موقع عقائد الشيعة الإمامية >> كتاب إجماعات فقهاء الإمامية >> المجلد السابع
إجماعات فقهاء الإمامية
المجلد السابع: بحوث فقهاء الإمامية في أصل الإجماع
- دروس في علم الأصول - السيد محمد باقر الصدر ج 1 ص 243: ([1])
الإجماع اتفاق عدد كبير من أهل النظر والفتوى في الحكم بدرجة توجب [الصفحة 244] إحراز الحكم الشرعي، وذلك أن فتوى الفقيه في مسألة شرعية بحتة تعتبر إخبارا حدسيا عن الدليل الشرعي، والاخبار الحدسي هو الخبر المبني على النظر والاجتهاد في مقابل الخبر الحسي القائم على أساس المدارك الحسية، وكما يكون الخبر الحسي ذا قيمة احتمالية في إثبات مدلوله، كذلك فتوى الفقيه بوصفها خبرا حدسيا يحتمل فيه الإصابة والخطأ معا، وكما أن تعدد الاخبارات الحسية يؤدي بحساب الاحتمالات إلى نمو احتمال المطابقة وضآلة احتمال المخالفة، كذلك الحال في الاخبارات الحدسية حتى تصل إلى درجة توجب ضآلة احتمال الخطأ في الجميع جدا، وبالتالي زوال هذا الاحتمال عمليا أو واقعيا. وهذا ما يسمى بالإجماع.
فالإجماع والخبر المتواتر مشتركان في طريقة الإثبات بحساب الاحتمالات، ويعتمد الكشف في كل منهما على هذا الحساب، ولكنهما يتفاوتان في درجة الكشف.
فإن نمو الاحتمال الموافق وتضاؤل احتمال المخالفة أسرع حركة في التواتر منه في الإجماع وذلك لعدة أمور يمكن إبراز أهمها في النقاط التالية:
الأولى: ان القيمة الاحتمالية للمفردات في الإجماع أصغر من القيمة الاحتمالية في التواتر، لان نسبة وقوع الخطأ في الحدسيات أكبر من نسبة وقوعه في الحسيات.
الثانية: أن الخطأ في مفردات الإجماع لا يتعين أن يكون ذا مركز واحد، بينما يكون الخطأ في الاخبار الحسية منصبا على مركز واحد عادة.
فحينما يفتي فقهاء عديدون بوجوب غسل الشعر في غسل الجنابة، ويكونون على خطأ مثلا، قد يكون خطأ أحدهم ناشئا من اعتماده على رواية غير تامة السند، وخطأ الآخر ناشئا من اعتماده على رواية غير تامة الدلالة، وخطأ الثالث ناشئا من اعتماده على أصالة الاحتياط وهكذا.
وكلما كان المركز المحتمل للأخطاء المتعددة واحدا أو متقاربا، كان احتمال تراكم الأخطاء عليه [الصفحة 245] أضعف والعكس صحيح.
الثالثة: ان احتمال تأثير الخبر الأول في الخبر الثاني موجود في مجال الاخبار الحدسية، وغير موجود عادة في مجال الاخبار الحسية، وهذا يعني أن احتمال الخطأ في الخبر الأول يتضمن في مجال الحدسيات احتمالا للخطأ في الخبر الثاني، بينما هو في مجال الحسيات حيادي تجاه كون الثاني مخطئا أو مصيبا.
الرابعة: ان احتمال الخطأ في قضية حسية يقترن عادة بإحراز وجود المقتضى للإصابة، وهو سلامة الحواس والفطرة، وينشأ من احتمال وجود المانع عن تأثير المقتضى، وأما احتمال الخطأ في قضية نظرية حدسية، فهو يتضمن أحيانا احتمال عدم وجود المقتضى للإصابة، أي احتمال كون عدم الإصابة ناشئا من القصور لا لعارض من قبيل الذهول أو ارتباك البال.
الخامسة: أن الأخطاء المحتملة في مجموع الاخبار الحدسية يحتمل نشوؤها من نكتة مشتركة، وأما الأخطاء المحتملة في مجموعة الاخبار الحسية فلا يحتمل فيها ذلك عادة، بل هي ترتبط في كل مخبر بظروفه الخاصة، وكلما كان هناك احتمال النكتة المشتركة موجودا، كان احتمال المجموع أقرب من احتماله في حالة عدم وجودها. ويتأثر حساب الاحتمال في الإجماع بعوامل عديدة منها: نوعية العلماء المتفقين من الناحية العلمية، ومن ناحية قربهم من عصر النصوص.
ومنها: طبيعة المسألة المتفق على حكمها، وكونها من المسائل المترقب ورود النص بشأنها، أو من التفصيلات والتفريعات.
ومنها: درجة ابتلاء الناس بتلك المسألة وظروفها الاجتماعية فقد يتفق أنها بنحو يقتضي توافر الدواعي والظروف إشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم المجمع عليه ثابتا في الشريعة حقا.
[الصفحة 246] منها: لحن كلام أولئك المجمعين في مقام الاستدلال على الحكم، ومدى احتمال ارتباط موقفهم بمدارك نظرية موهونة إلى غير ذلك من النكات والخصوصيات.
ولما كان استكشاف الدليل الشرعي من الإجماع مرتبطا بحساب الاحتمال، لم يكن للإجماع بعنوانه موضوعية في حصوله، فقد يتم الاستكشاف حتى مع وجود المخالف إذا كان الخلاف بنحو لا يؤثر على حساب الاحتمال المقابل، وهذا يرتبط إلى درجة كبيرة بتشخيص نوعية المخالف وعصره، ومدى تغلغله في الخط العلمي وموقعه فيه.
كما أنه قد لا يكفي الإجماع بحساب الاحتمال للاستكشاف، فتضم إليه قرائن احتمالية أخرى على نحو يتشكل من المجموع ما يقتضي الكشف بحساب الاحتمال.
- دروس في علم الأصول - السيد محمد باقر الصدر ج 2 ص 127:
الإجماع يبحث عن حجيته في إثبات الحكم الشرعي، تارة على أساس حكم العقل المدعي بلزوم تدخل الشارع لمنع الاجتماع على الخطأ، وهو ما يسمى بقاعدة اللطف، وأخرى على أساس قيام دليل شرعي على حجية الإجماع ولزوم التعبد بمفاده، كما قام على حجية خبر الثقة والتعبد بمفاده، وثالثة على أساس اخبار المعصوم وشهادته بان الإجماع لا يخالف [الصفحة 128] الواقع، كما في الحديث المدعى لا تجتمع أمتي على خطأ، ورابعة باعتباره كاشفا عن دليل شرعي، لان المجمعين لا يفتون عادة الا بدليل فيستكشف بالإجماع وجود الدليل الشرعي على الحكم الشرعي، والفارق بين الأساس الرابع لحجية الإجماع، والأسس الثلاثة الأولى ان الإجماع على الأسس الأولى يكشف عن الحكم الشرعي مباشرة، وأما على الأساس الرابع فيكشف عن وجود الدليل الشرعي على الحكم.
والبحث عن حجية الإجماع على الأسس الثلاثة الأولى يدخل في نطاق البحث عن الدليل غير الشرعي على الحكم الشرعي، والبحث عن حجيته على الأساس الأخير يدخل في نطاق إحراز صغرى الدليل الشرعي ويعتبر من وسائل إثبات هذا الدليل، وهذا ما نتناوله في المقام.
وقد قسم الأصوليون الملازمة -كما نلاحظ في الكفاية وغيرها- إلى ثلاثة أقسام، ثم بحثوا عن تحقق أي واحد منها بين الإجماع والدليل الشرعي، وهي الملازمة العقلية والعادية والاتفاقية، ومثلوا للأولى بالملازمة بين تواتر الخبر وصدقه، وللثانية بالملازمة بين اتفاق آراء المرؤوسين على شيء ورأي رئيسهم، وللثالثة بالملازمة بين الخبر المستفيض وصدقه.
والتحقيق ان الملازمة دائما عقلية والتقسيم الثلاثي لها مرده في الحقيقة إلى تقسيم الملزوم لا الملازمة، فان الملزوم إذا كان ذات الشيء مهما كانت ظروفه وأحواله سميت الملازمة عقلية كالملازمة بين النار والحرارة، وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف متواجدة فيه غالبا وعادة سميت الملازمة عادية، وإذا كان الملزوم الشيء المنوط بظروف قد يتفق وجودها فالملازمة اتفاقية. والصحيح انه لا ملازمة بين التواتر وثبوت القضية فضلا عن الإجماع، وهذا لا ينفي اننا نعلم بالقضية القائلة (كل قضية ثبت تواترها فهي ثابتة) لان العلم بان المحمول لا ينفك عن الموضوع غير العلم بأنه لا يمكن ان ينفك عنه، والتلازم يعني الثاني وما نعلمه هو الأول على أساس تراكم القيم الاحتمالية وزوال الاحتمال المخالف لضالته لا لقيام برهان على [الصفحة 129] امتناع محتمله عقلا. فالصحيح ربط كشف الإجماع بنفس التراكم المذكور وفقا لحساب الاحتمال، كما هو الحال في التواتر على فوارق بين مفردات الإجماع بوصفها اخبارا حدسية، وقد تقدم البحث عن هذه الفوارق في الحلقة السابقة.
وتقوم الفكرة في تفسير كشف الإجماع بحساب الاحتمال على ان الفقيه لا يفتي بدون اعتقاد للدليل الشرعي عادة، فإذا أفتى فهذا يعني اعتقاده للدليل الشرعي، وهذا الاعتقاد يحتمل فيه الإصابة والخطأ معا، وبقدر احتمال الإصابة يشكل قرينة احتمالية لصالح إثبات الدليل الشرعي، وبتراكم الفتاوى تتجمع القرائن الاحتمالية لإثبات الدليل الشرعي بدرجة كبيرة تتحول بالتالي إلى يقين لتضاءل احتمال الخلاف.
ويستفاد من كلام المحقق الاصفهاني رحمه الله الاعتراض على اكتشاف الدليل الشرعي من الإجماع بالنقطتين التاليتين:
الأولى: ان غاية ما يتطلبه افتراض ان الفقهاء لا يفتون بدون دليل، ان يكونوا قد استندوا إلى رواية عن المعصوم اعتقدوا ظهروها في إثبات الحكم وحجيتها سندا، وليس من الضروري ان تكون الرواية في نظرنا لو اطلعنا عليها ظاهرة في نفس ما استظهروه منها، كما انه ليس من الضروري ان يكون اعتبار الرواية سندا عند المجمعين مساوقا لاعتبارها، كذلك عندنا إذ قد لا نبني الا على حجية خبر الثقة ويكون المجمعون قد عملوا بالرواية لبنائهم على حجية الحسن أو الموثق.
الثانية: ان أصل كشف الإجماع عن وجود رواية خاصة دالة على الحكم ليس صحيحا، لأننا ان كنا نجد في مصادر الحديث رواية من هذا القبيل فهي واصلة بنفسها لا بالإجماع، ولابد من تقييمها بصورة مباشرة، وان كنا لا نجد شيئا من هذا فلا يمكن ان نفترض وجود رواية، إذ كيف نفسر حينئذ عدم ذكر احد من المجمعين لها في شيء من كتب الحديث أو الاستدلال مع كونها هي الأساس لفتواهم على الرغم من انهم [الصفحة 130] يذكرون من الاخبار حتى ما لا يستندون إليه في كثير من الأحيان.
ولنبدأ بالجواب على النقطة الثانية فنقول: إن الإجماع من أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة المتقدمين لا نريد به ان نكتشف رواية على النحو الذي فرضه المعترض لكي يبدو عدم ذكرها في كتب الحديث والفقه غريبا، وانما نكتشف به -في حالة عدم وجود مستند لفظي محدد للمجمعين- ارتكازا ووضوحا في الرؤية متلقى من الطبقات السابقة على أولئك الفقهاء والمتقدمين، لان تلقي هذا الارتكاز والوضوح هو الذي يفسر حينئذ إجماع فقهاء عصر الغيبة المتقدمين على الرغم من عدم وجود مستند لفظي مشخص بأيديهم، وهذا الارتكاز والوضوح لدي تلك الطبقات التي تشتمل على الرواة وحملة الحديث من معاصري الأئمة عليهم السلام يكشف عادة عن وجود مبررات كافية في مجموع السنة التي عاصروها من قول وفعل وتقرير أوحت إليهم بذلك الوضوح والارتكاز، وبهذا يزول الاستغراب المذكور، إذ لا يفترض تلقي المجمعين من فقهاء عصر الغيبة رواية محددة وعدم إشارتهم إليها، وانما تلقوا جوا عاما من الاقتناع والارتكاز الكاشف فمن الطبيعي ان لا تذكر رواية بعينها.
وعلى هذا الضوء يتضح الجواب على النقطة الأولى أيضا، لان المكتشف بالإجماع ليس رواية اعتيادية ليعترض باحتمال عدم تماميتها سندا أو دلالة، بل هذا الجو العام من الاقتناع والارتكاز الذي يكشف عن الدليل الشرعي وجوهر النكتة في المقام هو افتراض الوسيط بين إجماع أهل النظر والفتوى من فقهاء عصر الغيبة والدليل الشرعي المباشر من المعصوم، وهذا الوسيط هو الارتكاز لدى الطبقات السابقة من حملة الحديث وأمثالهم من معاصري الأئمة، وهذا الارتكاز هو الكاشف الحقيقي عن الدليل الشرعي، ولهذا فان أي بديل للإجماع المذكور في إثبات هذا الوسيط والكشف عنه يؤدي نفس دور الإجماع، فإذا أمكن ان نستكشف بقرائن مختلفة ان سيرة المتشرعة المعاصرين للائمة والمخالطين لهم واقتناعاتهم ومرتكزاتهم كانت منعقدة على الالتزام بحكم معين كفى ذلك في إثبات هذا [الصفحة 131] الحكم وقد سبق عند الكلام عن طرق إثبات السيرة في الحلقة السابقة ما ينفع في مجال تشخيص بعض هذه القرائن.
وعلى أساس ما عرفنا من طريقة اكتشاف الدليل الشرعي بالإجماع وتسلسلها، يمكن ان نذكر الأمور التالية كشروط أساسية لكشف الإجماع عن الدليل الشرعي بالطريقة المتقدمة الذكر أو مساعدة على ذلك.
الأول: ان يكون الإجماع من قبل المتقدمين من فقهاء عصر الغيبة الذين يتصل عهدهم بعهد الرواة وحملة الحديث والمتشرعين المعاصرين للمعصومين، لان هؤلاء هم الذين يمكن ان يكشفوا عن ارتكاز عام لدى طبقة الرواة ومن إليهم دون الفقهاء المتأخرين.
الثاني: ان لا يكون المجمعون أو جملة معتد بها منهم قد صرحوا بمدرك محدد لهم، بل ان لا يكون هناك مدرك معين من المحتمل استناد المجمعين إليه والا كان المهم تقييم ذلك المدرك، نعم في هذه الحالة قد يشكل استناد المجمعين إلى المدرك المعين قوة فيه، ويكمل ما يبدو من نقصه، ومثال ذلك: ان يثبت فهم معنى معين للرواية من قبل كل الفقهاء المتقدمين القريبين من عصر تلك الرواية والمتاخمين لها، فان ذلك قد يقضي على التشكيك المعاصر في ظهورها في ذلك المعنى نظرا لقرب أولئك من عصر النص وإحاطتهم بكثير من الظروف المحجوبة عنا.
الثالث: ان لا توجد قرائن عكسية تدل على انه في عصر الرواة والمتشرعة المعاصرين للائمة عليهم السلام لا يوجد ذلك الارتكاز والرؤية الواضحة اللذين يراد اكتشافهما عن طريق إجماع الفقهاء المتقدمين، والوجه في هذا الشرط واضح بعد ان عرفنا كيفية تسلسل الاكتشاف ودور الوسيط المشار إليه فيه.
[الصفحة 132]
الرابع: ان تكون المسألة من المسائل التي لا مجال لتلقي حكمها عادة الا من قبل الشارع، وأما إذا كان بالإمكان تلقيه من قاعدة عقلية مثلا أو كانت مسألة تفريعية قد يستفاد حكمها من عموم دليل أو إطلاق فلا يتم الاكتشاف المذكور.
لما كان كشف الإجماع قائما على أساس تجمع أنظار أهل الفتوى على قضية واحدة اختص بالمقدار المتفق عليه ففيما إذا اختلفت الفتاوى بالعموم والخصوص لا يتم الإجماع الا بالنسبة لمورد الخاص. ويعتبر كشف الإجماع عن أصل الحكم بنحو القضية المهملة أقوى دائما من كشفه عن الاطلاقات التفصيلية للحكم، وذلك لانا عرفنا سابقا ان كشف الإجماع يعتمد على ما يشير إليه من الارتكاز في طبقة الرواة ومن إليهم، وحينما نلاحظ الارتكاز المكتشف بالإجماع نجد ان احتمال وقوع الخطأ في تشخيص حدوده وامتداداته من قبل المجمعين أقوى نسبيا من احتمال خطأهم في أصل إدراك ذلك الارتكاز، فان الارتكاز بحكم كونه قضية معنوية غير منصبة في ألفاظ محددة قد يكتنف الغموض بعض امتداداته وإطلاقاته.
يقسم الإجماع إلى بسيط ومركب: فالبسيط هو الاتفاق على رأي معين في المسألة، والمركب هو انقسام الفقهاء إلى رأيين من مجموع ثلاثة وجوه أو أكثر، فيعتبر نفي الوجه الثالث ثابتا بالإجماع المركب وما تقدم من الكلام كان الملحوظ فيه الإجماع البسيط، وأما المركب من الإجماع فان افترضنا ان كل فقيه من المجمعين يبنى على نفي الوجه الثالث بصورة مستقلة عن تبنيه لرأيه، فهذا يرجع في الحقيقة إلى الإجماع البسيط على [الصفحة 133] نفي الثالث، وان افترضنا ان نفي الوجه الثالث عند كل فقيه كان مرتبطا بإثبات ما تبناه من رأي، فهذا هو الإجماع المركب على نفي الثالث ولا حجية فيه، لان حجيته إنما هي باعتبار كشفه الناشئ من تجمع القيم الاحتمالية لعدم الخطأ، وفي المقام نعلم بالخطأ عند احد الفريقين المتنازعين فلا يمكن ان تدخل القيم الاحتمالية كلها في تكوين الكشف للإجماع المركب لانها متعارضة في نفسها، كما هو واضح.
- المعالم الجديدة للأصول- السيد محمد باقر الصدر ص 165: ([2])
كان الدليل الاستقرائي الذي درسناه في الفصل السابق يشتمل على استقراء عدد من الاحكام الخاصة واستنتاج حكم عام منها، فالحكم العام يكتشف بالاستقراء مباشرة، ولهذا نطلق عليه اسم (الدليل الاستقرائي المباشر).
ويوجد قسم آخر من الدليل الاستقرائي، وهو الدليل الاستقرائي غير المباشر، ونريد به أن نستدل بالاستقراء لا على الحكم مباشرة بل على وجود دليل لفظي يدل بدوره على الحكم الشرعي، ففي هذا الاستقراء نكتشف بصورة مباشرة الدليل اللفظي، وبعد اكتشاف الدليل اللفظي عن طريق الاستقراء نثبت الحكم الشرعي بذلك الدليل اللفظي.
ومثال ذلك (التواتر)، فقد عرفنا سابقا أن التواتر دليل استقرائي يقوم على أساس تجميع القرائن، فإذا أخبرنا عدد كبير من الرواة بنص عن المعصوم عليه السلام أصبح النص متواترا، وحينئذ نستدل بالتواتر بوصفه دليلا استقرائيا على صدور ذلك الكلام من المعصوم عليه السلام أي على الدليل [الصفحة 166] اللفظي ثم نستدل بالدليل اللفظي أي بذلك الكلام الثابت صدوره من المعصوم عليه السلام بالتواتر على الحكم الشرعي الذي يدل عليه.
وللدليل الاستقرائي غير المباشر بهذا المعنى الذي شرحناه أمثلة عديدة منها (الإجماع) و (الشهرة) و (الخبر) و (السيرة).
إذا لاحظنا فتوى الفقيه الواحد بوجوب الخمس في المعادن نجد أنها تشكل قرينة إثبات ناقصة على وجود دليل لفظي مسبق يدل على هذا الوجوب لان فتوى الفقيه تجعلنا نحتمل تفسيرين لها: أحدهما أن يكون قد استند في فتواه إلى دليل لفظي مثلا بصورة صحيحة، والآخر أن يكون مخطئا في فتواه. وما دمنا نحتمل فيها هذين التفسيرين معا فهي قرينة إثبات ناقصة.
فإذا أضفنا إليها فتوى فقيه آخر بوجوب الخمس في المعادن أيضا، كبر احتمال وجود دليل لفظي يدل على الحكم نتيجة لاجتماع قرينتين ناقصتين، وحين ينضم إلى الفقيهين فقيه ثالث نزداد ميلا إلى الاعتقاد بوجود هذا الدليل اللفظي.
وهكذا نزداد ميلا إلى الاعتقاد بذلك كلما ازداد عدد الفقهاء المفتين بوجوب الخمس في المعادن، فإذا كان الفقهاء قد اتفقوا جميعا على هذه الفتوى سمي ذلك (إجماعا)، وإذا كانوا يشكلون الأكثرية فقط سمي ذلك (شهرة).
فالإجماع والشهرة على ضوء مفهومنا الخاص عن الدليل الاستقرائي دليلان استقرائيان على وجود دليل مسبق على الحكم قام على أساسه الإجماع أو الشهرة. وحكم الإجماع والشهرة من ناحية أصولية أنه متى حصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة وجب الأخذ بذلك في عملية الاستنباط وأصبح الإجماع [الصفحة 167] والشهرة حجة، وإذا لم يحصل العلم بسبب الإجماع أو الشهرة فلا اعتبار بهما.
- بحوث في علم الأصول - تقرير بحث محمد باقر الصدر للسيد محمود الهاشمي ج4 ص305: ([3])
و البحث أولا عن وجه حجيّة الإجماع المحصَّل ثمَّ عن ملاك حجية نقله.
هنالك أحد مسالك ثلاثة في وجه حجيّة الإجماع المحصَّل.
1- حجيته بقانون العقل العملي المعبّر عنه بقاعدة اللطف.
2- حجيته بدليل شرعي.
3- حجيته بقانون العقل النظريّ وكشفه عن الواقع.
أمَّا المسلك الأول- فقد نسب إلى بعض الأقدمين من أصحابنا من جملتهم الشيخ قدس سره وهو يبتني على أساس قاعدة اللطف العقلية، وهي قاعدة متفرعة على أصل العدل الإلهي في علم الكلام إذ يراد بها إدراك العقل لما يكون واجباً على اللَّه سبحانه وتعالى بحكم كونه عادلاً وتسميته باللطف تأدباً، وقد تمسّكوا بها في علم الكلام لإثبات النبوّة العامة وحاول تطبيقها الفقهاء الأقدمون في مسألة الإجماع لإثبات حجيته بدعوى أنَّ من اللطف اللازم عليه سبحانه أَنْ لا يسمح بضياع المصالح الحقيقية في أحكام الشارع على الناس نهائيّاً بل لا بدَّ من انحفاظها ولو ضمن [الصفحة 306] بعض الأقوال فإذا أجمعت الطائفة على قول ينكشف انَّه هو الحقّ وإِلاّ لزم خفاء الحقيقة كليّاً وهو خلاف اللطف. و هذا المسلك غير تام لوجوه:
أحدها- انَّه لو أُريد من المصالح الحقيقية الملاكات التكوينية الثابتة بقطع النّظر عن أحكام الشارع وتشريعاته فمثل هذه الملاكات من الواضح عدم لزوم حفظها من قبل اللَّه سبحانه على البشرية ولم تجر العادة أيضا على حفظها بتدخل مباشر من اللَّه سبحانه بل أُوكل ذلك إلى خبرة البشر وبصيرتهم المتنامية المتطورة من خلال التجارب والممارسات ولعلَّ الحكمة في ترك البشر وخبرته ليتكامل ويكدّ وتتفتّح قدراته وإمكاناته تدريجيّاً، والحاصل قاعدة اللطف لا يمكن تطبيقه على مثل هذه الملاكات الأوليّة التكوينية إما لعدم المقتضي لمثل هذا التطبيق أو للمزاحمة مع الملاك الّذي ذكرناه، ولهذا لم يلزم على اللَّه سبحانه أَنْ يبعث أطبّاءً كما بعث أنبياء.
و لو أُريد تطبيقها على المصالح والملاكات البعدية التي تحصل في طول التشريع الرباني وهي ملاكات الطاعة والعبودية للَّه والتكامل المعنوي وهي التي طريق حفظها منحصر باللَّه سبحانه بما هو مشرع وواضع العقاب والثواب فكبرى تطبيق قاعدة اللطف على مثل هذه المصالح وإِنْ كان لا يخلو من وجه ولهذا طبقت القاعدة لإثبات أصل النبوة العامة. إِلاّ انَّ صغرى ذلك غير منطبق في المقام إِذ لا فرق في حفظ هذه الملاكات الطولية بين الحكم الظاهري والواقعي فحتى إذا كان ما أجمع عليه الفقهاء خلاف الحكم الواقعي لا يكون ذلك خارجاً عن الشرع بل على طبقه وبقاعدة أو أصل من أصوله ووظائفه المقررة ظاهرياً كما هو واضح.
الوجه الثاني- انَّه لو تنزلنا فاللطف المذكور في إبراز الحقيقة امَّا أَنْ يدعى انَّه لطف لازم من قبله سبحانه بالنسبة إلى كلّ المسلمين أو إلى بعضهم بأنْ يرشد خمسة من العلماء مثلاً إلى الحقيقة ويكفي ذلك لإنجاز المهمة العقلية العملية، امَّا الثاني فغريب في نفسه كبروياً إذ ميزان ترقّب اللطف هو العبودية والحاجة إلى اللطف وهو في الجميع على حد واحد فكيف يختص ببعض ويكفي ذلك في سد الحاجة عن غيرهم، وأما الأول بأَنْ يفترض انَّ طريق الحقيقة مفتوح للجميع بحيث كلّ عالم يمكنه أَنْ [الصفحة 307] يصل إِليها كما وصل إِليها البعض غاية الأمر بحاجة إلى مزيد جهد وبذل وسع أكثر من المقدار اللازم في مقام الاكتفاء بإجراء الأصول والقواعد العامة في الاستنباط فدعوى الجزم ببطلانه ليس مجازفة، إذ في كثير من المواضع نقطع بأنه مهما اجتهد وبذل الجهد أكثر فأكثر لا يتغير الموقف ولا يصل إلى ما يغير مقتضى القاعدة أو الأصل.
الوجه الثالث- لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا كفاية اللطف المردد بين بعض المجمعين في إشباع هذه الحاجة وإنجاز المهمة العقلية العملية، فاللطف المذكور انَّما يجب بمعنى انَّه لا بدَّ للمولى سبحانه من أَنْ ينصب من يكون في نفسه طريقاً إلى الحقائق لا بمعنى رفع الموانع عن الوصول إِليها مطلقاً حتى إذا كان بفعل العباد وعصيانهم أنفسهم والنصب بالمعنى المذكور قد سلكه سبحانه بنفس نصب الإمام عجل الله فرجه وغيابه انَّما هو من جهة منع العباد وعصيانهم فلا قصور من ناحية المولى.
المسلك الثاني- إثبات حجية الإجماع بدليل شرعي وقد استدلّ فقهاء الجمهور على حجيته في إطار هذا المسلك بوجوه عديدة ما يستحق منها الذّكر هو التمسّك بالنبوي المشهور “أُمّتي لا تجتمع على ضلالة” وقد وجدناه بصيغتين.
إحداهما- ما عن أبي خلف الأعمى قال سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يقول إنَّ أُمّتي لا تجتمع على ضلالة فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم (نقله ابن ماجة في سننه ج 2 ص 1203).
الثانية- ما نقله شريح عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: انَّ اللَّه أجاركم من ثلاث خلال: أَنْ لا يدعو عليكم نبيّكم فتهلكوا جميعاً... وأَنْ لا تجتمعوا على ضلالة.
(نقله أبو داود في سُننه ج 4 ص 98).
فيستدلّ بها على حجية الإجماع لكونها شهادة من النبي صلى الله عليه وآله بعصمة مجموع الأُمة.
و قد يناقش في هذا الاستدلال بأنَّ غاية ما يثبت بهذا المضمون حجية المجموع وهذا أمر صحيح مسلم عندنا أيضا لوجود المعصوم ضمن المجموع وهو الإمام عليه السلام الموجود في كلّ زمان، فليس في الحديث على تقدير صدوره دلالة على أكثر من وجود المعصوم في الأمة.
[الصفحة 308]
وفيه: انَّ ظاهر الحديث انَّ موضوع العصمة وملاكها المجموع حيث عبر بأنها لا تجتمع على ضلالة لا انَّ ذلك من باب وجود معصوم بينهم بحيث يكون ضمّ ساير الأقوال إليه من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان.
نعم قد يقال: انَّ هذه الرواية وإِنْ دلّت على وجود معصوم آخر وهو مجموع الأُمة إِلاّ انَّ هذا لا تتضمن نتيجة مفيدة بالنسبة إلينا لأنَّ مثل هذا المعصوم إحرازه توأم دائماً مع إحراز قول المعصوم الأول وهو الإمام عليه السلام إذ لو أحرزنا دخوله في المجمعين كفى ذلك في الحجية وإِلاّ فلا يحرز المعصوم الثاني أيضا لأنَّه جزء من الأُمة.
اللهم إِلاّ أَنْ يقال بأنَّ ظاهر الذيل (فعليكم بالسواد الأعظم) الوارد في الصيغة الأُولى إرادة المعنى العرفي للإجماع لا المعنى الحرفي الدّقيق فلا ينثلم بخروج فرد أو فردين.
و الصحيح في المناقشة:
أولا- عدم دلالة الحديث على ما يفيد في مسألتنا الأُصولية، لأنَّ الوارد في الحديث عنوان لا تجتمع على ضلالة، والضلالة تستبطن الإثم والانحراف وهو أخصّ من الخطأ وعدم الحجية المبحوث عنه في الإجماع فانَّ خطأ المجمعين جميعاً في مسألة فرعية لا تعني ضلالتهم كما هو واضح.
و ثانياً- ضعف السند لا فقط بلحاظ الأصول الموضوعية المذهبية لنا بل حتى بحسب موازينهم في الجرح والتعديل لأنَّ أبي خلف الأعمى الناقل للصيغة الأُولى قد شهد بضعفه جملة من علمائهم وقال بعضهم انَّ هذا الحديث جاء بطرق في كلّها نظر.
و امَّا الصيغة الثانية ففي سندها قضمضم الّذي هو محل خلاف عندهم من حيث الصحة وعدمها، وإِنّ شريح الّذي ينقل عنه قضمضم هذا الحديث وإِنْ كان قد شهدوا بوثاقته إِلاّ انَّه قد نقل الحديث عن أبي مالك الأشعري ومن المظنون قوياً انَّه لم يدرك أبي مالك لأنَّه قد شهد في حقّه انَّه لم يدرك سعد بن أبي وقّاص وأبو مالك قد توفي في حياة سعد وهناك من تشكك في أصل رواية شريح مباشرة عن الصحابة فانَّه نقل عن محمد بن عوف انَّه سئل هل سمع شريح عن أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقال لا أظنّ ذلك وصرح أبو حاتم انَّ كلّ ما يرويه عن أبي مالك الأشعري فهو مرسل.
[الصفحة 309] المسلك الثالث- إثبات حجية الإجماع بلحاظ مدركات العقل النظريّ، وقد ذكر في الكتب انَّ الإجماع تارة يدعى كونه كاشفاً عن الواقع -الحكم الواقعي- بالملازمة العقلية، وأخرى بالملازمة العادية، وثالثة بالملازمة الاتفاقية، ومثلوا للأولى بالتواتر الموجب للقطع، وللثانية بطول العمر الملازم عادة مع الهرم والشيخوخة وإِنْ كان لا يستحيل الانفكاك عقلاً وللثالثة بالقطع الحاصل صدفة واتفاقاً من مجموعة أخبار لا تبلغ حدَّ التواتر.
و الصحيح: انَّ الملازمة على نحو واحد دائماً وهي بملاك استحالة الانفكاك عقلاً، فانَّ الاستحالة والإمكان لا يدرك إِلاّ بالعقل دائماً ولكنه تارة يحكم العقل بذلك مطلقاً، وأُخرى يحكم به ضمن ظروف موجودة عادة وغالباً، وثالثة ضمن ظروف اتفاقية. كما انَّ الصحيح انَّه لا ملازمة عقلية حتى في التواتر بين التواتر والصدق فضلاً عن الإجماع، لأنَّ كلّ خبر يحتمل نشوؤه من مناشئ محفوظة حتى مع كذب القضية فلا ملازمة كذلك كما برهنا على ذلك في كتاب الأُسس المنطقية وانَّما الاستكشاف مبنيٌ على أساس الدليل الاستقرائي المبتني على أساس حساب الاحتمالات وحينئذ ما يقال في كاشفية التواتر يمكن أَنْ يقال في الإجماع مع فوارق سوف نشير إِليها. فانَّ احتمال الخطأ في فتوى كلّ فقيه وإِنْ كان وارداً إِلاّ انَّه بملاحظة مجموع الفقهاء المجمعين وإجراء حسابات الاحتمال فيها عن طريق ضرب احتمالات الخطأ بعضها بالبعض نصل إلى مرتبة القطع أو الاطمئنان على أقل تقدير بعدم خطئها جميعاً وهو حجة على كلّ حال.
والصحيح إنَّ روح الكاشفية وملاكها في كلّ من التواتر والإجماع وإِنْ كان واحداً إِلاّ انَّ هناك نقاط ضعف عديدة في الإجماع توجب بطء حصول اليقين منه بل وعدم حصوله في كثير من الأحيان غير موجودة في التواتر نذكر فيما يلي أهمّها:
الأولى- انَّ مفردات التواتر تكونه شهادات حسيّة، وأما الإجماع فمفرداته شهادات حدسية لأنَّها عبارة عن فتاوى وهي مبنية عادة على النّظر والاجتهاد، ومن الواضح انَّ احتمال الخطأ في الحدس أكبر منه في الحسّ لأنَّ نسبة الخطأ في الحدسيات أكثر بكثير من نسبته في الحسيات فيكون مبدأ حسابات الاحتمال التي بها نتوصل إلى اليقين أو [الصفحة 310] الاطمئنان في باب الإجماع قيمة احتمالية أضعف منه في التواتر، ومن هنا كانت كاشفية الإجماع تتأثر بدرجة اقتراب فتاوى المجمعين إلى الحسّ فكلّما كان حجم النّظر والاجتهاد فيها أقلّ كانت كاشفيتها عن الواقع أقوى وآكد، وبهذا يتميز الإجماع في المسائل الفقهية ذات المبادئ النظرية الاجتهادية عادة على الإجماع في المسائل الفقهية ذات المبادي غير النظرية المعقدة وكذلك يختلف الإجماع من عصر إلى عصر لأنَّه كلّما اقتربنا إلى عصر الأئمة كان حجم الجانب الحسّي أكبر وحجم تأثر المسألة بالجانب النظريّ أقلّ ومن هنا كانت قيمة فتاوى القدماء أكبر من قيمة فتاوى المتأخرين، كما انَّه على هذا الأساس أيضا كلّما كان مبلغ تبصّر المجمعين وألمعيّتهم وخبرتهم للوصول إلى الواقع أكثر كانت القيمة الاحتمالية لفتاواهم أكبر.
الثانية- انَّ الخطأ المحتمل في الاخبار عن الحسّ له مصبّ واحد عادة بينما في باب الإجماع قد لا يكون له مصبّ واحد، ومن الواضح انَّ احتمال خطأ جميع العشرة مثلاً في اخبارهم عن مصب واحد أبعد من احتمال خطأ عشرة في إخباراتهم غير المنصبة على مصبّ واحد، فمثلاً احتمال خطأ العشرة المخبرين بموت زيد بالخصوص أبعد من احتمال خطأهم في اخبار كل منهم عن موت جاره الّذي هو غير جار الآخر. وهذا المدعى نذكره هنا كمدعى وجداني وقد برهنا عليه وذكرنا قوانينه وضوابطه في كتاب الأُسس فهي قضايا نذكرها هنا كمصادرات معتمدين فيها على الوجدان وإِلاّ فهي مبرهن عليها من قبلنا في محلها، ومن هنا كلّما كان مناشئ الفتوى في المسألة الإجماعية وجهاتها أقرب إلى المصب الواحد كان أقوى كما إذا فرض انَّ كلّ جهات المسألة واضحة لوجود رواية لا إشكال في سندها وانَّما الكلام في دلالتها فأجمعوا على دلالتها مثلاً على الحكم المجمع عليه، وهذا بخلاف ما إذا كان يحتمل لكل فتوى تخريج ومصب غير الآخر كما في مسألة جواز رجوع الأيادي المتعاقبة السابق منهم إلى اللاحق في البحث الفقهي المعروف من كتاب البيع.
الثالثة- في التواتر لا يحتمل عادة أَنْ يكون بعض المخبرين قد وقع تحت تأثير وهم المخبر الآخر، لأنَّ ذلك خلف المفروض في التواتر وهذا بخلاف باب الإجماع فانَّ تأثر اللاحق بالسابق في الفتوى أمر واقع كثيراً وقد يكون التأثر إجمالياً ارتكازياً، وهذا [الصفحة 311] سوف ينقص كثيراً من قيمة احتمال مطابقة الفتوى اللاحقة للواقع مستقلاً عن الفتوى السابقة وبالتالي تتغير نتائج حساب الاحتمالات، ومن هنا كلّما كانت الفتاوى أكثر عرضية كانت أقوى في الكاشفية عمّا إذا كانت مترتبة زماناً أو مدرسيّا.
الرابعة- عدم وجود نكتة مشتركة للخطأ في التواتر والإخبارات الحسية عادة، بخلاف ذلك في الإجماع والفتاوى الحدسية، ووجود نكتة مشتركة للخطأ له أثر كبير في إبطال حسابات الاحتمال، فمثلاً إذا أخبر عشرة عن وجود الهلال وكانوا في نقطة فيها نصب يشبه بالهلال فلا يحصل العلم من إخباراتهم وهذا بخلاف ما إذا لم يكن ذلك النصب موجوداً، وفي باب الإجماعات وجود نكتة مشتركة للخطأ أمر محتمل في أغلب الأحيان كما إذا فرض مثلاً إجماعهم على بطلان الصلاة المزاحمة مع الإزالة لعدم توصلهم إلى فكرة الترتب فإذا احتمل ذلك كان مؤثراً في حساب الاحتمالات بحسب النتيجة.
و هناك نقاط وعوامل أُخرى جزئية غير ما ذكر لا ضابط لها يمكن الالتفات إليها وتفصيلاً في الفقه في كل باب بحسبه.
وبالالتفات إلى روح كاشفية الإجماع هذا يتبيّن ما معنى ما استقرّ عليه رأي المتأخرين من الأُصوليين بحسب ارتكازهم من انَّ الإجماع بالملازمة الاتفاقية يكشف عن قول المعصوم، فانَّ هذا مدركه الفني ما ذكرناه من انَّ كاشفية الإجماع انَّما هي بنكتة حساب الاحتمالات وهو يتأثر بعوامل وضوابط عامة وخاصة متعددة، ولهذا تختلف الإجماعات من حيث الكشف المذكور حسب اختلاف مواردها وخصائصها.
كما انَّه باكتشاف ضوابط الكشف الرئيسية يقضى على الفوضى الفقهية في الاستدلال بالإجماع، إذ قلّما يمكن تحديد وتفسير مواقف بعض الفقهاء في مجموع المسائل الفقهية حيث قد يناقش الإجماع في مسألة وقد لا يناقش في أُخرى.
ثمَّ انَّ هذه الكاشفية بالنحو المتقدّم لها أحد طرزين من التطبيق، أحدهما ضعيف والآخر قوي صحيح وضعف الأول وقوة الثاني كلاهما مرتبطان بمؤثرات حساب الاحتمال.
[الصفحة 312]
فالتطبيق الضعيف هو أَنْ يراد بالإجماع كشف صلاحية المدرك لدى المجمعين بعد الفراغ عن أصل وجوده، فيقال مثلاً انَّ مدارك المجمعين إذا كانت الرواية المعيّنة مثلاً فنطبق حساب الاحتمالات على استناد المجمعين إِليها ونقول انَّ احتمال خطأ واحد في فهم الحكم من هذا المدرك وإِنْ كان وارداً بأَن لا تكون الرواية تامة الدلالة على الحكم إِلاّ انَّ افتراض خطأ المجموع بحساب الاحتمالات منفي كما أُشير إليه فيتحصل اليقين أو الاطمئنان بصلاحية ذلك المدرك وتماميته، إذ لا يمكن افتراض ان كل أولئك قد أخطئوا، وهذا الاطمئنان حجة لصاحبه على الأقل وإِنْ لم يكن حجة لغيره فيما إذا فرض حصوله من مجرد جمع آراء الآخرين وملاحظة إجماعهم دون الرجوع إلى مدارك المسألة، مثلاً ليكون تقليد العامي له من رجوع الجاهل إلى العالم.
ووجه الضعف في هذا النحو من التطبيق ابتلاؤه بنحو شديد بتمام نقاط الضعف الأربع المتقدمة، خصوصاً مع الالتفات إلى انَّ الإنسان يعلم تفصيلاً أو إجمالاً انَّ كثيراً من القضايا النظرية الحدسية كانت قد اتّفقت عليها كلمة جمهور العلماء في كلّ فن ثمّ انكشف بعد ذلك بطلان تلك القضية وخطأهم جميعاً.
نعم لو فرضنا انَّ الأنظار المتجمعة كانت تشبه الحسّ بحيث تخلو عن نقاط الضعف المذكورة لكان لهذا التطبيق مجاله، كما لو استندوا جميعاً إلى ظهور في رواية معينة صحيحة سنداً عندنا فانَّ مسألة الاستظهار مسألة تشبه الحسّ لكون أولئك يمثلون بنفسهم العرف بل هم العرف الأدق والأبصر فإذا فهموا بأجمعهم معنى معيناً من النصّ فلا محالة يحصل الجزم أو الوثوق بأنَّ ذلك الفهم العرفي صحيح لو لا نكتة خاصة يمكن أَنْ تكون مفسرة لخطئهم في الفهم كنكتة مشتركة.
و أمَّا التطبيق الصحيح فيتمثل في إجماع الفقهاء المعاصرين لعصر الغيبة الصغرى أو بُعيدها إلى فترة كالمفيد والمرتضى والطوسي والصدوق قدس سرهم، فإنَّهم إذا استقرَّ فتواهم جميعاً على حكم ولم يكن يوجد بأيدينا ما يقتضي تلك الفتوى بحسب الصناعة لكونها على خلاف القواعد العامة المنقولة من قبل نفس هؤلاء في كتب الحديث مثلاً استكشفنا وجود مأخذ على الحكم المذكور بيدهم وذلك ببيان: انَّ إفتاء أولئك الأجلاء من دون دليل ومآخذ غير محتمل في حقّهم مع جلالة قدرهم وشدة تورعهم [الصفحة 313] عن ذلك كما أنَّه لا يحتمل في حقّهم أَنْ يكونوا قد غفلوا عن مقتضى القاعدة الأولية المخالفة لتلك الفتوى لأنَّهم هم نقلته إِلينا بحسب الفرض خصوصاً إذا كانت تلك القاعدة واضحة مشهورة مطبقة من قبلهم في نظائر ذلك فلا بدَّ من وجود مأخذ على أساسه خرجوا عن مقتضى تلك القاعدة وذلك المأخذ المخصِّص لحكم القاعدة يتردد في بادي الأمر بين احتمالين، أَنْ يكون هناك رواية عندهم قد استندوا إِليها ولم تصل إِلينا، أو أمر آخر. إِلاّ انَّ الاحتمال الأول ساقط عادة إذ لو كانت توجد رواية كذلك عندهم فكيف لم يذكروها في كتبهم الفقهية الاستدلالية أو الروائيّة، إذ من غير المعقول انَّهم جميعاً قد استندوا إلى رواية واضحة الدلالة على ذلك ولذلك أجمعوا على مضمونها ومع ذلك لم يتعرض لذكرها أحد منهم مع انَّهم قد تعرّضوا لروايات ضعاف لا يستندون إِليها سنداً أو دلالة في مجاميعهم الحديثية أو كتبهم الاستدلالية، بل كيف يحتمل ذلك مع ملاحظة انَّ فتاواهم ومتونهم الفقهية كانت على حسب الروايات الواردة غالباً لا انَّها تفريعات وتشقيقات مستقلة كما في المتون الفقهية المتأخرة فكيف يفترض وجود رواية لم يجعلوا لها متناً في كتبهم فغفلوا عنها نهائيّاً؟ كلّ ذلك يوجب العلم عادة بسقوط هذا الاحتمال وبالتالي تعيين الاحتمال الآخر وهو انَّهم قد تلقّوا الحكم المذكور بنحو الارتكاز العام الّذي لمسوه عند الجيل الأسبق منهم وهم جيل أصحاب الأئمة عليهم السلام الذين هم حلقة الوصل بينهم وبين الأئمة عليهم السلام ومنهم انتقل كلّ هذا العلم والفقه إليهم، وهذا الارتكاز ليس رواية محددة لكي تنقل بل هو مستفاد بنحو وآخر من مجموع دلالات السنة من فعل المعصوم أو تقريره أو قوله على إجمالها، ولهذا لم تضبط في أصل معين وهذا هو التفسير الوحيد الّذي تلتئم به قطعياتنا الوجدانية في المقام وباعتبار انَّ هذه الافتراضات كلّها قريبة من الحسّ لأنَّ الارتكاز أمر كالحسّ وليس كالبراهين العقلية الحدسية فلا يقال لعلهم أخطئوا جميعاً في فهمه، فلا محالة يحصل الجزم أو الوثوق بالحكم ضمن شروط وتحفظات لا بدَّ من أخذها بعين الاعتبار لتتم الحسابات الكاشفة، ولعلّ دعاوى الإجماع من قبل بعض الأقدمين تحكي عن إجماع غير مكتوب حقيقته الارتكاز المذكور.
و على ضوء هذا الفهم تندفع الإشكالات المعروفة على التمسك بالإجماع نورد [الصفحة 314] فيما يلي أربعة منها:
الأول- قالوا انَّ إجماع أصحاب شخص انَّما يكشف عن رأيه أو ذوقه إذا كانوا في موقع يمكنهم من الاتصال المباشر معه وأما إذا كان محجوباً عنهم وليس بينهم وبينه إِلاّ الظنون والحدس فاتفاقهم لا يكشف عن رأيه، ومقامنا من هذا القبيل لأنَّ فقهاء عصر الغيبة كانوا محجوبين عن إِمامهم عجل الله فرجه.
و الجواب- ظهر ممّا تقدم، فإنَّا لا نحاول الكشف عن رأي المعصوم عليه السلام مباشرة من الإجماع ليقال انَّه محجوب عنهم بل بتوسط الارتكاز المتلقى عن أصحاب الأئمة السابقين عليه السلام وارتكازهم كاشف عن رأيه لكونهم معاصرين معهم ومتلقّين لكل تصوراتهم عنهم.
الثاني- ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره، من انَّ غاية ما يقتضيه الإجماع انَّ الفقهاء لتورعهم وعدالتهم لا يفتون بدون مدرك إِلاّ انَّ هذا لا يفيد لنا شيئاً لأنَّه:
أولا- لا يكشف عن وجود رواية صحيحة وصلتهم ولم تصلنا لأنَّ هذا بنفسه غريب إذ كيف يمكن أَنْ يفرض وصول رواية صحيحة عندهم إليهم وقد استندوا إليها جميعاً ومع ذلك لم ينقلوها لنا مع انَّهم هم حملة الروايات إلينا وانَّهم قد نقلوا الغثّ والسمين والصحيح والسقيم من الروايات.
و ثانياً- لو فرض ذلك فما يدريك أَنَّ تلك الرواية لو كانت تصل إلينا لكانت تامة الصلاحية عندنا فلعلها كانت غير تامة امَّا سنداً لاختلاف المباني في تصحيح الأسانيد، أو دلالة لالتفاتنا إلى نكتة خفيت عليهم كما يقع ذلك كثيراً.
و هذا الإشكال أيضا ظهر جوابه ممّا تقدّم، حيث اتّضح انَّ المأخذ ليس هو استكشاف مدرك روائي وصلهم ولم يصلنا ليلاحظ عليه بالملاحظتين بل استكشاف ما هو أقوى من الرواية وهو الارتكاز الكاشف تكويناً وقطعاً عن رأي المعصوم بالنحو المتقدّم شرحه.
الثالث- اعتراض وجهه الأخباريون في المقام من انَّ الإجماع ليس مدركاً في الاستنباط لأنَّ مصادره قد حصرت في الكتاب والسنّة.
و هذا الاعتراض لا ندخل هنا في صحّة كبراه في نفسه، فانَّ ذلك قد تقدّم مفصلاً [الصفحة 315] في بحث حجية الدليل العقلي وانَّما يمنع عن حجية الإجماع لو أُريد تخريجه على غير هذا المسلك الّذي سلكناه، فانَّه على أساس هذا المسلك يكون كاشفاً قطعيّاً على حدّ كاشفية التواتر وليس حجة شرعية ولا دليلاً عقليّاً لينفى الأول ويناقش في دليليّة الثاني في مجال الاستنباط وهذا واضح.
الرابع- نقاش صغروي في كيفية تحصيل الإجماع بعد الالتفات إلى انَّ ما وصلتنا من الأقوال على أحسن التقادير لا تعبر عن أكثر من فتاوى أصحاب الكتب أو من كان له منبر تحته أصحاب الكتب ممّن نقل إِلينا فتاواهم، وهذا المقدار لا يمكن أنْ يمثل إجماع علمائناً في عصر واحد فضلاً عن أكثر من عصر، ولهذا نجد انَّ من ينقل عنهم عادة الفتاوى الفقهية في هذا المجال لا يتجاوزون الأصابع مع وضوح انَّ علماءنا أكثر من هذا المقدار بكثير.
و الجواب- أيضا يظهر بالتأمل فيما سلكناه في تقرير حجية الإجماع فإنَّنا غير تابعين لعنوان الإجماع إذ لم يقع ذلك موضوعاً لحجية أو أثر شرعي وانَّما المناط الكشف عن ارتكاز أصحاب الأئمة عليهم السلام المعاصرين لهم والمعاشرين معهم وهذا يكفي فيه الجيل الطليعي من علمائنا الأبرار الأقدمين الذين كانوا هم حملة علم أولئك وامتداد فقههم في المحاور الرئيسية لوجودهم، فضمّ غيرهم من علماء الشيعة ممن لم يكن بمستواهم علماً أو مكانة وقرباً من محاور فقه أهل البيت أو اهتماماً بتلقيه وضبطه ونقله لا يكون دخيلاً في ملاك الحجية الّذي شرحناه وهو الكشف عن الارتكاز بحساب الاحتمالات الكاشف عن رأي المعصومين عليهم السلام ونظرهم، ومن هنا لا نرى قدح مخالفة الإجماع من قبل بعض القدماء من الأصحاب إذا كان سنخ مخالف بلحاظ ظرفه التاريخي أو وضعه العلمي أو خصوصية في آرائه تكون مخالفته غير متعارفة وخارجة عن روح الفقه الإمامي وإطاره العام.
ويمكننا أَنْ نلخص على ضوء مجموع ما سبق أربع خصوصيات لا بدَّ من توفرها في كاشفية الإجماع عن الحكم الشرعي وهي كما يلي:
1- أَنْ يكون مشتملاً على فتاوى الأقدمين من علمائنا ولا أثر لفتاوى المتأخرين عنهم، لأنَّ التطبيق الصحيح للإجماع على ما تقدّم انَّما كان على أساس كشف [الصفحة 316] الارتكاز عند أصحاب الأئمة وهو لا يمكن كشفه إِلاّ من قبل إجماع القدماء من علمائنا المتصلين بأولئك الأصحاب.
2- أَنْ لا يكون قد استندوا في كلماتهم إلى مدرك شرعي موجود بل ان لا يحتمل ذلك احتمالاً معتداً به وإِلاّ لزم تمحيص تلك الفتاوى بتمحيص ذلك المدرك. نعم قد يكون الإجماع حينئذ معززاً لذلك المدرك على نحو تقدّمت الإشارة إِليه امَّا دلالة أو سنداً أو جهة.
3- أَنْ لا تكون هناك قرائن على عدم وجود ارتكاز في طبقة أصحاب الأئمة عليهم السلام وإِلاّ كانت معارضة مع كاشفية الإجماع ومانعة عن إنتاج قوانين حساب الاحتمال، ومن أمثلة ذلك ما ذكر في بحث طهارة الكتابي ونجاسته حيث استنتجنا من طرز أسئلة الأصحاب في مقام السؤال عنهم عليهم السلام وافتراض انَّ الكتابي يشرب الخمر ويأكل الميتة ونحو ذلك عدم وجود ارتكاز لديهم على النجاسة وإِلاّ لم يكن يحتاج إلى ذلك الافتراض.
4- أَنْ تكون المسألة ممّا لا يترقب حلّها إِلاّ ببيان من الشارع مباشرة لا أَنْ تكون المسألة عقلية أو عقلائية أو تطبيقية لقاعدة أولية واضحة مسلمة فانَّه في مثله لا يكون الإجماع كاشفاً عن ارتكاز كذلك، وهذا الشرط بالإمكان إرجاعه إلى الشرط الثاني تحت جامع واحد.
ثمّ انَّ الإجماع له معقد وهذا المعقد قد يكون له إطلاق وله قدر متيقن ولا بدَّ من ملاحظة أَنَّ كاشفية الإجماع بحساب الاحتمالات بلحاظ القدر المتيقن أقوى من كاشفيته بلحاظ إطلاق معقده، لأنَّ خطأ المجمعين في تشخيص أصل الارتكاز أبعد من خطأهم في تشخيص حدوده وامتداداته.
هذا تمام كلامنا في الإجماع البسيط وحجيته، ومنه قد اتّضح انَّه بناءً على طريقتنا في حجية الإجماع يكون الإجماع دائماً دليلاً طوليّاً على الحكم الشرعي، لأنَّه يكشف عن الارتكاز المتشرعي الّذي هو عبارة أُخرى عن السيرة المتشرعية ولهذا كانت القرائن النافية للسيرة نافية لحجية الإجماع أيضا.
[الصفحة 317]
وأمَّا الإجماع المركّب فهو عبارة عن الاستناد إلى رأي مجموع العلماء المختلفين على قولين أو أكثر في نفي قول آخر لم يقل به أحد منهم، وهنا تارة يفرض انَّ كلاًّ من القولين قائله ينفي القول الآخر بقطع النّظر عن قوله، وأُخرى يفرض انَّه ينفيه بلحاظ قوله وفي طوله لاستلزامه نفي غيره.
أمَّا الأول فالإجماع يكون حجة في نفي ذلك القول الآخر على جميع المسالك المتقدمة في حجية الإجماع لأنَّه ملاكاً كالإجماع البسيط.
و أمَّا على الثاني فلا بدَّ من التفصيل فيه بين المسالك، فانَّه بناءً على المسلك القائل بالحجية على أساس قاعدة اللطف تثبت الحجية أيضا لأنَّه لو كان القول الثالث حجية لما كان به قائل وهو خلاف اللطف المفروض فيستكشف عدم صحّته. وكذلك بناءً على القول باستكشاف دخول الإمام عليه السلام في المجمعين وامَّا بناءً على مسلكنا فلا يكون حجة إذ يعلم بأنَّ القيم الاحتمالية الموجودة في مجموع الفتاوى لنفي الثالث قسم منها غير مصيب للواقع جزماً للعلم بكذب ذلك نتيجة التخالف في الآراء وهذا لا يؤدّي إلى تقليل القيم الاحتمالية للإجماع المركب عن الإجماع البسيط كمّاً فحسب بل وكيفاً أيضا للتعارض وكون كلّ قيمة احتمالية لأحد القولين منفياً بالقيمة الاحتمالية للقول الآخر المخالف وكذلك تكون القيمة الاحتمالية لنفي القول الثالث.
و البحث في حجيته يكون بعد الفراغ عن أصول موضوعية محولة إلى بحث حجية خبر الواحد من حجية خبر الثقة، واختصاصها بالخبر الحسّي لا الحدسي، والبناءِ على أصالة الحسية عند الشك في الحدس والحسّ ونحو ذلك، وحينئذ نقول تارة: يكون النقل للسبب بمعنى الفتاوى المتفق عليها والتي تكون سبباً إثباتاً لاستكشاف قول المعصوم عليه السلام وأخرى: يكون النقل للمسبب مباشرة.
امَّا نقل السبب فمقتضى القاعدة حجية النقل إذا توفرت فيه شرائط حجية الخبر [الصفحة 318] المفروغ عنها لإثبات ما يدلّ عليه من السبب وبمقداره، وفي هذا المجال يتبع مقدار ظهور النقل بحسب لفظه والقرائن الحالية أو المقالية التي يكون لها دخل في اقتناص المعنى.
و الوجه في حجية هذا الاخبار انَّه اخبار عن الحسّ فانَّه لا استبعاد في ذلك خصوصاً إذا كان الناقل للإجماع من المتقدمين الذين يترقب في شأنه أن تكون فتاوى المجمعين محسوسة لديه أو قريبة من الحسّ وعند الشك واحتمال الحدسية تجري أصالة الحسّ كما قلنا فإذا كان ذلك المقدار كافياً عندنا للملازمة واستكشاف رأي المعصوم كان حجة لا محالة في ثبوت لازمه الثابت لزومه عندنا بالقطع واليقين، ولا يقدح في الحجية كون الملازمة حدسية وكون المدلول الحسّي ليس بنفسه حكماً شرعياً ولا موضوعاً له. فانَّ المقدار اللازم أن يكون الاخبار حسيّاً وهو كذلك في المقام وامَّا لوازم الاخبار الحسّي فهي تثبت في باب الأمارات ولو كانت برهانية نظرية، كما انَّه لا يشترط في حجية الأمارة في مدلولها الالتزامي ترتب أثر بلحاظ مدلولها المطابقي وانَّما اللازم عدم سقوطها بالتعارض ونحوه بناءً على ما هو الصحيح من التبعية بين الدلالتين.
و ان فرض ان المقدار المنقول من السبب كان أقلّ من المقدار الكافي للملازمة والاستكشاف فائضاً يكون النقل حجة فيما إذا أمكن تحصيل ما يكمل الملازمة ويتممها من أقوال للآخرين أو قرائن أُخرى مباشرة.
و هذا كلّه صحيح على مقتضى القاعدة ولكن قد يستشكل في ذلك بأحد إِشكالين:
1- ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره في موارد نقل جزء السبب حيث استشكل بأنَّه إِنْ أُريد إثبات الحجية له بلحاظ مدلوله الالتزامي فالمفروض عدم الملازمة ليكون له مدلول التزامي، وإِنْ أُريد ذلك بلحاظ مدلوله المطابقي فليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً له.
و هذا الإشكال واضح الدفع فانَّه يكفي في دفعه أن يقال بان في المقام أيضا يوجد مدلول التزامي وهو قضية شرطية انَّه إذا ما توفّر الجزء الآخر -المفروض توفره- كان ذلك مطابقاً مع قول المعصوم عليه السلام وحجية هذا المدلول الالتزامي الشرطي كافٍ لنا كما لا يخفى. [الصفحة 319]
2- ما كنّا نورده نحن في الدورة السابقة من انَّ استكشاف قول المعصوم من الإجماع لا يكون على أساس الملازمة وانَّما الكاشفية بحساب الاحتمالات وتراكمها على محور واحد إلى أن يحصل لدى الإنسان المحاسب اليقين ذاتاً، وهذا يعني انه لا تلازم بين الإجماع أو التواتر وبين رأي المعصوم لأنَّ التلازم لا يكون على أساس ملازمة موضوعية بل ذاتية، بمعنى ان الإنسان عند ما يواجه بنفسه تلك الحسابات للاحتمال يبلغ ذلك عنده في النهاية مرتبة بحيث ينطفئ ويزول ذاتياً احتمال الخلاف في النهاية ومثل هذا ليست ملازمة عقلية.
و بعبارة أُخرى: لا يصحّ أن نشكل قضية شرطية بأنه كلّما حصلت تلك القرائن أو الاخبار والحسابات لكان كذا، وانَّما الصحيح انَّه كلّما حصلت تلك الحسابات وواجهنا تلك الاخبار أو الأقوال لحصل لنا العلم، والملازمة لا بدَّ وان تكون بين المعلوم وبين الشيء كما هو واضح.
و هذا الاعتراض انَّما كنَّا نورده قبل أن تتوضّح لنا النظرة التفصيلية لمباني منطق الاستقرار بشكل كامل وإِلاّ فقد أوضحنا في كتاب الأُسس المنطقية بأنَّ هناك حساب احتمال في القضية الكلية للتواترات تثبت بنحو القضية الشرطية انَّه في عالمنا كلّما اجتمعت عندنا إخبارات متعددة في قضية واحدة من أشخاص متغايرين بحسب الظروف والملابسات والأغراض ونحو ذلك فاحتمال عدم تأثير نقاط الاختلاف وعدم التشارك وتأثير خصوص نقاط التشارك القليلة جداً بالنسبة لنقاط الاختلاف والتي منها اتفاق مصلحتهم جميعاً على الكذب في تلك القضية أمر منفي بحساب الاحتمالات في هذه القضية الكليّة بالذات وهي إثبات نقاط الاشتراك فقط دون نقاط اختلاف، وعليه فلا نحتاج في كاشفية كلّ إجماع أو تواتر إلى إجراء حساب احتمالات فيه بالخصوص لنفي هذا الاحتمال بل هو منفي بنحو القضية الشرطية الكلية، والإجماع المنقول اخبار عن الملزوم في تلك القضية فيكون دالاً على انتفاء اللازم وهو أن يكون اتفاقهم جميعاً لاتفاق مصلحتهم على ذلك وامَّا احتمال كذب الناقل أو اشتباهه فينفى بوثاقته.
و من كلّ ذلك ظهر بأن الناقل لو عدل عن نقله السبب إلى نقل المسبب ابتداءً [الصفحة 320] لم يجد شيئاً لأن اخباره عن المسبب وهو قول المعصوم عليه السلام ليس حسيّاً ليشمله ابتداءً دليل حجية خبر الثقة وانَّما الحسّي نقله للسبب فان كان كافياً للسببية عندنا أثر وإِلاّ فلا.
هذا كلّه على مقتضى القاعدة العامة إِلاّ انَّه حيث ثبت عندنا وقوع تسامح نوعي واصطلاح عمومي من قبل علمائنا الأقدمين في نقل الإجماع وادعائه أو اعتمادهم لمشارب غير صحيحة في تشخيصه فلم يبق للفقيه ثقة كبيرة بمثل دعاوى الإجماع المنقولة في الكتب ما لم تتضافر الدعاوي وتنضمّ إِليها القرائن والشواهد والمؤيدات على صحّتها.
- مباحث الأصول- تقرير السيد محمد باقر الصدر للسيد كاظم الحائري ج 2 ص 277: ([4])
1- كشف الإجماع عن الحكم الشرعي.
2- كشف الإجماع عن الدليل التعبّدي.
3- التواتر.
4- الشهرة.
[الصفحة 279]
الأمارة الثانية: الإجماع. وهو إنّما يكون أمارة شرعيّة على الحكم على بعض وجوه حجيّته، وأمّا على باقي الوجوه فهو دليل قطعي على الحكم الشرعي، أو على حجّة ظاهريّة. وللاستدلال بالإجماع مسلكان:
الأوّل- الاستدلال به ابتداء على الحكم الشرعي.
والثاني- الاستدلال به على أنّ معقده إن لم يكن حكما واقعيا فلا أقلّ من ثبوت حجّة تعبّدية معتبرة عليه، ونتيجة التردّد بين هذين الأمرين هي ثبوت الحكم تعبّدا لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، إذن فيقع البحث في مقامين:
[الصفحة 281]
المقام الأوّل- في الكشف عن الحكم الشرعي ابتداء بالإجماع، وهذا الكشف يكون على أحد مباني ثلاثة:
1- مبنى الكشف على أساس العقل العملي.
2- مبني الكشف على أساس العقل النظريّ.
3- مبنى الكشف على أساس الدليل الشرعي.
أمّا المبنى الأول- وهو مبنى كشف الإجماع على أساس العقل العملي فهو الّذي ينسب إلى بعض أكابر السابقين كالشيخ الطوسي قدّس سرّه من إثبات حجّية الإجماع على أساس قاعدة اللطف. والمدّعى في قاعدة اللطف هو حكم العقل العملي بثبوت حقّ للعبد على المولى كما يحكم بثبوت حقّ للمولى على العبد، ويعبّر عن ذلك تأدّبا بقاعدة اللطف، وقد طبّقت هذه الفكرة على موارد كثيرة كإثبات لزوم بعث الرسل وإنزال الكتب على المولى تعالى شأنه لهداية الناس وغير ذلك، ومنها ما نحن فيه [الصفحة 282] من حجّية الإجماع بدعوى أنّه يقبح على اللَّه تعالى إبقاء الناس في اشتباه وضلال وجعلهم يجمعون على خلاف الحقّ وتفويت مصلحة الواقع عليهم. وقد طوّرت هذه الفكرة في الإجماع فيما تأخّر عن الشيخ الطوسي قدّس سرّه فذكر نظير ذلك بالنسبة للإمام عليه السلام، وذلك بدعوى أنّ وظيفة إمام العصر عجّل اللَّه تعالى فرجه كآبائه الطاهرين عليهم السلام هي إبلاغ الأحكام إلى الناس وسدّ باب العدم من قبلهم، فإن كان الحكم واصلا إليهم من قبل إمام سابق ويعرفه بعضهم فليس على إمام العصر عليه السلام شيء، فإنّ الإيصال واجب كفائي عليهم، وإن انقطع الحكم عن الجميع ووقع الإجماع على خلاف الحق وجب عليه إيصاله إلى الناس ولو بإلقاء الخلاف فيما بينهم بأسلوب لا ينافي لتستّر والغيبة المطلقة.
والواقع أنّه لا دليل على وجوب مثل هذا الإيصال على الإمام عليه السلام فالأدلّة الخاصّة الواردة بشكل فردي في وجوب ذلك بالنسبة للأئمّة السابقين عليهم السلام لا تشمل صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه، فكل واحد منهم كان يتكلّم عن نفسه. وأمّا الأدلّة العامّة فهي إنّما تدلّ على وجوب بيان الحكم على الإمام بعنوان كونه إماما لا بعنوان كونه شخصا مجهولا مثلا أي أنّه يجب على الإمام إبلاغ الحكم بعنوان كونه إماما على الناس ويؤخذ منه الحلال والحرام ويستدلّ على إمامته بالمعجز ويبثّ الأحكام بين الناس عن هذا الطريق، والمفروض عدم وجوب ذلك على الإمام صاحب الزمان لمنافاته للتستّر والغيبة، كما لا يجب عليه الانكشاف أمام شخص خاصّ بعنوان الإمام وبيان الحكم له لأنّه ينافي التستّر المطلق، والقائل بحجّية الإجماع معترف بعدم وجوب الإيصال عليه بالشكل المنافي للتستّر، وإنّما يقول بوجوب الإيصال عليه بمثل إيقاع الخلاف بالبروز كإنسان مجهول أو إيقاع ورق مكتوب في الطريق كي يأخذه البعض [الصفحة 283] وينتهي ذلك إلى الخلاف مثلا، بينما لا دليل على وجوب مثل ذلك. فما هو واجب بالأدلّة العامّة ساقط عن إمام العصر في زمان الغيبة لمنافاته للتستّر، وما ينافي التستّر لم يدلّ دليل على وجوبه.
وأمّا إثبات حجيّة الإجماع بقاعدة وجوب اللطف على اللَّه تعالى فالبحث حول أصل قاعدة اللّطف لا نتعرّض له هنا ونحيله إلى مورده في علم الكلام، ولكنّنا نناقش تطبيقها على المقام بعد فرض تسليم صحّة القاعدة، ونناقش ذلك من ناحيتين:
أوّلا: أنّه ما هو المقصود من المصلحة التي يفترض وجوب إيصالها إلى العباد لكي لا ينحرموا جميعا عنها بسبب الإجماع الخاطئ؟ هل المقصود هي المصلحة التي تكون في طول الحكم وهي مصلحة العبودية والطاعة، أو المقصود هي المصلحة التي تكون قبل الحكم وهي المصلحة الكامنة في ذات الأفعال الداعية إلى الحكم على طبقها؟ فإن كان المقصود المصلحة التي هي في طول الحكم فهي لا تفوت بخفاء الحكم، فإنّ الحكم الظاهري الموجود دائما عند خفاء الحكم الواقعي حاله حال الحكم الواقعي من ناحية مصلحة الامتثال والعبوديّة والانقياد للَّه تعالى.
وإن كان المقصود المصلحة التي هي ثابتة قبل الحكم في متعلّقات الأحكام قلنا: لا جزم لنا بلزوم اللّطف على اللَّه تعالى بإيصال تمام المصالح التشريعية إلى العباد بأكثر مما تقتضيه العوامل الطبيعية وجهود الإنسان نفسه، فلعلّ هناك مصلحة في عدم إيصال بعضها بالشكل المطلوب هنا، وإيكال الأمر إلى ما تقتضيه العوامل الطبيعية وسعي الناس أنفسهم، وما إلى ذلك مما يوجب وصول الحكم الواقعي إليهم ولو بعد مئات السنين، وقد رأينا نظيره في المصالح الطبيعية، فكم مضى من آلاف السنين على عمر الإنسان وهو لا يعرف دواء السلّ كما أنّه لم يتوصّل حتى الآن إلى [الصفحة 284] معرفة دواء السرطان، وقد اقتضت المصلحة الإلهية إيكال انكشاف أسرار الطبيعة ومصالحها ودفع مفاسدها إلى العوامل الطبيعية وسعي الإنسان، فلم لا تكون المصالح التشريعية أيضا من هذا القبيل؟ ولا يقاس المقام بمسألة إرسال الرسل وإنزال الكتب، إنّ ذلك مشتمل على القسم الأول من المصلحة أي التي هي في طول الحكم والتي كانت تفوت لو لا إرسال الرسل وإنزال الكتب [1].
وثانيا- أنّ المقصود من إيصال الحكم إلى الناس الواجب باللّطف على اللَّه تعالى هل هو جعل نكتة في معرض وصول الكلّ يتمكّن كل واحد منهم -ولو بجهد جهيد- من الوصول إلى الحقّ أو تدّعى كفاية إيصال الحق إلى بعض الناس وإن لم يكن بالشكل الّذي يتمكّن كل واحد منهم من الوصول إليه ولو بالجهد الكثير؟
فإن قصد الثاني ورد عليه: أنّ نكتة وجوب اللطف إنّما هي العبودية والحاجة، وهما ثابتتان في تمام الأفراد على حدّ سواء فلا معنى لوجوب اللطف بالنسبة إلى فرد دون فرد ولا بالنسبة إلى فرد واحد على البدل، فإنّ عنوان اجتماع الناس على الخطأ ليس فيه محذور آخر غير محذور خطأ نفس الأفراد. وإن قصد الأوّل فهذا لطف ثابت بشأن الجميع على حدّ سواء ولكن
[1] كأنّ خلاصة هذا النقاش: أنّه لو آمنّا بوجوب اللطف بالإيصال فإنّما نؤمن بذلك بمعنى فتح الطرق الطبيعية للوصول وإن تأخّرت فعليّة الوصول آلاف السنين، إذ من المحتمل وجود مصلحة في الاكتفاء بهذا المقدار وتحقيق هذا المقدار بالنسبة للمصلحة التي تكون في طول الحكم يكون بالتشريع وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وبالنسبة للمصالح الطبيعية يكون بتزويد البشر بقابليّة تحصيل الخبرات والتجربة، وبالنسبة للمصالح التشريعية التي هي قبل الحكم يكون أيضا بتبليغ الحكم على لسان المبلّغ الأعظم عليه وعلى آله آلاف التحية والسلام، وإن كان قد يمنع ظلم الظالمين مثلا عن الوصول.
[الصفحة 285]
يلزم من ذلك: أن يحصل للفقيه القطع كثيرا بأنّ ما أثبته بمثل الأصل العملي أو الأمارة التعبّدية مطابق للحكم الواقعي، فمتى ما تيقن الفقيه بأنّه لو كان هناك دليل حاكم مثلا على ما توصّل إليه من الأصل أو الأمارة فهو عاجز عجزا تامّا عن الوصول ليه، أو تيقن أنّه لا يوجد دليل حاكم عليه كي يمكن لأحد الوصول إليه وأن من أفتى بخلاف ذاك الأصل أو الأمارة فقد أخطأ فيما تخيله من عدم كون المورد موردا لذاك الأصل أو تلك الأمارة لزم أن يحصل له القطع بأنّ مفاد هذا الأصل أو تلك الأمارة مطابق للحكم الواقعي. وهذا ممّا لا يلتزم به أحد.
وأيضا: لو عرف المجتهد أنّ القول في المسألة الفلانية للعلماء منحصر في رأيين فنظر في أحدهما فحصل له العلم بأنّه ليست هناك نكتة صحيحة تعيّنه لزم من ذلك أن يحصل له القطع بصحّة القول الآخر وموافقته للواقع بلا حاجة إلى مراجعة مدركه والتأمّل فيه، إذ المفروض أنّه لا بدّ أن يوجد في الأقوال قول صحيح ذو نكتة ترشد كلّ من طلبها وبذل جهده الكامل في سبيلها إلى الواقع. وهذا -كما ترى- ممّا لا يلتزم به. و يمكن تقريب الاستدلال باللطف في باب الإجماع بوجهين آخرين:
الأول- أن يقال: إنّه كما يجب على اللَّه إرسال الرسل وتشريع الأحكام كذلك يجب عليه تعالى أن لا يبقي في الدين ثغرة تستوجب الشبهة للناس في الدين، أي يجب أن يجعل في قبال كلّ شبهة الجواب الكافي بحدّ ذاته ولو لم يقتنع به صاحب الشبهة لنقص فيه لا في الجواب.
وعليه نقول: لو اختلف العلماء على رأيين مثلا فكان أحدهما يقول بالفرق بين السيّد القرشي والأسود الحبشي في مقام اجتماعي مثلا، والرّأي الآخر ينكر الفرق، وكان الرّأي الثاني هو الصحيح، واكتشف من يطعن على الدين العيب الموجود في الرّأي الأوّل فأراد أن يجعل ذلك شبهة على الدين أمكن الجواب عليه بأنّ شبهتك هذه إشكال على رأي [الصفحة 286] العلماء وليس إشكالا على الدين، إذ لعلّ الرّأي الديني الحقيقي متجسّد في رأي الآخرين وليس متجسّدا في رأي من أفتى بهذه الفتوى. أمّا لو افترضنا أنّ علماء الدين كلّهم أجمعوا على الرّأي الباطل، واكتشف الطاعن على الدين الثغرة الموجودة في ها الرّأي فسيستحكم عنده أنّ هذه الثغرة ثغرة في الدين، وأنّ هذا إشكال على الدين وليس إشكالا على فتاوى بعض علماء الدين فيجب على اللَّه تعالى أن يحول بشكل من الأشكال دون تحقّق الإجماع على الباطل كي يتمّ الجواب على شبهة من يكتشف الثغرة الموجودة في الرّأي الباطل ببيان أنّ هذا إشكال على بعض الفتاوى ولعلّ رأي الدين متجسّد في الفتوى الأخرى. إذن: فلو رأينا إجماعا على حكم عرفنا أنّه الحقّ. ويرد عليه:
أوّلا- أنّ هذا لو تمّ فلا يتمّ في الأحكام التعبّديّة الصرفة التي لا تحصل بفرض أي طرف من طرفي السلب والإيجاب ثغرة في الإسلام، مثلا لو فرضنا نجاسة عرق الجنب من الحرام، أو فرضنا عدم نجاسته سوف لن يؤدّي ذلك إلى شبهة وثغرة في الإسلام.
وثانيا- أنّنا لو افترضنا في المرتبة السابقة على اللطف حصول العلم والاطمئنان بواسطة العقل النظريّ بصحة ما أجمع عليه، إذن لم نحتج إلى قاعدة اللّطف لثبوت المطلوب قبلها، ولو لم يثبت ذلك في الرتبة السابقة على اللّطف إذن أمكن الجواب على شبهة الطاعن على الدين بأنّ هذا إشكال على فتاوى العلماء ولم يعلم كون رأي الدين متمثّلا في هذه الفتاوى، فلعلّ رأي الدين يخالف رأي هؤلاء العلماء جميعا.
الثاني- أنّنا عرفنا بالتجربة أنّ اللَّه تعالى جرت عادته على التلطّف بعباده بعدم حجب المصالح التشريعية عنهم، ولذا نرى أنّه أرسل الرسل وأنزل الكتب وجعل أوصياء للرسل وأمر العلماء بتبليغ الأحكام، والجهلاء بتعلم الأحكام وما إلى ذلك ومن هنا نعلم أنّ الحكم المجمع عليه لو كان [الصفحة 287] باطلا، لتلطّف على عباده بإظهار خلافه.
ويرد عليه: أنّ التجربة في حدود ما رأيناه من سدّ أبواب العدم من ناحية عدم إرسال الرسل والكتب وجعل الأوصياء وإيجاب التبليغ على العلماء والتعلّم على الجهّال لا تدلّ على بنائه تعالى على سدّ الباب الناتج من قصور الناس أو تقصيرهم في تلقّي الأحكام وإيصالها للآخرين. هذا مضافا إلى إشكالات أخرى تظهر ممّا سبق [1].
وأمّا المبنى الثاني- وهو مبنى كشف الإجماع عن واقع الحكم على أساس العقل النظريّ، وهذا الوجه يتمّ عند تماميّة فرضين:
الأول: أن يعلم -ولو بتصريح المجمعين- أنّ مصبّ الإجماع هو واقع الحكم لا جامع الوظيفة الملائم لواقع الحكم ولثبوت الحجّة التعبّدية عليه.
والثاني- أن يكون الحكم المجمع عليه بنحو لو كان الواقع خلافه، لشاع ذلك الواقع وذاع لتوفّر الدواعي إلى ذلك وقد مرّ توضيح قوانين هذه الفكرة في بحث السيرة. مثال ذلك مسألة خمس أرباح المكاسب فهي مسألة عامّة الابتلاء للشيعة ووجوب الخمس فيها مئونة زائدة عليهم وعلى خلاف الطبع، وتتوفّر الدواعي على التفتيش والسؤال عن ذلك، وعلى فرض كون الجواب الصحيح هو النفي فداعي الإجابة على ذلك بشكل واضح وعلنيّ موجود لدى الإمام عليه السلام، لأنّ الحكم ليس خلاف التقيّة، بل هو على وفق مذاق العامّة وعلى طبق الظروف الخارجية التي كان الإمام عليه السلام مبتلى بها، إضافة إلى أنّ ارتباط الشيعة في دفع
[1] يظهر مما سبق أنّ سدّ أكثر أبواب العدم التي سدّت كان مؤثّرا في المصلحة التي هي في طول الحكم، وهي مصلحة التعبّد والانصياع للمولى، واحتمال الفرق بين هذه المصلحة والمصلحة التي تكون قبل الحكم موجود.
[الصفحة 288]
الخمس كان بالإمام عليه السلام أو وكلائه على ما يقتضيه طبع هذا الحكم، فإنّ وجوب الخمس ليس حاله حال وجوب قراءة السورة في الصلاة مثلا الّذي هو عمل فرديّ للمصلّي ولا يتطلّب احتكاكا بالإمام أو وكلائه، وإنّما معنى وجوب الخمس وجوب إعطائه للإمام أو وكلائه، وقد ثبت بالتواتر الإجمالي أنّه كان للإمام عليه السلام وكلاء في البلاد التي كانت تسكن فيها الشيعة، فمع كل هذا يكون اختفاء حكم ذلك على الشيعة مستبعدا جدا. فهذه كلّها أمارات تدلّ على أنّه لو كان الحكم الواقعي هو عدم وجوب الخمس في أرباح المكاسب، لشاع ذلك ولم يعقل وقوع الإجماع من الشيعة على الوجوب، فهذا الإجماع في مثل هذا المورد -بالرغم من عدم الاعتماد في موارد أخرى على الإجماع المحتمل المدركية أو المظنون المدركيّة- يكون دليلا قطعيا على الحكم، بل لا حاجة في مثل هذا المورد إلى الإجماع وتكفينا الشهرة، فلا يضرنا نقل الخلاف من ابن أبي عقيل أو شخص آخر في خمس أرباح المكاسب إن صحّ ذلك.
وهناك وجه آخر لدلالة الإجماع بالعقل النظريّ على صحّة متعلّقه لا يختص بما إذا كان متعلّقه واقع الحكم، بل يشمل ما إذا كان متعلّقه جامع الوظيفة الملائم أيضا لفرض وجود حجّة تعبّديّة عليه. فهذا الوجه كما يناسب المقام كذلك يناسب ما سيأتي من المقام الثاني، ونحن نؤجّل بحثه بكلا شقّيه إلى المقام الثاني، إذ لا فرق في الحقيقة في البحث عن ذلك بين الشقّين إلاّ في أمور جزئية ننبّه عليها إن شاء اللّه في ذلك المقام.
و أمّا المبنى الثالث- وهو مبنى الكشف عن الحكم الواقعي بالإجماع على أساس التعبّد والدليل الشرعي، فالذي ينبغي أن يذكر ممّا يتوهّم كونه دليلا على ذلك هو ما روي عن طريق العامّة عن النبي صلّى اللَّه [الصفحة 289] عليه وآله من أنّ أمّته لا تجتمع على ضلالة. وقد وردت روايات عديدة محصّلها ما ذكرناه، وكيفيّة الاستدلال بذلك على وجه يندفع به بعض الإشكالات هي أنّ ظاهر هذه الرواية أنّ المنافرة تكون بين نفس الاجتماع والضلالة لا بين شخص معيّن منهم وه المعصوم والضلالة، ولهذا جعل ذلك من مميّزات هذه الأمّة. أمّا المعصوم فكان موجودا في تمام الأمم، فما أورد على الاستدلال بذلك من أنّ الأمّة لا تجتمع على الخطأ قطعا لأنّ فيها المعصوم وهو لا يوافق مع غيره على الضلال غير صحيح، فإنّ الظاهر أنّ المقصود بهذا الحديث هو عدم اجتماع غير المعصومين على الضلالة ممّن يتصوّر في كل واحد منهم بخصوصه الضلال.
ويرد على الاستدلال بهذه الرواية:
أوّلا- سقوطها سندا، ليس عندنا فحسب باعتبار ورودها عن طريق العامّة بواسطة أفراد مجهولة الحال لدينا، بل هي ساقطة حتى على أصولهم، فهذه الرواية لم ترد في الصحاح الستّ، وذكرها الحاكم في مستدركه على صحيح البخاري ومسلم مشيرا إلى عدم نقاء السند [1].
[1] توضيح الكلام في المقام أنّ الحاكم وإن التزم في مستدركه على العموم بإخراج الأحاديث بأسانيد قد احتجّ بمثلها الشيخان أو أحدهما، ولكن في خصوص المقام أشار إلى ضعف أسانيد هذه الرواية محاولا العلاج بما لا فائدة فيه. وبيان ذلك أنّ الحاكم روى في مستدركه هذه الرواية عن ثلاثة: ابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك:
وما رواه عن ابن عمر فقد رواه عن المعتمد بن سليمان بأسانيد سبعة:
أوّلها ما يلي: قال:
“حدثنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن تميم الأصمّ ببغداد، حدّثنا جعفر بن شاكر، حدّثنا خالد بن يزيد القرني، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: لا يجمع اللَّه هذه الأمّة على الضلالة أبدا... إلخ”.
ثم قال: “خالد بن يزيد القرني هذا شيخ قديم للبغداديين، ولو حفظ هذا الحديث لحكمنا له بالصحّة” يعني بذلك أنّ هذا الحديث من خالد بن يزيد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله صحيح السند، فلو كان قد وصلنا من خالد بشكل صحيح لتمّ سند الحديث، وهذا -كما ترى- يعني الضعف في [الصفحة 290] السند بالنسبة للمقطع الواقع بين حاكم وبين خالد. ثم يسترسل في ذكر باقي الأسانيد إلى المعتمر بن سليمان إلى أن يصل إلى السند الخامس وهو ما يلي: حدّثنا أبو الحسن عبد الصمد بن عليّ بن حكرم البزاز ببغداد، حدثنا محمد بن غالب، حدّثنا خالد بن عبد الرحمن، حدّثنا المعتمر عن سلم بن أبي الذيال، عن عبد اللَّه بن دينار، عن ابن عمر، قال: “قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله لا يجمع اللَّه هذه الأمّة، أو قال: أمّتي على الضلالة...” إلخ.
ثم قال: “وهذا لو كان محفوظا من الراوي -يعني المعتمر- لكان من شرط الصحيح”، وهذا أيضا -كما ترى- تضعيف للمقطع الّذي بينه وبين المعتمر.
وأمّا باقي الأسانيد غير الأوّل والخامس فقد وقع فيها شخص بين معتمر بن سليمان وعبد اللَّه بن دينار([5]) غير من مضى في السند الأول وهو أبوه، أو الخامس وهو سلم بن أبي الذيال.
وهذا الشخص عبّر عنه تارة بأبي سفيان المدني، وأخرى بسفيان وأبي سفيان، وثالثة بأبي سفيان سليمان بن سفيان المدني، ورابعة بسليمان المدني، وخامسة بسليمان أبي عبد اللَّه المدني.
وقال الحاكم: “قال الإمام أبو بكر بن محمد بن إسحاق: لست أعرف سفيان وأبا سفيان هذا”.
وقال الحاكم في سبيل التخلّص عن ضعف السند ما مضمونه: إنّ هذه أسانيد سبعة إلى المعتمر بن سليمان وهو أحد أركان الحديث لا يسعنا أن نحكم أنّ كلّها محمولة على الخطأ، لأجل عدم معرفة سليمان بن سفيان المدني الواقع بين المعتمر وعبد اللَّه بن دينار، ونحن إذا قلنا هذا القول نسبنا الراوي -يعني المعتمر- إلى الجهالة فوهّنّا به الحديث، ولكنّا نقول: إنّ المعتمر بن سليمان أحد أئمّة الحديث وقد روي عنه هذا الحديث بأسانيد يصحّ بمثلها الحديث، فلا بدّ من أن يكون له أصل بأحد هذه الأسانيد.
أقول: كأنّه يقصد بهذا الكلام أنّ سند الحديث إلى المعتمر ثابت بالاستفاضة أو التواتر فلا يضرّ ضعف الأسانيد السبعة، ومجهولية سليمان بن سفيان المدني عندنا الواقع بين المعتمر وعبد اللَّه بن دينار لا تضرّنا، لأنّ المناقشة في السند لأجل هذا الأمر تعني نسبة الراوي -أي المعتمر- إلى الجهالة، فلا بدّ أن يكون قد سمع هذا الحديث من ثقة بأن يكون ابن سفيان ثقة أو أن يكون قد رواه عن أبيه، أو عن سلم بن أبي ذيال كما ورد في بعض النقول السبعة. [الصفحة 291] ولكنّه لا يذكر أنّه بأيّ دليل كان يجب على المعتمر أن لا يروي إلاّ عن ثقة؟، وهل هناك قاعدة تقول أنّ الثقة لا يروي إلاّ عن ثقة بحيث نلتزم بوثاقة كلّ من روى عنه ثقة؟، وهذا ما لم يلتزم به أحد. ثم قال الحاكم لتأييد حديث المعتمر: “وجدنا للحديث شواهد غير حديث المعتمر لا ادّعي صحّتها ولا أحكم بتوهينها بل يلزمني ذكرها لإجماع أهل السنّة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام”.
وهنا ينقل الحاكم تارة الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله بسندين، والمتن في أحدهما ما يلي: “لا يجمع اللَّه أمتي أو قال: هذه الأمّة على الضلالة أبدا ويد اللَّه على الجماعة”. وفي الآخر: “لا يجمع اللَّه أمّتي على ضلالة أبدا ويد اللَّه على الجماعة”.
وأخرى عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله بسند فيه مبارك أبو سحيم، والمتن كما يلي:
“أنّه صلى الله عليه وآله سأل ربّه أربعا: سأله أن لا يموت جوعا فأعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يجتمعوا على ضلالة فأعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يرتدّوا كفارا فأعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يغلبهم عدوهم فيستبيح بأسهم فأعطي ذلك، وسأل ربّه أن لا يكون بأسهم بينهم فلم يعط ذلك”. ثم يقول الحاكم: “أمّا مبارك بن سحيم -يقصد بن نفس مبارك ابن سحيم- فإنّه ممّن لا يمشي في مثل هذا الكتاب لكني ذكرته اضطرارا([6]) “.
أقول: فقد اتّضح لك أنّ الرواية الواردة عن ابن عمر غير تامّة سندا حتى على أصولهم.
وأمّا الواردة عن أنس بن مالك فقد اعترف الحاكم نفسه بأنّ في سندها من لا يمشي في مثل كتاب المستدرك وهو مبارك بن سحيم. وأمّا الواردة عن ابن عباس فهي مشمولة لقوله:
“لا ادّعي صحّتها ولا أحكم بتوهينها” إذ هي ممّا لم تثبت صحته. وأمّا إذا أراد من سرد هذه الروايات إثبات استفاضتها فهي كما ترى ترجع كلّها إلى روايات ثلاث عن ابن عمر، وابن عباس، وأنس بن مالك، فكيف تتمّ الاستفاضة بثلاث روايات؟ هذا إضافة إلى ما ذكره أستاذنا الشهيد رحمه الله في المتن من احتمال اختلاق هذه الروايات بنكتة سياسيّة مشتركة.
كما لا يفيدنا أيضا بعض المراسيل الشيعيّة التي نقلها صاحب كشف القناع رحمه الله([7]).
[الصفحة 292]
وأمّا تعدّد الرواية فلا ينفعنا في المقام بدعوى الاستفاضة، فإنّنا نحتمل قويّا اختلاقا بنكتة عامّة لتصحيح الإجماع الّذي تخيل أنّه يصحّح أساس مذهبهم، ومع احتمال نكتة عامّة في الاختلاق لا يتحقّق شرط الاستفاضة أو التواتر، ولعلّ من يلاحظ ظروف نقل هذه الروايات وحال رواتها يزداد ظنّا باختلافها بنكتة عامّة في الجميع.
وثانيا- أنّ الضلالة إنّما هي العدول عن الحقّ عن عمد وتقصير، وأمّا من خالف حكما من الأحكام في مسألة من المسائل عن اجتهاد بلا تقصير في ذلك فلا يعدّ من الضالّين خصوصا مع رجوعه إلى حكم شرعي ظاهري في المقام الّذي هو حكم اللَّه أيضا بشأنه بعد عدم وصوله إلى الحكم الواقعي، فكيف يعتبر ضالا مع أنّه تمسّك بحكم شرعي تمّ له موضوعه واقعا، وهو عدم العلم بالحكم الواقعي؟.
- وكذلك لا يفيد ما ورد في البحار([8]) بسند مشتمل على مجاهيل عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن جدّه في قصّة احتجاج عليّ عليه السلام على أبي بكر حيث تمسّك أبو بكر في تلك القصّة بقول رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: “إنّ اللَّه لا يجمع أمّتي على ضلال”. وعليّ عليه السلام ناقشه في الصغرى ولم يناقش أصل الصدور.
[الصفحة 293]
المقام الثاني- يبحث فيه -بعد إضافة ما حوّلناه في المقام الأوّل إليه- عن صحّة ما انعقد عليه الإجماع سواء كان عبارة عن واقع الحكم، أو عن جامع الوظيفة، ونقصد بصحة الحكم المعنى المناسب أيضا لفرض قيام الحجّة على الحكم، وطريق الاستدلال على كاشفية الإجماع في هذا المقام هو العقل النظريّ.
و قد ذكر الأصحاب: أنّ الإجماع يكشف عن صحّة ما انعقد عليه لو تمّت بينهما ملازمة عقلية أو عادية أو اتفاقية، ومثّلوا للملازمة العقلية بالتلازم بين التواتر وصحّة الخبر، وللعادية بالتلازم بين اتفاق المرءوسين على شيء ورأي رئيسهم إذ عادة لا يصدر الاتفاق منه على شيء إلاّ عن رأي الرئيس، وللاتفاقية بالتلازم بين الاستفاضة وصحّة الخبر. وإذا آمنّا بالملازمة الاتفاقية بين الإجماع وصحّة متعلّقه فهو لا يكشف عن صحّة متعلّقه دائما -كما هو الحال على الفرضين الأوّلين- بل يكشف عنها أحيانا، كما هو الحال في باب الاستفاضة التي قد تورث القطع بمتعلّقها، وقد لا تورث ذلك على اختلاف الموارد والخصوصيات.
[الصفحة 294]
أقول: ما ينبغي أن يقصد بكلمة الملازمة العقلية والعاديّة والاتّفاقية يجب أن يكون هو التقسيم بلحاظ مصبّ الملازمة لا بلحاظ ذات الملازمة وحقيقتها.
توضيح ذلك: أنّ الملازمة في الحقيقة دائما عقلية فهي دائما تكون على أساس العلّية والمعلولي وهي عقلية لا محالة، وملازمة شيء لشيء تعني استحالة انفكاكه عنه. نعم يختلف الأمر باختلاف مصبّ الملازمة بالقياس إلى ما يؤخذ بعين الاعتبار. فتارة يفترض أنّ الملازمة وقعت بين ذات الشيء وشيء آخر بلا قيد أو شرط كاستلزام وجود جسم في مكان لعدمه في مكان وهذه نسمّيها بالملازمة العقلية، وأخرى يفترض أنّ استلزامه للشيء الآخر مشروط بشرائط وخصوصيات. وعندئذ تارة يفترض أنّ تلك الشرائط والخصوصيات مقترنة للملزوم في عالمنا دائما أو غالبا، كما في استلزام دوام العمر بمقدار مائة سنة مثلا للهرم، وهذه هي الملازمة العادية، والملازمة في الحقيقة ليست بين ذات دوام العمر بهذا المقدار والهرم، وإنّما هي بين دوام العمر بهذا المقدار ضمن خصوصيات معينة والهرم، وبرفع تلك المقارنات في عالم الآخرة تختفي الملازمة بين العمر والهرم كما هو الحال في الدنيا أيضا حينما يتّفق انتفاء تلك المقارنات كما اتّفق بالنسبة لمولانا صاحب الزمان عجّل اللَّه تعالى فرجه الشريف، وأخرى يفترض أنّ مقارنة تلك الشرائط والظروف للملزوم اتفاقية وليست دائميّة، أو غالبية، كما في استلزام التعايش في البلاد الحارّة للابتلاء بمرض السلّ مثلا وهذه هي الملازمة الاتفاقية.
فإذا اتّضح ذلك، قلنا: إنّ حصول العلم من إجماع العلماء أو تواتر المخبرين أو استفاضتهم أو اتّفاق المرءوسين على رأي ممّا يدلّ على رأي الرئيس ليس على أساس الملازمة العقليّة ولا العاديّة ولا الاتّفاقية.
و لتوضيح المطلب نركّز الكلام على أجلى هذه الأمثلة في ما ادّعوه من الملازمة وهو التواتر فنقول: إنّ تواتر الأخبار بموت زيد يورث القطع بموته، [الصفحة 295] ولكن ليس ذلك على أساس الملازمة بين إخبار هؤلاء وموت زيد، وذلك لأنّ خبر كل واحد من هؤلاء وحده نحتمل عدم اقترانه بالصدق ولم ندرك ملازمة بينه وبين موت زيد، والفرد المردّد لا وجود له، وجميع الأخبار ليس إلاّ عبارة عن نفس تلك الأفراد لم ندرك تمانعا بين كذب البعض أو كذب بعض آخر حتى يصبح المجموع ملازما للصدق، وعنوان اجتماع آلاف الأكاذيب ليس إلاّ أمرا انتزاعيا ينتزع من نفس جميع أفراد الكذب، فليس فيه محذور آخر غير محذور الجميع [1].
ولا ينتقض ما ذكرناه بمثل فتح الجيش للبلد حيث إنّ كلّ فرد منهم وحده غير قادر على فتح البلد ولكنّهم جميعا يفتحون البلد. فإنّ الملازمة في هذا المثال قائمة على أساس عليّة عمل هؤلاء لفتح البلد، ومن المعقول أن يكون كلّ فرد منهم جزء العلّة والجميع تمام العلّة فلا يترتّب الفتح على الفرد لأنّه جزء العلّة لا تمامها، ويترتّب على الجميع لأنّه تمام العلّة. أمّا في ما نحن فيه فليست أخبار هؤلاء علّة لموت زيد حتى نفرّق في ذلك بين الجميع والفرد بجزء العلّة وتمامها.
إذن: فالكشف القطعي للتواتر ليس على أساس الملازمة بأحد أقسامها الثلاثة، وإنّما هو على أساس الاحتمالات حيث إنّ لاحتمال ثبوت داعي الكذب بالنسبة لكلّ واحد من هؤلاء قيمة خاصّة، وبضرب مجموع القيم بعضها في بعض تظهر قيمة كذب الجميع وهي ضئيلة جدّاً لا محالة، وحينما يتضاءل الاحتمال في النّفس بدرجة معيّنة يذوب في النّفس ضمن قواعد وشروط معيّنة [2].
وعين ما ذكرناه في التواتر يأتي بالنسبة لباقي الأمثلة من اتفاق
[1] شرح ذلك بكل تفصيل موجود في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء لأستاذنا الشهيد رحمه الله فراجع.
[2] تفصيل ذلك موكول إلى كتاب الأسس المنطقيّة للاستقراء لأستاذنا الشهيد رحمه الله.
[الصفحة 296]
المرءوسين على رأي والاستفاضة والإجماع. وبهذا اتّضح أنّه يجب تغيير منهج البحث في باب الإجماع. فإنّه إذا كان خطأ كلّ واحد من المجمعين محتملا فالقطع بعدم اجتماعهم على الخطأ لا معنى له، إلاّ إذا فرض التمانع بين خطأ البعض وخطأ بعض آخر، ونحن لا ندرك تمانعا من هذا القبيل فإن كان الإجماع مورثا للقطع فهذا القطع قائم على أساس حساب الاحتمالات.
إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ تضاؤل احتمال الاشتباه في باب الإجماع وضعفه متدرّجا بتكثر الأفراد أبطأ بكثير من تضاؤل احتمال الاشتباه في باب الإخبار عن الحسّ، وقد يتّفق أن يصل الضعف إلى مرتبة ولا يشتدّ الضعف بعد ذلك بضمّ الأفراد الآخرين بخلاف باب الإخبار.
والسرّ في كون تضاؤل احتمال الخطأ في باب الإجماع أبطأ منه في باب الإخبار أمور عمدتها خمسة:
الأوّل- أنّ أصل الاحتمال الّذي يتدرّج في الضعف حسب ترتيب الضرب بين القيم الاحتمالية وهو احتمال الاشتباه يكون في باب الاجتهاد والحدس أقوى بكثير منه في باب الحسّ، وذلك لحساب احتمالات سابق في كلا البابين وهو أنّ أسباب الخطأ في باب الحسّ نادرة وأسباب الخطأ في باب الحدس والاجتهاد كثيرة.
الثاني- أنّ الاشتباهات حينما تصبّ على مصبّ واحد يكون اجتماعها أضعف منه[1] حينما تصبّ على أمور متفرّقة، فلو أخبر ثلاثة أشخاص عن كون قبّة معيّنة حمراء مثلا كان احتمال خطئهم أبعد في الوجدان من
[1] هذا إشارة إلى المضعّف الكيفي المشروح في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.
[الصفحة 297]
احتمال خطأ ثلاثة أشخاص كلّ في إخباره بلون قبّة غير القبّة التي أخبر عنها الآخران. وهذا يكوّن فارقا بين باب الحدس وباب الحسّ، ففي باب الإخبار عن الحسّ تكون الاشتباهات غالبا في دائرة واحدة فلو أخبر جمع كثير عن رؤية زيد في مكان خاص فاشتباههم عبارة عن خطأ الكلّ في دائرة واحدة.
وهي الصورة التي تنتزع من زيد، أمّا توافق جمع كثير على لزوم قراءة السورة في الصلاة مثلا إن كان خطأ، فمن المحتمل أن يرجع إلى أخطاء متفرّقة في دوائر عديدة لكثرة المقدّمات الدخيلة في استنباط الرّأي فقد يخطأ هذا في مقدّمة، ويخطأ ذاك في مقدّمة أخرى، فهذا يتخيّل مثلا حديثا مّا صحيحا سندا بينما كان ذاك الحديث ضعيف السند، وذاك يتخيل الحديث الآخر تامّ الدلالة على المطلوب بينما ليس كذلك، وآخر يتخيّل كون المرجع في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين هو لزوم الاحتياط بينما ليس الأمر كذلك و... هكذا.
الثالث- أنّه في باب الإخبار لا يحتمل عادة كون إخبار بعض دخيلا في حسّ الآخر بينما في باب الاجتهاد كثيرا مّا يؤثّر اجتهاد السابق في اجتهاد اللاّحق[1] بحسن ظنّه، وإذا اتّفق جماعة من المجتهدين في عصر على شيء فقد يتابعهم المتأخرون باعتقاد أنّ هذا المطلب أصح إجماعيا، وأنّ الإجماع حجّة بلا أن يتكلّفوا تصحيح دليل هذه الفتوى، وإذا احتمل بشأن المتأخّر كون إفتائه قائما على أساس إجماع السابقين فموافقته لهم لا توجب ضعفا لاحتمال خطئهم ولا تؤثّر شيئا إلاّ بمقدار قليل لا يذكر. أمّا إذا علم بكون موافقته على هذا الأساس كما لو صرّح به لم يبق لموافقته أثر في تضعيف
[1] فيدخل احتمال خطأ الاجتهاد الثاني في باب الاحتمالات المشروطة. وشرح الكلام فيها موجود في كتاب الأسس المنطقية للاستقراء.
[الصفحة 298]
احتمال خطأ السابقين أصلا، فإذا كان كلّ الموافقين المتأخرين من هذا القبيل لم يؤثّر ذلك في تضعيف احتمال خطأ السابقين.
الرابع- أنّه في باب الحسّ يكون المقتضي للإصابة محرزا غالبا من الحواس الظاهرية مع المدركات الأوليّة للعقل ويبقى فقط احتمال المانع من رمد في العين أو وجع في الرّأس أو اشتغال البال ونحو ذلك، بينما في باب الاجتهاد والحدس قد يقع الشكّ في أصل وجود المقتضي للإصابة كما إذا احتملنا نشوء الخطأ من عدم خلق قدرة فهم النكتة الدقيقة الدخيلة في الاستنباط الصحيح في نفس هذا المستنبط.
الخامس- أنّ احتمال وجود نكتة مشتركة تكون بحيث لو تمّت تفسر لنا مجموع الصدف يقلّل من استبعاد اجتماع تلك الصدف، فاحتمال اقتران موت زيد بموت عمرو وبموت بكر وخالد وغيرهم في وقت واحد يقلّ ضعفه حينما عرفنا مثلا أنّهم كانوا في سيّارة واحدة وأنّه من المحتمل موتهم جميعا بحادث اصطدام، وهذا يفسّر لنا فرقا آخر بين باب الحسّ وباب الحدس ففي باب الحسّ قلّما يتّفق فرض نكتة مشتركة يحتمل كونها هي السبب في خطأ الكلّ كما لو احتملنا أنّ هؤلاء الذين أخبرونا برؤية زيد في مكان خاصّ أخطئوا جميعا بنكتة أنّ عمرا تشبّه بزيد وارتدى زيّه ولبس ثيابه وحضر ذاك المكان، أو بنكتة أنّ أخا لزيد يشبهه تماما قد حضر ذاك المكان، ففي الغالب لا توجد نكتة عامّة من هذا القبيل توجب خطأ الجميع في الحسّ، وحينما توجد يخفّ ضعف احتمال خطئهم جميعا بينما في باب الحدس والاجتهاد يكثر وجود نكتة عامّة توجب خطأ الجميع وهي عبارة عن نقطة سير الفكر البشري في خط الاجتهاد والحدس أو مستوى قوّتهم الفكرية أو ظروفهم المشتركة ومعلوماتهم العامّة التي كانوا يعيشونها جميعا ونحو ذلك، فلو أجمع العلماء الأقدمون على حكم يكون مقتضى قاعدة الترتّب خلافه، فإجماعهم لا يدلّ على ثبوت الحكم على خلاف القاعدة تعبّدا لعدم [الصفحة 299 ] استبعاد غفلتهم جميعا عن قاعدة الترتّب حسب نقطة السير في التفكير التي وصلوا إليها في ذاك الزمان، باعتبار أنّ الترتّب إنّما التفت إليه بحسب سير التاريخ بعد الالتفات إلى باب التزاحم والفرق بينه وبين باب التعارض ممّا دعا العلماء إلى التفكير في الوظيفة لدى التزاحم وحلّ مشكلاته فاتّجهت أنظارهم إلى الترتّب، كما أنّ الالتفات إلى التزاحم أيضا كان متفرّعا على تولّد التفريعات في الفقه والتوسّع في ذلك مما يؤدّي إلى الالتفات إلى موارد تزاحم الأحكام في الفروع. ولعلّ أوّل كتاب كتب في التفريعات هو كتاب المبسوط للشيخ الطوسي رحمه الله الّذي ذكر في أوّله: “نّ العامّة كانوا يعيبون على الشيعة بعدم كتاب لهم في التفريعات”.
إذن فلا تستبعد غفلة العلماء جميعا قبل تاريخ كتاب المبسوط عن نكتة الترتّب التي كان المفروض وصول سير خط التفكير الاجتهادي إليه بعد حين.
ولا يتوهّم أنّ النكتة الأولى من هذه النكات الخمس وهي ضعف احتمال الخطأ أساسا في الحسّ وقوّته في الحدس يجب أن يرجع إلى النكات الأخرى وليست نكتة مستقلّة، فإنّه وإن كان احتمال الخطأ في الحدس أقوى منه في الحسّ، ولكن السبب في ذلك إنّما هو باقي النكات، فلو لا عدم إحراز المقتضي للإصابة في باب الحدس واحتمال نكتة عامّة للخطأ في الجميع وغير ذلك، لما كان هناك مبرّر لكون احتمال الخطأ في الحدس أقوى منه في الحسّ.
ولكن الواقع أنّ المقصود بالنكتة الأولى الّتي بيّنّاها هو أنّ الحدس والحسّ هما منظاران ينظر بهما إلى الواقع، والثاني أصفى من الأوّل بكثير بقطع النّظر عن باقي النكات. فلنفرض موردا يكون المقتضي فيه للإصابة محرزا ويكون الكلام بشأن رأي شخص واحد لا أشخاص عديدة كي تتأتّى مسألة النكتة العامّة لكلّ الأخطاء، أو تعدّد الدوائر التي وقعت فيها [الصفحة 300] الأخطاء ويكون الكلام في رأي أوّل شخص، كي لا تأتي مسألة الاعتماد على رأي الآخرين، ومع ذلك كلّه يكون احتمال الاشتباه في باب الحدس أقوى منه في باب الحسّ باعتبار أنّ منظار الحسّ أصفى من الحدس، وأنّ الغفلة في باب الحدس أقرب إلى النّفس منا في باب الحسّ، كما علم ذلك بالتجربة.
ولا ينبغي إغفال نكتة سادسة في تقييم الإجماع في غاية الأهمية أيضا وحسابها بحاجة إلى مزيد تعب في الفحص والتتبّع، وهي أنّ الإجماعات المتأخّرة عن الشيخ الطوسي رحمه الله معتمدة على الإجماعات السابقة، والإجماعات السابقة على الشيخ الطوسي بحاجة إلى الفحص الكامل عن وصفها كي نطلع بقدر الإمكان على عدد العلماء الموجودين في تلك الأزمنة في كلّ عصر، ومقدار طول باعهم وسعة اطّلاعهم ومستوى فهمهم وذكائهم كي يعرف بذلك مدى قيمة إجماعاتهم.
وهذه النكات الستّ هي النكات المهمّة في المقام لإتمام النكات[1] وقد تكتشف بالتحقيق والتدقيق نكات أخرى غير مهمة.
وإذا وجد مورد يسلم فيه الإجماع عن النكات الخمس أو الستّ فيكون مورثا للقطع، يقع الكلام عندئذ بشأن الإجماع المفترض فيه، تارة في الإجماع
[1] أفاد أستاذنا الشهيد رحمه الله في الحلقة الثانية من كتابه دروس في علم الأصول ما نصّه: “ويتأثّر حساب الاحتمالات في الإجماع بعوامل عديدة، منها نوعية العلماء المتفقين من الناحية العلمية ومن ناحية قربهم من عصر النصوص. ومنها طبيعة المسألة المتّفق على حكمها وكونها من المسائل المترقّب ورود النصّ بشأنها أو من التفصيلات والتفريعات. ومنها درجة ابتلاء الناس بتلك المسائل وظروفها الاجتماعية، فقد يتّفق أنّها بنحو يقتضي توفر الدواعي والظروف إشاعة الحكم المقابل لو لم يكن الحكم المجمع عليه ثابتا في الشريعة حقّا. ومنها لحن كلام أولئك المجمعين في مقام الاستدلال على الحكم ومدى احتمال ارتباط موقفهم بمدارك نظرية موهونة. إلى غير ذلك من النكات والخصوصيات.”
[الصفحة 301]
الثابت محصّلا وأخرى في الإجماع المنقول:
أمّا الإجماع المحصّل- فهناك نقاش صغروي فيه باعتبار أنّنا لسنا قادرين على الاطّلاع على آراء الجميع بالنسبة لأيّ عصر من العصور، ولا نقطع بعدم وجود فقيه وقتئذ يخالف الرّأي الّذي وصلنا من ذاك العصر إلاّ في الضروريات وما يتلو تلوها فكم من فقيه لم يكتب فتواه، وكم ممّن كتب فتواه لم يصل كتابه إلينا. وغاية الأمر أن نفترض أنّ أقوال العلماء الذين وصلت إلينا أقوالهم أورثت لنا القطع بأنّ العلماء الآخرين الذين كانوا واقعين في خطّهم والتلامذة الذين تربّوا على أيديهم أيضا كانوا يرتئون نفس الرّأي، ولكن كيف نعرف آراء الآخرين الذين كانوا معاصرين لأساتذتهم وكانت لهم تحقيقات وأتباع إلاّ أنّهم انقرضوا وانتهت مدرستهم وبقي هذا الخطّ العام؟ مثل ما وقع في الزمان القريب حيث كان الشيخ هادي الطهراني في عصر المحقّق الخراسانيّ والسيد محمد كاظم اليزدي، وكانت له آراء وطلاّب ولكن انقرضت مدرسته وبقي هذا الخطّ الموجود الآن.
ولكن لا يخفى أنّنا لا نؤمن بالإجماع بما هو إجماع على أساس بعض المباني القديمة من الإجماع الدخولي أو اللطفي كي يقال: من المحتمل كون من لم نعرف رأيه هو الإمام، أو من المحتمل كون من لم نعرف رأيه مخالفا لهذا القول فلم يلزم الإجماع على الخطأ. وإنّما نؤمن بالإجماع على أساس حساب الاحتمالات واستبعاد اشتباه الجميع، فقد يحصل العلم من نفس آراء الجماعة الذين وصلت إلينا آراؤهم[1].
[1] أفاد رضوان اللَّه عليه في ما لم أحضره في الدورة الأخيرة -على ما نقل عنه-: أنّه بما
[الصفحة 302]
ثمّ إنّنا لو اكتشفنا مدرك الإجماع بتصريحهم بذلك أو بأيّ طريق آخر، فإن كان المدرك تامّا عندنا، كفى لنا مدركا للحكم، وإن كان فاسدا عندنا، فمعنى ذلك أنّنا قطعنا بخطئهم في نكتة إفتائهم بما أفتوا به، فلا معنى لإجراء حساب الاحتمالات لنفي الخطأ، وبالتالي لا يفيدنا إجماعهم شيئا، وكذلك الحال فيما إذا احتملنا مدركيّة ذاك المدرك لهم، فإنّ معنى ذلك احتمال نكتة إفتائهم بما أفتوا به، ومع فرض احتمال الخطأ بالفعل لا معنى لكاشفية الإجماع. نعم قد ينفعنا حساب الاحتمالات لنفي مدركيّة هذا المدرك، ونستبعد كون جميعهم معتمدين على هذا المدرك الفاسد، وعدم التفاتهم جميعا من باب الصدفة إلى فساده[1].
وإذا لم نجد ما نحتمل كونه مدركا للمجمعين فهنا قد يكشف إجماعهم بحساب الاحتمالات عن مدرك صحيح لم يصلنا وبه يثبت الحكم.
وتوضيح ذلك[2] : إنّنا إذا افترضنا أنّ علماء الإماميّة في عصر الغيبة
- ذكرنا يظهر أنّه قد يتمّ الإجماع حتى في مورد الخلاف فيما إذا كان المخالف نوع شخص لا يطعن بحساب الاحتمالات، بخلاف ما إذا كان المخالف ممّن هو في صميم المرتكزات الشرعيّة والمتشرعية كالمفيد والصدوق ونحوهما.
[1] كما أنّه قد ينفعنا حساب الاحتمالات لإثبات صحّة المدرك الّذي تمسّكوا جميعا به إذا كنا شاكّين في صحّته وفساده. وأفاد أستاذنا الشهيد رحمه الله في ما لم أحضره في دورته الأخيرة -على ما هو منقول عنه-: أنّ كشف الإجماع عن صحّة المدرك الّذي تمسّكوا به يبتلي غالبا ببعض نقاط الضعف السابقة. نعم لو افترضنا أنّ حدوس الفقهاء في المسألة كانت قريبة من الحس لكان للتمسّك بذلك وجه، كما إذا استظهروا جميعا من اللّفظ معنى واحدا من دون إعمال قواعد التعارض والكبريات الظهوريّة المعقّدة، ففي مثل ذلك يحصل الوثوق عادة بذاك الظهور لو لا وجود نكتة خاصّة تمنع عن حصول الوثوق.
[2] من هنا إلى آخر بحث الإجماع المحصل مأخوذ ممّا نقل عنه -رضوان اللَّه عليه- ممّا لم أحضره في دورته الأخيرة.
[الصفحة 303]
الصغرى، أو بعده إلى فترة، كزمان المفيد والطوسي ممّن يعبّر عنهم (بقدماء الأصحاب) قد أجمعوا على رأي واحد ولم نجد لهم مدركا فعندئذ يقال: إنّه ليس من المحتمل إفتاء هؤلاء بلا مدرك، فإذا لم يكن من المحتمل غفلة هؤلاء عن أنّ هذا الرّأي لا يكن موافقا للقاعدة كي لا يحتاج إلى مدرك خاص فعندئذ يحصل الجزم بوجود مدرك لم يصلنا، وهذا المدرك إن كان هو دليلا لفظيا لدوّنوه حتما في مقام الاستدلال أو في مقام جمع الأحاديث. إذن، فالمدرك ليس هو دليلا لفظيا من هذا القبيل بل هو ارتكاز عامّ في الطبقة التي كانت فوقهم من أصحاب الأئمّة عليهم السلام، وهذا الارتكاز يكشف بصورة إجمالية عن جامع السنّة، أعني قول المعصوم وفعله وتقريره.
والارتكاز المذكور شيء قريب من الحسّ لو لم يكن حسيّا. والخطأ فيه غير محتمل عادة[1]، فيحصل بذلك القطع بالحكم الشرعي لكن ضمن شروط وتحفظات يجب أخذها بعين الاعتبار.
وهناك إشكالات قد تتّجه إلى حجّية الإجماع نذكر منها ما يلي:
الإشكال الأول- أنّ فقهاء عصر الغيبة كانوا محرومين من مصاحبة الإمام فليس إجماعهم كاشفا عن رأي المعصوم.
والجواب: أنّنا نمتلك وسيطا بين إجماع الفقهاء الأقدمين ورأي المعصوم وهو الارتكاز لدى الرّواة والأصحاب من المعاصرين للأئمّة عليهم السلام بالبيان الّذي مضى.
الإشكال الثاني- ما ذكره المحقّق الأصفهانيّ رحمه الله من أنّ غاية ما يمكن أن يقال في تقريب حجّية الإجماع أنّه من الغريب افتراض إفتائهم
[1] يحتمل أن يكون المقصود بذلك أنّ الارتكاز قائم على أساس الحس، كما يحتمل أن يكون المقصود به أنّ الإجماع قائم على أساس الإحساس بالارتكاز، وكلاهما صحيح.
[الصفحة 304]
بلا رواية. إذن فقد عرفوا رواية تامّة لم تصلنا، ولكن توجد في قبال ذلك غرابة أخرى وهو أنّه لما ذا لا نرى تلك الرواية في مدوّناتهم؟ على أنّه لا ضمان لنا لافتراض أنّ ما تمّ عندهم من حديث سندا ودلالة يتمّ عندنا أيضا سندا ودلالة لو وصلنا
وقد ظهر جواب هذا أيضا بما حقّقنا من أنّ الوسيط بين الإجماع والسنّة هو الارتكاز لا الرواية، وهذا الاستغراب بنفسه دليل على أنّ المدرك لم يكن رواية بل كان ارتكازا.
الإشكال الثالث- من قبيل بعض من حصر الدليل الشرعي بالكتاب والسنة بدعوى استفادة ذلك من روايات حصر المرجعيّة بالقرآن والسنّة.
والإجماع خارج عن هذا الحصر.
وقد سبق الكلام في هذا الحصر في بحث حجّية الدليل العقلي، ونقول هنا بعد فرض تسليم الحصر: إنّنا لا نرى الإجماع في عرض الكتاب والسنّة، بل نراه كاشفا بواسطة الارتكاز عن السنّة وهي الحجّة.
هذا. ويمكن تلخيص أهمّ الخصوصيات التي يجب أن تتواجد حتى تتمّ كاشفية الإجماع في أربعة أمور:
الأول- أن يكون الإجماع مشتملا على فتاوى الأقدمين من فقهائنا الإماميّة، فإن لم تكن المسألة إجماعية عند الأقدمين فلا يفيدنا مجرّد إجماع الفقهاء المتوسطين.
الثاني- أن لا يعلم استناد أصحاب الإجماع على مدرك معيّن بل لا يحتمل ذلك أيضا احتمالا معتدّا به، إذ لو كان كذلك، لكان تمحيص هذا الإجماع بتمحيص ذاك المدرك. نعم، قد يكون الإجماع مقوّيا ومؤدّيا لدليليّة الدليل.
الثالث- أن لا تكون هناك قرائن تنفي وجود الارتكاز الّذي أردنا كشفه بواسطة الإجماع، وإلاّ لكانت مزاحمة لكاشفية الإجماع، ومن [الصفحة 305] ذلك ما ذكرناه في مسألة طهارة الكتابي حيث استندنا على قرائن عديدة تدلّ على عدم وجود الارتكاز على نجاسة الكتابي من قبيل سنخ الأسئلة الواردة في الروايات على ألسنة الرّواة، كالسؤال عن جواز الأكل معهم إذا علمنا بأنّهم يشربون الخمر.
الرابع- أن تكون المسألة مسألة لا يترقّب حلّها إلاّ ببيان من الشارع كنجاسة الثعلب -مثلا-، أمّا ما كان يترقّب حلّها بغير تصدّي الشارع كما إذا كانت المسألة عقلية أو تطبيقية فمن المحتمل أنّ المجمعين اعتمدوا على غير الدليل الشرعي.
ثم الإجماع الّذي تتوفّر فيه هذه الأمور قد يكون لمعقده قدر متيقن وإطلاق، وينبغي أن يلتفت إلى أنّ كاشفية الإجماع عن القدر المتيقن في المعقد أقوى من كاشفيته بلحاظ الإطلاق، وإن كان الإجماع قائما على المطلق فإنّ خطأ المجمعين في تشخيص أصل الارتكاز أبعد من خطأهم في حدود هذا الارتكاز. هذا تمام الكلام في الإجماع المحصّل.
وأمّا الإجماع المنقول: بعد فرض الفراغ عن أنّ الإجماع لو كان محصلا لكان كاشفا عن الحكم الشرعي. فهنا نتكلّم تارة في نقل الكاشف وهو الإجماع، وأخرى في نقل المنكشف وهو الحكم اعتمادا على الإجماع، وثالثة في نقل جزء الكاشف بأن ينقل الناقل مثلا أقوال عشرة من العلماء وكان الكاشف لدينا قول مائة مثلا فأضفنا إلى العشرة ما حصّلناه من قول تسعين من العلماء كي يتمّ الكاشف فالكلام يقع في ثلاثة مسائل:
المسألة الأولى- في نقل الكاشف وهو أقوال العلماء، وثبوت الحكم [الصفحة 306] بذلك يتوقّف على أمرين: أحدهما حجّية هذا النقل لإثبات أقوال العلماء، والثاني الملازمة بين أقوالهم والحكم الشرعي أو ما يقوم مقام الملازمة، كي ننتقل عن هذا الطريق إلى ثبوت الحكم الشرعي، أمّا مجرّد أقوال العلماء ما لم ينته إلى الحكم الشرعي بالملازمة مثلا، فمن الواضح أنّه لا معنى لحجيّتها. فالكلام يقع هنا في مقامين:
المقام الأول- في ثبوت أقوال العلماء بخبر الواحد وعدمه. لا إشكال في ثبوتها به إلاّ من ناحية كثرة التسامحات الواقعة من قبل ناقلي الإجماع كما أشار إليها الشيخ الأعظم قدّس سرّه في الرسائل، وقد أشير في بعض الكتب إلى أنّ عشرا من معشار ما وقع من المسامحات كثير فضلا عن جميعها.
وجميع تلك المسامحات ترجع إلى المسامحة في إحدى نقاط ثلاث:
الأولى- المسامحة في معقد الإجماع. فالإجماع واقع على كبرى من الكبريات، وهذا الناقل ينقل الإجماع على شيء يراه نتيجة لتلك الكبرى بينما هي نتيجة لكبرى اتّفاقيّة وصغرى خلافية.
والثانية- المسامحة في حدود الإجماع، فالناقل يحصل له القطع بالحكم بسبب مقدار من الأقوال، فيسمّي ذلك إجماعا.
والثالثة- المسامحة في أصل الإجماع. فيرى الناقل مثلا مقدارا من الأقوال، فيقطع بموافقة الآخرين على ذلك، أو يرى مدرك الحكم في غاية الوضوح فلا يحتمل مخالفة أحد في ذلك فينقل الإجماع.
ولو اكتفينا بهذا المقدار من البيان في تقريب الإشكال فقد يجاب عليه بأنّ ظاهر كلام الناقل هو نقل الإجماع بلا مسامحة، وظهور الكلام حجّة ما لم يثبت خلافه. ففي أيّ مورد عرفنا مسامحة الناقل في النقل يسقط نقله عن الاعتبار وتبقى لنا الموارد التي لم نعلم فيها بذلك فنتمسّك فيها بظاهر النقل، ولم يثبت تغيّر مصطلحهم في الإجماع بأن يفترض أنّهم أصبحوا [الصفحة 307] يقصدون بالإجماع المعنى المسامحي له، بل الظاهر من كلماتهم في الأصول بقاؤهم على المصطلح السابق في الإجماع. إذن: فما يصدر منهم في الفقه من نقل الإجماع مع المسامحة إنّما هو خروج عن المصطلح ومجاز في التعبير، وليس من باب تغيير المصطلح، وعيه فمهما شككنا في هذا التجوز أخذنا بظاهر الكلام.
ولكن التحقيق أنّ هذا الإشكال مسجّل على نقل الإجماع، وذلك لأنّنا حينما رأينا سبعين بالمائة مثلا من نقول الإجماع مشتملة على المسامحة أوجب ذلك الاطمئنان بوقوع المسامحة في الجملة ضمن الثلاثين الباقية فتتعارض الظهورات الثلاثون فيما بينهما وتتساقط[1].
لا يقال: إنّ العلم الإجمالي بالتسامح وإن كان موجودا ولكن يوجد أيضا في نفس الوقت العلم الإجمالي بعدم التسامح في بعضها، فيكون نقلهم للإجماع مثمرا عن طريق هذا العلم الإجمالي.
فإنّه يقال: لو ثبت هذا العلم الإجمالي لم يكن منجّزا في المقام، لأنّ بعض أطرافه لا يستنبطن إلزاما جديدا. إمّا لثبوت الإلزام بقطع النّظر عن
[1] بل لا حاجة إلى فرض العلم الإجمالي في المقام، فإنّ ما شاهدناه من المسامحة في الموارد السبعين مثلا، إمّا يعني كثرة تورّطهم في الخطأ والغفلة في خصوص نقل الإجماع وبه تسقط أصالة عدم الغفلة العقلائية، ودليل حجّية خبر الواحد لو كان يدلّ على نفي احتمال الغفلة فإنّما هو أيضا في حدود أصالة عدم الغفلة العقلائية، فهو أيضا لا يشمل المقام، أو يعني أنّه جرى دأبهم وديدنهم في باب نقل الإجماع على المسامحة في التعبير وإرادة خلاف الظاهر، وعند هذا يسقط البناء العقلائي على حجّية الظهور، وليس هذا حاله حال مجرّد الظنّ الشخصي بالخلاف الّذي لا يسقط الظهور عن الحجّية، وما ذكرناه هنا هو سنخ ما ذكره أستاذنا الشهيد رحمه الله بالنسبة لفرض جريان دأب الشارع وديدنه على كثرة الاعتماد على المقيدات والمخصّصات المنفصلة من أنّ أصالة الظهور العقلائية تسقط عندئذ، ولكن يبقى لنا التمسّك بسيرة المتشرعة القائمة على العمل بالعمومات والإطلاقات الشرعية، بفرق أنّه فيما نحن فيه وهو الإجماعات المنقولة لا معنى للتمسّك بسيرة المتشرعة فتسقط الإجماعات عن الحجّية.
[الصفحة 308]
الإجماع، أو لكونه إجماعا على الترخيص لا الإلزام. نعم. لو وجد نقل للإجماع سالم عن الطرفية للعلم الإجمالي بالخلاف بسبب الاطّلاع مثلا على الاهتمام الكثير لناقله بالفحص والتتبّع عن واقع الحال، لم يرد عليه هذا الإشكال.
المقام الثاني- في أنّه بعد فرض حجّية نقل الإجماع لو كان ذلك يؤدي ولو بالملازمة إلى أثر شرعي كيف يمكن أن نثبت في المقام الانتهاء إلى الأثر الشرعي؟ والإشكال في المقام هو أنّنا لو بنينا على افتراض الملازمة بين الإجماع والحكم الشرعي كان نقل الإجماع نقلا بالملازمة للحكم الشرعي وكان حجّة، ولكننا قلنا في ما سبق: إنّ كشف الإجماع والتواتر ونحوهما عن صحّة الحكم المجمع عليه، أو صدق الخبر المتواتر ليس بالملازمة، وإنّما هو بحساب الاحتمالات، وحساب الاحتمالات إنّما يؤثر أثره في الإجماع أو التواتر المعلومين وجدانا، أمّا مجرّد نقل الإجماع أو التواتر فلا يكوّن لنا حسابا للاحتمال مؤدّيا إلى إثبات صحّة المصبّ. وبتعبير آخر أنّ الملازمة لم تكن بين الإجماع أو التواتر وصحّة الحكم أو الخبر كي يثبت الثاني بنقل الأوّل، وإنّما كانت الملازمة بين العلم بالإجماع أو التواتر والعلم بصحّة الحكم أو الخبر، ونقل الإجماع والتواتر لم يورث العلم حسب الفرض. ويوجد لحلّ هذا الإشكال عدّة طرق:
الأوّل- أنّنا لو بنينا على مبنى جعل الطريقية والعلم التعبّدي، فخبر الواحد الدالّ على التواتر أو الإجماع قد جعل من قبل الشارع علما تعبّدا، ومعنى ذلك ترتيب تمام آثار العلم وفرض أنفسنا عالمين بما أخبر به الثقة.
فيثبت بذلك تعبّدا العلم بصحّة الخبر أو الحكم الشرعي، إذ لو كنّا عالمين حقّا بالتواتر أو الإجماع لعلمنا بصحّة الخبر أو الحكم الشرعي بلا إشكال.
ويرد عليه: أنّنا لو سلّمنا مبنى جعل الطريقية فنتيجته -كما يتّضح [الصفحة 309] بمراجعة ما مضى في بحث قيام الأمارات مقام العلم- إنّما هي التنجيز والتعذير المترتبين على العلم الطريقي والتعبّد بالآثار الشرعية المترتّبة على العلم الموضوعي، دون التعبّد بالآثار والملازمات التكوينية للعلم، فمن كان علمه بحياة ولده يورث له السرور، ودلّ خبر الواحد على حياته لم يكن معنى حجّية هذا الخبر ان يتعبّد بكونه مسرورا ويرتّب الآثار الشرعية للسرور مثلا.
الثاني- أنّه وإن لم تكن هناك ملازمة بين الإجماع أو التواتر وصحّة المصبّ ولكن تكفينا الملازمة بين العلم بالإجماع أو التواتر والعلم بصحّة المصبّ، لأنّ إخبار الثقة بالإجماع أو التواتر كاشف عن استعداده للإخبار بالحكم أو الخبر، وهذا الإخبار وإن لم يكن إخبارا عن الحسّ، لكنّه إخبار عن حدس يقرب من الحسّ، وهو الحدس الّذي يشترك فيه جميع الناس وهو حجّة بلا إشكال. وهذا البيان إنّما يتمّ فيما إذا كان ما نقله من الإجماع أو التواتر بمستوى لو ثبت لأوجب لدى عامّة الناس العلم بصحّة المجمع عليه أو الخبر المتواتر، دون ما لو كان بمستوى يراه بعض الناس تواترا مفيدا للعلم أو عددا كافيا من آراء الفقهاء للحدس القطعي بالحكم، ولا يراه عامّة الناس كذلك. إذ عندئذ لو فرضنا أنّ الناقل كان ممّن يرى كفاية ذلك في ثبوت الحكم أو الخبر فلا يعدو إخباره عن كونه إخبارا عن حدس غير قريب من الحسّ.
ولو كان ما نقله من الإجماع أو التواتر بمستوى يوجب العلم لعامّة الناس بصدق الخبر أو صحّة الحكم، كفى ذلك في ثبوت الخبر والحكم، ولو فرض الناقل صدفة غير قاطع بصحّة الخبر المتواتر أو الحكم المجمع عليه لابتلائه بالوسوسة وكونه بطيئا في حصول القطع والقناعة، لأنّ العبرة في باب حجيّة خبر الثقة إنّما هي باستعداده للتأكيد على الخبر على تقدير الحالة الاعتيادية للعقلاء. وهذا حاصل في المقام، ولا يضرّ بذلك عدم تأكّده هو [الصفحة 310] من الخبر على أساس وسوسة غير اعتيادية. أمّا إذا افترضنا أنّ ما أخبر به من عدد آراء العلماء واخبار الناس لم يكن كافيا لدى عامّة الناس -على تقدير علمهم به- لحصول العلم بالمجمع عليه أو المخبر به، ولكنّه كان كافيا لذلك لدى بعض الناس ومنهم المنقول إليه ففي حدود هذا المقدار من البيان الّذي بيّناه تأتي شبهة أنّ هذا لا يكفى لإثبات الحكم أو الخبر سواء اقتنع الناقل بذلك أو لا، أمّا إذا لم يقتنع الناقل به فواضح إذ ليس لديه إخبار بالحكم أو الخبر وليس عدم قناعته به لأجل وسوسة غير اعتيادية لما افترضناه من أنّ المقدار المنقول لا يكفي التأكّد منه لدى عامّة الناس لحصول العلم بمصبّ الإجماع أو الخبر، وأمّا إذا اقتنع الناقل به فلا يعدو إخباره بذلك عن كونه إخبارا عن حدس غير قريب من الحس.
الثالث- أنّ نقل الإجماع أو التواتر أو نحو ذلك مما لو ثبت بالعلم لدى المنقول إليه لعلم بالحكم أو الخبر كاف لثبوت ذاك الحكم أو الخبر لديه، سواء كان ثبوت ذلك لدى عامّة الناس كافيا للعلم بالحكم أو الخبر أو لم يكن كذلك إلاّ لدى بعض الناس.
وتوضيح ذلك: أنّه لا يحتمل عدم تحقّق ذاك الحكم أو الخبر إلاّ من زاويتين:
الأولى: أن يكون ما نقل إليه من الإجماع أو التواتر غير ثابت في الواقع.
والثانية: عدم ثبوت الحكم أو الخبر رغم الإجماع والتواتر. والاحتمال الثاني مرفوض من قبل المنقول إليه بالقطع واليقين حسب الفرض والاحتمال الأوّل منفيّ بحجيّة خبر الثقة.
الرابع- أن يقال إنّنا حتى الآن فرضنا أنّه لا ملازمة بين الإجماع أو التواتر وصحّة الحكم أو الخبر، وإنّما الملازمة بين العلم بهذا والعلم بذاك، ومن هنا برز الإشكال بتقريب أن الإخبار عن الإجماع أو التواتر ليس إخبارا بالملازمة عن الحكم أو الأمر المنقول بالتواتر، ولكنّا نقول الآن:
[الصفحة 311]
صحيح أنّه لا ملازمة بين الإجماع أو التواتر وصحّة المصبّ فليس من المستحيل عقلا الانفكاك بينهما، ولكن الملازمة الاتّفاقية أو العادية بالمعنى الّذي شرحناه فيما سبق ممّا لا تنكر فنحن نعلم أنّ اتّفاق الآراء أو الأخبار ضمن ظروف معيّنة من عم توفّر أسباب الخطأ أو دواعي الكذب يلازم صحّة الحكم وصدق الخبر، وهذه الظروف والشروط محرزة -ولو ببركة حساب الاحتمالات- في كلّ إجماع أو تواتر مورث للعلم.
إذن فالملازمة بين الإجماع أو التواتر مع تلك الشروط أو الظروف وبين صدق الخبر أو الحكم ثابتة، وقد أخبر المخبر بالإجماع أو التواتر عن حسّ، والمفروض أنّ ما أخبر به لو علمناه لعلمنا بصحّة مصبّه، وهذا يعني أنّنا نعتقد أنّه سنخ إجماع وتواتر ملازم في الصدق لصدق الحكم أو الخبر فالإخبار عنه إخبار بالملازمة عن الحكم والخبر.
ويمكن الإيراد على ذلك: بأنّ علمنا بتحقّق الشروط والظروف الدخيلة في الملازمة إنّما هو في طول حساب الاحتمالات، وحساب الاحتمالات يجري في كلّ فرد من الإجماعات والتواترات حتى المستقبليّة، لكن على شكل القضيّة الخارجيّة لا الحقيقيّة. فصحيح أنّنا نعلم بأنّ التواتر لا يخطأ وأنّ علمنا هذا شامل حتى للتواترات المستقبلية، ولكن ليس علمنا هذا على نهج القضيّة الحقيقيّة سنخ علمنا بأنّ كلّ نقيض لو وجد يستحيل انفكاكه عن عدم النقيض الآخر، وإنّما علمنا هذا ناتج عن إجراء حساب الاحتمالات على كلّ فرد فرد من التواترات الماضيّة والحاليّة والمستقبليّة، ولا يشمل الأفراد الفرضية كما هو الحال في القضايا الحقيقية. إذن فحينما يخبرنا المخبر. التواتر ولا يورث لنا إخباره بذلك القطع بحصول التواتر لا نستطيع أن نقول: إنّ هذا الفرد المفترض من التواتر لو وقع حقّا فهو ملازم لصدق الخبر، وذلك رغم علمنا بنحو القضية الخارجية بأنّ كلّ تواتر ثابت في زمان من الأزمنة محيط بظروف وشروط ملازمة للصدق. فإنّ كون هذا [الصفحة 312] الفرد المفترض من تلك الأفراد الخارجية غير معلوم.
والتحقيق[1]: أنّ الملازمة العادية أو الاتّفاقية ثابتة بنحو القضيّة الحقيقيّة. وتوضيح ذلك: أنّنا نجري حساب الاحتمالات بشأن هؤلاء العلماء أو هؤلاء الناس -سواء اتّفقوا بالفعل على رأي واحد أو إخبار واحد أو لا- لإثبات أنّه لم تتوفّر فيهم جميعا أسباب الخطأ في رأي واحد، أو دواعي الكذب في خبر معيّن. وبهذا يثبت -حتى فيما لو لم يفتوا ولم يخبروا- بأنّهم مكتنفون بشروط وظروف بحيث لو أفتوا بفتوى واحدة لما أمكن خطؤهم جميعا، ولو أخبروا بخبر موحّد لكان خبرهم مستلزما للصدق. إذن فلو أخبرنا مخبر ثقة باتفاقهم على الرّأي أو توافقهم على الإخبار، فقد أخبرنا بما يلازم صحّة الحكم وصدق الخبر، وهذا إخبار بالملازمة عن صحّة الحكم أو الخبر[2].
[1] هذا مأخوذ من المنقول عمّا لم أحضره في الدورة الأخيرة.
[2] ما ذكره رحمه الله في دورته الأخيرة من ثبوت الملازمة العادية أو الاتّفاقية بين التواتر أو الإجماع وصحّة الخبر أو المجمع عليه متين، وهو ينتج حجّية نقل الإجماع والتواتر فيما إذا كانت الملازمة لدى عامّة الناس، بل وحتى فيما إذا كانت الملازمة لدى خصوص المنقول إليه. ولكن لا بأس بإلفات النّظر إلى أنّ نكتة حجّية مثبتات الأمارات نسبتها إلى فرض كون الملازمة بين المعلومين أو بين العلمين على حدّ سواء فلا خصوصية لفرض الملازمة بين المعلومين، فانّ نكتة حجّية مثبتات الخبر إمّا هي استعداد الثقة للإخبار عن اللازم أو إبرازه لهذا الاستعداد عن طريق إخباره بالملزوم، وهذا ثابت في موارد كون الملازمة ثابتة لدى عامّة الناس، وهذا الاستعداد كما هو موجود لدى الملازمة بين المعلومين كذلك هو موجود لدى الملازمة بين العلمين. وإمّا هي ما مضى من أنّ المنقول إليه لا يحتمل نفي المدلول الالتزامي إلاّ بنفي المدلول المطابقي أو رغم تحقّق المدلول المطابقي. والثاني منفي لديه بالوجدان، والأوّل منفي لديه بخبر الثقة. فقد أصبح الخبر بذلك كاشفا في نظر المنقول إليه عن المدلول الالتزامي بمستوى كشفه عن المدلول المطابقي. وهذا البيان يتمّ كلّما تمّت الملازمة لدى المنقول إليه ولو لم تتمّ لدى عامّة الناس، وهذا البيان أيضا -كما ترى- لا يختص بفرض الملازمة بين المعلومين بل يأتي في فرض الملازمة بين العلمين على أساس علمه بعدم الانفكاك بين المعلومين رغم عدم استحالة
[الصفحة 313]
المسألة الثانية- في نقل المنكشف وهو رأي المعصوم عليه السلام فلو فرضنا أنّ الناقل نقل رأي المعصوم اعتمادا على الإجماع -وهنا أيضا نغض النّظر عن فرض المسامحات في نقل الإجماع، كي لا يرجع الإشكال الّذي ذكرناه في المقام الأوّل من بحث المسألة الأولى- وعندئذ نقول: إنّ نقله لرأي المعصوم اعتمادا على الإجماع لا يفيدنا شيئا غير ما كان يفيدنا نقله للإجماع، فإنّ نقله لقول المعصوم حدسيّ واستنتاج من الإجماع حسب الفرض. فإن كان مقدار الآراء التي يعتمد عليها هذا النقل كافيا لدى المنقول إليه للكشف عن رأي المعصوم على أساس الملازمة بين المعلومين أو على أساس الملازمة بين العلمين فقد ثبت لديه رأي المعصوم، وإن لم يكن ذلك كافيا لدى المنقول إليه فلا فائدة لنقل رأي المعصوم الّذي عرفناه معتمدا على حدس غير مقبول لدى المنقول إليه.
المسألة الثالثة- في نقل جزء الكاشف كما لو نقل الثقة اتّفاق عشرة من العلماء على رأي ولم يكن هذا كافيا لدينا في الكشف عن رأي المعصوم، فضممنا ذلك إلى أقوال عشرة آخرين عرفناها وجدانا أو بنقل ثقة آخر
- الانفكاك. فروح المطلب في حجّية مثبتات الأمارة ليست هي الملازمة بين المعلومين، بل هي أحد البيانين اللذين نسبتهما إلى فرض الملازمة بين المعلومين أو العلمين على حدّ سواء.
والبيانان يجب أن يرجعا بروحهما إلى بيان واحد، إذ لا قيمة لاستعداد المخبر للإخبار بالملازم لو التفت، ولا لكون المنقول إليه لا يحتمل نفي المدلول الالتزامي من دون نفي المدلول المطابقي إلاّ كمنبّه على روح واحدة، وهي كون نسبة الكشف إلى المدلول المطابقي والالتزامي على حدّ سواء.
[الصفحة 314]
وكانت مجموع الآراء العشرين كافيا لدينا للكشف عن الحكم الشرعي، فهل يثبت بذلك الحكم الشرعي أو لا؟. ذكر المحقّق الأصفهاني رحمه الله: أنّ دليل الحجّية لا يشمل جزء الكاشف لأنّ دليل الحجّية يدلّ على التنزيل والتنزيل يكون بلحاظ الأحكام الشرعية، والمنقولة في المقام لا هو حكم شرعي ولا هو موضوع لحكم شرعي. نعم لو كان النقل نقلا لتمام الكاشف الملازم للحكم الشرعي قلنا: إنّ هذا نقل بالملازمة للحكم الشرعي فيتمّ التنزيل بلحاظ الدلالة الالتزامية، أمّا جزء الملازم للحكم فليس ملازما له كي يكون نقله نقلا بالالتزام للحكم الشرعي([9]).
ويرد عليه: أنّ الحكم الشرعي وإن لم يكن لازما لجزء الكاشف على الإطلاق لكنه لازم له على تقدير تحقّق الجزء الآخر، فالناقل ينقل بالملازمة الحكم الشرعي على تقدير تحقّق الجزء الآخر، وقد أحرزنا الجزء الآخر بالوجدان أو بالتعبّد. وبكلمة أخرى: أنّ الصور العقليّة المتصوّرة في المقام ثلاث:
1- عدم تحقّق مجموع جزئي الكاشف.
2- الإجماع على ما هو الخطأ واقعا.
3- كون هذا الرّأي رأي المعصوم.
والاحتمال الأوّل منفيّ بإخبار الثقة عن أحد الجزءين، وثبوت الجزء الآخر بالوجدان أو بخبر ثقة آخر. والاحتمال الثاني غير محتمل حسب الفرض. إمّا على أساس الملازمة بين المعلومين، أو على أساس الملازمة بين العلمين. فينحصر الأمر في الاحتمال الثالث.
[الصفحة 315]
بقي الكلام في الإجماع المركّب، وخلاصة القول فيه: أنّه تارة نفترض أنّ صاحب كلّ من القولين أو الأقوال ينفي الاحتمال الآخر غير القولين أو الأقوال بدليل خاصّ غير دليل القول الّذي اختاره، وأخرى نفترض أنّ دليله على نفي رأي جديد ليس إلاّ نفس دليله على ما اختاره من القول، فلو شكّ فيه لشكّ حتى في نفي الرّأي الجديد. ففي الفرض الأوّل قد وجد إلى صف الإجماع المركّب إجماع بسيط على نفي رأي جديد، وهو يكفى لنفيه حسب الفرض. وفي الفرض الثاني لأنا في لرأي جديد إلاّ الإجماع المركّب، فإن بنينا على حجّية الإجماع من باب دخول المعصوم في المجمعين، أو قاعدة اللّطف، فنفس البيان يتمّ في الإجماع المركب أيضا. أمّا لو بنينا على حجّية الإجماع على أساس استحالة خطأ الجميع، فمن يؤمن بالاستحالة يجب أن يرى أنّه هل يؤمن بها في خصوص الإجماع البسيط، أو حتى في الإجماع المركّب. فعلى الثاني يلتزم بنفي الرّأي الجديد في المقام، بخلافه على الأوّل.
أمّا نحن فقد قلنا: إنّ الكشف قائم في المقام على أساس حساب الاحتمالات وتعاضد القرائن الناقصة بعضها بالبعض، وهذا لا يأتي في الإجماع المركّب، لأنّنا قد أحرزنا خطأ ما عدى رأي واحد من الآراء فقد خسرنا قسما من القرائن الناقصة الدخيلة حسب الفرض في تماميّة الكشف، والمفروض أنّهم لم يتفقوا على نفي الرّأي الجديد بغض النّظر عن أدلّة أقوالهم المختلفة كي يبقى الكشف عن نفي الرّأي الجديد ثابتا رغم الخطأ في دليل ما اختاروه من القول[1].
[1] قد يفترض أنّ الأقوال الساقطة وإن خرجت من الحساب بلحاظ المضعّف الكمّي
[الصفحة 316]
وفي ختام البحث عن الإجماع نشير إلى أنّ الإجماع حينما يكون حجّة إنّما يثبت به المتيقّن إرادته من معقد الإجماع، أمّا ظهور معقد الإجماع فليس حجّة في مقام إثبات الحكم الشرعي، وذلك لأنّ ظهور معقد الإجماع -بعد فرض عدم انفكاك الأمر المجمع ليه عن الحكم الشرعي- ظهور للشهادة من قبل المجمعين على حكم الشرع ولا دليل على حجّية ظهور شهادتهم عليه. وبكلمة أخرى إنّ الاحتجاج بكلام شخص له أو عليه إنّما هو في طول ثبوت كون ذلك الكلام كلاما له، فإذا نقل الراوي الثقة من المولى كلاما مثلا ثبت أوّلا -ولو بالتعبّد- أنّ هذا الكلام كلام للمولى، ثم يصبح ظهور هذا الكلام حجّة للعبد على المولى وللمولى على العبد، ولا يكون هذا الظهور حجّة بين المولى والعبد في المرتبة السابقة على ثبوت كون هذا الكلام كلامه أو في عرضه، فإنّ موضوع الحجّية لشخص أو عليه إنّما هو ظهور كلامه، وفيما نحن فيه لم يثبت في المرتبة السابقة على حجّية الظهور كلام للمولى له هذا الظهور كي يكون هذا الظهور حجّة على المولى وعلى العبد[1].
- لكنّها قد تؤثّر بلحاظ المضعّف الكيفي. فلو كانت الأقوال الموافقة لكلّ واحد من الرأيين مثلا عشرة فصحيح أنّنا اكتشفنا خطأ عشرة من الأقوال وسقطت تلك الأقوال من الحساب الكمّي، ولكن افتراض غفلة عشرين عالما عن الدليل الصحيح للرأي الصحيح في مسألة واحدة يستبطن مضعّفا كيفيا يضمّ إلى المضعّف الكمّي الموجود في العشرة الباقية، وينشأ المضعّف الكيفي من اشتراك جميع الأقوال في جهة مشتركة وهي الغفلة عن دليل الوجه الصحيح لو أخطأت جميعا. لكن عملا لا أظنّ أن نحصل على مورد بحيث تكون لهذا المضعّف الكيفي قيمة تذكر ما دامت الأقوال منصبّة على رأيين مختلفين.
[1] لم يتعرض أستاذنا الشهيد رحمه الله لمسألة حجّية ظهور معقد الإجماع وعدمها في أثناء البحث، وإنّما هو من إفادته خارج البحث. وعلى أي حال فما ذكره رضوان اللَّه عليه هنا ينقض بروايات الرّواة عن الأئمة عليهم السلام حيث لا إشكال في الأخذ بظواهرها مع أنّها من ظواهر شهادة الشاهد على كلام الشارع، وليست ظواهر كلام فرغنا عن كونه كلام
[الصفحة 317]
هذا تمام الكلام في الإجماع، ولنلحق ببحث الإجماع بحثي التواتر والشهرة:
______________________
- الشارع. أمّا الجواب عليه بأنّنا أوّلا نثبت تعبّدا بخبر الثقة أنّ هذا كلام المولى ثم نتمسّك بظهور ما ثبت كونه كلام المولى فيرد عليه: أنّ هذا إنّما يتمّ في موردين: (أحدهما) ما لو عرفنا أنّ الناقل التزم بنقل ألفاظ الإمام عليه السلام. (والثاني) ما لو كان كلام الناقل صريحا في أنّ كلام الإمام كان يساوي العبارة التي ذكرها في مقام النقل في الظهور تماما. بينما الغالب أنّه ليس النقل نقلا للعبارة، ولا هناك تصريح بمساواة عبارة الإمام وعبارته التي جاء بها في مقام النقل بالمعنى في الظهور، وإنّما هناك ظهور في ذلك، ومقتضى البيان الّذي ذكره الأستاذ رضوان اللَّه عليه هو عدم حجّية هذا الظهور.
وأمّا الحلّ فهو أنّ دليل حجّية الخبر تعبّدا سواء كان عبارة عن بناء العقلاء، أو عن الدليل اللّفظي يفهم منه حجّية الخبر. فبحجّية هذا الظهور يحرز تعبّدا ظهور كلام المولى أو صريحه، وعندئذ يحتجّ للمولى وعليه بظهور كلامه أو صريحه.
([1]) النسخة المعتمدة: نشر دار الكتاب اللبناني- مكتبة المدرسة- بيروت- الطبعة الثانية 1406.
([2]) النسخة المعتمدة: نشر مكتبة النجاح- طهران- الطبعة الثانية 1395.
([3]) النسخة المعتمدة: نشر مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي- قم- 1417.
([4]) النسخة المعتمدة: نشر السيد كاظم الحائري- قم- 1408. هوامش هذا الكتاب نقلا عن المصدر.
([5]) وفي أحدهما -حسب ما رأيته في النسخة- عمرو بن دينار بدلا من عبد الله بن دينار وأظنه خطأ من النسخ.
([6]) راجع كتاب المستدرك للحاكم النيسابوري المجلد الأول ص115 إلى ص 117 حسب الطبعة المذيلة بالتلخيص للحافظ الذهبي.
([7]) ص6 نقلا عن الاحتجاج وتحف العقول.
([8]) المجلد الثامن من المجلّدات القديمة في الفتن و المحن الباب الخامس، احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر في أمر البيعة، الحديث الأوّل الصفحة 78. نقلا عن الخصال.
([9]) راجع نهاية الدراية ج2 ص69 و70.