موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع

 

 

 

إجماعات فقهاء الإمامية

 

 

المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع

 

 

محمد هاشم الخونساري. المقالات اللطيفة

المقالة الخامسة: في الكلام في الإجماع المنقول بنقل من يعتبر نقله في الأخبار الآحاد

- المقالات اللطيفة في المطالب المنيفة- السيد محمد هاشم الموسوي الخونساري- ص53:([1])

        وقد اختلف فيه القائلون بحجية الأخبار الآحاد على أقوال، فالمشهور بين المتأخرين حجيته، إما من جهة قيام القاطع على حجيته بالخصوص كما عليه أكثرهم، ومن جهة ما قرروه من حجية مطلق الظن كما يظهر من العلامة في بعض كتبه الأصولية، وعن جمع عدم حجيته، إما من جهة عدم إفادته الظن مطلقا كما صرح به بعضهم، أو من جهة أخرى تعم ما يفيده الظن منه أيضا، ويظهر من صاحب الوافية التوقف فيه، ولعل الظاهر من جمع من المنكرين حيث تمسكوا بعدم الدليل على الحجية.

        والحق حجيته على نحو حجية الأخبار الآحاد، لنا ما دل على حجية الأخبار من باب الظنون المخصوصة، فكل دليل دل على حجية الخبر المعتبر دل على حجيته، بل يمكن القول بدلالة دليل الخبر عليه بالفحوى لوجوه؛ أحدها: أن الخبر نقل للظني وهذا نقل للقطعي، ولا يخفى أن الأول أضعف من الثاني، وثانيها: أن غالب الأخبار منقولة بالمعنى فيتطرق إليها الاختلال والاختلاف في متونها غالبا بخلاف نقل الإجماع فإنه نقل لأمر لبي واضح لا يتطرق إليه ما يعرض من وجوه الاحتمالات الجارية في الألفاظ، وثالثها: ما لا يخفى من كثرة الاختلالات الواقعة في الأخبار والاختلافات العارضة لها متنا وسندا، ووفور المعارضات بينها وزيادة الوسائط فيها في هذه الأعصار المتأخرة، وعدم وقوع شيء من هذه الأمور في نقل الإجماع غالبا.

        ويمكن الإيراد عليه بوجوه؛ أحدها: أن الخبر منوط بالحس وهذا منوط بالحدس والقدر المتيقن من الدليل الدال على حجية الخبر إنما هو الأول، وتفصيل ذاك الإجمال أن دليل حجية الخبر إما الإجماع المستفاد من تتبع كلمات الأصحاب والسير في مطاوي سيرتهم وطريقتهم في مباني غالب أحكامهم، وإما الأخبار المكثرة المتواترة معنى الواردة في الموارد الجزئية، بل بعض ما ورد منها على وجه القاعدة الكلية، أو الآيات الشريفة التي وقع التمسك بها في استدلالات جمع من الفريقين في الكتب الأصولية.

[الصفحة 54]

        ولا يخفى أن الأولَين من تلك الأمور الثلاثة لا يدلان على ما هو المطلوب منهما على وجه العموم، بحيث يشمل شيء منهما غير الخبر الحسي الاصطلاحي الذي ليس نقل الإجماع من قبيله، وإن كان نظيره في المعنى، ولا يتم الأمر بها بضميمة تنقيح المناط القطعي أو عدم القول بالفصل أيضا لوضوح القائل بالفصل وكون المناط ضمنا ملحقا بالقياس الممنوع في مذهبنا مع ما يلزم عليه من الأمور المخالفة لطريقة أكثر الأصحاب القائلين بما هو المختار من الاقتصار على الظنون المخصوصة، ومنه يظهر سقوط الدلالة بالفحوى بنفس الفحوى.

        وأما الآيات الشريفة فعمدتها وما يتجه التمسك بها الحسي والحدسي في مسألة حجية أخبار الآحاد الاصطلاحية إنما هي آية النبأ وهي كما نبه عليه بعض المحققين من مشايخنا المعاصرين([2]) فقال: إنما تدل على وجوب قبول خبر العادل دون خبر الفاسق والظاهر منه بقرينة التفضيل بين العادل حين الإخبار والفاسق بقرينة تعليل اختصاص التبين بخبر الفاسق بقيام احتمال الوقوع في الندم احتمالا مساويا لأن الفاسق لا رادع له عن الكذب هو عدم الاعتناء باحتمال تعمد كذبه لا وجوب البناء على إصابته وعدم خطئه في حدسه لأن العدالة والفسق حين الإخبار لا يصلحان مناطا لتعليل الفرق به فعلمنا في ذلك أن المقصود من الآية إرادة نفي تعمد الكذب عن العادل حين الإخبار دون الفاسق لأن هذا هو الذي يصلح لإناطته بالفسق والعدالة حين العدالة. ومنه تبين عدم دلالة الآية على قبول الشهادة الحدسية إذا قلنا بدلالة الآية على اعتبار شهادة العدل.

        ثم فصل الكلام بعبارات كثيرة ملخصها؛ أن الخبر الحسي الذي دلت الآية على قبوله من العدل يمكن دفع الغفلة والاشتباه عنه بأصالة عدم الخطأ في الحس التي هي أصل أطبق عليه العقلاء والعلماء في جميع الموارد بخلاف الخبر الحدسي الذي لا يجزي فيه ذاك الأصل فلا يدل الآية على وجوب قبول خبر العادل إذا لم يكن نفي خطئه بأصالة عدم الخطأ المختصة بالأخبار الحسي.

        ويمكن أن يجاب عنه بوجوه ستة؛ أحدها: إن هذا الإيراد مبني على شمول إطلاق النبأ الحسي في الآية الشريفة لكل من النبأ الحسي والحدسي، وإلا لكان عدم شموله للحدسي كافيا في منع دلالته على قبول هذا القسم من النبأ ولما احتاج المورد إلى ما بني عليه من دلالة التفصيل والتعليل على اختصاص الآية بقبوله خبر العدل في الحسي.

[الصفحة 55]

        وحيث كان المفروض في كلامه إرادة شمول البناء لكلتا صورتي البناء، فما المخرج لصورة البناء الحدسي؟ غاية الأمر أن يقول أن القدر الذي نثبت بحكم الأصل الذي عليه بناء العقلاء في رفع احتمال الغفلة والخطأ هو خصوص الخبر الحسي، لكن لا يخفى أن هذا لا يدل على عدم اعتبار في النبأ الحدسي بالآية؛ لعموم النبأ المستفاد من إطلاقه الذي قد ذكرنا أنه المفروض عند المورد في إيراده هذا، بل الظاهر أن المدار في قبول خبر العدل في النبأ الحسي أيضا على ذاك العموم بالنسبة إلى احتمال الغفلة والخطأ لا الأصل الذي قرره المورد كما ستعرفه.

        وثانيها: إنا نعلم بالوجدان وبتتبع موارد قبول خبر العدل وغيره عند العقلاء أن بنائهم ليس على إجراء ذاك الأصل، لأن الغالب في تلك الموارد عدم التفاتهم إلى هذا الاحتمال بعد إحرازهم لقبول قول القائل من حيث الاعتبار وعدمه، فكيف يمكن أن ينسب إليهم أن نظرهم إلى مثله مع أنه لا يخطر ببالهم أصلا والقول بأن كون بنائهم في العمل على شيء مثلها لا يستلزم والتفاهم إليه مدفوع بأن القدر الذي علم من ذاك النبأ إنما هو قبولهم لخبر من يعتبر عندهم قوله، وهذا أعم من كونه من جهة البناء على هذا الأصل.

        وثالثها: أن القدر الذي نسلم من طريقة العقلاء في إجراء ذاك الأصل -بناء على تسليم هذا البناء منهم- إنما هو بناؤهم عليه في صورة علمهم بعدم تعمد المخبر للكذب لأن بنائهم في الأمور المتداولة عندهم على ما يجدونه في الخارج ويحصل لهم بمقتضى ما يقتضيه الأمور العادية دون ما ثبت من الشارع تعبدا، بل الظاهر أن غالب تعبديات الشارع في أمثال هذه الأمور إنما يكون على وجه تقريره لبناء العقلاء لا العكس.

        ولا يخفى أن اعتبار قول العدل بجعل الشارع أمر وراء ذلك، فكيف يبنى عليه بناء العقلاء، وبالجملة ظاهر طريقة الشارع في جعلياته بالنسبة إلى الشروط والموانع الصادرة منه إنما هو التصرف فيما هو مجعوله لا فيما استقر عليه طريقة العقلاء عليه بمقتضى عاداتهم كما اعترف به هذا المورد في محل آخر.

        ورابعها: إن انطباق القول الصادر من المتكلم لمراده في اعتقاد المخاطب لا يكون إلا بالحدس وليس من الأمور الحسية التي يدرك بأحد من الحواس الظاهرة كما لا يخفى، [ الصفحة 56] فكل خبر اصطلاحي وإن كان نفس القول الصادر من مخبره محسوسا غالبا إلا أن انطباقه لمراد المخبر لا يكون إلا بالحدس والوجدان، وأنت خبير بأن المقصود الأصلي من اعتبار الخبر هو كشفه عن مراد المخبر، وهذا بعينه جار في الإجماع المنقول الذي فرض المورد كونه إخبارا بالحدس، لأن المخبر بذاك الخبر أيضا يلاحظ غير واحد من الأمور الحسية ثم نحكم بثبوت الحكم المخبر به عنده وصدور الحكم عن المعصوم في ضمن المجمعين. غاية الأمر أن الحدس هنا في أمرين أحدهما صدور نفس الخبر عن المعصوم، والآخر انطباق مراده، وفي خصوص ثبوت مراده والحدس الذي يجري في الخبر الاصطلاحي يختص بانطباق القول للمراد وكلاهما يشتركان في البناء على الحدس في الجملة، فكلما تقوله في حجية الخبر الحدسي هنالك نقوله في حجية الخبر الحدسي هنا.

        وخامسها: إن الظاهر من التبين المأمور به في منطوق الآية الشريفة هو تبين حال الواقعة المخبر بها من حيث الوقوع في الواقع وعدمه، وبعبارة أخرى ظاهره تبين كون الخبر صدقا بمعنى مطابقة الواقع وعدمه، كما هو المعنى الحقيقي للصدق قبالا للكذب الذي هو مخالفة الخبر للواقع، ومن البعيد غايته أن يكون المراد تبين صدور الخبر عن اعتقاد وقوع الواقعة وعدم اعتقاده وتعمد المخبر في الكذب وعدمه، لأن تبين اعتقاد كونه مطابقا للواقع وعدم تعمده للكذب لا يؤثر في مطابقة الخبر للواقع والذي يراد في الاعتماد على خبر الفاسق الذي وقع التثبت فيه إنما هو الوصول إلى الواقع كما ينادي به سوق الكلام، وهذا هو الذي يناسب التعليل بعدم الوقوع في الندامة بعد اتباع الخبر لأن تثبت الاعتقاد والتعمد لا يلازم مصادفة الواقع كما لا يخفى، وحيث كان مفاد المنطوق هذا المعنى، كان مفاد المفهوم أيضا مطابقا له في ذلك كما هو المدار في أخذ المفهوم من المنطوق باعتبار لزوم أخذ القيد المأخوذ في المنطوق في المفهوم كما قرر في محله، فيكون المفهوم جواز العمل بخبر العدل من غير تثبت لكونه مطابقا للواقع وعدمه ومقتضاه الأخذ بخبر العدل مطلقا من غير أن يضم إليه الأصل الذي نسبه المورد إلى العقلاء في نفي الغفلة والخطأ والنسيان ونحوها، وهذا العموم الإطلاقي كاف في شمول المفهوم لخبر العدل الحدسي حيث لا يحتاج الأمر إلى ضم الأصل المذكور، والقول بأن هذا معارض بالتعليل والتفصيل الذي قاله المورد مدفوع بأن احتمال [الصفحة 57] وجود حكمة في إخبار العدل يتدارك بها مخالفة الواقع المحتمل باعتبار غفلته وسهوه وخطئه يدفع ذلك كما وقع نظير ذلك في غير واحد من الظنون التي يحتمل مخالفتها للواقع على النحو الذي قرر في جواب من منع من جواز التعبد بخبر الواحد عقلا لاحتمال مخالفته للواقع.

        وسادسها: إن الذي استفاده المورد من التفصيل والتعليل أمر اعتباري استنباطي وليس من المداليل اللفظية المعتبرة التي تستفاد بطريق دلالة التنبيه والإيماء ومنصوص العلة، والدليل عليه عدم فهم أهل اللسان هذا الأمر الدقيق قبل إعلامهم له، ولا يخفى أن المعتبر في المداليل المعتبرة إنما هو ما يتبادر إلى أذهانهم قبل إلقاء الشبهات والأمور الاعتبارية إليهم فيكون التعويل على هذا الأمر الاعتباري من قبيل التعويل على القياس الاستنباطي في مقابل الإطلاق اللفظي، وادعاء حصول القطع بذاك الاعتبار وكونه من قبيل تنقيح المناط القطعي مقطوع الفساد، لأن الأمور التعبدية الواردة في الشرع أغلبها مما لا يمكن الإحاطة بجميع ما فيها من الحكم والمصالح، فلعل في إخبار العدل حكمة توجب محلها قبول قوله حتى في صورة احتمال الغفلة والخطأ، ولعل الله تعالى من جهة عدله يعصمه غالبا عن الوقوع في الخلاف كما هو الشأن في المعصومين والأولياء.

        ثم من الإيرادات التي يمكن أن يورد في المقام أن الإجماع المنقول بخبر العدل مبني على الحدس الحاصل للناقل من جهة كونه حاصلا له بالوجوه النظرية الاجتهادية التي أكثرها حدسيات، ولذا قال بعضهم([3]) في مقام رد بعض وجوه الحدس في الإجماع أنه مبني على مقدمات نظرية واجتهادات كثيرة الخطأ ولا دليل على قبول خبر العادل المستند إلى هذا الحدس المبتني على تلك الأمور، لأن إطلاق الآية الشريفة وما في حكمها من الإطلاقات إنما ينصرف إلى الأمور المحسوسة لا بمعنى أن لا يصدق عليه البناء، كما ربما يظهر من بعضهم، فإنه بين الفساد لوضوع صدق النبأ على الحدسيات أيضا، فإن الإخبار عنها ليس من قبيل الإنشاء بل من جهة عدم الفرق انصراف الإطلاق إلى مثله سيما في صورة شدة وجوه الحدس كما هو المفروض في المقام، وهذا هو الوجه لعدم شموله هذا الإطلاق ونحوه للشهادة الحدسية الصادرة من الشهود أيضا، والوجه في عدم الانصراف هو إعراض العقلاء وأهالي العرف والعادات عن الاعتماد على مثل ذلك.

        ويمكن الجواب عنه [الصفحة 58] بأن هذا بإطلاقه ممنوع بيانه أن الذي يستفاد من طريقة العقلاء التي قررها الشارع في جميع الشرائع أنهم لا يقتصرون في الاعتماد على إخبار أحد من أهل الخبرة في شيء من الموارد التي يرجع فيها إليهم من العقليات والعاديات والشرعيات وسائر المجعولات في جميع الحرف والصنايع والعلوم عل خصوص ما يبتني على المبادي المحسوسة على وجه لا يكون للنظر والاستنباط وحكم العقل مدخلية فيها أصلا، وأيضا علم منهم أنهم لا يتجاوزون عن الأمور المحسوسة إلى مطلق ما يحصل لأهل الخبرة من الاجتهاد والنظر وحكم العقل، والذي يكون مناطا عند العقلاء في مقام الرد والقبول أن النظر والاجتهاد قد يكون في تحصيل ما يوصل إلى المطالب المقررة في الأمور المذكورة بحيث يدخل الناظر المذكور المحصل لتلك المطالب في عنوان أهل الخبرة هذه المطالب، وقد يكون في ترجيح الأمور المتعارضة التي يشاهد في أهالي هذه المطالب المقررة في تلك الأمور، فإن كان النظر والاجتهاد من قبيل القسم الأول، فلا يخفى أن الاعتماد على قول هذا الناظر مما أطبق عليه العقلاء كافة في الاعتماد على قول أهل الخبرة وإن كان مبنى اخباره بعض الأمور النظرية التي لا تكون خارجة عن طريقة أوساط العقلاء، وأن كان من قبيل الثاني فهذا هو الأمر الاجتهادي الاستنباطي الذي لم يعهد من العقلاء قبول قول المخبر فيه وإن كان عدلا على وجه الإطلاق أو في الجملة، وبالجملة ليس المدار في القبول وعدم القبول على الابتناء على المبادي الحسية مطلقا وعلى عدم الابتناء عليها مطلقا ولا على الابتناء على خصوص ما ليس من الأمور النظرية الاجتهادية والابتناء على ما هو من قبيلها وهذا هو الوجه فيما استقرت عليه طريقة كافة العلماء في جميع العلوم من إنهم قد يقبلون قول أحد من العاملين في واحد من تلك العلوم في بعض المطالب المقررة في هذه العلوم ويتمسكون بقوله ويجعلونه حجة ودليلا على مطلبهم وقد يردونه ويقولون لم يثبت لنا ما قاله هذا العالم الناظر في هذا العلم، وأيضا هذا هو الوجه في قبولهم الأخبار غير من يناظرون معه من أهل عصرهم أو غيرهم في مقام تعارض الأدلة والوجوه الاجتهادية النظرية وعدم قبولهم لأخبار هؤلاء، وأيضا هذا هو الوجه في قبولهم الخبر([4]) العدل بالحكم الصادر عن الحجة وعدم قبولهم لفتواه مع أنه أيضا [الصفحة 59] ينحل إلى الاخبار بحكم الحجة، وحيث قد عرفت الفرق بين القسمين نقول: إن الإجماع الذي يحكيه العدل إن كان من قبيل الأول فلا وجه لرده بل على قبوله طريقة كافة العقلاء ويشمله نفس دليل قبول خبر العدل أو مناطه وفحواه على الوجه الذي قررناه وإن كان من قبيل الثاني فنحن أيضا نمنعه، ولا يدل على قبوله على وجه الخبرية وكونه من قبيل إخبار أهل الخبرة شيء من أدلة قبول خبر العدل، ولا يخفى أن عدم ثبوت هذا لا ينفي ثبوت الأول فتبصر. مع أن كون بناء ناقل الإجماع على المبادي الحسية غالبا كما أن مبادي أمر المخبر بالملكات كالشجاعة والسخاوة  والمروة وحسن الخلق والعدالة وأمثالها على المبادي الحسية، وإن كان الإخبار بنفس تلك الأمور الحدسية فالبناء على المبادي الحسية يدخلها فيها وينصرف إليها ما ينصرف إلى الأمور الحسية، وحال الإجماع المنقول كذلك غالبا كما لا يخفى على المتتبع في مطاوي الأحكام الفقهية.

        نعم لا بأس بأن يقال أن الحدس الصرف بحيث لا يرجع أمره إلى شيء من الحسيات لا يوجد في العالم إلا على قول بعض أهل المزخرفات من الكشفيين، وكذا لا يوجد شيء من الحس الصرف إلا على قول بعض العوام الذين هم كالأنعام في عدم إدراكهم للكليات والمطالب المستفادة من الحسيات، فكل الأمور الحاصلة لأهل الفهم والإدارك مستفادة من الحدس والحس معا، وفي هذا القسم قد يغلب الحس على الحدس وقد ينعكس الأمر والذي يشهد به الفهم السليم أن المدار في الإلحاق بأحد الأمرين على ما هو الغالب منهما والميزان في بناء العقلاء وشمول الإطلاقات وسائر الأدلة من جهة الحسية والحدسية على ذلك، والحق أن غالب الإجماعات المنقولة من قبيل غلبة الحس على الحدس فتدبر.

        وأيضا من الأمور التي يمكن أن يورد بها في المقام أن ناقل الإجماع إنما ينقل شيئا أمره دائر بين كونه قطعي الخلاف وواضح الفساد وكونه خلاف ما هو المقصود من نقل الإجماع  فلا يكون دليل حجيته بناء العادل شاملا له لأنه إن ادعى الإجماع الواقعي على الحكم الواقعي الثبت في نفس الأمر للواقعة، فمن المقطوع أنه مخالف للواقع لأن الذي يمكن الوقوف عليه من كلماتهم في مقام الاجتهاد والظنون المعتبرة عندهم ولا أقل من أن يكون قول بعضهم كذلك [ الصفحة 60] وادعاء كون جميع المجمعين قاطعين بالحكم الواقعي بالنسبة إلى الإجماعات المنقولة المتداولة التي يمكن الاطلاع عليها في غاية السقوط، وحيث ثبت عدم كون جميعهم بانين على القطع ظهر أن الحكم الذي ينسبه الناقل إلى أكثرهم أو كثير منهم إنما هو الحكم الظاهري، ولا يخفى أن الذي يصدر من المعصوم إنما هو حكم الله الواقعي، فقول الناقل أن الحكم إجماعي إن أراد الواقعي فهو خلاف الواقع، وإن أرد الظاهري فهو نقل الكاشف فقط لخروج المعصوم، وإن أراد الأعم فهو خلاف ما يحكيه لأن الحكم الذي يدعى الإجماع عليه إنما هو الحكم الواقعي مع أن الظاهر مما يحكى الإجماع عليه في كلماتهم هو الحكم الواحد كما لا يخفى.

        والجواب عنه أنا نختار أن المحكي في كلام الناقل هو الحكم الواقعي، ولا منافاة بين صدق الواقعي والظاهري كليهما على حكم المستنبط([5]) أعم من كونه قاطعا بالحكم أم ظانا به، لأن الحكم الظاهري إنما يحصل للمجتهد بعد اعتقاده لكون ما استنبطه حكما واقعيا وبناءه على ما اعتقده، فالحكم الظاهري ليس ثابتا للمستنبط قبل استنباطه أصلا وإنما يحصل له بسبب استنباطه وبناءه عليه ولذا يتعدد بتعدد رؤوس المستنبطين المختلفين، ومن جهته قد وقع التصريح في كلمات جمع من المحققين بأن مذهب الإمامية وإن كان تخطئة التصويب بالنسبة إلى الأحكام، إلا أنهم كلهم قائلون بالتصويب بالنسبة إلى الأحكام الظاهرية لأنها مسبب عن استنباط المجتهدين، فاجتهاد المجتهدين محصل لها وليس كاشفا عنها ومن هنا يظهر الوجه فيما قيل من أن ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم لأن القضية الأولى بالنسبة إلى الحكم الواقعي والثانية بالنسبة إلى الحكم الظاهري، فالمجتهد في مقام الاستنباطات الظنية ظان وهو الذي يكون عليه مبنى اجتهاده ومن جهته يطلق عليه المجتهد وباعتباره يعد من المخطئة في صورة خطئه وفي مقام الحكم الظاهري الذي يحصل له من اجتهاده قاطع بأن ما حصل من استباطه هو حكمه نظر إلى الكبرى الإجماعية المحققة  في محلها، ومن جهته يطلق عليه الفقيه لأنه المناسب لموضوع الفقه وبذاك الاعتبار لا يتصور في حقه الخطأ ولذا جعل بعضهم معنى العلم في تعريف الفقه بالإجماع بالعلم بالأحكام باقيا على حقيقته وتصرف في الحكم بجعله أعم من الواقعي والظاهري، وبه رفع الإشكال الوارد على عكس [ الصفحة 61]  التعريف بخروج مظنونات المجتهدين.

        وبالجملة فالمحكي عن أهل الإجماع في كلام الناقل إنما هو ما اعتقده ولا يخفى أن معتقده الحكم الواقعي من حيث أنه معتقده، غاية الأمر أن الحكم الذي صدر من الإمام في جملة المجمعين لا يتخلف عما هو ثابت في نفس الأمر بخلاف الحكم الصادر عن غيره منهم، وهذا أمر آخر لا ينافي كون نظر الجميع إلى الحكم الواقعي ثم أيضا ما يمكن أن يورد بها في المقام أن الإجماعات المنقولة التي تداول التمسك بها ليست من قبيل الخبر المعتبر الإجمالي الذي أقيم الدليل على حجيته، لأنها مأخوذة من كتب القوم ومصنفاتهم، بل لم نر من تمسك بالإجماع المنقول اللفظي على وجه مستند إلى السماع من ناقله على وجه رواية الأخبار التفصيلية، ولا يخفى أن المأخوذ من الكتب خطوط ونقوش وليس من قبيل اللفظ والكلام فليس بخبر ولا يصدق عليه النبأ والخبر وما في معناهما في شيء من اللغة والعرف والاصطلاح، ويصح سلب الخبر وما يرادفه عنه في جميع هذه المخاطبات لأن الخبر وما معناه كلام خاص قد تعرض أهل العربية والأصول لتعريفه واتفقوا على كونه من قبيل الألفاظ، فما دل الدليل عليه غير ثابت وما ثبت غير ما دل الدليل على حجيته.

        والقول بأن هذا منقوض بما لا ريب فيه من الرجوع إلى كتب الأخبار والأصول المصنفة في الأحاديث فإنها أيضا خطوط ونقوش وليست من قبيل الأخبار التي دل الدليل على حجيتها في مقام إقامة الدليل القاطع على حجية أخبار الآحاد مدفوع بالفرق بين المقامين، فإن النقوش الحاكية عن الأخبار التفصيلية وإن لم تكن من قبيل الخبر في شيء من اللغة والعرف والاصطلاح إلا أن حكمها حكم الخبر في الحجية.

        ويمكن أن يستند في حجيتها إلى أحد أمور ستة أو جميعها.

        أحدها: الإجماع العملي، فإن السيرة المستمرة من قديم الزمان إلى يومنا هذا جارية على التعويل على هذه الخطوط والنقوش المثبتة في الكتب المعتبرة والاعتماد عليها ولم يظهر من أحد من العلماء في شيء من الأزمنة والأعصار مناقشته في الاستدلال بهذه النقوش والخطوط بأنها ليست بخبر وحديث وإنها نقوش وخطوط ولا يشملها القاطع الذي أقيم على حجية الأخبار.

        وثانيها: الأخبار الكثيرة المتجاوزة من حد الاستفاضة الآمرة بالرجوع إلى كتب الأخبار، فإنها وإن كانت نقوشا وخطوطا وسبيلها سبيل سائر الأخبار [ الصفحة 62] المنقوشة من جهة كونها موردا لهذه المناقشة فيتطرق إلى التمسك بها توهم الدور، إلا إنها محفوفة بالقرائن القطعية المفيدة للقطع بصدور مضمونها بل لعل المستفاد منها أنها من المتواترات المعنوية.

        وثالثها: أن طريقة غالب العلماء في رواية كتب الأخبار على الإجازة والاستجازة بل المستفاد من طريقة جمع من القدماء أنهم كانوا لا يستحلون التعويل على ما في الكتب والأصول إلا بالرواية على وجه التفصيل أو الإجازة الإجمالية فلأمر في الرجوع إلى الكتب يرجع إلى الرواية اللفظية ولو إجمالا، وهذا القدر أيضا كاف في المقام.

        ورابعها: أن يستفاد من أدلة حجية الأخبار أن المدار في الروايات على حصول الإعلام بأي وجه كان وليس المناط هو خصوص الإعلام اللفظي، فالمناط منقح في المقام على وجه القطع واليقين.

        وخامسها: ما يحصل كثيرا ما من القطع بأن مصنفي هذه الكتب المعروفة المعتمدة المدونة في الأخبار إنما درسوا هذه الكتب وحصل منهم التلفظ بمضامينها على وجه الرواية اللفظية لتلاميذهم وأصحابهم، وهذا القدر أيضا كاف في المقام كما لا يخفى.

        وسادسها: أنه يصح عرفا إطلاق الخبر والنبأ ونحوهما على هذه النقوش والخطوط ولو على وجه المجاز الراجح الذي غلب استعماله على استعمال الحقيقة فيشمله إطلاق ما دل على حجية الخبر التفصيلي. ولا يخفى أن المدار في فهم ما دل من الكتاب والسنة وكلمات العلماء على حجية الأخبار على ما يفهم منها عرفا في ظاهر الإطلاق وإن كان على وجه رجحان المجاز.

        وأنت خبير بأن شيئا من هذه الوجوه الستة لا يجري في المقام. أما الأول: فلأن المفروض أن حجية الإجماع المنقول ليست إجماعية، بل ظاهر الأكثر أو أكثر القدماء عدم حجيته، فكيف يمكن إدعاء الإجماع على ما يتفرع على حجيته. وإن أريد منه خصوص اتفاق من قال بحجيته فمثله غير نافع لأنه في نفسه ليس بكاشف عن قول الحجة قطعا، وأيضا هذه المسألة لم تكن معنونة في زمن الحضور وما يقاربها من زمن الغيبة عند علماء الإمامية، ولم يظهر من أحد منهم إعماله في شيء من الأحكام، وقد بينا في محله أن الإجماع المنقطع عن زمان الحضور ليس بكاشف عن قول الحجة، فليس بشيء على فرض تسلميه أيضا.

        وأما الثاني: وهي الأخبار، فلا يخفى أنها تنصرف إلى الأخبار التفصيلية، ولا يشمل إطلاقها مثل هذا الخبر الإجمالي المبتني على غير [ الصفحة 63] واحد من الأمور الوجدانية وإمعان النظر في جملة من اللوازم والملزومات، ولا أقل من الشك في الشمول، وهو أيضا كاف في عدم الثبوت.

        وأما الثالث: فلأنا لو سلمنا شمول إجازات العلماء لكتبهم المصنفة الخالية عن الأخبار المفصلة والروايات المتداولة بحيث تشمل الإجماعات المنقولة([6]) لتكون تلك الإجازات واردة على مفاد تلك النقوش الحاكية عن الإجماعات المنقولة، فلا يصح([7]) صدق الخبر اللفظي على مفادها ولو إجمالا بخلاف إجازاتهم للأخبار التفصيلية فإنها متأخرة عنها في كلمات غير علماء زمن الحضور. والقول بأصالة تأخر الحادث في هذا المقام معارض بمثله في أمثال المقام، كما أن الإجازة لما يصدر من المخبر بعد زمان الإجازة خارجة عن القانون المقرر في الإجازات، ونقطع بعدم صدوره من أحد منهم. واحتمال الوقوف على تاريخ بعض الإجازات بحيث يكشف عن تأخره عن تاريخ الكتاب المشتمل على نقل الإجماع مما لا يقع الاطلاع عليه غالبا إلا بالوقوف على صورة ما رقم من ذاك البعض، ولا يخفى أن هذا المرقوم أيضا خطوط ونقوش ولا يمكن التمسك به إلا بعد كشفه عن التلفظ به في ذاك التاريخ، ومثله غير معلوم غالبا لاحتمال تأخر كتبه عن التلفظ به، ولو فرض العلم باقتران الكتب للتلفظ أو علم تأخر اللفظ من غير جهة ما رقم من صورة الإجازة، فلا يخفى أنه في غاية الندرة بالنسبة إلى كتب غير المعاصرين لمن يتمسك بالإجماعات المنقولة، بل لم نقف على فرد منه بالنسبة إلى غير المعاصرين، واحتمال وجود مثله في المعاصرين وإن لم يكن بذاك البعيد إلا إنه أيضا لم يعهد من المتمسكين بالإجماعات المنقولة المتداولة كما لا يخفى.

        وأما الرابع: فلأن القدر الثابت من هذا المناط على فرض حصول القطع به إنما يكون في الأخبار التفصيلية، والقول بشموله لما نحن فيه بعيد في الغاية بل مثله في الأول أيضا ممنوع.

        وأما الخامس: فلو سلم صحته بالنسبة إلى الأخبار المفصلة فلا نسلم بثبوت مثله في الكتب المشتملة على الإجماعات المنقولة، ومجرد احتمال وقوع التلفظ بها غير كاف بل لا يكفي الظن بالتلفظ أيضا لأنه ظن في الموضوع الصرف ولم يقم دليل على حجية هذا الظن في ذاك المقام.

        وأما السادس: فلا نسلم كونه من المجازات الراجحة مطلقا بحيث يشمل مثل ذاك الخبر الإجمالي المفروض في المقام بل من المجازات الراجحة إذا أضيف إلى الخبر التفصيلي خاصة.

[ الصفحة 64]

        ويمكن الجواب عن ذاك الإيراد بأن الوجه الأول المبني على الإجماع العملي يجري نظيره في ذاك الخبر الإجمالي أيضا، ...([8]) العمل في الاعتماد على الخط ليس على خصوص الخبر التفصيلي بل يجري الأعم منه ومن الإجمالي، وعدم كون مسألة حجية الإجماع المنقول إجماعيا لا ينافي الإجماع على بناء العمل في الخبر الإجمالي أيضا، فإن كلا من موردي الإجماعين غير الآخر، بل يمكن أن يقال أن مساواة الخط للقول في الكشف عما في الضمير وجواز الاعتماد عليه يكون أصلا في جميع الأمور الإخبارية والإنشائية نظر إلى بناء العقلاء وطريقة أهالي العرف والعادات وما هو المتداول بين كافة الناس في معاشراتهم ومحاوراتهم ومعاملاتهم والتزاماتهم وقاطبة وقايعهم التي يريدون فيها تبيان ما في نفوسهم كما نص عليه شيخنا المعاصر في كتابه الكبير جواهر الكلام في كتاب الوصية، وإن وقع منه خلافه أيضا في كتاب الإقرار، وهذا الأمر يجري في الأقارير والوصايا والأوقاف والشهادات والأحكام الصادرة عن حكام الشرع وغيرها، ولا ينافي هذا ...([9]) عدم جريانه في العقود اللازمة والإيقاعات في حاله نظرا إلى الإجماع ونحوه كما هو المقرر في جميع الأصول التي خرج منها بعض أفراد مواردها بالإجماع ونحوه.

        وبالجملة فالفرق بين نقل الخبر التفصيلي والإجمالي من هذه الجهة تحكم، ثم أيضا من الإيرادات التي يمكن أن يورد في المقام أن ناقل الإجماع من العلماء الذين يعتنى بهم لا يريد من الإجماع إلا نقل الكاشف عن قول الإمام عليه السلام بأحد الوجوه الخارجة المقررة في محلها من اللطف والتقرير واقتضاء العادة الكاشفة عن موافقة الإمام فليس نقلهم خبرا إجماليا أيضا بحيث يشمله إطلاق آية النبأ ونحوها مع أن الإجماع اللطفي لا لطف فيه بل بين الفساد وغيره لا يتحقق الملازمة بينه وبين قول الإمام في أعصار العلماء الناقلين للإجماع إلا بنقل اتفاق كلهم ممن هو في عصر الناقل وما تقدمه، وهذا أيضا خلاف ظاهرهم كما نبه عليه بعض مشايخنا المعاصرين في رد السيد الكاظميني شارح الوافية. نعم لو أراد ناقل الإجماع نقل الكاشف والمنكشف معا لكان الاستدلال بالآية متجها لكنه لا مجرى له في المقام.

        ويمكن الجواب عن الأول بأن الظاهر من ناقل الإجماع نقل الكاشف والمنكشف معا فإنه المعنى الاصطلاحي الذي يريدونه أهل الإصطلاح في استعمالاتهم، وتوهم [ الصفحة 65] أن حصول مثله للناقل لا يمكن إلا بتحقق اتفاق كل علماء أعصر الناقل وما سبقه، وهذا أمر نقطع بفساده بخلافه، بالنسبة إلى الناقل مدفوع بأن الأمر في الكشف عن قول الإمام لا ينحصر في اتفاق الكل بل له طريق آخر أقوى منه في استلزامه الملازمة العادية، وهو أن الذي يحكم به تتبع موارد اتباع المرؤوسين إذا لاحظوا اتفاق أركان الرئيس على شيء من الأمور التي قد علم منها أنهم لا يقدمون عليه بدون إذن الرئيس ورضاه به، يقطعون بمقتضى العادة بأن الرئيس قد رضى به وحكم بما أقدموا عليه هؤلاء الأركان. أما ترى أن كثيرا من أحكام السلاطين إنما يعلمها الرعية بما يلاحظون من اتفاق الوزراء والأمراء الكملين من أركان دولته عليه، وكذا معرفة غالب أحكام بعض أهل الشرائع أو المذاهب لبعض آخر منهم إنما تحصل باتفاق أساطين علمائهم وأركان أهل الحل والعقد منهم عليه وان كانوا معدودين، وهذه المعرفة مما لا تنفك عادة عن معرفة طريقة هؤلاء الأركان، بل هذا أمر جار في معرفة غالب مطالب الأسانيد في كل حرفة وصنعة حيث نعرف مطالبهم ومقاصدهم المخصوصة بهم بمعرفة ما يصدر من أركان تلاميذهم وأتباعهم في هذه الأمور، بل يمكن أن يقال أن الملازمة العادية تحصل بأقل من ذلك أيضا، وهذا أمر يتفاوت باعتبار شدة مدخلية من يصدر منه القول أو العلم من هؤلاء المخصوصين بذلك الرئيس في الأحكام الصادرة من الرئيس، فكثيرا تحصل الملازمة العادية بين معرفة قول واحد منهم مع معرفة قول الرئيس، كما يشاهد في الحكم الصادر من وزير الملك بالنسبة إلى ما لا يحكم به إلا بإذن الملك.

        وحيث قد عرفت عدم الانحصار مع معرفة اتفاق الكل، وثبت طريق آخر أقوى منها، يمكن لنا أن نقول أن تمسك الناقل للإجماع يمكن أن يكون بذاك الطريق، وهذا أمر ليس بذاك البعيد، بل التتبع الكامل يقضي بأن طريق إدراكهم لأكثر الأحكام الإجماعية هو ذاك الطريق، بل كثيرا ما يصرح المحققون من فقهائنا بعين هذا الأمر، ولو لم نخف طول الكلام لما أعرضنا عن ذكر كثير منها في هذا المقام.

        وأيضا مما يمكن إن يورد به في  المقام أن الذي يقول بحجية الإجماع المنقول بالنظر إلى الآية الشريفة إنما يقول به إذا أفاد قول الناقل العادل [الصفحة 66]  فلنا بما أخبر به لأنه يقول بكونه من الأدلة الاجتهادية الكاشفة عن الواقع بوصف الظن الشخصي كما هو ظاهر الأكثر أو الظن النوعي كما يظهر من بعضهم.

        ولا يخفى أن الإجماعات المنقولة التي يتمسكون بها وتداول التمسك بها في مقام الاستدلال لا يتم شيء منها إلا بضميمة استصحاب عدم رجوع الناقل عن معتقده الذي ادعاه من أنه قطع بكون مورده قولا للحجة، لأن شرط قبول خبر العدول ومن في حكمه عدم رجوعه عما أخبر به، وإحراز هذا الشرط لا يمكن في المقام إلا بالاستصحاب، فإن جميع هؤلاء الناقلين للإجماع يحتمل في حقهم الرجوع لا سيما الذين لم نشاهدهم من أصحاب الكتب المصنفة التي يؤخذ منها الإجماعات المنقولة وخصوصا الذين قد كثر منهم الرجوع في فتاواهم والعدول عما أخبروا من الإجماع المنقول من الدليل الاجتهادي، لأن النتيجة تابعة لأخس المقدمات، وأيضا كل من يقول بحجيته بوصف الظن الشخصي لا يمكنه التمسك به لما حقق في محله من عدم استلزام الاستصحاب للظن الشخصي.

        ويمكن الجواب عنه: بأن الغالب عدم رجوع هؤلاء المدعين للإجماعات المنقولة عن معتقدهم في فتاواهم ورواياتهم والأخبار الصادرة عنهم، كما يكشف عنه تتبع كلماتهم، وهذا القدر كاف في حصول الظن بعدم الرجوع وإن لم يكن من جهة الاستصحاب.

وللمنكرين للحجية أمور ثمانية:

        أحدها: الأصول من استصحاب عدم الحجية واستصحاب عدم قول الشارع لذاك الطريق واستصحاب عدم ترتب شيء عليه وقاعدة العدم الجارية في مقام الشك في الثبوت والعدم الثابتة ببناء العقلاء.

        وثانيها: الأدلة الدالة على المنع من اتباع غير العلم من الظن وغيره.

        وثالثها: أن اتباع قول الغير في هذا الأمر تقليد له، والتقليد ممنوع للمجتهد، وعلى فرض جوازه له فالإجماع بل الضرورة على عدم جواز تمسك المجتهد به في مقام الإفتاء وإثبات الحكم، وعلى فرض جوازه محض تقليد لمميت الممنوع بالإجماع، لأن المتداول من الإجماعات المنقولة التي وقع التمسك به للقائل بالحجية هي خصوص الإجماعات المحكية في كلمات الأموات من العلماء.

        ورابعها: أن المشهور المعروف عدم حجيته، بل لم يشاهد من أحد من الأصوليين والفقهاء التمسك به قبل الفاضلين مع عموم الابتلاء به وشيوعه من قديم الزمان إلى هذه الأعصار المتأخرة [ الصفحة 67] فيكون حاله حال الخبر الصحيح الذي وقع الإعراض عنه، ومثله ليس بحجة في الروايات المفصلة الاصطلاحية المتفق عليها فضلا عن مثل هذه الرواية الإجمالية المختلف فيها.

        وخامسها: أن التتبع التام في كلمات من تقدم على الفاضلين يكشف عن وقوع الإجماع على عدم حجيته، بل يمكن القطع بوقوع سيرتهم من زمن الحضور إلى زمن المتأخرين من الفقهاء والمتأخرين الأصوليين على عدم الاعتناء به، فإنه لو كان حجة لكان اللازم عليهم النظر إليه في طي النظر إلى أدلة الأحكام لعدم تمامية استفراغ الوسع المعتبر في الاجتهاد، والصحيح مع عدم ملاحظته وعدم الاعتناء به على فرض حجيته.

        وسادسها: أن حمل الإجماع في كلماتهم على إجماع أهالي كل الأعصار مما يظن خلافه، لأن مثله لا ينفك عادة عن اطلاع غير الناقل عليه والمفروض عدم تحققه له، وحمله على إجماع أهل عصر الناقل خاصة مما نظن أو نقطع بعدم كشفه في زمن الغيبة كما حقق في محله، والمعروف من الإجماعات المحكية خصوص ما ادعوه في غير زمن الحضور بل لم نقف على فرد منه في غير هذا الصنف، وحمله على غير هذين المعنيين من المعاني المحتملة المجازية مما لم يعلم من الناقل، فكيف يمكن البناء على مثله.

        وسابعها: أن هذه مسألة أصولية والمطلوب فيه القطع، فكيف يتمسك في ‘ثباتها بما يفيد الظن من إطلاقات الكتاب والسنة الدالة على حجية أخبار الآحاد، ولانحصار الأمر في تلك الإطلاقات فإن الإجماع المحقق الجاري في الروايات المفصلة لا تجري هنا لأنه موضع خلاف بل معركة الآراء، والتمسك بالإجماع المنقول الذي تمسكوا به تمسكوا به فيها في هذا المقام مستلزم للدور كما لا يخفى.

        وثامنها: أن خبر العدل بالإجماع إن أفاد ثبوت مفاده فهو إجماع محقق بخبر العدل كالذي يتحقق بشهادة العدلين وهو منفي على زعم المتمسك به ولم يدعه أحد منهم وإن لم يفد ثبوت فليس بحجة لأن مرجع القول به إلى القول بورود رواية إجمالية من غير إفادتها لشيء.

        والجواب عنها؛ أما عن الأول: فبأن الأصل يندفع بقيام الدليل على خلافه، وقد مر الدليل على ثبوت الخلاف فانقطع الأصل بجميع وجوهه الأربعة، مع أن ظاهر الأكثر أن الأصول المذكورة لا يثبت إلا حكم العمل في الواقعة المجهولة وإن مقتضاها ليس أزيد من بيان حكم العمل فيرجع الأمر إلى التوقف في أصل الواقعة بالنسبة إلى الواقع، ولا يخفى أن المقصود بالأصالة  في المطالب الأصولية بيان [ الصفحة 68] حكم المسألة في الواقع، فكيف يمكن إثباته بالأصل المأخوذ في مورد الجهل بالواقعة مع أن الظاهر من الأكثر بل الجميع أن المدار في إثبات أحكام المسائل الأصولية على القطع أو الظن كما وقع التصريح به في مسألة كفاية الظن في المسائل الأصولية وعدمها ولم يعهد منهم التمسك بالأمور التعبدية العادية عن وصف الظن لكن التحقيق عندي في كلا المقامين خلاف ما يظهر من هؤلاء لما بينا في محله من أن استصحاب العدم بل مطلق الاستصحاب، وكذا قاعدة العدم المقبولة عند العقلاء من الكواشف التعبدية الناظرة إلى الواقع، وأن الأصول التعبدية الكشافة عن الواقع تعبدا كافية في المطالب الأصولية كما يشهد به تمسكهم بها في غير واحد من المقامات.

        وأما عن الثاني: فبأن الدليل الدال على الحجية على الوجه الذي تقدم ذكره أخص مطلقا مما دل على عدم حجية ما وراء العلم، فيكون مقدما عليه جريا على القاعدة المقررة، وتوهم أن الخاص إنما يقدم إن لم يكن العام معتضدا بما يوجب تقديمه كالشهرة التامة التي توافق العام في كثير من المقامات، ولا يخفى أن العموم الناهي في هذا المقام معتضد بذهاب الأكثر إلى عدم حجية الإجماع المنقول كما حكاه جمع، وأيضا تعارض الدليل الدال على الحجية مع العموم الناهي عن اتباع خصوص الظن من قبيل تعارض العمومين من وجه، لعدم ثبوت اشتراط العمل بالإجماع المنقول بوصف الظن الشخصي، بل المدار على قبول خبر العدل مطلقا والترجيح مع العموم الناهي لما عرفت آنفا، ولو سلمنا عدم الترجيح فلا أقل من التوقف...([10]) يثبت دليل المنع مدفوع بعدم ثبوت الشهرة المطلقة على المنع، والقدر المسلم منها إنما هي شهرة القدماء، وهي معارضة بشهرة المتأخرين على الحجية، وحيث لا ترجيح لأحدهما على الآخر فالقاعدة المقررة في تخصيص العام باقية بحالها، وأيضا توهم كون التعارض من قبيل تعارض العمومين من وجه مندفع بأن العموم الناهي عن اتباع الظن ناه عن التعبد بالفحوى، فالتعارض من قبيل الأعم والأخص المطلقين.

        وأما عن الثالث: فبأن هذا ليس اتباعا لفتوى الغير بمفاد الإجماع المنقول ليكون تقليدا بل اتباع لنفس الخبر من حيث أنه خبر العدل على نحو اتباع الخبر التفصيلي واتباع قول أهل الخبرة، ولا يخفى أن أحدها غير الآخر، وربما يقال بأنا لو سلمنا [الصفحة 69] كونه تقليدا، فلا نسلم المنع من مطلق التقليد الشامل لمثله لكنك خبير بأنه ضعيف في الغاية ويمكن دعوى الإجماع على خلافه.

        وأما الرابع: فبأن إعراض أكثر القدماء عن مثله على فرض ثبوته غير معلوم، لأن قدر المسلم منهم على ذاك الفرض إنما هو عدم الاعتناء به، وهو أعم من كونه من باب الإعراض عما هو حجة نوعا في خصوص بعض المقامات لاحتمال كونه من باب اعتقادهم عدم حجيته، بل الظاهر من إعراضهم عن جميع أفراده بحيث يكشف عن إعراضهم عنه نوعا هو خصوص ذات الاحتمال، وهذا نظير عدم اعتناء المنكرين فحجية أخبار الآحاد بها فإنه لا يعد إعراضا عن خصوص الخبر في خصوص المقام، لأن الإعراض مبني على ثبوت الحجية نوعا وظهور فساد في خصوص الفرد، مع أن هذا على فرض كونه إعراضا معارض بقبول أكثر المتأخرين له فلا إعراض له على وجه الإطلاق ليكون قادحا في الحجية، وتوهم أن الإعراض هنا من القدماء وهو مسقط للحجية فلا وجه لعودها بعد السقوط مدفوع بأن مثله مما هو ملحوق بقبول أكثر المتأخرين لم يثبت كونه قادحا في المقام.

        وأما ما أجاب به بعضهم من أن القدر الثابت منهم عدم ذكره في طي الأدلة كالإجماع المحقق في كلماتهم وهو لا يستلزم عدم الاعتداد بالنقل مع عدم مخالفتهم له في الحكم، فليس بشيء، لأن طريقتهم جارية على عدم الاعتداد به في صورة المخالفة في الحكم أيضا.

        وأما عن الخامس: فبأن المدار في الاستفراغ في مقام الاجتهاد ليس على الاستفراغ التام بالنسبة إلى تمام الأدلة بل القدر الذي ثبت منه إنما هو الاستفراغ المطلق لا مطلق الاستفراغ، وتحقيق ذلك أن المدار على حصول القطع أو الظن بالحكم من الدليل المعتبر والقدر الذي ثبت اشتراطه في الدليل القطعي الظني إنما هو استفراغ الوسع في الجملة بحيث لا يعد المجتهد مسامحا ومهملا في الاستنباط ويصدق أنه تفحص عن مدرك الحكم وعن الدليل وما يمكن أن يعارضه.

        ولا يخفى أن هذا يتحقق بالرجوع إلى مقدار معتد به من الأدلة ولا يتوقف على الفحص التام عنها بحيث يعجز عن الزيادة لأن هذا خلاف طريقة القدماء والمتأخرين بل هو مستلزم لتعطيل الأحكام كما لا يخفى، فحال عدم رجوع القدماء إلى الإجماعات المنقولة حال عدم رجوع([11]) القدماء إلى كثير من القواعد الأصولية المتداولة بين المتأخرين فكما أن عدم الرجوع إلى الأمرين المذكورين لا يقدح في [ الصفحة 70] استنباطهم([12]) فظهر أن عدم الرجوع أعم من إنكار الحجية ولا دلالة للأعم على خصوص الأخص.

        وأما عن السادس: فبأن الأمر غير منحصر فيما ذكر بل يمكن كثيرا إما أن يحصل الإطلاع في العصر المتأخر على الإجماع المتحقق في العصر المتقدم فلعل مدعي الإجماع وقف على الإجماع المتحقق في زمن الحضور وما يضاهيه مع أنه يمكن الاطلاع على الإجماع المتحقق في زمان الغيبة التامة أيضا على الوجه الذي قررناه سابقا.

        وأما عن السابع: فبأن المدار في الدليل على القطع أو الانتهاء إلى القطع ولو بالواسطة ولا يخفى أن الثاني متحقق في المقام بناء على ما قرر في محله من حجية ظواهر الكتاب والسنة في إثبات المطالب الأصولية أيضا وهذا لا ينافي الإجماع الذي ادعاه جمع من أن المطلوب في الأصول القطع دون الظن لوضوح أن مرادهم ليس خصوص القطع بلا واسطة بل الظاهر أن مرادهم عدم الاعتناء بالظن من حيث أنه ظن مع عدم اعتناء انتهائه إلى القطع أو إلى إنكار قيام الدليل القاطع الخاص على حجية الظن في الأصول.

        وأما عن الثامن: فبأن الذي نحن بصدده في مقام إثبات حجية الإجماع المنقول إنما هو كون المحكي من الإجماع قابلا لإثبات حكم من الأحكام أو أمر من الأمور، فإن الدليل هو ما يمكن التوصل به لا ما وقع التوصل به فعلا كما توهمه بعضهم، فورد الدليل عليه القائم بعد الدليل والدليل المغفل عنه، فعلى هذا يكفي في ثبوت الحجية ثبوت هذه القابلية وإن لم يتحقق مصداقه في مورد خاص بالنسبة إلى شخص خاص يتمسك به، ولا يخفى أن مجرد هذا لا يلزم الثبوت الفعلي الذي لزم منه كونه إجماعا محققا على ما ذكره المستدل.

        وبالجملة فالمدار في المقام على إثبات الحكم في المسألة الأصولية وما أورده المنكر إنما يجري في الموارد الجزئية من المسائل الفقهية ونحوها، وأين أحدها من الآخر، وأيضا ثبوت الإجماع بالنقل وإن كان مرجعه إلى ثبوت الإجماع المحقق تعبدا على فرض تسليم هذا الإرجاع إلا أن طريقتهم جارية على عدم عد مثل ذلك من الإجماع المحقق ولا مشاحة في الاصطلاح، فمرجع كلام مدعي الحجية إلى أن هذا القسم من الإجماع وإن لم يكن محققا في الاصطلاح إلا أنه حجة مع أن حيثية النقل غير حيثية الثبوت والكلام في خصوص الأولى.

        وللمتوقف وجوه ثلاثة؛ أحدها: الأصل بمعنى القاعدة المقررة عند العقلاء وحكم القوة العاقلة [الصفحة 71] فيما لم يعلم حاله في نفس الأمر، فإن البناء على أحد طرفي الثبوت والعدم في نفس الأمر بالنسبة إلى كل واقعة من الوقايع الخارجية من غير دليل كاشف عن الواقع ترجيح بلا مرجح ومثله متروك عند جميع أهل العقول وخلاف حكم العقل القاطع في جميع مطالب المعقول والمنقول، وتوهم أن المدار في مقام الجهل بالواقعة على الأصل الموافق لأحد الأمرين مدفوع بما مر في أدلة النافين.

        وثانيها: الشبهة التي حصلت من جهة المراد لما علم من اختلاف طريقة الناقلين للإجماعات واختلاف اصطلاحاتهم في تحقق الإجماع فإن منها مما هو فاسد عند المنقول له ومنها ما هو صحيح عنده وقد امتزج الصحيح بالفاسد في كلماتهم حيث لم يعلم مراد الناقل وفي مثله لا يمكن الحكم بكونه من أحد الأمرين.

وثالثها: بعد الاطلاع على الطريق الصحيح منه فيحصل الشك في حجية قول العدل في مثله حيث لا يفيد الظن بمفاده أو يحصل الظن بخلافه.

        والجواب عنها، إما عن الأول: فيما مر من ثبوت الدليل على الحجية على النحو الذي قررناه مفصلا.

        وأما عن الثاني: فبأنا لا ندعي حجية جميع الإجماعات المنقولة من أي عادل كان، بل المراد إثبات حجيته في الجملة، ويمكن القطع أو الظن في خصوص كثير منها بأن ناقله عول على طريقة تكون حجة عند المنقول.

        وأما عن الثالث: فبأن بعد الاطلاع إنما يكون في بعض وجوهه ويمكن أن يقطع أو يظن أن المدعى إنما عول على وجهه الذي ليس ببعيد مع أن الشك فيه أيضا كاف في المقام.

ثم الكلام في الشروط المعتبرة في حجية الإجماع المنقول وهي أمور سبعة:

        الأول: أن يكون مقرونا بوصف الظن الشخصي بوقوعه وتحققه لما هو عليه التحقيق عندي من أن المدار في حجية الإمارات الغير العلمية والطرق الظنية على حصول وصف الظن الفعلي، فإنه القدر المتيقن الثابت بالدليل القطعي القائم على حجيتها بالخصوص بناء على ما هو التحقيق من جهة حجية الظنون الخاصة، وغيره ليس بثابت فيبقى تحت أصالة عدم الحجية والعمومات الناهية عن اتباع غير العلم، وأما على القول بحجية الظنون المطلقة فالأمر في اشتراط هذا الشرط أوضح وإن احتمل بعضهم أن يكون حاصل نتيجة دليل الانسداد الذي هو من أعظم أدلتهم حجية الظنون النوعية أيضا، لكنه ضعيف في الغاية كما أن مقتضى حجية الظن في الطريق قبالا لحجية الظن في الحكم الفرعي وإن كان عدم [الصفحة 72] لزوم حصول وصف الظن في الثاني بعد إحراز وصف الظن في الطريق، لكنه أيضا خلاف التحقيق كما حققته في محله، ولا فرق في الظن المعتبر في المقام بين ما كان حاصلا من نفس الإمارة وما كان مستفادا من الخارج إذا تعلق بالوقوع والتحقق، وأما الظن المتعلق بنفس الحكم فلا يكفي إن لم يستلزم الظن بالوقوع.

        والثاني: أن يكون ناقل الإجماع من أهل الخبرة والبصيرة في الأقوال والفتاوى بأن يكون عارفا بموارد فتاوى الفقهاء قابلا لفهم كلماتهم متتبعا لأقوالهم سواء كان مجتهدا أم إخباريا بل وإن لم يبلغ درجة الاستنباط بأحد الطريقتين أيضا ولا يكفي مجرد حصول ملكة الاجتهاد في تحقق هذا الوصف له فرب مجتهد ليس له هذه الصفة فلا يعتبر قوله في نقل الإجماع ورده، ورب غير مجتهد يعتبر قوله فيهما باعتبار وجود وجود هذا الوصف فيه والوجه في اشتراط هذا الشرط عدم شمول دليل الحجية لفاقده لا عدم حصول الظن بالمخبر به كما قد يتوهم، فإنه لا ملازمة بين الأمرين كما لا يخفى.

        والثالث: عدم مخالفة الناقل للإجماع لما ادعى الإجماع عليه في موضع آخر بعد نقله للإجماع، فإن القدر الذي ثبت من حجية خبر العدل ونحوه هو ما لم يعدل الناقل عن قوله، ولا يخفى أن مخالفته لما ادعى الإجماع عليه عدول عنه، لأن العدل لا يخالف قول الإمام عمدا والأصل عدم ذهوله وغفلته، وأما إذا كان الإجماع المنقول مسبوقا بمخالفة الناقل فلا يضره ذاك الخلاف ووجهه واضح، وإنما الإشكال في صورة الشك في العدول بعد النقل والقطع بالعدول والشك في السابق واللاحق، ولعل الأوجه فيهما القبول إن حصل الظن به.

        والرابع: أن لا يعلم المنقول إليه فساد مأخذ الناقل فيما ادعاه من الإجماع بالعلم بفساد طريقه الذي عول عليه، كما إذا كان الناقل شيخ الطائفة، وعلمنا بانحصار طريقه في قاعدة اللطف التي علمنا عدم تماميتها، ولا فرق في ذلك بين حصول الظن بمطابقته للواقع من جهة بعض الأمور الخارجة وعدمه، فليس الباعث على هذا الشرط عدم حصول الظن بالمخبر به ليؤول إلى الشرط الأول كما قد يتوهم لعدم الملازمة بين الأمرين، بل من جهة أن الدليل الدال على حجية قول العدل ونحوه لا يشمل مثل هذا، وهذا الشرط ثابت فيما هو الأصل في هذه الرواية الإجمالية من الروايات المفصلة الاصطلاحية أيضا كما يظهر من غير واحد [الصفحة 73] من القدماء والمتأخرين، وأما لو وقع الشك في فساد المأخذ من جهة ما علم من طريقة الناقل من أن له طريقين أو طرق بعضها صحيح وبعضها فاسد، ففيه وجهان من أن الظاهر الحمل على الصحيح الواقعي لا الصحيح عند الناقل فقط، ومن دوران الأمر بين الصحيح والفاسد وعدم شمول دليل الحجية لمثله والأوجه القبول.

الخامس: أن لا يعلم مخالفة نقله بخروج بعض من يشمله قوله في نقل الاتفاق، كما إذا دل كلام الناقل على اتفاق الكل وعلمنا بمخالفة بعضهم وعلمنا بأنه أراد ذاك البعض أيضا لشبهة حصلت له فإنا وإن قلنا بأن مخالفة معلوم الشخص المعبر عنه بمعلوم النسب لا يضر بالإجماع المعتبر عندنا معشر الإمامية إلا أن هذا لا يضر بالإجماع المحقق، وأما المنقولة الذي علم أن الناقل أراد دخوله أيضا فه قادح بالنسبة إلى ما نرومه من الأخذ بقوله لأن إخباره بالاتفاق الشامل له إخبارا واحدا يشمل الجميع شمول الكل للأجزاء لا على نحو شمول العام الاستغراقي للأفراد، ولا يخفى أنه من قبيل شمول دلالة اللفظ على الكل مطابقة للأجزاء تضمنا فإن هذه الدلالة ليست دلالة على كل جزء من حيث الجزئية بل هي دلالة واحدة على الكل لفظا وعلى كل جزء عقلا على ما هو التحقيق من كون الدلالة التضمنية عقلية، فلا يكون إخباره عن الكل إخبارا عن الجزء لفظا، وحيث يعلم بطلان الكل المنقول في كلامه من حيث أنه كل لا يبقى لكلامه دلالة أخرى على الباقي ليكون خبر عدل فيكون حجة وهذا لا ينافي القول بأن العام المخصص حجة في الباقي لأنه إنما يكون في صورة حصول الظن بأن المتكلم أراد من كلامه الباقي كما هو الشأن في الأخبار المفصلة الاصطلاحية المخصصة لا في مثل المقام الذي فرضنا حصول العلم بأن المتكلم أراد الكل الذي علمنا خلافه.

        نعم لو فرض انحلال كلام الناقل إلى الأخبار المتعددة على عدد رؤوس المتفقين بزعمه، بأن يكون من قبيل العموم الاستغراقي فهو لا ينافي قبول قوله بالنسبة إلى من لم يعلم منه الخلاف لكنه أيضا لا يخلو عن إشكال، وعلى فرض تماميته فيمكن القول بأنه وإن ان حجة إلا أنه خارج عن الإجماع المنقول المصطلح فكأن الناقل قال هذا مما قاله الإمام ولم أعرف شخصه، وفي عده من الإجماع المنقول نظر.

        والسادس: أن لا يكون ناقله مجازفا في نقل الإجماع، فإن الدليل الذي أقمناه على حجيته لا يشمل مثله وإن فرض حصول الظن منه أيضا، لأن المدار في شمول أدلة حجية [الصفحة 74] خبر العدل ونحوه على قول لم يخرج عن حد أوساط الناس ومثله خارج عن طريقة أهل العادات المستقيمة وهذا هو الوجه في عدم الاعتناء بالإجماعات المحكية في كلام السيدين وابن إدريس بل الشيخ رحمه الله في خصوص كتاب الخلاف حيث علم من التتبع التام بأن دعاواهم في أكثر هذه الإجماعات خارجة عن طريقة متعارف الفقهاء بل يمكن القول بعدم حجية هذه الإجماعات وإن اعتضدت بالشهرة ونحوها أيضا ووجهه يعلم مما ذكرنا من الوجه آنفا.

        والسابع: أن لا يكون مورد الإجماع من الفروع المستحدثة بأن لا يكون من المسائل التي لم يتعرض الأكثرون لبيانها بالخصوص فإن عدم تداولها شاهد لعدم كونها موردا للإجماع، فكيف يكون نقل الإجماع المتقدم على التداول كاشفا عن وقوعه إلا على وجه التقدير، وهو مع عدم حجيته في نفسه غير ما هو المفروض في نقل الإجماعات المتداولة كما لا يخفى.

        ثم ينبغي التنبيه على أمر قد خفي على كثير ينبغي التنبيه عليه والتعرض له، وهو أن ظاهر القائلين بحجية الإجماع المنقول وكفاية النقل المعتبر فيه كفاية قول العدل ونحوه في نقل الكاشف عن الإجماع أيضا، لا بمعنى حجيته بنفسه، فإنه ليس بشيء بناء على ما هو التحقيق من ابتناء الأمر على الظنون المخصوصة خاصة، بل بمعنى كفاية النقل المذكور في إثبات المخبر به، فيثبت به ما يتبعه من اللوازم التي تترتب على مثله.

        وأما المنكرون للحجية فقد يحكى عن بعضهم موافقة المثبتين في خصوص ذاك النقل الذي يعبر عنه بنقل الكاشف وإن أنكر ثبوت المنكشف بالنقل الكاشف عن الكاشف والمنكشف، وقد ظهر من بعضهم في هذا المقام كلام طويل، طوله أكثر من محصوله.

        وحاصله بيان كيفية كشف الكاشف وحجية المنقول منه وترتب لوازمه عليه، وأفرط بعض آخر ممن تعرض لبيان ذلك الكلام الطويل في ترتب جميع اللوازم العقلية والعادية والشرعية للمخبر به عليه.

فالكلام يقع هنا في مقدمات ثلاثة؛ الأول: في كيفية كشف الكاشف، والثاني: في حجية المنقول منه بمعنى ثبوت نفس الكاشف بنقل العدل ونحوه، والثالث: في ترتب لوازمه عليه.

        أما الأول: فيمكن أن يتحقق بوجوه؛ أحدها: قاعدة اللطف على الطريقة المحكية عن الشيخ في العدة. وثانيها: نظيرها الثابت بالأخبار المستفيضة أو المتوارتة معنى. وثالثها: تقري الحجة بعد اطلاعه على اتفاق من عداه [الصفحة 75] على شيء. ورابعها: قضاء العادة بأن قول من عداه لا ينفك عن قوله حيث أنهم لا يقولون إلا ما يقول رئيسهم ولا يقولون إلا على ما وصل منه إليهم. وخامسها: كشف اتفاق من عداه بضميمة بعض الأمور الخارجة التي يطلع عليها المنقول إليه بحيث يكون الاتفاق المذكور بعض الكاشف لا كله.

        وأما الثاني: فلا إشكال في حجيته بمعنى ثبوت المخبر به بالنقل المذكور بناء على ما قررناه من حجية نقل الكاشف والمنكشف معا ووجهه واضح، بل يمكن القول به بفحوى الدليل الذي مر فيه، وأما على القول بعدم الحجية هنالك ففيه وجهان، والأوجه الثبوت عليه أيضا لأنه إخبار عن المبادي المحسوسة، ونقل الأمور المحسوسة مما لا ينبغي الشبهة فيها.

        وأما الثالث: فقد صرح بعض مشايخنا المعاصرين مطابقا لبعض من تقدم عليه بترتيب جميع اللوازم الثلاثة على المخبر به والذي يقوى في نظري خلافه وإنه لا يتم بإطلاقه، وتحقيق ذلك أن ترتب شيء في العادة على شيء آخر من الأمور الخارجية إنما يكون منوطا بوجود الملزوم في نفس الأمر وفي ظرف الواقع وكذا ترتب شيء على آخر من تلك الأمور أو الأمور الذهنية أو الاعتبارية عقلا بل الثاني أولى من الأول في إناطة تلازمه العقلي بالأمر الواقعي، والوجه في الأمرين ظاهر لان التلازم الملحوظ فيهما منتزع مما ثبت في الواقع وليس مبنيا على جعل الجاعل كما هو المعلوم والتعبد الصرف.

        نعم لو كان التلازم الملحوظ بين شيئين من الأشياء باعتبار جعل الجاعل كما هو المعلوم في اللوازم الشرعية وإن كان ملزومه أمرا عاديا خارجيا كفى في ترتب اللازم على الملزوم إثبات الملزوم بجعل الجاعل تعبدا؛ لأن المفروض أن التلازم جعلي، فيمكن أن يترتب على الملزوم الثابت بالجعل والتعبد، كما لا بأس بأن يترتب اللازم الجعلي على الملزوم العادي الخارجي أيضا، فيتصور في المقام أقسام أربعة وصور أربع.

        الأولى: أن يكون الملزوم واللازم كلاهما جعلين، والثانية أن يكونا كلاهما عاديين أو عقليين، والثالثة أن يكون الملزوم عاديا أو عقليا واللازم جعليا، والرابعة عكسها.

        والذي يصح منها غير الصورة الأخيرة، ولا يخفى أن ما نحن فيه من قبيل الأخيرة فإن حصول الانكشاف أمر عادي فرض ترتبه على أمر مجعول هو ثبوت الكاشف بالتعبد والجعل الشرعي.

        نعم لو فرض حصول الظن بالكاشف لزم منه الظن بالمنكشف عادة، وهذا مما لا مدخلية له بجهة الجعل [الصفحة 76] والتعبد، لكن الكلام في حجية مثله بناء ما هو التحقيق من البناء على الظنون المخصوصة لأنه إمارة ظنية باعتبار ظنية الصغرى القضية، وليست بأحد من الظنون المخصوصة لأن إخبار العدل ونحوه بالكاشف ليس من تمام الدليل بل جزأه الأصغر، والقول بأن القضية مركبة من أمرين ثابتين بالقاطع أحدهما: حجية قول العدل في الصغرى، وثانيهما: التلازم القطعي العادي في الكبرى مدفوع بما بيناه، فإن النتيحة تابعة لأخس المقدمتين، والقطع العادي في الكبرى ليس محققا في المقام كما لا يخفى، وهذا الدليل الذي تمسك به المستدل في هذا المقام نظير الأصل المثبت الذي قد تعرض له جمع من المحققين وأنكره أكثرهم، فإن الوجه المتجه الذي يمكن أن يقرر في إثباته خصوص هذا الوجه الذي بيناه في المقام، لكن الذي يقتضيه النظر الدقيق أن بين المقامين فرقا بينا، ومنه يظهر وجه ما نقول به من حجية الأصول المثبتة في الاستصحاب ونحوه من الكواشف التعبدية، ولا نقول بترتب ذاك الأثر العادي على هذا المجعول التعبدي في هذا المقام، مع تسلمينا لكون هذا المجعول أيضا كاشفا تعبديا عن الواقع، ووجه الفرق هو الفرق بين اللازم العادي الذي يترتب على المجعول الشرعي بعد تحقق سببه وما يمكن أن يكون مترتبا عليه قبل تحقق سببه، فإن المجعول الشرعي إنما يفيد كون الشيء في حكم الواقع بالنسبة إلى الآثار التي تترتب على ذاك الشيء بعد صيرورته واقعا جعليا بحصول سببه، ومثل ذاك السبب ليست سببيته على وجه الكشف عن كونه واقعا من أول الأمر نظير الإمضاء الذي يتعقب الفضولي على القول بكونه من باب الكشف، بل يكون نظير الإمضاء المذكور على القول بالنقل، وهذا هو القدر الذي دل عليه دليل الجعل في الكواشف التعبدية، ولم يثبت منها أزيد من ذلك، فعلى هذا لا بأس بأن نقول بأن الاستصحاب بناء على كونه كاشفا تعبديا يقتضي أن يترتب على المستصحب ما يتعقبه من اللوازم العادية.

        وأما خبر العدل ونحوه فهو أيضا كذلك بالنسبة إلى ما يتعقب تحقق الخبر المذكور لا ما يكون متقدما عليه، وأنت خبير بأن كلا من تقرير الإمام عليه السلام وموافقته لما عليه من العلماء متقدم على تحقق الخبر المذكور فيما نحن بصدده، مع أن استلزام قول العدل للموافقة من قبيل كشف اللازم  عن الملزوم وهو غير ثابت في الكواشف التعبد مطلقا كما حقق في الاستصحاب وبيناه في الرسالة الاستصحابية.


 

([1]) الرسالة من جملة كتبه ورسائله التي جمعها قدس سره في كتابه (معدن الفوائد ومخزن الفرائد)، والكتاب مشتمل على رسائل عديدة في الأصول والفقه وقواعد الأخبار والرجال، والنسخة المعتمدة، نسخة حجرية قديمة.

([2]) كتب في حاشية الكتاب" هو المحقق الأنصاري دام ظله". [راجع فرائد الأصول 1: 181].

([3]) كتب على حاشية الصفحة "هو السيد محسن الكاظمي في شرح الوافية".

([4])  كتب في حاشية الكتاب "المجتهد".

([5])  كتب في  الحاشية عند هذه الكلمة عبارة: "من جهتين ".

([6]) كتب في داخل مربع النص على حاشيته من الداخل من جهة اليمين ومن عند هذه الكلمة: "في تلك الكتب كما تشمل الأخبار المفصلة المذكورة في كتبهم كما هو الظاهر من كثير منهم في إجازاتهم فلا يظهر منهم تأخر هذه الإجازات عن تلك الكتب المشتملة على الإجماعات المنقولة".

([7])  ذكر كاتب النسخة في حاشية الكتاب: ووجدت في النسخة "فيصح... أيضا".

([8]) هنا كلمة غير واضحة في النسخة، ومفهوم العبارة التي تبدأ بالكلمة المفقودة أن الإجماع العملي لا يقتصر على الخبر  التفصيلي بل يجري في الجمالي أيضا.

([9])  كلمة غير واضحة في النسخة، وهي على العموم بدل من اسم الإشارة هذا.

([10]) هنا كلمة غير واضحة.

([11]) كتب في داخل مربع النص على حاشيته من الداخل من جهة اليمين ومن عند هذه الكلمة: "كلهم من القدماء والمتأخرين إلى جميع الأخبار المفصلة الموجودة في أعصارهم مع إمكان وصولهم إليها وكذا حاله حال عدم رجوع القدماء" .

([12])  كتب في داخل مربع النص على حاشيته من الداخل من جهة اليمين ومن عند هذه الكلمة: "فكذا عدم رجوع القدماء إلى الإجماعات المنقولة لا يقدح في استنباطهم".