل ببعض آخر مختص ببعض النجاسات وبعض المياه كالجرز الميتة والقربة من الماء مع أن في الخبر الأول فهم النجاسة من الأمر بالصب أو النهي عن الوضوء ومن الثاني من جهة الأمر بالتوضي، ولا ريب أن الصب لا يدل على النجاسة وكذا النهي عن التوضي، ومع ذلك لم يفصلوا بالعمل بالروايتين ولم يبقوهما على حالهما مع عدم التعارض بينهما وليس ذلك إلا الإجماع المركب، وعدم القول بالفرق بين المسئلتين.
وليت شعري من ينكر حجية الإجماع أو إمكان وقوعه أو العلم به بأي شيء يعتمد في هذه المسائل، فإن كان يقول أفهم كذا من اللفظ فمع أنه مكابرة واقتراح وخروج عن اللغة والعرف فلم لا يفهم فيما لو أمر الشارع بالجهر في الصلاة للرجل وجوبه على المرأة ويفهم من قوله اغسل ثوبك دون قوله اغسلي وجوبه عليها.
وبالجملة لو أردنا شرح هذه المقامات وإيراد ما ليس فيها مناص عن الاحتجاج بالإجماع بسيطا أو مركبا لكنا ارتكبنا بيان المعسور أو المحال وفيما ذكرنا كفاية لمن كان له دراية ومن لا دراية له لا يفيده ألف حكاية.
ثم لا بأس أن نجدد المقال في توضيح الحال لرفع الإشكال ونقول كل طريقة أحدثها نبي فبعضها مما يعلم به البلوى ويحتاج إليه الناس في كل يوم أو في أغلب الأوان كنجاسة البول والغايط ووجوب الصلوات الخمس وأمثال ذلك فذلك بسبب كثرة تكرره وكثرة التسامع والتضافر بين أهل هذا الدين والملة يصير ضروريا يحصل العلم به لكل منهم، ولكل من كان خارج هذه الملة إذا دخل فيهم وعاشرهم يوما أو يومين أو أزيد فيحصل له العلم بأن الطريقة من رئيسهم والعمدة فيه ملاحظتهم متلقين ذلك بالقبول من دون منكر في ذلك ومخالف لهم أن منكر لا يعتد به لندرته أو ظهور نفاقه وعناده فهذا يسمى بديهي الدين.
ودون ذلك بعض المسائل الغير العامة البلوى التي لا يحتاج إليها جميعهم ولكن علماء هذه الأمة وأرباب إفهامهم المترددين عند ذلك النبي صلى الله عليه وآله والرئيس الذين هم الواسطة بينهم وبينه غالبا يتداولون هذه المسألة بينهم لأجل ضبط المسائل أو لرجوع من يحتاج في هذه المسائل إلى الرجوع بهم فيحصل من الاطلاع على اتفاقهم في هذه المسألة وتسامعهم بينهم من دون إنكار من أحدهم على الآخر العلم بأنه طريقة رئيسهم.
فكما في البديهي ليس وجه حصول اليقين إلا التسامع والتضافر بدون إنكار المنكر مع ملاحظة اقتضاء العادة ذكر المخالفة لو كان هناك مخالف، فكذلك في الإجماعي الوجه هو ملاحظة تسامع العلماء وتضافرهم واتفاقهم في الفتوى مع كون العادة قاضية بذكر الخلاف لو كان، فوجود المخالف لو فرض في عصر [الصفحة 358] (التتبع)؟ وحصول الحدس فهو من باب النادر، والذي ذكرنا في الضرورة بأن يكون بحيث ثبت عندهم غفلته وخطأه من أجل شبهة أو لم يقفوا عليه وأدى اجتهادهم وسعيهم إلى الاعتماد على حدسهم الذي استقر عليه رأيهم، إذ لا ننكر احتمال الخطأ في مدعى الإجماع كما سنحققه فيما بعد.
وبالجملة فكما يمكن حصول العلم بضروريات الدين من جهة تسامع وتضافر العلماء والعوام والنسوان فيمكن حصول العلم بالنظريات من تسامع العلماء وتضافرهم وهذا نسميه إجماعا ونظير ذلك في المتواترات موجود، فإن التواتر قد يحصل من دون طلب وتتبع كما لو جاء ألف رجل من مكة وأخبروا بوجود مكة فيحصل العلم اليقيني بذلك للعلماء والنسوان والصبيان، وقد يحتاج ذلك إلى تتبع وإعمال روية كقوله عليه السلام “إنما الأعمال بالنيات” على ما ذكروه، فإن اليقين بكون ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله مختص بالعلماء بل ببعضهم لاحتياجه إلى معرفة الوسائط وتعددها بالعدد المعتبر في كل طبقة، فهناك النظر إلى كثرة الرواة والنقلة وثمة إلى كثرة المفتين والقائلين (والعاملين).
ولنرجع إلى بيان مدرك الإجماع على طريقة العامة وهو من وجوه، وليعلم أولا أنه لا جدوى لنا في التعرض إلى القدح في أدلتهم التي أقاموها على حجية الإجماع لأن الإجماع على مصطلحهم إذا ثبت فلا ريب أنه حجة عندنا أيضا، ولكن نتعرض لذكر أدلتهم، والكلام فيها على وجهين، أحدهما بيان نفس الأمر، والثاني إظهار أن ما تشبثوا به في وجه حجية الإجماع لا يمكن أن يعتمد عليه، فيبطل كل ما يعتمدون في إثباته إلزاما عليهم بعد إبطال المستند، ومن ذلك أصل مذهبهم ودينهم فنحن نلزمهم إما ببطلان طريقتهم من جهة عدم حجية الإجماع إن كان مستنده ما ذكروه على معتقدهم إلزاما، أو بمنع تحقق الإجماع المصطلح فيما يضرنا تسليمه في مذهبنا، سواء سلمنا مستندهم فيه أم لا، مع أن حجية الإجماع عندهم ليس (بوفاقي)؟ بل أنكره النظام وجعفر بن حرب وغيرهما على ما نقل عنهم، وبعضهم أنكر إمكان وقوعه، وبعضهم العلم به، ولكن جمهورهم على حجيته وإن اختلفوا أيضا في انحصارها في إجماع الصحابة أو أهل المدينة وعدم الانحصار.
واستدل القائلون بحجيته بوجوه من العقل والنقل من الآيات والأخبار ونحن نقتصر بما هو أظهر دلالة منها، فأما الآيات فمنها قوله تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} الآية، فإنه تعالى جمع في الوعيد بين مخالفة سبيل المؤمنين ومشاقة الرسول صلى الله عليه وآله، ولا ريب في حرمة الثاني، فكذا الأول، وفيه أن الوعيد على المجموع من حيث المجموع لا على كل واحد، وما قيل ان مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله كافية فيه مستقلا فلا حاجة إلى ضم غيره، ففيه أنه كذلك لكن متابعة غير [الصفحة 361] سبيل المؤمنين غير مستقل بذلك حتى تنضم إلى مشاقة الرسول صلى الله عليه وآله فلا يتم الاستدلال والتمسك بأصالة الاستقلال في كل منهما وإن الأصل عدم انضمام كل منهما إلى الآخر باطل لفهم العرف الانضمام في مثل قولك من دخل الدار وجلس فله درهم مع أن القيد المعتبر في المعطوف عليه وهو تبين الهدى معتبر في المعطوف والهدى في المعطوف هو دليل الإجماع (فثم)؟ يثبت حجيته، وأيضا سبيل المؤمنين ليس على حقيقته ومن أقرب مجازاته دليلهم وهو مستند الإجماع لا نفسه.
هذا جملة مما ذكروه في هذا المقام وقد أطنب الأصحاب في هذا المقام بما لا حاجة إلى إيرادها، والأوجه أن يقال المراد بسبيل المؤمنين الإيمان وهو ما صاروا به مؤمنين، ويرد عليها أيضا أن مفهوم إتباع غير سبيل المؤمنين عدم إتباع الغير لا إتباع سبيل المؤمنين فلا يلزم تهديد ووعيد على تارك المتابعة رأسا.
لا يقال أن ترك المتابعة رأسا هو متابعة غير سبيل المؤمنين، لانا نقول المتابعة أمر وجودي يحصل بحصول المتبوع والمفروض انتفائه.
ومنها قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فإن وسط كل شيء عدله وخياره في اللغة، فمن عدله الله تعالى يكون معصوما عن الخطأ فقولهم حجة ،ففيه أن ذلك يستلزم عدم صدور الخطأ عنهم مطلقا، وهو باطل وما يقال ان ذلك إذا اجتمعوا لا مطلقا ففيه أن تقييد بلا دليل وتخصيص قبيح مع أن التعليل بقوله تعالى {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ظاهر في كون كل منهم شاهدا لا المجموع من حيث المجموع فكذلك الأمة، مع أن المراد إما الشهادة في الآخرة كما ورد في الأخبار فهو إنما يستلزم العدالة عند الأداء لا التحمل فلا يجب عصمتهم في الدنيا، وأما في الدنيا، فهو إنما يدل على قبول شهادتهم وهو لا يستلزم حجية فتواهم، فالآية متشابهة الدلالة، فالأولى أن يقال المراد بهم أئمتنا عليهم السلام كما روي في تفسيرها.
ومنها قوله تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فإن مفهومه عدم وجوب الرد مع الاتفاق، وفيه أن عدم وجوب الرد حينئذ أعم من أن يكون، وجواز العمل لكون إجماعهم حجة بل إنما كان من أجل أن عند كل منهم ما يكفيهم من الدليل على مطلبه من عقل أو نقل مع أن عموم الجمع في قوله تنازعتم وردوا إفرادي لا مجموعي كما لا يخفى، وسيجيء أن بعض العامة استدل بهذه الآية على عدم حجية الإجماع.
وأما الأخبار فمنها ما ادعوا تواتر مضمونها معنى وأظهرها دلالة وهو قوله صلى الله عليه وآله “لا تجتمع أمتي على الخطأ” وفي لفظ آخر “لم يكن الله ليجمع أمتي على خطأ” ومنها قوله صلى الله عليه وآله “كونوا مع الجماعة” و “يد الله على الجماعة” ونحو ذلك.
وفيه أولا: منع صحتها وتواترها بل هي أخبار آحاد لا يمكن التمسك بها في إثبات مثل هذا الأصل الذي بنوا دينهم عليه فضلا عن فقههم، ولم يثبت دلالتها على القدر [الصفحة 362] المشترك على سبيل القطع بحيث يفيد المطلوب.
وثانيا: منع دلالتها أما أولا فلان الظاهر من الاجتماع هو التجامع الإرادي لا محض حصول الموافقة اتفاقا فلا يثبت حجية جميع الإجماعات إذ لا يتوقف تحقق الإجماع على اجتماع آرائهم على سبيل إطلاع كل منهم على رأي الآخر واختياره موافقة الآخر وتتميمه بالإجماع المركب أو بعدم القول بالفصل دور، وهذا واضح إلا أن يقال مرادهم إثبات الحجية في الجملة لا مطلقا وبه يبطل السلب الكلي الذي يدعيه الخصم.
وثالثا: إن لام الخطأ جنسية لما حققناه سابقا في محله من أنها حقيقة فيه، ومقتضاه عدم جواز اجتماعهم على جنس الخطأ وهو قد يحصل بأن يختار كل واحد من الأمة خطأ غير خطأ الآخر وذلك يوجب عصمتهم، ولا يقولون به، فهذا من أدلة الشيعة على القول بوجوب وجود الإمام المعصوم عليه السلام، والعجب من المخالفين حيث قالوا بمقتضاه من حيث لا يشعرون، نقله المحقق البهائي عن صاحب المحصول، وهو نسبة فيه إلى أكثرهم، وسيجيء في مسألة تعاكس شطري الإجماع الكلام في ذلك.
نعم يمكن توجيه الدلالة على القول بجنسية اللام بأن يقال يفهم إتحاد الفرد من لفظ الاجتماع لا من لفظ الخطأ، فيكون المراد لا يجتمع أمتي على جنس الخطأ، بأن يختاروا فردا منها كالزنا مثلا فما اجتمعوا عليه فهو صواب وهو تقييد بلا دليل.
نعم يتم ذلك لو جعل اللام للعهد الذهني فيصير من باب النكرة المنفية مفيدا للعموم، لكنه أيضا معنى مجازي للفظ وأيضا الظاهر من اللفظ سيما على القول بكون الاجتماع بمعنى التجامع الإرادي ان اجتماع الأمة (لا يحصل) على ما خطأيته ثابتة قبل الاجتماع، فالغرض نفي اجتماع الأمة على ما هو خطأ لا أن ما اجتمعوا عليه يعلم أنه ليس بخطأ، وظاهر الأول أن المعتبر في الخطأ كون خطأيته ثابتة قبل الاجتماع فالغرض نفي اجتماع الأمة على ما هو خطأ عندهم لا أن ما اجتمعوا عليه يكشف عن أنه صواب وليس بخطأ، وإن قلنا بكون الألفاظ أسامي للماهيات النفس الامرية.
والحاصل أن هذه الرواية وما في معناها ظاهرة في مذهب الامامية من لزوم معصوم في كل زمان ويؤيده أيضا ما رووه من قوله صلى الله عليه وآله “لا يزال طائفة من أمتي على الحق حتى يقوم الساعة” وهو أيضا يشعر بأن نفيه صلى الله عليه وآله اجتماعهم على الخطأ إنما هو لأجل أنه لا بد أن يكون طائفة من أمته صلى الله عليه وآله على الحق كما نبه عليه بعض المحققين، قال وهو ما يقوله أصحابنا من وجوب دخول المعصوم عليه السلام في الإجماع حتى يكون حجة فيلزم المخالفين أن يقولوا بأن حجية الإجماع إنما هو من أجل ذلك كما يقوله أصحابنا لا لإنه إجماع من حيث أنه إجماع.
وأما قوله صلى الله عليه وآله “لم يكن الله ليجمع أمتي على خطأ” فمع ما فيه من أكثر ما مر من القدح في السند والدلالة أن ظاهرها مقبول عندنا ولا يصدر مثل هذا القبيح عن الله تعالى [الصفحة 365] ولكن لا ينفي صدوره عن الخلق ويظهر الكلام في الباقي مما مر.
وأما الأدلة العقلية التي أقاموها على ذلك فأقواها أن العلماء أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف للإجماع فدل على أنه حجة، فإن العادة تحكم بأن هذا العدد الكثير من العلماء المحققين لا يجتمعون على القطع في شرعي بمجرد تواطئ وظن بل لا يكون قطعهم إلا عن قاطع فوجب الحكم بوجود نص قاطع بلغهم في ذلك، فيكون مقتضاه وهو خطأ المخالف للإجماع حقا وهو يقتضي حقية ما عليه الإجماع وهو المطلوب.
وأجيب أولا بالنقض بإجماع الفلاسفة على قدم العالم وإجماع اليهود على أن لا نبي بعد موسى عليه السلام وأمثال ذلك، ورد بأن إجماع الفلاسفة عن نظر عقلي وتعارض الشبه واشتباه الصحيح، والفاسد فيه كثير، وأما في الشرعيات فالفرق بين القاطع والظني بين لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز وإجماع اليهود والنصارى عن الاتباع لآحاد الأوائل لعدم تحقيقهم والعادة لا تحيله بخلاف ما ذكرنا.
وبالجملة فإنما يرد نقضا إذا وجد فيه ما ذكرنا من القيود وانتفائه ظاهر، وقد يعترض بأنه لا حاجة في هذا الاستدلال إلى توسيط الإجماع على تخطئة المخالف لانه لو صح لاستلزم وجود قاطع في كل حكم وقع الإجماع عليه.
ويجاب بأن كل المجمعين ليسوا بقاطعين على خطأ مخالفيهم بل ربما يكون كل حكم منهم ظنيا مستندا إلى إمارة لكن يحصل لنا القطع بالحكم من اتفاق الكل، ولذلك قال في الاستدلال أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف ولم يقل على تخطئة المخالف. واعترض عليه أيضا بأنه مستلزم للدور لانه إثبات للإجماع بالإجماع، ورد بأن وجود الإجماع الخاص دليل على حجية الإجماع لاستلزامه ثبوت أمر قطعي يدل عليها كما مر، فحجية الإجماع موقوفه على وجود هذا الإجماع الخاص ووجود هذا الإجماع الخاص لا يتوقف على حجية مطلق الإجماع، وكذا دلالته على وجود قاطع يدل عليها لا تتوقف على حجية مطلق الإجماع، هكذا قرروا الدليل والاعتراضات.
وأقول إن كان مراد المخالفين من حجية الإجماع هو حجيته من حيث هو إجماع كما هو لازم طريقتهم بل هو صريح أكثرهم فلا يتم الاستدلال لان مرادهم إن من العلماء المجمعين على القطع بتخطئة مخالف الإجماع علماء الامامية، أيضا ومن الإجماع الذي يخطأ مخالفه ما اشتمل على الإمام المعصوم عليه السلام فلا ريب في حقية ما ذكروه، ولكن ذلك لا يثبت حجية الإجماع من حيث هو، فلا ينفعهم إلا فإن لم يعلم دخول المعصوم عليه السلام أو علم خروجه عن الإجماع الذي يخطأ مخالفة فلا نسلم إجماع جميع العلماء حتى الامامية على القطع بتخطئة المخالف، وبدونه نمنع حكم العادة على ما ذكروه، ولو فرض موافقة الامامية على القطع بتخطئة المخالف وإن لم يعلم دخول المعصوم عليه السلام فيهم فحينئذ نقول إن كان موافقة الامامية [الصفحة 366] في القطع في التخطئة بحيث يحصل القطع معه بكونه قول المعصوم عليه السلام فيكون حجية الإجماع الذي يحكم بخطأ مخالفه للإجماع المصطلح عندنا لا لأجل قضاء العادة بذلك وبدونه فنمنع أيضا حكم العادة على ما ذكروه.
ويظهر ثمرة هذا الكلام في أمثال زماننا حيث لا يمكن تحقق الإجماع على مصطلح العامة بحيث يحكم بكون الإمام المنتظر فيهم وكذلك في عصر النبي صلى الله عليه وآله مع فرض عدم معصوم آخر حال انعقاد الإجماع لانه لا يستحيل ذلك عندنا أيضا مع أن القدر المسلم في قضاء العادة على ما ذكروه وهو ما لو كان عدد المجمعين عدد التواتر حتى يمكن القطع بتخطئة مخالفه.
والجواب بأن الدليل ناهض في إجماع المسلمين من غير تقييد واشتراط، فإنهم خطأوا المخالف مطلقا، لا يخفى ما فيه فإن دعوى كونهم قاطعين بتخطئة المخالف لا بد أن تكون قطعية ومجرد ظهور اللفظ في إرادة العموم لا يكفي في ذلك، مع أن المجمعين على القطع بالتخطئة لو ادعوا ذلك في خصوص مثل هذا الإجماع الذي لم يبلغ عدده حد التواتر لم يسمع منهم ودعوى حكم العادة حينئذ على ما ذكر غير مسموعة.
نعم يمكن أن يقال يتم الاستدلال بناء على كون المطلوب إثبات الحجية في الجملة لا مطلقا، وكيف كان فما ذكروه من الأدلة من العقل والنقل لو تمت فلا يضرنا بل ينفعنا ولو لم يتم فايضا لا يخلو من تأييد لإثبات حجية الإجماع، وأكثر أدلتهم مطابقة لمتقضى مذهب الشيعة في حجية الإجماع يظهر لمن تأمل فيها بعين التدقيق والإنصاف، ولنذكر هنا شيئا من الشكوك والشبهات التي أوردوها في المقامات الثلاثة المتقدمة ولنجب عنها.
فمنها ما ذكروه في نفي إمكانه وهو أن الاتفاق إما عن قطعي أو ظني وكلاهما باطل، أما القطعي فلان العادة تقتضي نقله إلينا، فلو كان لنقل وليس فليس، ولو نقل لأغنى عن الإجماع، وأما الظني فلقضاء العاده بامتناع الاتفاق عليه لاختلاف القرائح وتباينهم، وذلك كاتفاقهم على أكل الزبيب الأسود في زمان واحد، فإنه معلوم الانتفاء، وما ذلك إلا لاختلاف الدواعي، ورد بمنع حكم العادة القطعي إذا أغنى عنه ما هو أقوى عنه وهو الإجماع، ونقله أيضا لا يغني عن الإجماع لظهور كمال الفايدة في تعدد الأدلة سيما مع كون القطعيات متفاوتة في مراتب القطع وبمنع استحالة الاتفاق على الظني سيما إذا كان جليا واضح الدلالة معلوم الحجية، مع أنا سنثبت إمكان العلم به فكيف يمكن التشكيك في إمكانه.
ومنها ما ذكروه في نفي إمكان العلم به، وهو أنه لا يمكن العلم بفتوى جميع علماء الإسلام لانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها، بل لا يمكن معرفة أعيانهم فضلا عن أقوالهم مع احتمال خفاء بعضهم لئلا يلزمه الموافقة أو المخالفة أو انقطاعه لطول غيبته فلا يعلم له خبر أو أسره في المطمورة أو كذبه [الصفحة 367] في قوله رأيي كذا، مع أن العبرة بالرأي دون اللفظ مع احتمال رجوع بعضهم عما قال بعد الاستماع عن الآخر.
وفيه أن هذه شبهة في مقابل البديهة لحصول العلم بمذهب جميع علماء الإسلام بأن رأيهم وجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ونحوهما، ومذهب علماء الشيعة بأن رأيهم حلية المتعة ومسح الرجلين، فإذا أمكن حصول العلم برأيهم على سبيل البديهة فكيف لا يمكن حصول اليقين بالنظر، مع أن مرتبة البداهة متأخرة عن النظر، ولا ريب أن أعيان العلماء غير معروفة بأجمعهم في ذلك فضلا عن حصول الاستماع منهم، وليس الداعي إلى ذلك أمر عقلي حتى يقال ان العلم باجتماعهم إنما هو بحكم العقل بأن العقلاء يجتمعون على ذلك لأجل عقلهم مع أن العقليات أيضا مما وقع فيه الاختلاف كثيرا كما لا يخفى على المطلع بها.
ومنها ما ذكروه في نفي حجيته، فمنها ما ذكره العامة مثل قوله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} فظهر منها أن المرجع والمعول إنما هو الكتاب والسنة، وفيه أن كون الكتاب تبيانا لا ينافي تبيانية غيره، وأن المجمع عليه لا تنازع فيه ومثل قوله تعالى {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وفيه منع واضح، وأما ما ذكره بعض القاصرين من الخاصة فهو أمور؛ الأول: أنه يجوز الخطأ على كل واحد من المجمعين، فكذا المجموع، وهو بعينه الشبهة التي أوردوها على نفي التواتر، وجوابه الفرق بين المجموع وبين كل واحد كما لا يخفى فإن للإجماع تأثيرا واضحا في حصول الاعتماد بل هو في الإجماع أظهر منه في الخبر.
الثاني: أن المعصوم عليه السلام لو كان معلوما بشخصه فلا حاجة إلى الإجماع وإلا فلا يمكن الاطلاع على رأيه وقوله، وجوابه أنه قد لا يمكن الوصول إلى خدمته، ولكن يمكن العلم الإجمالي بقوله ورأيه، وقد بينا إمكان العلم الإجمالي كما يحصل في الضروريات وأنه يمكن العلم برأيه في زمان حضوره بسبب أقوال تبعته، كما يمكن صيرورة الحكم بديهيا في زمانه مع عدم الاستماع من لفظه، ومن ذلك يظهر عدم الفرق بين زمان الظهور وزمان الغيبة.
الثالث: وقوع الخلاف في حجية الإجماع وفي أدلة حجيته كما مر، وفيه مع أن علماء الشيعة المعتنين بأقوالهم لم يختلفوا في حجيته وكذلك المحققون من العامة، ونسبة بعض العامة القول بعدم الحجية إلى الشيعة افتراء أو اشتباه لفهم مقصد الشيعة، فإنهم يمنعون حجية الإجماع من حيث أنه إجماع لا مطلقا، أن وجود الخلاف لا ينفي الحجية وكذلك اختلاف مدرك الحجية كما يلاحظ في حجية خبر الواحد وغيره، بل الخلاف موجود في أصول الدين وأصول المذهب بل في جميع العقليات إلا ما شذ وندر.
الرابع: وجود المخالف في أكثر الإجماعات، وفيه أنه إن أراد أن وجود المخالف يمنع عن تحقق الإجماع فهو إنما يصح على طريقة [الصفحة 368] العامة مع أن بعضهم أيضا لا يعتبر خلاف النادر، وأما على طريقتنا فلا يضر وجود المخالف، أما على المختار من الطرق الثلاثة فلما عرفت أن المناط هو حصول الجزم بموافقة المعصوم عليه السلام ولو باتفاق جماعة من الأصحاب، وأما على المشهور بين القدماء فلأنه لا يضر خروج معلوم النسب بل ولا المجهول النسب أيضا إذا علم أنه ليس بمعصوم، بل يكفي فيه العلم الإجمالي أن غير الخارجين الذين علم أنهم ليسوا بإمام كلهم متفقون على كذا بحيث حصل العلم بأن الإمام فيهم، مع أنه يحتمل تقدم المخالف على تحقق الإجماع أو تأخره مع عدم إطلاعه على الإجماع، إذ لم نقل بأن كل إجماع تحقق لا بد أن يحصل العلم به لكل أحد سواء كان في حال الحضور أو الغيبة، بل الاحكام الثابتة من الشارع على أقسام منها بديهي ومنها يقيني نظري للخواص ومنها ظني للخواص مجهول للعوام، والنظري اليقيني ربما يكون يقينيا لبعض الخواض ظنيا لبعض آخر ومرجوحا عند بعض آخر إذ أسباب الحدس والتتبع مختلفة فيتفاوت الحال بالنسبة إلى الناظر والمتتبعين، ألا ترى أن الشيعة مجمعون على حرمة العلم بالقياس مع أن ابن الجنيد& قال بجوازه، ولا ريب أن الحرمة حينئذ إجماعي وكذا عدم وجوب قرائة دعاء الهلال مع أن ابن أبي عقيل قال بوجوبه، وإن شهر رمضان يعتبر فيه الرؤية لا العدد مع أن الصدوق& خالف فيه، وهكذا، ولا يتفاوت الحال بين زمان الحضور والغيبة فتحقق الإجماع في كل واحد من الأزمنة بالنسبة إلى الأشخاص إما يقيني أو ظني، واليقينيات مختلفة في مراتب القطع والظنيات في مراتب الرجحان، فلا يلزم اطراد الحكم ولا القول بأن الإجماع المتحقق في نفس الأمر لا بد أن يحصل به العلم لكل أحد ولا بد أن لا يوجد له مخالف.
نعم لا نضايق من القول باحتمال السهو والغفلة والاشتباه في الحدس، وذلك لا يوجب بطلان أصل الإجماع، كما لا ينافي الغفلة والاشتباه والخطاء بطلان أصول الدين والعقليات مع حصول الخطأ فيها من كثير، وإن أراد أن وجود المخالف يمنع عن الاحتجاج بالإجماعات المنقولة ويورث العلم بخطأ المدعين، فإن أراد أنا نجزم مع وجود المخالف بخطأهم في الدعوى فهو في غاية الظهور من البطلان لما عرفت من إمكان حصول العلم مع وجود المخالف، وإن أراد ذلك يورث ضعف الاعتماد عليه ففيه مع أنه ممنوع لما ذكرنا أن ذلك لا يوجب بطلان مطلق الإجماع ولا مطلق الإجماع المنقول، ألا ترى أن خروج بعض أخبار الآحاد عن الحجية لا يوجب عدم حجية مطلق الأخبار، وكذلك تخصيص العام وكثرة تخصيصه لا يوجب خروج العام عن أصالة العموم وكذلك المخالفات الواقعة في سائر المسائل وسائر العلوم لا يوجب عدم الاعتماد بأصل العلم.
إذا قال بعض المجتهدين بقول وشاع الباقين من غير إنكار له وهو المسمى بالإجماع السكوتي [الصفحة 369] فهو ليس بحجة خلافا لبعض أهل الخلاف، لان الإجماع هو الاتفاق ولم يعلم لاحتمال التصويب على مذهب المخالفين واحتمال التوقف والتمهل للنظر أو لتجديد النظر ليكون ذا بصيرة في الرد على مذهبنا في غير المعصوم، ولاحتمال خوف الفتنة بالإنكار أو غير ذلك من الاحتمالات فلا يكشف السكوت عن الرضا.
نعم إذا تكرر ذلك في وقايع متعددة كثيرة في الأمور العامة البلوى بلا نكير بحيث يحكم العادة بالرضا فهو حجة.
قال في المعالم الحق امتناع العلم بكون المسألة إجماعية في زماننا هذا وما ضاهاه إلا من جهة النقل عن الأزمنة السابقة على ذلك إذ لا سبيل إلى العلم بقول الإمام عليه السلام كيف وهو موقوف على وجود المجتهدين المجهولين ليدخل في جملتهم ويكون قوله عليه السلام مستورا بين أقوالهم وهذا مما يقطع بانتفائه، فكل إجماع يدعى في كلام الأصحاب مما يقرب من عصر الشيخ& إلى زماننا هذا وليس مستندا إلى نقل متواتر وآحاد حيث تعتبر أو مع القرائن المفيدة للعلم فلابد أن يراد به ما ذكره الشهيد& من الشهرة -إلى أن قال- وإلى مثل هذا نظر بعض علماء أهل الخلاف حيث قال الإنصاف أنه لا طريق إلى معرفة حصول الإجماع إلا في زمن الصحابة حيث كان المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل.
أقول لا ريب في إمكان حصول العلم في هذا الزمان أيضا (كما أشرنا صح) على الطريقة التي اخترناها فإنه يمكن حصول العلم من تتبع كلمات العلماء ومؤلفاتهم بإجماع جميع الشيعة من زمان حضور الإمام عليه السلام إلى زماننا هذا بسبب اجتماعهم وعدم ظهور مخالف، مع قضاء العادة بأن المتصدين لنقل الأقوال حتى الأقوال الشاذة والنادرة حتى من الواقفية وسائر المخالفين لو كان قول في المسألة من علمائنا لنقلوه، وإذا مضاف إلى ذلك دعوى جماعة منهم الإجماع أيضا وكذا سائر القرائن مما أشرنا سابقا، فيمكن حصول العلم بكونه إجماعيا بمعنى كون اجتماعهم كاشفا عن موافقتهم لرئيسهم.
وما قيل أنهم لعلهم اعتمدوا على دليل عقلي لو وصلنا لظهر عدم دلالته على المطلوب ولم يعتمدوا على ما صدر من المعصوم عليه السلام من قول أو فعل أو تقرير ففيه ما لا يخفى، إذ هذا الكلام لا يجري في الأمور التي لا مجال للعقل فيها، وجل الفقه بل كلها من هذا الباب وما يمكن استفادته من العقل، فإن كان من جهة إدراك حسن ذاتي أو قبح ذاتي فلا إشكال في كونه متبعا سواء انعقد عليه الإجماع أو لا، وإن كان من باب استنباط أو تخريج أو تفريع فالعقل يحكم والعادة تقتضي بعدم اتفاق آراء هذا الجم الغفير المتخالفة المذاق المتباينة المشرب على دليل غير واضح المأخذ كما اشرنا سابقا، وأصحابنا لا يعملون بأمثال ذلك، وإن كان مأخوذا من النص فهو المطلوب.
نعم يظهر الإشكال فيما لو استدلوا بعلة [الصفحة 370] غير معلومة المأخذ كما استدلوا في لزوم الشاهد والتزكية على اليمين إذا كان المثبت للحق هو الشاهد مع اليمين، وأنه لو قدم اليمين وقعت ملغاة بأن وظيفة المدعي هو البينة واليمين متمم، ويمكن أن يقال بأن هذا أيضا في الحقيقة اتفاق آخر على أمر شرعي وهو كون اليمين متلبسة بوصف المتممية ولازمه التأخير، فاتفاقهم على هذا التعليل أيضا اتفاق على أمر شرعي، فإذا حصل من التتبع اجتماع السلف والخلف على أصل الحكم فلا يضر هذا التعليل ولا يقدح في إمكان دعوى الإجماع أن هذه العلة غير واضحة المأخذ ولا دليل على حجيتها لإمكان دعوى الإجماع على أصل العلة أيضا.
نعم على ما اختاره من الطريقة لا يتم دعوى حصول العلم بالإجماع في أمثال هذا الزمان بل يشكل ثبوته في زمان الحضور أيضا إلا بأن يؤول كلامهم بما ذكرنا سابقا من أن يراد من حصول العلم بأقوال العلماء حتى الإمام عليه السلام العلم الإجمالي لا العلم بهم تفصيلا حتى ينتفي فايدة الإجماع ويكفي في ذلك عدم معرفة آرائهم تفصيلا، وإن فرض معرفتهم بأشخاصهم مفصلا لو شاهدهم ولقيهم.
وبالجملة إنكار إمكان العلم بالإجماع في هذا الزمان مكابرة وإن كان انعقاده في الأزمنة السابقة، وكيف يمكن قبول إمكان حصول العلم بالبديهي بسبب التسامع والتضافر للعوام والخواص ولا يمكن دعوى العلم النظري للعلماء المتفحصين المدققين، وبالجملة فيمكن حصول العلم الضروري بكون الشيء مجمعا عليه والعلم النظري ودونهما الظن المتاخم للعلم إذ كثيرا ما يحصل الظن المتاخم للعلم بكون المسألة إجماعية بسبب القرائن والتتبع العام، ويختلف الحال في اليقين ومراتبه والظن ومراتبه بحسب المتتبعين& لعل الإجماع الظني أيضا يكون حجة كما سنشير إليه فيما بعد لو لم يكن هناك دليل أقوى منه، وإلى ما بينا يرجع كلام العلامة& في جواب ما نقله في المعالم عن بعض علماء أهل الخلاف حيث قال: إنا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزما قطعيا ونعلم اتفاق الأمة عليها علما وجدانيا حصل بالتسامع وتضافر الأخبار عليه، وحاصله أنه لا ينحصر العلم بحصول الإجماع في زمن الصحابة بل يحصل في أمثال زماننا أيضا بالتسامع والتضافر ان المسألة إجماعية من دون أن ينقل يدا بيد أصل الإجماع من الزمان السابق إلى الزمان اللاحق.
وغفل صاحب المعالم& عن مراده واعترض عليه بأن ذلك لا ينافي ما ذكره بعض العامة حيث أراد حصول العلم الابتدائي وما ذكره العلامة إدعاء حصول العلم بالنقل وإنما دعاه إلى هذا الاعتراض إفراد الضمير المجرور في كلمة عليه وقرينة المقام ومقابلة الجواب للسؤال شاهد على أن مرجع الضمير كل واحد من فتاوى العلماء المجمعين كما لا يخفى، ومما ذكرنا ظهر ما في قوله فكل إجماع يدعى في كلام الأصحاب إلخ لأنهم عدول ثقات وادعوا العلم بحصول الإجماع فلا يجوز تكذيبهم ويكون لنا [الصفحة 373] بمنزلة خبر صحيح أخبر به العدل عن إمامه عليه السلام بلا واسطة، مع أن ما ذكره موافقا للشهيد& من إرادة الشهرة لا يليق بمن هو دونهم بمراتب، فكيف وهو أمناء الأمة ونواب الأئمة عليهم الصلاة والسلام ومتكفلوا أيتامهم الورعون المتقون الحجج على الخلق بعد أئمتهم عليه السلام، وهذا منهم تدليس وخداع حيث يصطلحون في كتبهم الأصولية ان الإجماع هو الاجتماع الكاشف عن رأي إمامهم ويطلقونه في كتبهم الفقهية على محض الشهرة، حاشاهم عن ذلك.
نعم تطرق الغفلة والاشتباه عليهم لا (نمنعه)؟ واحتمال الخطأ لا يوجب الحكم ببطلانه في نفس الأمر أو عدم جواز الاعتماد على الظن الحاصل به لو لم يزاحمه ظن أقوى أو لم يظهر من الخارج قرائن تدل على غفلته في دعوى الإجماع واشتباهه في حدسه، وكذلك لا وجه لسائر التوجيهات التي ذكره الشهيد& في الذكرى أيضا من أنهم أرادوا بالإجماع عدم ظهور المخالف عندهم حين دعوى الإجماع إلا أن يرجع إلى الإجماع على مصطلح الشيخ&، وقد عرفت ضعفه وأنه خلاف مصطلح جمهورهم بل الشيخ أيضا يريد من الإجماع الذي يدعيه مطلق مصطلح المشهور كما سنشير إليه وأرادوا الإجماع على روايته بمعنى تدوينه في كتبهم منسوبا إلى الأئمة عليهم السلام أو بتأويل الخلاف على وجه يمكن مجامعته لدعوى الإجماع وإن بعد كجعل الحكم من باب التخيير، وكل ذلك بعيد لا حاجة إليه، فنقول تلك الإجماعات إجماعات نقلها العلماء ومن يقول بحجية الإجماع المنقول بخبر الواحد يقول بحجيتها إلا أن يعارضها أقوى منها من الأدلة وظهور الخلل في بعضها لا يوجب خروج أصل الإجماع المنقول عن الحجية أو كون جميع تلك الإجماعات باطلة في نفسها.
قد عرفت أن الإجماع هو اتفاق الكل أو اتفاق جماعة يكشف عن رأي الإمام عليه السلام، فأما لو أفتى جماعة من الأصحاب ولم يعلم لهم مخالف ولم يحصل القطع بقول الإمام عليه السلام فهو ليس بإجماع جزما، قال الشهيد& في الذكرى وهل هو حجة مع عدم متمسك ظاهر من حجة عقلية أو نقلية الظاهر ذلك لان عدالتهم تمنع عن الاقتحام على الإفتاء بغير علم ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل عدم الدليل خصوصا، وقد تطرق الدروس إلى كثير من الأحاديث لمعارضة الدول المتخالفة ومباينة الفرق المنافية وعدم تطرق الباقين إلى الرد له مع أن الظاهر وقوفهم عليه وأنهم لا يقرون ما يعلمون خلافه، فإن قلت لعل سكوتهم لعدم الظفر بمستند من الجانبين، قلت فيبقى قول أولئك سليما من المعارض ولا فرق بين كثرة القائل بذلك أو قلته مع عدم معارض، وقد كان الأصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرايع الشيخ أبي الحسن بن بابويه& تعالى عند إعواز النصوص لحسن ظنهم به وإن فتواه كروايته، وبالجملة تنزل فتاويهم بمنزلة روايتهم، هذا مع ندور هذا الفرض [الصفحة 374] إذ الغالب وجود الدليل دال على ذلك القول عند التأمل.
وقال في المعالم بعدما نقل كلامه إلى قوله عدم الدليل وهذا الكلام عندي ضعيف لان العدالة إنما يؤمن معها تعمد الإفتاء بغير ما يظن بالاجتهاد دليلا وليس الخطأ بمأمون على الظنون. أقول وسيجيء منه& في مباحث الأخبار استدلالا له بما يدل على كفاية الظن مطلقا إذا انسد باب العلم، ولا ريب أن ما ذكر من الظنون القوية فلو لم يعارضه ما هو أقوى منه فلا يبعد الاعتماد عليه سيما إذا كان القائل به في غاية الكثرة إلا أن الفرض بعيد كما ذكره في الذكرى.
قال في الذكرى: ألحق بعضهم المشهور بالمجمع عليه، فإن أراد في الإجماع فهو ممنوع وإن أراد في الحجية فهو قريب لمثل ما قلناه، يعني قوله لان عدالتهم تمنع من الاقتحام على الإفتاء بغير علم إلى آخر ما ذكره، ولقوة الظن في جانب الشهرة سواء كان اشتهارا في الرواية بأن يكثر تدوينها أو الفتوى.
أقول وقوله لقوة الظن يحتمل أن يكون المراد به بيان كون الظن الحاصل من جانب المشهور أقوى من الظن الحاصل من مخالفهم ولما كان المفروض في المسألة السابقة عدم العلم بالمخالف فلم يتعرض لذلك، وما ذكره& قوي ويؤيده قوله عليه السلام “خذ بما أشتهر بين أصحابك واترك الشاذ النادر فإن المجمع عليه لا ريب فيه” فإن ملاحظة الحكم والتعليل في الرواية يقتضي إرادة الشهرة من المجمع عليه أو الأعم منه والعلة المنصوصة حجة والتخصيص بالرواية خروج عن القول بحجية العلة المنصوصة كما لا يخفى، وعلى القول بكون الأصل العمل بالظن بعد انسداد باب العلم إلا ما أخرجه الدليل يتقوى حجية الشهرة، وإذا كان معها دليل ضعيف فأولى بالقبول سيما إذا كان الدليل الذي في طرف المخالف أقوى، بل كلما كان الأدلة والأخبار في جانب المخالف أكثر وأصح يتقوى جانب الشهرة ويضعف الطرق الأخر، ثم ان صاحب المعالم& اعترض على الشهيد& بمثل ما سبق وبأن الشهرة التي تحصل معها قوة الظن هي الحاصلة قبل زمن الشيخ& لا الواقعة بعده، قال: وأكثر ما يوجد مشتهرا في كلام الأصحاب حدث بعد زمن الشيخ كما نبه عليه، والذي في كتاب الرعاية الذي ألفه في دراية الحديث مبينا لوجهه وهو أن أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد زمن الشيخ كانوا يتبعونه في الفتوى تقليدا له لكثرة اعتقادهم فيه وحسن ظنهم به، فلما جاء المتأخرون وجدوا أحكاما مشهورة قد عمل بها الشيخ ومتابعوه فحسبوها شهرة بين العلماء وما دروا أن مرجعها إلى الشيخ&، وإن الشهرة إنما حصلت بمتابعته. ثم نقل من والده& تأييدا لما ذكره من كلام بعض أصحابنا، وأنت خبير بأن هذا الكلام في غاية البعد، فإن توجيه كلام والده لا يمكن بمثل ما نقلناه عن الشهيد& فيما لو يعرف خلاف للجماعة ولم يظهر مستندهم في الحكم فإن ذلك في المقام الذي لم يظهر مستند الحكم، ولا بأس حينئذ بمتابعتهم لحصول الظن [الصفحة 377] بل قولهم كان عن دليل شرعي.
وأما القول بأن كل مشهور بعد زمان الشيخ هو من هذا القبيل فلا ريب أنه اعتساف وإن أبقينا كلامه على ظاهره من تجويز تقليد الجماعة للشيخ مع تصريحهم بحرمة التقليد على المجتهد فهو جرئة عظيمة، ولا ريب أن ذلك في معنى تفسيقهم مع أنا نرى مخالفتهم له بل أكثيرا من مخالفة القدماء بعضهم لبعض واعتراضهم عليه في غاية الكثرة، على أنا نقول أن كتب الشيخ كثيرة وفتاويه في كتبه متخالفة بل له في كتاب واحد فتاوى متخالفة، فهذه الشهرة حصلت في أي موضع وتبعية أي فتوى من فتاويه وتقليد أي كتاب من كتابه، إذ قلما يوجد قول بين الأصحاب إلا وللشيخ موافقة، فيه فربما وافق الشهرة فتواه في النهاية وخالفت فتواه في المبسوط، وربما كان بالعكس وربما كانت موافقة للخلاف وهكذا.
وبالجملة هذا الكلام من الغرابة بحيث لا يحتاج إلى البيان فإن كان اعتمادهم على كتاب النهاية فسائر كتبه متأخرة عنه فهي أولى بالإذعان مع أن المشهور ربما كان موافقا للخلاف والمبسوط وإن كان بالعكس فربما كانت موافقة للنهاية وهكذا.
نعم يمكن ترجيح الشهرة (الحاصلة بين القدماء من جهة قربهم بزمان المعصوم عليه السلام وإن كان لترجيح الشهرة صح) بين المتأخرين أيضا وجه، لكونهم أدق نظرا وأكثر فأكثر تأملا، فرب حال فقه إلى من هو أفقه منه، فعلى المجتهد التحري والتأمل وملاحظة رجحان الظن بحسب المقامات، وقد وجدنا المقامات مختلفة في غاية الاختلاف وترجح عندنا شهرة القدماء تارة وشهرة المتأخرين أخرى وتارة وجدنا مشهورا لا أصل له وأخرى وجدناها مستقلة في الحكم ومحلا للاعتماد، ثم ان هيهنا كلاما وهو أن المشهور عدم حجية الشهرة فالقول بحجية الشهرة مستلزم للقول بعدم حجيتها وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل، ويمكن دفعه بأن الذي يقوله القائل هو حجية الشهرة في مسائل الفروع، والذي يقوله القائل هو حجية الشهرة في مسائل الفروع والذي يلزم عدم حجيته هو الشهرة ولا منافاة ووجه الفرق ابتناء المسألة الأصولية على دليل عقلي يمكن القدح فيه وهو عدم الائتمان على الخطأ في الظنون وهو لا يقاوم ما دل على حجية الشهرة وهو ما دل على حجية الظن بعد انسداد باب العلم إلا ما أخرجه الدليل كما سيجيء والعلة المنصوصة وغيرهما، فما يحصل من الظن بصدق الجماعة في الحكم الفرعي أقوى من الظن الحاصل من قول الجماعة بعدم جواز العمل بالمشهور.
قد يطلقون الإجماع على غير مصطلح الأصولي كإجماع أهل العربية والأصوليين واللغوين ومثل قولهم أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه وأجمع الشيعة على روايات فلان، وهذا ليس كاشفا عن قول الحجة ولكنه مما يعتمد عليه [الصفحة 378] في مقام الترجيجات ومراتب الظنون.
سواء كان مركبا عن قولين أو أكثر فلا يجوز الزايد القول على ما أجمعوا عليه وذلك قد يحصل بملاحظة توارد حكمين أو أحكام متعددة من الاحكام الشرعية على موضوع واحد بحسب أقوال الأمة ثم حكم آخر من آخر، وقد يحصل بملاحظة توارد حكمين من فريقين منها على موضوع كلي ثم حكم موافق لأحدهما في بعض أفراد ذلك الموضوع وحكم آخر موافق لآخر في البعض الآخر من تلك الأفراد من فريق آخر.
مثال الأول أن القول من الشيعة منحصر في استحباب الجهر بالقراءة في ظهر الجمعة مثلا والقول بحرمته، فالقول بوجوبه خرق للإجماع المركب، ومثل أن المشتري إذا وطئ الجارية الباكرة ثم وجد بها عيبا فقيل لا يجوز الرد وقيل يجوز الرد مع الارش وهو تفاوت ما بين الثيبوبة والبكارة، فالقول بردها مجانا خرق للإجماع المركب.
ومثال الثاني أن الشيعة مختلفة في وجوب الغسل بوطئ الدبر فمن قال بوجوبه في المرأة قال به في الغلام ومن لم يقل به لم يقل به في شيء منهما، فالقول بوجوبه في بعض أفراد الدبر وهو دبر المرأة دون الرجل خرق للإجماع المركب، وكذلك مسألة الفسخ بالعيوب فإن الأمة مختلفة فيه فقيل يفسخ بها كلها وقيل لا يفسخ بها كلها فالقول بالفسخ في بعض العيوب دون بعض خرق للإجماع المركب، وقد يسمى هذا قولا بالفصل ويقال لا يجوز القول بالفصل ويتمسكون بعدم القول بالفصل في تعميم الحكم في كل واحد من القولين بالنسبة إلى أفراد (لغو بل و)؟ قد يقولون إذ لم يفصل الأمة بين مسئلتين في حكم فلا يجوز القول بالفصل بينهما وذلك إذا لم يكن هناك كلي جامع لموضوع المسئلتين مثل الدبر والعيب.
ومن أمثلته أن بعضهم قال بأن المسلم لا يقتل بالذمي ولا يصح بيع الغائب وبعضهم يقتل المسلم بالذمي ويصح بيع الغايب فالقول بالقتل وعدم الصحة قول بالفصل بين المسئلتين، فقد يجتمع خرق الإجماع المركب مع القول بالفصل فقد يتقارنان من الجانبين، فمادة الاجتماع هو مسألة وطئ الدبر والفسخ بالعيوب وأمثالهما ومادة الافتراق من جانب خرق الإجماع المركب هو مسألة الجهر في ظهر الجمعة ورد الجارية الموطوئة وأمثالهما.
وأما من جانب القول بالفصل فأمثلته كثيرة يتضح في ضمن ما يتلى عليك فاستمع لتحقيق هذا المقام على ما يستفاد من كلماتهم وهو أنه إذا لم يفصل الأمة بين مسألتين أو أكثر فإن نصوا على عدم الفصل بينهما بأن يعلم من حالهم الاتفاق على ذلك وإن لم نجد التصريح به من كلامهم فلا يجوز الفصل سواء حكموا بعدمه في كل الاحكام أو بعض الاحكام، وله صور ثلاث:
الأولى: أن يحكم الأمة بحكم واحد فيهما مثل أنهم يستدلون لوجوب الاجتناب [الصفحة 379] عن البول بقوله عليه السلام اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه فالحكم من الأمة للبول واحد وهو النجاسة، وهم متفقون على عدم الفصل بين وجوب غسل الثوب عنه والبدن وتنزيه المأكول والمشروب والمساجد والمصاحب وغير ذلك، وكذلك سائر أحكام النجاسات فاتفقوا على عدم الفصل بين أحكام المذكورات بالنسبة إلى ملاقاة البول مع كون الحكم واحدا أيضا، فهذا في الحقيقة إجماعان بسيطان وليس لنا هنا إجماع مركب. وموارد هذه الصورة في الاحكام الشرعية فوق حد الإحصاء.
الثانية: أن يحكم بعض الأمة في المسألتين بحكم وبعض آخر بحكم آخر مثل أن بعضهم يقول بنجاسة الماء القليل الذي في الإناء بولوغ الكلب وكذلك بنجاسة القليل الذي دخل فيه الدجاجة التي وطأت العذرة وكذلك غيرهما من أفراد الماء القليل وأقسام النجاسة والآخر يقول بعدم تنجسه بشيء منها في شيء من أفرادها، وهذا أيضا ممن اجتمع فيه الإجماع المركب مع الاتفاق على عدم الفصل، فهناك إجماع بسيط ومركب، وذلك أيضا في الاحكام الشرعية في غاية الكثرة.
الثالثة: أن لا يعلم حكم منهم فيهما بخصوصه وإن اتفقوا على الحكم بعدم الفرق بينهما وذلك في الاحكام الاجتهادية التي لم يتعين فيها حكم بحيث ينعقد عليه إجماع بسيط أو مركب سواء كان في أول الاطلاع على المسألة وابتداء البحث في خصوص حكمها أو بعد الاطلاع والفحص وقبل استقرار الأمر على حكم أو حكمين، مثل إنا إذا لم نعلم حكم تذكية المسوخ فإذا ثبت جواز تذكية الذئب من جملتها من (أجل)؟ ما دل على جواز تذكية السباع فنحكم بجواز التذكية في الباقي ان ثبت الاتفاق على عدم القول بالفصل، وهكذا في الحشرات بعد إثبات حكم المسوخ بما ذكرنا نقول بجواز التذكية في الفارة لكونها منها وقد أثبتنا جوازها فيها وهكذا وأمثال ذلك أيضا كثيرة وإن لم ينصوا على عدم الفصل ولم يعلم اتفاقهم على ذلك، ولكن لم يكن فيهم من فرق بينهما أيضا فإن علم إتحاد طريق الحكم فيهما فهو في معنى اتفاقهم على عدم الفرق، مثاله من ورث العمة ورث الخالة ومن منع إحديهما منع الأخرى لاتحادهما في الطريقة وهي قوله تعالى {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} ومثله، زوج وأبوان وإمرئة وأبوان فمن قال للام ثلث أصل التركة كابن عباس قال به في الموضعين ومن قال لها ثلث الباقي بعد فرضهما قال في الموضعين إلا ابن سيرين فقال في الزوج بمثل قول ابن عباس دون الزوجة وعكس آخر، وإن لم يعلم إتحاد الطريقة فقال العلامة& الحق جواز الفرق لمن بعدهم عملا بالأصل السالم عن معارضة مخالفة حكم مجمع عليه أو مثله ولان منع المخالفة يستلزم أن من قلد مجتهدا في حكم أن يوافقه في كل حكم ذهب إليه وهو ظاهر البطلان [الصفحة 380] وقال في المعالم والذي يأتي على مذهبنا عدم الجواز لان الإمام عليه السلام مع إحدى الطائفتين قطعا.
أقول وهذا لا يتم إلا مع العلم بعدم خروج قول الإمام عليه السلام عن القولين والمفروض عدم ثبوت الإجماع ويمكن التكلف في إرجاع كلامه إلى صورة الإجماع ولكنه بعيد فلنرجع إلى ما كنا فيه ونقول لا يجوز خرق الإجماع المركب يعني ما علم أن قول الإمام عليه السلام ليس بخارج عن أحد الأقوال فإن الخروج عن الكل واختيار غيره يوجب ترك قول الإمام عليه السلام يقينا، فهذا هو الوجه فيما اخترناه من المنع مطلقا، وأما العامة فأكثرهم قد وافقنا على ذلك وذهب الأقلون منهم إلى الجواز وفصل ابن الحاجب ومن تبعه بأن الثالث إن كان يرفع شيئا متفقا عليه كمسألة رد البكر مجانا فلا يجوز وإلا فيجوز كمسألة فسخ النكاح ببعض العيوب لانه وافق في كل مسألة مذهبا فلم يخالف إجماعا ويوضحه مثل قتل الذمي وبيع الغائب المتقدم فهما مسألتان خالف في إحديهما بعضا وفي الأخرى بعضا، وإنما الممنوع مخالفة الكل فيما اتفقوا عليه، واستدل المانعون منهم مطلقا بأنهم اتفقوا على عدم التفصيل في مسألة العيوب ومسألتي الأم فالمفصل خالف الإجماع ورد بمنع اتفاقهم على عدم التفصيل، فإن عدم القول بالفصل ليس قولا بعدم الفصل وإنما الممتنع مخالفة ما قالوا بنفيه لا ما لم يقولوا بثبوته.
ويوضحه مسألة قتل الذمي وبيع الغائب، واعترض بأن من قال بالإيجاب الكلي في مثل مسألة العيوب فيستلزم قوله بطلان السلب الجزئي الذي هو نقيضه قطعا، بل بطلان التفرقة، ومن قال بالسلب الكلي يستلزم قوله بطلان الإيجاب الجزئي الذي هو نقيضه قطعا بل بطلان التفرقة، والقول بالتفصيل مركب من الجزئيتين، فالمركب منهما باطل على القولين باعتبار أحد جزئيه قطعا ولا يخفى ما فيه فإن دلالة القول بالقضية الكلية، وإن سلمت من باب الالتزام البين بالمعنى الأعم كما في دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الترك كما مر، لكن بطلان أحد جزئي المركب إنما يستلزم بطلان المركب من حيث أنه مركب لا من حيث سائر الأجزاء أيضا، مع أنه لا تركيب هنا حقيقيا بل الجزئيتان كل منهما مسألة برأسها اتفق للقائل القول بهما مطلقا لا بشرط اجتماع كل منهما مع الآخر ولا بشرط التركيب فلا دلالة في أحد من القولين إلا على بطلان أحد من الجزئيتين فلم يثبت اجتماع الفريقين على بطلان كل واحد منهما.
وأما ما قيل من أن إتحاد الحكم في كل الأفراد لازم لقول لكل الأمة وإن لم يقولوا به صريحا والتفصيل ينافيه ففيه أن اللازم لقولهم إنما هو نفس إتحاد الحكم في كل الأفراد بلزوم تبعي لا القول بإتحاد الحكم في كل الأفراد وما يفيد في تحقق الإجماع هو الثاني لا الأول.
سلمنا لزوم الثاني أيضا لكن لا يلزم من القول بإتحاد الكلي في الحكم القول ببطلان القول بالحكم الموافق في البعض إذ ليس في القول [الصفحة 383] بإتحاد الكل في الحكم لزوم انضمام وكل منهما بالآخر لان الحكم إنما يتعلق بكل واحد من الأفراد لا بالأفراد بشرط تركيبها واجتماعها. سلمنا جميع ذلك لكن المسلم من العقاب على مخالفة الإجماع (والقدر الثابت الحجية من الإجماع) هو ما علم اتفاقهم على شيء بدلالاتهم المقصودة لا التبعيات وأدلتهم التي أقيمت على ذلك إنما تنصرف إلى ذلك.
واستدل المانعون أيضا بأن فيه تخظئة كل فريق في مسألة، وفيه تخطئة كل الأمة، والأدلة السمعية تنفيها. ورد بأن المنفي تخطئة كل الأمة فما اتفقوا عليه، وأما فيما لم يتفقوا عليه بان يخطى كل بعض في مسألة غير ما خطأ فيه الآخر فلا ينفي.
أقول: وقد مر منا ما يخدش في هذا الكلام وما يصلحه في خصوص الاستدلال بقوله صلى الله عليه وآله “لا تجتمع أمتي على الخطأ” يجعل اللام للجنس أو للعهد، ولكن الأظهر على مذهبهم في هذا المقام هو قول المانع كما بينا احتج المجوزون بأن اختلافهم دليل على أن المسألة اجتهادية يعمل فيها بما اقتضاه الاجتهاد وأدى إليه فيجوز إحداث الثالث، وأجيب بأن الاختلاف إنما يدل على جواز الاجتهاد إذ لم يكن هناك إجماع مانع، فإذا اختلفوا على قولين ولم يستقر خلافهم كانت المسألة اجتهادية، وهنا استقر خلافهم على قولين فلا يجوز الثالث، واحتجوا أيضا بمسألة الأم ومخالفة ابن سيرين وتابعي آخر وعدم إنكارهم عليهما. وأجيب بأنه كان قسما من الجائز مما لم يكن فيه مخالفة الإجماع كالفسخ بالعيوب. ويشكل هذا الجواب بأن الظاهر أنه مما اتحد فيه طريق المسئلتين إلا أن يمنع عن ذلك، وأما عندنا فلا إشكال لعدم الثبوت، ثم ان الكلام في تحقق الإجماع المركب وحجيته وأقسامه من القطعي والظني وغير ذلك نظير ما مر في الإجماع البسيط فلا حاجة إلى الإعادة.
ولم يدل على أحدهما دليل قطعي أو ظني يرجحه على الآخر، فمقتضى طريقة العامة الرجوع إلى مقتضى الأصل إن لم يكن موجبا لخرق المتفق عليه وإلا فالتخيير. وأما على مذهب الامامية ففيه قولان نقلهما الشيخ& في العدة، أحدهما: إسقاط القولين والتمسك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة على اختلاف مذاهبهم، وثانيهما: التخيير، وأنه يجري مجرى خبرين تعارضا ولم يكن مرجح لأحدهما، ورد الشيخ القول الأول بأنه يوجب طرح قول الإمام عليه السلام، واختار الثاني، واعترضه المحقق&، له بأن في التخيير أيضا إبطالا لقول الإمام عليه السلام، لأن كلا من الطائفتين يوجب العمل بقوله ويمنع من العمل بالقول الأخرى، فلو خيرنا لاستبحنا ما حظره المعصوم عليه السلام.
ولا يخفى ضعف هذا الاعتراض، فإن التخيير طريق في العمل للجاهل بالحكم لا قول في المسألة يوجب طرح كل واحد من القولين كالتخيير في العمل بالخبرين المتعارضين، وحكم كل واحد منهما ببطلان القول الآخر، وعدم صحته في نفس الأمر لا [الصفحة 384] ينافي تجويزه العمل به للجاهل كما أنه لا يجوز للمجتهد منع مقلد مجتهد آخر عن تقليده وإن علم خطأه في المسألة، بل له أن يجوز تقليده إذا كان أهلا للاجتهاد ويرخصه فيه، فإن الترخيص في التقليد غير إمضاء نفس الحكم وإظهار الرضا به بالخصوص، ثم ان فرض اتفاق الفريقين بعد الاختلاف على أحد القولين، فقال الشيخ بجواز ذلك على القول بالرجوع بمقتضى العقل وإسقاط القولين، لانعقاد الإجماع حينئذ على ما أجمعوا عليه، وأما على مختاره من التخيير فمنعه لانه يوجب بطلان القول الآخر، والمفروض كان التخيير بينهما، وهو ينافي البطلان، وهو ضعيف لان التخيير إنما كان في العمل لجهالة قول الإمام عليه السلام بخصوصه وبعد انعقاد الإجماع يتعين قول الإمام عليه السلام، ويظهر بطلان القول الآخر، ولا منافاة بين عدم ظهور البطلان وجواز العمل به في وقت وظهور البطلان وعدم جواز العمل به في وقت آخر، ولا يجوز تعاكس الفريقين عند أصحابنا للزوم رجوع المعصوم عليه السلام عن قوله، أللهم إلا إذا كان القولان منه وكان أحدهما من باب التقية، وهو خلاف الأصل لا يصار إليه إلا مع الثبوت. وربما يستدل على عدم جواز التعاكس بقوله صلى الله عليه وآله “لا تجتمع أمتي على الخطأ” بناء على كون اللام للجنس للزوم الاجتماع على جنس الخطأ حينئذ فإن من عدل عن الخطاء فيلزمه الخطأ أولا ويلزم الفرقة الأخرى بعدولها عن الصواب إلى ذلك الخطأ فصدر عن كل منهما جنس الخطأ وإن كان في وقتين. وربما يستدل بذلك على هذا على لزوم عدم خلو الزمان عن المعصوم عليه السلام لان إتيان كل واحد من الأمة خطأ وإن كان خطأ كل واحد منهم غير خطأ الآخر يوجب اجتماعهم على جنس الخطأ فلا بد من معصوم حتى يصدق عدم الاجتماع على الخطأ ويؤيده قوله عليه السلام “لا يزال طائفة من أمتي على الحق” بناء على كون اسم كلمة لا يزال كلمة طائفة لا ضمير الشأن.
لانه خبر، وخبر الواحد حجة، أما الأول: فلأن قول العدل أجمع العلماء على كذا يدل بالالتزام على نقل قول المعصوم عليه السلام أو فعله أو تقريره الكاشفات عن اعتقاده على طريقة المشهور أو على رأيه واعتقاده على الطريقة التي اخترنا، فكأنه أخبر عن اعتقاد المعصوم عليه السلام إخبارا ناشئا عن علم فهو بناء وخبر.
وأما الثاني فلما يجيء في مبحث الأخبار والفرق بين الطريقين أن الأول يفيد كونه حديثا مصطلحا والثاني أنه خبر لغة وعرفا. ومما ذكرنا ظهر وجه الاستدلال بآية النبأ.
وأما آية النفر فهي أيضا دالة عليه كالخبر لان تحصيل المعرفة به تفقه والأخبار به إنذار، وأما الإجماع الذي نقلوه في حجية خبر الواحد فلما كان بالنسبة إلينا منقولا فالتمسك به دوري ومن ظهر له القطع بذلك الإجماع بحيث يشمل هذا النبأ الذي هو مدلول التزامي للإجماع المنقول الذي نحن نتكلم فيه فهو وإلا فلا وجه للاستدلال به.
وأما انسداد باب [الصفحة 387] العلم وانحصار الطريق في الظن فدلالته عليه واضحة لان مقتضاه حجية الظن من حيث أنه ظن لا ظن خاص، واستدلوا أيضا على حجيته بالأولوية بالنسبة إلى خبر الواحد فإن الظني المنقول بخبر الواحد إذا كان حجة فالقطعي المنقول به أولى، وسيجيء الكلام في توضيح هذا الاستدلال، وبقوله عليه السلام “نحن نحكم بالظاهر”.
وأجيب عن الأول بأن الاطلاع على الإجماع أمر بعيد، فالظن بوقوعه أضعف من الظن بوقوع الخبر، وربما يمنع من جهة ذلك التساوي أيضا، وعن الأول والثاني بأنهما لا يفيدان إلا الظن وهو غير معتبر في الأصول.
أقول واحتمال الخطأ في مدعي الإجماع معارض بكثرة الحوادث اللاحقة بالأخبار من حيث المتن والسند والدلالة والتعارض والاختلاف والاضطراب والسهو والغفلة والنقل بالمعنى مع الاشتباه في فهم المقصود، والإجماع المنقول خال عن أكثر ما ذكر، فيبقى مزية العلم مرجحا. ودعوى لزوم القطع في الأصول خالية عن شاهد ودليل وقد مر الإشارة إليه وسيجيء، والحق أن المقامات تختلف في الترجيح، فرب خبر يقدم على إجماع منقول بل وإجماعين منقولين، ورب إجماع منقول يقدم على خبر صحيح بل وأخبار صحيحة، فلا بد من ملاحظة الخصوصيات والمرجحات الخارجية.
واحتج المنكر للحجية بان مقتضى الآيات والأخبار حرمة العمل بالظن في الفتوى والعمل خرج خبر الواحد بالإجماع والآيتين وبقي الإجماع المنقول تحت الأصل، يعني إنا لا نعلم أن الإجماع انعقد على حجية هذا الخبر الذي هو المدلول الإلتزامي لنقل الإجماع، أو لا نعلم الإجماع عليه لانه ليس بحديث.
أقول أما الإتيان فقد ذكرنا أنهما تشملانه أيضا، وأما الإجماع على ما ادعاه الشيخ وغيره كما سيجيء فهو لا يدل على حجية الخبر مطلقا أيضا بل غاية ما ثبت هو أخبار الآحاد مع وصف تداولها بين أصحاب الأئمة، ولا ريب أن حال زمانهم وزماننا متفاوت غاية التفاوت بسبب قلة الوسايط وإمكان حصول القرائن على صدوره من الإمام عليه السلام وقلة الاختلال من جهة النقل والتقطيع وسائر التصرفات، وكذلك بسبب تغائر الاصطلاحات وتفاوت القرائن في فهم اللفظ، وبسبب علاج التعارض المتفاوت حاله بالنسبة إلى الزمانين، فالاعتماد على الإجماع المدعى الذي لم يعلم دعواه ولا وقوعه إلا على العمل بأخبار الآحاد في زمان الأئمة عليهم السلام لا يثبت الإجماع على جواز العمل به في زماننا أيضا فما تقول في غالب أخبار الآحاد في زماننا نقوله في الإجماع المنقول، فإن أردت إثبات جواز العمل على الظنون التي يحتاج إليها في العمل بأخبار الآحاد في زماننا من جهة المتن والسند والدلالة وغيرها من الوجوه كلها بالدليل من إجماع أو غيره فلا ريب أنه تمحل فاسد بل العمل بظواهر الآيات أيضا كذلك، إذ لا ريب أن القدر الثابت من كون الآية [الصفحة 388] (حجة)؟ هو متفاهم المشافهين وتحصيل متفاهمهم يحتاج إلى استعمال ظنون شتى لا يمكن دعوى الإجماع على حجيته كل واحد منها.
وبالجملة من تتبع الفقه وبلغ إلى حقيقته يعلم أن دعوى أنه لا يجوز العمل فيه إلا بظن ثبت حجيته من إجماع أو دليل آخر قاطع مجازفة، فإذا لم يبق فرق بين الظنون فلا ريب أن الإجماع المنقول مما يفيد الظن، بل ربما يفيد لنا ظنا أقوى من ظاهر الخبر بل الآية أيضا فالآيات والأخبار الدالة على عدم جواز العمل بالظن مخصوصة بصورة إمكان تحصيل العلم أو بأصول الدين فقط كما هو مورد أكثر الآيات.
نعم مثل القياس الذي أجمع الشيعة على بطلانه وصار حرمته من باب ضروريات المذهب فهو إنما خرج بالدليل فاقتضى الدليل جواز العمل بالظن إلا ما أخرجه الدليل، ولذلك ذهبنا سابقا إلى تقوية حجية الشهرة والإجماعات الظنية.
ومن ذلك قاعدة الغلبة وإلحاق الظن بالأعم الأغلب وإن كان ذلك مما يستفاد بالأخبار أيضا كما أشرنا في أوائل الكتاب، ثم إن الإشكال في الإجماعات المنقولة بسبب وجود المخالف وتعارضها حتى من مدعيها كما مر الإشارة إليه قد ظهر لك الجواب عنه.
ونقول هنا أيضا أن وجود المخالف غير مضر في تحقق الإجماع كما عرفت، ووقوع الخطأ من المدعي أيضا في استنباطه أيضا لا ننكره، وكم من هذا القبيل في أخبار الآحاد مع أنا نقول بحجيتها فكذلك التعارض والاختلاف، فكما يمكن حصول الاختلاف في الأخبار من جهة الغفلة والنسيان وسوء الفهم والنقل بالمعنى وغير ذلك وهو لا يقدح في حجيتة ماهية خبر الواحد، فكذلك ما نحن فيه، فإن مبنى الاطلاع على الإجماع غالبا على الحدس وهو مما يجري فيه الخطأ والخطأ في القطعيات في غاية الكثرة، ألا ترى أن بعض أرباب المعقول يدعي أن الجسم بعد الانفصال هو هو بالبديهة والآخر يدعي أنه غيره بالبديهة، فتعارض الإجماعات ومخالفتها مبتن على ذلك. ألا ترى أن السيد& ادعى الإجماع على عدم حجية خبر الواحد، وادعى الشيخ& الإجماع على خلافه، ووجهه أن السيد& كان ناظرا إلى طريقة المتكلمين والناظرين إلى أصول العقائد وانضم إلى ذلك في (نظره)؟ قرائن أخرى، وغفل عن طريقة أهل الحديث وحكم بكون عدم الجواز العمل به مطلقا إجماعيا، والشيخ& إلى طريقة الفقهاء وأهل الحديث وغفل عن طريقة المتكلمين وحكم بكون جواز العمل به إجماعيا، وكما أن سبب حصول الاختلاف من جانب الشارع ممكن في الأخبار كما صرحوا عليهم السلام به، فكذلك فيما نحن فيه، فربما انعقد إجماع على مستند صدر قطعا من الإمام عليه السلام وانعقد إجماع آخر على مستند آخر بعينه صدر عنه عليه السلام قطعا هذا ليس بمستبعد ولا مستنكر، ووجه صدور المتخالفة من الاحكام عنهم عليهم السلام ظاهر من جهة التقية وغيرها فلا مانع من رجوع المدعي [الصفحة 389] عن دعواه أيضا من جهة هذه الأمور.
نعم هيهنا كلام آخر وهو إنا بينا أن الطريقة التي اختارها الشيخ& وغيره من الأصحاب الذين يعتمدون في إثبات موافقة قول الإمام عليه السلام للمجمعين بأنه لو كان اجتماعهم على الباطل لوجب على الإمام عليه السلام ردعهم عن الضلالة بنفسه أو بغيره ضعيفة ولا يمكن الاعتماد عليها، فكيف يجوز الاعتماد على إجماعاتهم المنقولة مع أنكم لا تفرقون بينها، فإذا كان الإجماع المنقول من مثلهم أو محتملا لكون مدعيه قائلا بكونه إجماعا من هذه الجهة فكيف يمكن الاعتماد عليه، وهو نظير الإشكال الذي ذكره المنكرون لعلم الرجال النافون للاحتياج إليه بأن كيف يعرف عدالة الراوي مع وجود الاختلاف في معنى العدالة وعدم المعرفة بحال المذكي واعتقاده في العدالة، وسنجيب عنه في محله إنشاء الله تعالى.
وأقول في دفع الإشكال هنا أن هذا الإشكال لا يرد على ما ادعاه عبر الشيخ ممن لم يقل بهذه المقالة وهم الأكثرون بل لم نقف على مصرح بهذه الطريقة من بعد الشيخ وقد رد هذه الطريقة وزيفها سيدنا المرتضى& وأما الشيخ& ومن يوافقه في هذه المقالة فهم لا يقولون بانحصار العلم بثبوت الإجماع في هذه الطريقة المدخولة بل يصرحون بأن الاتفاق كاشف عن قول الإمام عليه السلام وبأن العلم يحصل من جهة الاتفاق كغيرهم من الأصحاب، والإجماع الواقعي عنده أيضا هو ما ذكره القوم، فلاحظ كتاب العدة مصرحا فيها بذلك في مواضع.
نعم ذكر ذلك أيضا في طريق معرفة قول الإمام عليه السلام حيث لم يوجد للإمامية مخالف في الحكم ولم يعلم اتفاقهم ولم يعرف بموافقة إمامهم لهم أيضا فقال من عدم ظهور المخالفة يعلم أنه عليه السلام راض بما اتفقوا عليه وإلا لوجب عليه الظهور بنفسه أو بغيره وردعهم عن ذلك، وكذلك لو كان بينهم قولان لم يظهر لهم مخالف ولم يعلم موافقته عليه السلام لهم فقال ان هذا يدل على أن الإمام عليه السلام خيرهم بين القولين وإلا لظهر وأقامهم على الحق، فمتى ذكر الشيخ أن الأصحاب أجمعوا على كذا وهو أغلب ما يذكرونه في هذا المقام فهو دال على الإجماع المصطلح عند جمهورهم ولا غبار عليه، فإن اتفاق الكل واجتماعهم كاشف عن رأي رئيسهم بلا إشكال، مع أن الشيخ إذا اختلف اصطلاحه في الإجماع فالظاهر من حاله أنه إذا أراد حكاية الإجماع على غير الطريقة المستمرة بين العلماء أن يبين ذلك فإن نقلهم الإجماع في كتبهم لأجل أن يعتمد عليه من بعدهم فإخفاء ذلك مع تعدد اصطلاحه تدليس منه، فالظاهر منه حيث يطلق الإجماع إرادة المعنى المعهود كما ذكروا نظير ذلك في الجواب عن الشبهة في التعديل، فإن ظاهر حال المذكي أنه يذكر في كتابه ليكون معتمدا لكل من سيجيء بعده فإنه إذا قال فلان عدل لا بد أن يريد منه العدالة التي تكون كافية عند الكل مع أن الغالب الشايع في الإجماعات هو ما كان على طبق مصطلح المشهور، فالمطلق في كلامهم ينصرف إلى الأفراد الغالبة مع أن حصول مقام لم يعرف في [الصفحة 390] الامامية مخالف في الحكم، ولم يبق احتمال ظاهر لوجود المخالف قلما ينفك عن حصول العلم بموافقة الإمام عليه السلام من جهة اتفاقهم ولا يحتاج إلى إثبات الموافقة من جهة الدليل الذي ذكره الشيخ&.
ومع هذا كله فلا يخفى أن ما ذكره الشيخ أيضا لو لم يصر إجماعا فلا ريب أنه يفيد ظنا قويا قد يمكن الاعتماد عليه، فليجعل الإجماعات المنقولة على قسمين وذلك لا يوجب نفي حجية الإجماع المنقول رأسا.
وهيهنا إشكال آخر أيضا وهو أن بعضهم يعتمد على الإجماع الظني بمعنى أنه يدعي الإجماع بمظنة حصوله وآخرون لا يعتمدون إلا على القطعي فكيف يجوز الاعتماد على مطلق الإجماعات المنقولة مع عدم العلم بأنها من قبيل الأول أو الثاني، وفيه أيضا إنا لو سلمنا أنهم يعتبرون ذلك فلا يخفى أنهم يتكلمون على ما هو مصطلحهم ومصطلحهم في كتبهم الأصولية والفقهية هو القسم الثاني فيحمل إطلاقها عليه وكل ما كان من قبيل الأول فيصرحون بما يدل على ظنيته، مثل أنهم يقولون الظاهر أنه إجماعي أو لعله إجماعي وأمثال ذلك.
وأما قولهم أجمع العلماء على كذا أو اتفقوا أو أنه كذلك عند علمائنا ونحو ذلك، فلا ريب أنها صريحة في دعوى العلم، والتكلم بمثل هذه الألفاظ وإرادة الظن بالإجماع تدليس ينافي عدالتهم، حاشاهم عن ذلك مع أنه لا يبعد القول بحجية الإجماع المظنون كالإجماع المنقول نظير الشهرة بالنسبة إلى الإجماع على ما وجهه الشهيد& كما مر، ولكن لابد من البيان لتفاوت المذاهب في الاحتجاج وتفاوت المذكورات في القوة والضعف، ثم ان الإجماع المنقول مثل الخبر المنقول يجري فيه أقسامه وأحكامه من الرد والقبول والتعادل والترجيح فينقسم بالمنقول بخبر الواحد والمتواتر والصحيح والضعيف والمسند والمرسل وغيرها، وكذلك اعتبار المرجحات (الخارجة) من علو الإسناد وكثرة الواسطة الأفقهية والأعدلية وغير ذلك من المرجحات، والصحة والضعف يحصل بسبب عدالة الناقل وعدمها والإسناد والإرسال يحصل باتصال السند إلى الناقل وعدمه وحذف بعض السلسلة وعدمه مثل أن الشيخ& سمع عن شيخه المفيد& أن المسألة إجماعية، فقال هو أجمع الأصحاب من دون رواية عن شيخه، فهذا موقوف، أو روى ابن إدريس& عن المفيد& بواسطة الشيخ& بحذف الواسطة، وأما كونه بخبر الواحد أو متواترا فقد أورد المحقق البهائي& سؤالا فيه على القوم بأنهم مطبقون على اشتراط الحس في التواتر وأنه لا يثبت بالتواتر إلا ما كان محسوسا، والإجماع هو تطابق آراء رؤساء الدين على حكم، والذي ينقل بالتواتر هو قولهم وقولهم بشيء لا يستلزم إدعائهم به في نفس الأمر، وإن قال كل منهم أما مذعن بذلك لاحتمال التقية أو الكذب من بعضهم. نعم يفيد الظن بذلك لأصالة عدمهما وسيما الثاني لمصادمته للعدالة فظهر [الصفحة 391] بذلك ان تقسيم الأصوليين الإجماع إلى قطعي ثابت بالتواتر، وظني ثابت بغيره، بعيد عن السداد، وكذا قول بعض المتكلمين أن للقطع بحدوث العالم حاصل من الإجماع المتواتر على حدوثه.
أقول وفرض تواتر الإجماع وإن كان قلما ينفك عن الضروري وفرضه بدونه نادر سيما مع كثرة الوسائط، ولكن يمكن أن يقال في جواب الإشكال، أما أولا فبمنع انحصار التواتر في المحسوسات بل يمكن به إثبات غيره أيضا فيمكن حصول العلم بمسألة علمية بإجماع كثير من العقلاء الأزكياء سيما مع عدم قيام دليل على بطلان قولهم كما استدل بعضهم على إثبات الصانع ووحدته باتفاق الأنبياء والأوصياء عليهم السلام والعلماء قاطبة على ذلك، فإن العقل يستحيل اجتماع أمثال ذلك على الخطأ، فكذلك فيما نحن فيه إذا نقل جماعة كثيرة يؤمن تواطئهم على الخطأ أقوال المجمعين مع دعواهم بمعرفتهم من حالهم إذعانهم بما قالوا وأنهم صادقون في ذلك، فيمكن حصول العلم بصدقهم في نقل القول إصابتهم في إدراك مطابقة قولهم لرأيهم سيما مع ملاحظة تطابقهم في ذلك واعتراف كل منهم بأني مذعن بما قلت، فثبت مما ذكرنا أنه يمكن حصول القطع بالإجماع بنقل هذه الجماعة الكثيرة.
والحاصل أن ذلك نظير ما يعلم به اتفاق كل العلماء إجمالا في أصل انعقاد الإجماع فإنه كما يمكن حصول العلم باتفاق الكل بسبب العلم برأي أكثرهم وعامتهم وإن كان ذلك بسبب انضمام القرائن فيمكن حصول العلم بتحقق الإجماع بدعوى جماعة كثيرة تحقق الإجماع وإن كان بسبب انضمام بعض القرائن، فمراد القوم بالإجماع الثابت بالتواتر هو ذلك مع أنه يكفي ثبوت أقوالهم (فنفهم)؟ نحن تحقق الإجماع بسبب اجتماع أقوالهم، فالتواتر إنما هو في ملزوم الإجماع لا في نفسه كما سنذكره في المتواتر بالمعنى.
وقال بعض الأفاضل في مقام الجواب أنه يمكن تحقق التواتر على طريقة العامة الذين يقولون بحجية الإجماع من حيث أنه إجماع واتفاق بأن يقال أن الرؤساء إذا اتفقوا على قول مثل أن الماء الكثير لا ينجس بالملاقاة لا بد من أن يكون كذلك في الواقع وليس علينا أن نبحث عن مطابقته لآرائهم لأن قوله صلى الله عليه وآله “لا تجتمع أمتي على الخطأ” كما يدل على عدم اجتماعهم على الرأي الخطأ يدل على عدم اجتماعهم على القول الخطأ أيضا، فلو اجتمعت على هذا القول الكاذب لزم كذبه صلى الله عليه وآله وهو محال، فهذا القول المتفق عليه إن ثبت بالتواتر فقطعي وإلا فظني لظنية طريقه لا لظنية نفسه، فهو كالمتن القطعي الثابت بالسند الظني.
قال الحاجبي في مقام الاستدلال: دلالة الإجماع قطعية ودلالة الخبر ظنية، وإذا وجب العمل مع نقل الخبر الظني فوجوبه مع نقل القطعي أولى، وليس غرضه أن الإجماع المنقول بخبر الواحد يقيد القطع حتى يمنع هذا، وهذا مثل أن يقول أحد ان العمل بالظاهر المحكي عن المعصوم عليه السلام [الصفحة 392] مثلا إذا كان واجبا فالنص المحكي أولى انتهى.
أقول ولا يخفى ما فيه، فإنه لا معنى محصل للإجماع على القول الخطأ والاتفاق على القول الصواب إذا أريد منه محض اللفظ إلا اتفاقهم في كيفية قراءة اللفظ وإعرابه وإلا فالظاهر من الاجتماع على القول هو الاجتماع على مؤداه ومفهومه ومع ذلك، فأي فائدة له في المسائل الفقهية إلا أن يقال فائدته هو صيرورة المتن قطعيا وإن كان الدلالة ظنية كالخبر المتواتر، قوله إن ثبت بالتواتر قطعي يعني أن هذا اللفظ حينئذ للواقع ونفس الأمر على ما حقق المقام لا أنه قطعي الدلالة على مراد المجمعين وحينئذ فلا معنى لقوله، وإلا فظني لظنية طريقه لا لظنية نفسه، فإن مراده بذلك بقرينة المقابلة لا بد أن يكون أنه بدون التواتر لا يعلم كون اللفظ موافقا للواقع ونفس الأمر لكن ذلك بسبب ظنية طريقه لا بسبب ظنية نفسه، لان نفسه قطعي موافق لنفس الأمر، وهو كما ترى وإن أراد من نفي ظنية نفسه كونه قطعي الدلالة ففيه أن المفروض قطع النظر عن الدلالة وعن مراد القائل، والمفروض عدم القطع بمرادهم، أيضا فهل هذا إلا تناقض، فإن قلت لعل مراده نظير أن ينقل أحد آية ويذكر أنه من القرآن لمن يعلم قطعا بأن القرآن قعطي موافق لنفس الأمر ومحدود معين ولكن لا يعلم أن هذه الآية هل هي من القرآن أم لا، فهذا نقل قطعي بالظني، قلت ليس ما نحن فيه من هذا القبيل بل من قبيل ما روي في الشواذ زيادة بعض الكلمات أو الآيات، فالكلام في ذلك أنا لا نعلم أن هذه الآية قرآن أم لا، لا أنها من القرآن أم لا لأن الإجماعيات ليست متعينة في الخارج بشخصها لا يتجاوزها حتى يشك في أن ذلك هل هو (بل الشك في ان هذا إجماعي أم لا) منها أم لا، فتأمل حتى تفهم الفرق، ولا يختلط عليك الأمر قوله، فهو كالمتن القطعي الثابت لم أفهم معنى هذا التشبيه فإن أراد من المتن القطعي الوقوع فلا معنى له مع كون السند ظنيا وإن أراد قطعي الدلالة فالمفروض عدمه قوله.
قال الحاجبي إلخ لا يخفى أن الخبر الذي يسمع الراوي من المعصوم عليه السلام بلا واسطة ليس بخبر واحد ولا ظني بل هو قطعي الصدور، نعم هذا الخبر لمن يرويه عنه عليه السلام إذا لم يحتف بقرينة توجب القطع ظني ودلالته أيضا ظنية، ومراد ابن الحاجب وغيره في هذا المقام جواز نقل هذا الخبر عن الراوي بطريق الآحاد، فإذا جاز نقل ما هو ظني أنه من الشارع دلالة وسندا فنقل ما هو قطعي أولى بالجواز، ومراده من نقل القطعي هو نقل مدعي الإجماع، فإن من يدعي الإجماع فهو يحكي لغيره ما هو يقيني له انه من الشارع بخلاف من يروي عن الراوي عن الشارع فإنه يحكي ما هو ظني له انه من الشارع فإن اقتصرت على ظنية الدلالة فيجوز ذلك المقايسة بالنسبة إلى أول صدور الخبر أيضا قوله وليس غرضه إلخ. لا يتوهم هذا المعنى أحد من كلامه قوله فالنص المحكي أولى قد عرفت [الصفحة 393] أن هذا التشبيه لا يصح على ما بني عليه المقام إن كان موافقا لغرض الحاجبي كيف وليس موافقا لغرضه كما عرفت.
([1]) النسخة المعتمدة: نشر المكتبة العلمية لإسلامية - قم- 1378.