موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع
إجماعات فقهاء الإمامية
المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع
- مفاتيح الأصول - السيد محمد مجاهد الطباطبائي ص 494:([1])
اعلم أن الإجماع لغة يطلق على معنيين أحدهما العزم ومنه قوله أجمعوا أمركم أي اعزموا، وثانيهما الاتفاق وهو شائع، وقد اختلف القوم في تعريفه بحسب الاصطلاح، فعرفه الغزالي بأنه اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وآله على أمر من الأمور الدّينية، وعرفه الرازي بأنه اتفاق أهل الحل والعقد من أمته صلى الله عليه وآله على أمر من الأمور، وعرّفه الحاجبي بأنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر على أمر، وعرفه المحقق في المعارج بأنه اتفاق من يعتبر قوله في الفتاوى الشرعية على أمر من الأمور الدّينية قولا كان أو فعلا.
ويستفاد من قوله اتفاق من يعتبر قوله إلى آخره أن اتفاق العوام وإن علم بدخول المعصوم عليه السلام فيهم ليس بإجماع، ويظهر من بعض أنه إجماع عند الإمامية، ولعل عبارة المحقق محمولة على الغالب وهو اختصاص تحقق الاتفاق بمن يعتبر قوله، ثم إن الظاهر أن المراد ممن يعتبر قوله الموجودون دون المعدومين الّذين يتجددون، وإلا يلزم أن لا يتحقق إجماع إلى آخر الدنيا، ولعلّ الوجه في العدول عن لفظ المجتهدين إلى من يعتبر قوله في الفتاوى الشرعية التنبيه على أن المعتبر في الإجماع عند الإمامية دخول المعصوم عليه السلام في جملة المجمعين فتأمل.
ويستفاد من قوله في الفتاوى الشرعية أن اتفاق من يعتبر قوله في المسائل غير الشرعية كالنّحوية والصّرفية لا يعد إجماعا بحسب الاصطلاح، وذلك لأنهم كالعوام في المسائل الدّينية، ويستفاد من القول المزبور أيضا أن المعتبر في الإجماع اتفاق من يعتبر قوله في جميع الفتاوى الشرعية، فيخرج إجماع المتجزين على حكم اجتهدوا فيه، ويستفاد من قوله على أمر من الأمور الدّينية تحقق الإجماع في أصول الدين وعدم تحققه في غيره وإن تحقق اتفاق من يعتبر قوله في الفتاوى الشّرعية.
قال في المعارج: عندنا أن زمان التكليف لا يخلو من إمام معصوم عليه السلام حافظ للشرع يجب الرّجوع فيه إليه، فإذا تقرّر هذا فمتى اجتمعت الأمة على قول كان ذلك الإجماع حجة ولو فرض خلو الزّمان عن ذلك الإمام لم يكن حجة، فمع وجود الإمام الإجماع حجة للأمن على قوله من الخطأ والقطع على دخوله في جملة المجمعين، فعلى هذا الإجماع كاشف عن قول الإمام عليه السلام لأن الإجماع حجة في نفسه من حيث هو إجماع انتهى.
قلت وقد صرّح بما ذكره السّيّد المرتضى رحمه الله والشيخ وابن إدريس وابن زهرة والقطب الرّاوندي والعلاّمة وابنه والسيّد عميد الدّين والشّهيدان وغيرهم.
وبالجملة من قال من أصحابنا بأنّ الإجماع حجّة فإنما قال باعتبار كونه كاشفا عن قول المعصوم عليه السلام لا لكونه إجماعا، وهذه سجيّتهم وطريقتهم في حجّيته حتى اشتهر ذلك بين المخالفين.
قال الشيخ وابن زهرة كما عن ابن البرّاج فإن قيل وإذا كان المرجع بكون الإجماع عندكم إلى قول المعصوم عليه السلام وليس للإجماع تأثير في ذلك كان قولكم الإجماع حجة لغوا لا فائدة فيه، قيل نحن لا نبدأ بالقول إن الإجماع حجّة بل إذا سئلنا فقيل لنا ما قولكم في إجماع المسلمين قلنا هو حق وحجة من حيث كان قول المعصوم عليه السلام داخلا في إجماعهم، وهذا كما قيل لنا في جماعة فيها نبيّ هل قول هذه الجماعة حق وحجة فإنه لا بدّ في الجواب لنا ولكلّ مسئول عن ذلك من القول بأنه حجة وإن كان لا تأثير لقول من عدا النّبيّ صلى الله عليه وآله في ذلك، على أن قول الإمام عليه السلام إذا جاز أن يلتبس ويشتبه إما لغيبته أو لغيرها لم يكن بدّ من الرّجوع إلى إجماع الإمامية أو علمائها ليعلم دخول قول الإمام فيه، ومن القول بأنه حجة لاشتماله على قول المعصوم عليه السلام انتهى.
وقد تحصل مما ذكر أن الإجماع عند الإمامية هو الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام فلا ريب حينئد في حجيّته، وقد أشار إلى ما ذكر السّيد الأستاذ رحمه الله فقال: الإجماع عندنا هو الاتفاق الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام سواء انفردت به الفرقة النّاجية أو انضم إليه غيرها من فرق المسلمين وسواء بلغ حد الضرورة من المذهب أو الدّين أو لم يبلغ ذلك مع حصول اليقين وسواء عم فقهاء عصر واحد أو اختصّ بالبعض الكاشف عن قول الحجّة من الطائفة المحقة، والإجماع بهذا المعنى يلزمه الحجيّة ولا تفارقه قطعا، فإن قول المعصوم عليه السلام حجة بالضرورة، فكذا الكاشف عنه.
نعم وجود الكاشف وعمومه في الأعصار يتوقف على وجود الإمام وثبوت عصمته وعدم خلو الأرض منه، وهذه أمور مقررّة في الأصول معلومة من المذهب وقد أشير إلى حجيّة إجماع الأمّة فيما رواه الفريقان عن النّبي صلى الله عليه وآله من قوله “لا تجتمع أمتي على ضلالة” وقوله “من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه” وإلى ما يعمّه وغيره ما ورد من لزوم اتباع الجماعة والمنع من الخلاف والفرقة مع تفسير الجماعة بأهل الحق وإن قلّوا والفرقة بأصحاب الباطل وإن كثروا، ووافقنا أهل الخلاف على الأوّل وإن خالفوا في التعليل فإنهم عرفوا الإجماع باتفاق أهل الحلّ والعقد من الأمّة وجوّزوا الخطأ على الجميع وأثبتوا العصمة للمجموع واستندوا في ذلك إلى نحو ما مرّ مما ليس الوجه فيه مجرّد اتفاق الآراء بل وجود المعصوم عليه السلام من المخاطبين العلماء، ولو أنهم وقفوا على الحدّ الذي قرّروه لكان كلّ إجماع عندهم إجماعا عندنا من غير عكس وإن اختلف التعليل في محلّ الوفاق لكنهم أثبتوا الإجماع مع مخالفة الشيعة بل مع اتفاق علماء المذاهب الأربعة فانتفت الكليّة من الطرفين وثبت العموم من وجه بين الإجماعين، ولو قيل في تحديده إنه اتفاق الفرقة غير المبتدعة لصحّ على جميع المذاهب على اختلافها في تعيين تلك الفرقة فإنه اختلاف في المصداق دون المفهوم.
ثم قال في جملة كلام له الإجماع لا يتوقف في الإيصال إلى المقصود بنفسه إلى شيء ودليل بمعنى أنه لا يحتاج في كونه موصلا إلى واسطة [الصفحة 495] بينه وبين المطلوب يتحقق بها الإيصال ابتداء ويكون الإجماع موصلا إلى الموصل إلى المطلوب وإن توقف التّصديق بكونه موصلا على كشفه عن قول الحجة عندنا وعلى الأدلّة الدّالة على كونه حجة بمجرّد الوفاق عند العامّة، فإنا نستدلّ على المطلوب الفرعي بالإجماع وعلى حجيّة الإجماع بكونه كاشفا مثلا كما استدللنا بالكتاب على المطلوب وعلى كونه حجّة بما دلّ عليه، وكما يحتج بالإجماع على الخبر وبالخبر على المطلوب فإنا لا نلاحظ في الاستدلال بالإجماع خصوص الخبر الّذي كشف عنه الإجماع ولا تعيين دلالته وكيفيّة تحقق الشرائط ومن رواه وعمّن روى وكيف طريق دلالته فاندفعت الشبهة الواهية في هذا المقام أن الإجماع إن أريد حجيته بمعنى كونه حجّة في نفسه فذلك ممّا لا تقولون به، وإن كان لأجل كشفه عن قول الحجّة كان الدليل حقيقة دون الحجة دون الإجماع. نعم يتوقف على اللّغة وسائر فنون العربية وغيرها من المدارك الأصولية وهذا لا يوجب عدّه دليلا مغايرا لسائر الأدلّة ولا مدركا منفصلا عن سائر المدارك وإلا لوجب عدّ كلّما يتوقف عليه المطلوب دليلا فيلزم الزّيادة على العدد المعروف بين الأصوليّين انتهى.
اعلم أنه حكي عن النّظام منع إمكان وقوع الإجماع عادة وحكاه الحاجبي عن بعض الشيعة وصار أكثر المحققين إلى إمكان وقوعه عادة منهم المحقق فإنه قال وهو ممكن الوقوع، وفي الناس من أحاله كما يستحيل إجماع أهل الإقليم الواحد على الاشتراك في ملبس واحد ومأكل واحد، وهذا باطل بما يعلم من الاتفاق على كثير من مسائل الفقه ضرورة، ثم الفرق ظاهر فإن التساوي في المأكل والمشرب ممّا يتساوى فيه الاحتمال وليس كذلك المسائل الدّينية لأنها لا يصار إليها إلا عند الأدلّة فجاز عادة الاتفاق عليها انتهى.
وليس لك أن تقول الاتفاق عليها إنما يكون لقيام الحجّة لكلّ واحد وانتشارهم ممّا يمنع منه عادة ولا أن تقول إن كانت قطعية فالعادة يحتل عدم نقلها، فلو كانت لنقلت، فلما لم تنقل علم انتفاؤها ولو نقلت لاستغني بها عن الإجماع وإن كانت ظنية فيستحيل عادة الاتفاق عليها لاختلاف القرائح وتباين الأنظار، لأنا نمنع من أنّ الانتشار يمنع من ذلك إلا إذا لم يكونوا مجدين في الطّلب، ونمنع أيضا من الملازمة بين القطعيّة والنقل لإمكان الاكتفاء بالإجماع منه، ثم تعرض النقل والاستغناء به عن الإجماع لا يقتضي عدمه ونمنع أيضا من استحالة الاتفاق على الظنون مطلقا بل على الخفيّة لا الجليّة.
اعلم أنه أحال الرازي العلم به إلا في زمن الصّحابة أمّا الثاني فلقلة المؤمنين بحيث يمكن معرفتهم بأسرهم تفصيلا وأما الأوّل فلكثرة المسلمين وانتشارهم شرقا وغربا وكون ذلك لا يعلم إلا بالمشافهة لهم أو التواتر عنهم إذ لا غيرهما لعدم كونه وجدانيا بالظاهر ولا نظريّا إذ لا مجال للعقل في معرفة مذهب الغير وعدم إفادة الآحاد إن كانت العلم فانحصر في الأمرين وهما متعذران عادة مع البلوغ إلى هذا الحدّ من الكثرة والانتشار سلّمنا العلم بهم مشافهة أو تواترا لكن لا يمكن معرفة اتفاقهم إلا بالرّجوع إلى كلّ واحد منهم وهو لا يفيد القطع به لاحتمال أن يفتي بخلاف معتقده خوفا وتقيّة سلمنا معرفة معتقدهم لكن يحتمل رجوعهم أو رجوع بعضهم بعد المراجعة إليه وربّما يظهر من المحقق الميل إلى ما ذكره حيث قال ومن النّاس من أحال العلم به إلا في زمن الصّحابة نظرا إلى كثرة المسلمين وانتشارهم وكون ذلك لا يعلم إلا بالمشافهة لهم والتواتر عنهم وهما متعذران عادة لمن بلغ هذا الحدّ من الكثرة.
لا يقال نحن نعلم اتفاق المسلمين على كثير من المسائل كنبوّة محمّد صلى الله عليه وآله والصّلوات الخمس ونعلم أيضا غلبة كثير من المذاهب على بعض البلاد لأنا نجيب عن الأول بأنه لا معنى للمسلم إلا من قال بهذه الأشياء فكأن القائل أجمع المسلمون على النّبوة يقول أجمع من قال بالنبوة على النّبوّة وأما غلبة بعض المذاهب فلا نسلّم أنا نعلم ذلك في أهل البلد كافة ولئن سلّمنا أن الأكثر منهم قائل به لكن هذا لا يجدي في باب الإجماع انتهى.
وفيه نظر لما ذكره جماعة ففي النّهاية أنا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزما قطعيا ونعلم اتفاق الأمة عليها علما وجدانيا حصل بالتسامع وتطابق الأخبار عليه انتهى.
وفي كلام بعض المحققين من العامة أنه تشكيك في مصادمة الظاهر لأنه يعلم قطعا من الصّحابة والتّابعين تقديم القاطع على المظنون وما ذلك إلا بثبوته عنهم وبنقله إلينا وفي بعض مصنّفات السّيّد الأستاذ رحمه الله فقال والطريق إلى العلم بالإجماع تتبع الفتوى والعمل والنقل المتواتر والمحفوف بقرائن العلم وتصفح الأخبار والآثار وكثرة المزاولة وطول المراجعة وتواتر الخلف عن السّلف وتناول الأمر يدا بيد وحصول التسامع والتظافر بالتدريج وإن لم يتميز عنه طريق دون طريق وهو أقوى طرق العلم ولا يمنع من ذلك كثرة الفقهاء وانتشارهم في الآفاق ولا عدم الإحاطة بأعيانهم وأسمائهم كما لا يمنع كثرة النحاة وغيرهم من أرباب العلوم عن العلم باتفاقهم على كثير من المسائل والمنكر يدفع باللسان لما ينكر به الوجدان وتكسر سورة المخالف باعترافه بضروريات الدّين والمذهب وحصول العلم الضروري بهما للعوام مع جهلهم بمدارك الأحكام وبحصول العلم له كغيره بأن جمهور المسلمين في شرق الأرض وغربها يفعلون كثيرا من الواجبات كالصّوم والصّلاة ويجتنبون كثيرا من المحرمات كأكل الميتة ولحم الخنزير مع عدم المشاهدة وبعد الشقة وباتفاق العلماء على نقل [الصفحة 496] من عصر الأئمة عليهم السلام إلى زماننا هذا في أصول الدين وفروعه على ما تشهد به الكتب والمصنّفات بما لا يمكن دفعه ولا حمله على المجازفة وتغيير الاصطلاح وإطباق الجميع حتى المنكر للإجماع على نقل الشهرة من غير نكير مع أن الكثرة والانتشار لو منعا من العلم بالإجماع لمنعا من الشهرة أيضا إذ لعلّ في من لا نعرفه من الفقهاء المنتشرين في الآفاق جمعا كثيرا يوافقون الشاذّ ويخالفون المشهور فلا يبقى معه الشاذ شاذا ولا المشهور مشهورا مع مسيس الحاجة والاضطرار إلى هذا الأصل فيما خلا عن النّص من كتاب أو سنة أو وجد فيه ذلك إذ كلما يتفق من النصوص في أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات ما ينطبق على تمام الحكم ولا يحتاج إلى الاستعانة بالإجماع في التعدية على المدلول والقصر على بعضه والتصرف في وجوه دلالته مع بطلان القياس وعدم استقلال العقل بأكثر الأحكام.
وبالجملة لا يقوم للفقه عمود ولا يخضر له عود إلا بهذا الأصل ومن استغنى عنه حينا فيحتاج وقتا مّا وما أنكره أحد في الأصول إلا وقد التجأ إليه في الفروع وقد وجدنا كثيرا من النّاس ينكرونه في السّعة ويقرون به عند الضيق وليس ذلك إلا من قلّة التحقق.
اعلم أن طريقة معرفة الإجماع الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام الّذي هو حجة لا ينحصر في طريق واحد بل هو متعدد، وقد أشار إلى ذلك السّيد الأستاذ رحمه الله فقال وأما الكشف عن قول المعصوم عليه السلام وهو مناط الإجماع عندنا فللأصحاب فيه طريقان:
و هو المسلك الأعظم والمنهج الأقوم حصول العلم بدخول المعصوم عليه السلام للعلم باتفاق من يشمله ومرجعه إلى ترتيب قياس من الشكل الأول، وهو أن الإمام عليه السلام أحد العلماء أو أحد علماء العصر وكلهم أو من عدا المعروف منهم قائل بهذا الحكم فالإمام عليه السلام قائل به، أمّا الأولى فلأن الإمام المعصوم عليه السلام سيّد العلماء ورئيس الفقهاء وهو موجود في كلّ عصر إمّا ظاهرا مشهورا أو خفيّا مستورا كما هو قضيّة المذهب، وأما الثانية فلأن المفروض حصول العلم الإجمالي باتفاق الجميع من غير توقف على العلم بقول كلّ واحد على التّفصيل، فإن العلم بالجملة كما يحصل من العلم بالتفصيل فقد يحصل العلم بالتفصيل من العلم بالجملة وعليه المدار في جميع البراهين المتجه للعلم واليقين، لأن العلم الإجمالي فيها لو توقف على التفصيل لزم الدّور المحال والطّريق إلى العلم الإجمالي هاهنا ما مرّ مفصلا، وحاصله التتبع الذي به يظهر مذهب الغائب من مذهب الشّاهد وينكشف قول من لا يعرف من قول من يعرف، ولا يقدح فيه وجود الخلاف في بعض الطبقات ولا وجود المخالف الشّاذ في عصر المجمعين إذا كان معروفا.
نعم يشترط دخول كلّ من لا يعرفه ممن يحتمل كونه الإمام لأنّ القطع بدخوله لا يحصل إلا بذلك، فإنا لا نعرف الإمام عليه السلام بشخصه، ومع فرض المعرفة لا حاجة إلى استعلامه بغيره، وربّما يحصل لبعض حفظة الأسرار من العلماء الأبرار العلم بقول الإمام عليه السلام بعينه على وجه لا ينافي امتناع الرّؤية في هذه الغيبة، فلا يسعه التصريح بنسبة القول إليه فيبرزه في صورة الإجماع جمعا بين الأمر بإظهار الحق والمنهي عن إذاعة مثله بقول مطلق، لكن هذا على تقديره طريق آخر بعيد الوقوع مختص بالأوحدي من النّاس وذلك في بعض المسائل الدّينية بحسب العناية الربّانية فلا ينتقض به ما قررناه.
وثانيهما حصول العلم بقوله للعلم باتفاق غيره من علماء الطائفة وفيه مسلكان: الأول: استفادة الموافقة من عدم الردّ وفيه وجهان:
الّتي لأجلها وجب على اللّه نصب الإمام، فإنها تقتضي ردهم لو اتفقوا على الباطل، فإنه من أعظم الألطاف، فإن امتنع حصوله بالطّرق الظّاهرة فبالأسباب، وحيث انتفي الردّ مطلقا علم موافقته لما أجمع عليه فيكون حجّة، وحجيّته وإن كانت متوقفة على وجوب الردّ لكن وجوب الرد لا يتوقف على حجيته، فلا يلزم الدّور كما ظن، ولا يرد على ثبوت ذلك الحيرة في زمن الغيبة، لأن وقوع الإجماع فيها وشمولها للكل في الحكم الواحد غير مقطوع به ولا نقض إلاّ بأمر بيّن، على أن الردّ عن الباطل لا يستلزم دفع الحيرة إذ مع التردّد والاشتباه يحصل التخلّص بالتوقف في الحكم والاحتياط في العمل بخلاف ما لو اتفقوا على الباطل.
وهذه الطريقة قد سلكها الشيخ في العدة وادعى أن العلم بإجماع الطّائفة لا يحصل إلا بها واختارها جماعة منهم الحلبي في ظاهر الكافي وزيّفها المرتضى في الذّريعة واحتمل اختصاص اللّطف المذكور بزمان الحضور، قال وإذا كنا نحن السبب في غيبته وكلما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرفه وبما معه من الأحكام فقد أتينا من قبلنا لا من قبله، وفي العدّة أن هذا هو الّذي ذهب إليه المرتضى أخيرا ويفهم منه ارتضاؤه لها أوّلا، وقد ينتصر لها بأن وجود الإمام عليه السلام في زمن الغيبة لطف قطعا فيثبت فيه كلما أمكن لوجود المقتضي وانتفاء المانع، وأن هذا اللطف قد ثبت وجوبه قبل الغيبة فيبقى بعدها بمقتضى الأصل، وأن النّقل المتواتر قد دل على بقائه، وقد ورد ذلك عن النّبيّ صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بألفاظ ومعان متقاربة، فعن النّبي صلى الله عليه وآله “أن لكل بدعة من بعدي يكاذب بها الإيمان وليّا من أهل بيتي موكّلا يذبّ عنه ويعلن الحق ويرد كيد الكائدين” وعنه صلى الله عليه وآله وعن أهل البيت “أن فيهم في كل خلف عدولا ينفون عن الدّين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين” وفي المستفيض عنهم عليهم السلام “أن الأرض لا تخلو إلا وفيها عالم إذا زاد المؤمنون شيئا ردّهم إلى الحق وإن نقصوا شيئا تمّمه لهم ولولا ذلك لالتبس عليهم أمرهم ولم يفرقوا بين الحق والباطل” وعن أمير المؤمنين في عدة طرق “اللّهم إنك لا تخلي الأرض من قائم بحجة إمّا ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلا تبطل حججك وبيّناتك” [الصفحة 497] وفي بعضها “لابدّ لأرضك من حجة لك على خلقك يهديهم إلى دينك ويعلّمهم علمك لئلا تبطل حجتك ولا يضلّ تبع أوليائك بعد إذ هديتهم به إمّا ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم أو مترقب إن غاب عن النّاس شخصه في حال هدايتهم فإن علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة فيهم بها عاملون”، وفي تفسير قوله تعالى “إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ” في عدة روايات أن المنذر رسول اللّه صلى الله عليه وآله وفي كل زمان إمام منّا يهديهم إلى ما جاء به النّبي صلى الله عليه وآله وفي بعضها “واللّه ما ذهبت منّا وما زالت فينا إلى السّاعة” وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال “ولم تخل الأرض منذ خلق اللّه تعالى من حجة له فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولم تخل إلى أن تقوم السّاعة ولولا ذلك لم يعبد اللّه قيل كيف ينتفع النّاس بالغائب المستور قال كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السّحاب” وعن الحجة القائم‘ “وأمّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأنظار السحاب وإني لأمان أهل الأرض كما أن النجوم أمان أهل السّماء”.
والأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى ومقتضاها تحقق الردّ عن الباطل والهداية إلى الحق من الإمام في زمان الغيبة، والمراد حصولها بالأسباب الخفية كما يشعر به حديث السّحاب دون الظّاهرة فإنها منتفية بالضرورة، ولا ينافي ذلك تضمّن بعضها الإعلان بالحق فإنه من باب الإسناد إلى السّبب والاحتجاج بها مبني على أن حصول الرّدّ والإرشاد قبل الاتفاق وإلا لكانت خلاف المطلوب وكأن الأكثر حملوها على بيان الألطاف التي من أجلها وجب نصب الإمام وإن تخلفت عنه في زمن الغيبة لوجود المانع وصراحة بعضها في التّحقق مع وضوح الدّلالة في الباقي يأبى ذلك.
والإمساك عن النكير على إصابة المجمعين فإن تقرير المعصوم‘ حجة في فعل الواحد فكيف بالجمع الكثير والجم الغفير، ولا يمنع منه الغيبة مع العلم بالحال والتمكن من الردّ فإنه وإن غاب عنا إلا أنه بين أظهرنا نراه ويرانا ونلقاه ويلقانا وإن كنا لا نعرفه بعينه فإنه يعرفنا ويرعانا ويطلع على أحوالنا ويعرض عليه أعمالنا ولا يلزم من ذلك وجوب الإنكار مع الاختلاف لوجوده من المحق ولا وجوبه في بيان العصاة لجواز الاكتفاء بوضوح الحق ولا وجوب الإنكار على المستتر بالمعصية حال الظهور لأنه إنما يلزم لو انحصر الوجه في السّبب الخفي كحديث عرض العمل وهذا الوجه قد اعتمده بعض المتأخرين، ويحتمله كلام أبي الصّلاح وهو مبني على وجوب التنبيه على الخطأ مطلقا ومع العلم دون الظن ولو خصّ بالإمام لما يلزمه من وجوب الهداية عاد إلى قاعدة اللّطف ولا يشترط في هذا المسلك بوجهيه وجود المجهول النسب لأن المفروض خروج الإمام فلو انحصر غيره في المعروفين كان حجّة ولا يمنع منه وجود الخلاف المتقدم، وفي المقارن الشاذ وجهان وهل يشترط انتفاء الحجّة على خلاف ما أجمعوا عليه، قيل نعم ويحتمل العدم إذ لا جدوى لها مع فرض اتفاقهم على خلافها.
كشف الاتفاق عن وجود المستند القاطع للعذر، ويدل عليه العقل والنقل، أما العقل فلأن فتوى الواحد من علمائنا الثقات يفيد الظن بوقوفه على دليل الحكم فإذا وافقه فتوى مثله أو من هو أعلم منه وأوثق قوي الظن بذلك قطعا، وكلّما انضم إليه مثله تقوى وتضاعف حتى يحصل اليقين باتفاق الجميع كالأخبار المتواترة فإن أصلها الآحاد الّتي لا تفيد علما بالانفراد، وإن حصل لها ذلك بواسطة التعاضد والاجتماع، وهذا المسلك لجماعة من محققي المتأخرين وطريقة الحدس الصّائب والذّهن الثاقب وهو قوي متين وليس التّعويل فيه على مجرد اجتماع الآراء كما هو مذهب أهل الخلاف بل لكشف اتفاق أهل الحق عن إصابة المدرك والوقوف على الحجة الواصلة إليهم من الحجج ممن لا يجوز عليهم الخطأ ولا ينتقض بالمشهور لأن الشهرة من حيث هي لا تفيد إلا الظنّ فإن بلغت حد القطع كانت إجماعا وخرجت عن مسمّى الشهرة عرفا، ولا فرق في ذلك بين فتوى الأقدمين من أصحاب الأئمة عليهم السلام كزرارة ومحمّد بن مسلم ويزيد بن معاوية والفضيل بن يسار والحلبي وأضرابهم من الفقهاء المتمكنين من سماع الأحكام من المعصومين وغيرهم من فقهاء الغيبة الّذين يتبعون الآثار الباقية من العترة الهادية، ولا في هؤلاء بين القدماء المتمكنين من كتب أصحاب الأئمة عليهم السلام وأصولهم كالصدوقين والقديمين والشيخين والسّيّد المرتضى وأمثالهم ومن تأخر عنهم ممّن لم يتمكن من جميع ذلك كلها أو أكثره كالفاضلين والشهيدين وسائر المتأخرين فإن المنشأ في الجميع واحد وهو اجتماع الظنون البالغة إلى حدّ اليقين وإن اختلف بالقلّة والكثرة والقوة والضعف، فإن العلم قد يحصل بالعدد اليسير من أصحاب الأئمّة عليهم السلام ويتوقف على اتفاق الكثير من غيرهم على اختلافه باختلاف طبقاتهم في الدّين والثقة واختلاف مراتبهم في الفقه والضّبط، وأيضا فإن حصوله في الطبقة الأولى طريق إلى حصوله فيما يليها وهكذا إلى أن يصل إلينا بتلقي المتأخر عن المتقدم ورسوله من كل طبقة إلى ما بعدها ويأخذه اللاّحق عن السّابق يدا بيد وخلفا عن سلف.
وإن علم باختيار النّاقل خلاف ما ادعى عليه الإجماع أو هو حجّة إذا لم يختر النافل له خلاف ذلك فيه إشكال، والتحقيق أن يقال إن نقل الإجماع إما أن لا يسبقه مخالفة ولا يتعقبه أو يسبقه أو يتعقبه أو لا يعلم بأحد الأمرين مع العلم بأصل المخالفة فهنا صور أربع:
الأولى: أن لا يسبقه ولا يتعقبه ذلك كما إذا ادعى الإجماع على وجوب أمر وبقي على دعواه، وهنا لا إشكال في حجيّته على القول [الصفحة 498] بحجيّته.
الثّانية: أن يسبقه ذلك كما إذا اختار أولا وجوب فعل ثم ادعى الإجماع على خلافه والكلام هنا كالسّابق كما لا يخفى.
الثّالثة: أن يتعقبه وهنا لا يبعد دعوى عدم حجيته لعدم حصول الظنّ منه عادة حينئذ فلا يكون حجة، أمّا الأول فوجداني ولا ينبغ الريب فيه، وأما الثاني فلأن الإجماع المنقول إنما يكون حجة باعتبار إفادته الظّن وأن الأصل في الظن الحجّية وإذا انتفي عنه الوصف المشار إليه فلا دليل على حجيّته لا من إجماع ولا من غيره، وإذا لم يقم دليل على حجيته وجب الحكم بعدم حجيته وهو واضح.
لا يقال كلّ من قال بحجيّة الإجماع المنقول قال بحجيته مطلقا ومن لم يقل بحجيته لم يقل بها كذلك، والتفصيل خرق للإجماع لأنا نقول الدعوى الأولى ممنوعة فإن قلت عبارة القائلين بالحجّية مطلقة تعم جميع الأفراد ولا دليل على خروج بعضها عن الإطلاق، ومع هذا لا يجوز منع تلك الدعوى. قلت لو سلم الإطلاق فهو منزل على الفرد الغالب وهو الذي يفيد الظن ومعه يتجه تلك الدّعوى، لا يقال إطلاق مفهوم قوله تعالى {إن جاءكم} إلى آخره يقتضي حجية جميع أفراد الإجماع المنقول، لأنا نقول دلالة الآية الشّريفة على حجيّة الإجماع المنقول ممنوعة ولو سلم الدّلالة عليها فإنما يسلم فيما إذا حصل منه الظنّ لا مطلقا، لأن غاية المفهوم الإطلاق وهو محمول على الفرد الغالب وهو الّذي يحصل منه الظّن فتأمل.
هذا ويؤيد عدم حجية الإجماع المنقول الّذي لا يحصل منه الظنّ فحوى ما دل على منع العمل بالقياس، وذلك لأن القياس مع إفادته الظن إذا لم يكن حجة فيجب أن يكون ما لا يفيد الظن غير حجة بطريق أولى فتأمل.
ولا يقال ما ذكرته من عدم قيام الدّليل على حجية الإجماع المنقول المفروض إنما يتجه فيما إذا كان مخالفة النّاقل له بعد نقله بلا فصل وبفاصلة قليلة، وأما إذا نقله وأطلعنا عليه ثم خالف بعده بمدة طويلة فلا، إذ الاستصحاب يقتضي حجيته حينئذ وذلك لأنّه قبل ظهور المخالفة حجة لاجتماع شرائط الحجّية فيه فيستصحب، لأنا نقول التمسك بالاستصحاب إنما يتجه إذا ثبت في حقنا حكم شرعي من جهته كما إذا ثبت وجوب فعل علينا من جهته ثم حصلت المخالفة، وأما إذا لم يثبت كما إذا دل على وجوب فعل في الزّمن المستقبل وحصلت المخالفة قبل مجيء زمانه فلا، لأنه لم يثبت حكم حينئذ في حقنا فلا يمكن دعوى استصحابه، ودعوى عدم القائل بالفصل بين الصّورتين غير مسلّمة، اللّهم إلا أن يقال معنى كونه حجّة صلاحيته لإثبات الأحكام الشّرعية مطلقا ولو في الزّمن المستقبل فيجوز التّمسك بالاستصحاب حينئذ كما يتمسّك باستصحاب مطهريّة الماء، الثّانية في الزّمن الماضي ولا شك أن الذي ثبت في الزمان الماضي صلاحية التّطهير لا التطهير بالفعل فتأمل.
الرابعة: أن يتحقق المخالفة من الناقل له ولا نعلم بالتّقدم والتّأخّر وهنا يشكل الحكم بالحجّية لأن شرطها عدم تأخر المخالفة وهو مشكوك فيه فيلزم الشّكّ في أصل الحجّية، إذ الشّكّ في الشرط يستلزم الشك في المشروط، اللّهم إلاّ أن يستظهر التقدم باعتبار أن الغالب عدم حصول المخالفة بعد دعوى الإجماع وفيه نظر فتأمل.
([1]) النسخة المعتمدة: نشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام- قم.