ما كان من السهل الانصياع الى هذه النبالة في « رقمها القياسي » الذي لا تحلم بمثله كبريات النفوس مهما بلغ بها انكار الذات ، لو لا ما أودع الله في هذه النفس من القوة و الصبر و الاحتمال و الكبرياء على الحياة.
وأين تكون التضحية في سبيل الله والفناء في ذات الله والعمل في جنب الله الا حين تستقيم النفس سافرة لا تلتمس ريبة ، صريحة لا تتكلف مداراة ولا مداورة ولا استخفاء ، مجاهدة جهادها الاكبر في تحطيم ميولها الشخصية ، ومعاكسة طبيعتها البشرية بكبح جماحها الارضي الانانيّ.
وها هي ذي « الامامة » بكل معانيها المنقطعة الى الله وها هو ذا « الامام » المنقطع الى الله بكل معانيه.
واذا لم يكن الظرف القائم بين يديه ، كافيا للانتصار على الباطل فلم لا يتخذ منه ظرفا كافيا للاحتفاظ بالحق ؟
وذلك هو ما انتهت اليه صورة الموقف ، بعد أن رفع الستار عن نوايا الجماهير التي كانت ترتجز أمامه للجهاد ، وتتركز في حقيقتها على الاغراض.
واذا كان لا يردّ عادية معاوية عن الاسلام الصحيح ، متمثلا في الصفوة من آل محمد (ص) والبقية الباقية من حزب الله المخلصين ، ولا يردّ أجناده من أهل الشام ، ورتله الخامس المتغلغل في صميم الكوفة وفي معسكر الامام الا الغلب على الملك .. فلتكن لهذه الايدى العادية الضارية غنيمتها من الدنيا ، بشهواتها ومطامعها ومضارها ومعايبها ، ولتسلم للحسن وللبقية من حزب الله ، مبادئُهم الروحية ، بجلالها و قوتها و اتساعها و عظمتها و خلودها.
وما من غضاضة على ابن رسول الله (ص) اذا تنزّه عن و ضر المادة ، فترك الدنيا لاهلها ، و انفرد بسلطان الروح ، ثابت المقام في عظمته ، مرفوع الاعلام في امامته ، معروف الفضل في أمثولته ، مشكور الشمائل في جهاده و صبره و تضحياته.
وما لمسلم معنيّ باسلاميته ، ولا لمؤمنٍ حريص على الصحيح من عقيدته ، أن يشتبه في أمره ، أو يفرط بحقه ، أو يتناسى مكانته من رسول الله (ص) أو يتجاهل امامته الثابتة بأمر الله ـ تلك الامامة التي لا تقبل تغييرا ولا انتقالا ، ولاتحتمل ضعفا ولا انخذالا ، ولكنها الغالبة المتصرة رغم المحاولات المخذولة المناوئة ، تقوى بقوة الله ، و تثبت بثبوت الحق ، و تمتد في أعناق الاجيال كما تمتد النبوّات في أعناق أممها ، فيها كلّ معاني المجد الحقيقي ، و فيها الهيبة القادرة ، و فيها الاستخفاف بخيلاء المناوئين.
انها المرحلة الدقيقة من مراحل تاريخ الاسلام. وهي مرحلة الفصل بين الخلافة الحقيقية والملك [ بين الامامة الدينية والسلطان ] ، بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية.
ولم يكن هذا الفصل ـ على صورته الظاهرة ـ مما تألفه الذهنية الاسلامية بادىء الرأي ، ولكنه الامر الواقع الذي درج عليه الاسلام و الفه المسلمون من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون ، منذ قبض رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ، الا في الفترات القصيرة التي كانت قطرةً في بحر هذه القرون. وكان الاستسلام لعملية الفصل من قبل أولاياء الامر الشرعيين ، الوسيلة الاصلاحية التي يجب الاخذ بها عند الخوف على بيضة الاسلام.
ولكي نكون أكثر صراحةً في البحث ، وأوضح تعبيرا عن الغرض نقول : ان الامام الحسن لم يفعل في موقفه من معاوية ، الا مثل ما فعله أبوه امير المؤمنين (ع) في موقفه من أبي بكر وصاحبيه. وذلك هو معنى
جوابه لاخيه الحسين (ع) فيما مرّ عليك ، حين سأله : « ما الذي دعاك الى تسليم الامر ؟ » فقال له : « الذي دعا أباك فيما تقدم ».
ولكل من الامامين في ظرفه الخاص ، تضحياته الرفيعة التي حفظ بها الاسلام.
ومحا الحسن ـ على هذه القاعدة ـ خارطة مملكته المادية من الارض ، لينقش بدلها خارطة عظمته الروحية في الارض والسماء معا. وتلفّت الى « حدود » مملكته في الملك الجديد الذي لا يبلى ، فاذا هي الحدود بين مملكة الحق والمملكة التي هي شيء غير الحق ، بين الانسانية المثالية و الانانية الطاغية ، بين روحانية « الامام » الذي يحيا ويموت ، وعلى لسانه كلمات الله : « أقيموا الصلوة » ، « وآتوا الزكوة » ، « كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم » ، « ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا » ـ وبين مادية « الجبّار » الذي يعالن الناس قائلا : « والله اني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتزكوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ، وانما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون ! ».
واعتاد الناس ان يتلقوا مثل هذه الحادثة ، كما يتلقون الصدمة الكبيرة من أحداث الزمان ، ذلك لانهم انما ينظرون اليها من ناحيتها الدنيوية الضيقة فلا يرون فيها الا الخسارة.
أما النفس المطمئنة المفطورة على الخير المحض ، فالحادثة عندها وسيلة أهداف هي أعز من الملك ، وهي أعز من الدنيا بأسرها ، وهي ـ مع ذلك ـ التاريخ الذى يلعلع على الانسانية بالامجاد.
وهكذا غلب الحسن الناس في جهاده ، وفي صبره ، وفي تضحيته جميعا. وهذه ثلاث هن امهات الفضائل كلها. وللحسن ثلاث اخرى وثلاث ثالثة ، كلهن أدوات عظمته ، وشواهد مزاياه.
غلب الناس بامامته ، وبوجوب مودته ، وببنوته من رسول الله (ص).
ونُكب من الناس بأنصاره ، وبأعدائه ، وبزوجه.
وخُصَّ بين الناس ـ كما قلنا ـ بالنوع الممتاز من جهاده ، والنوع العظيم من صبره ، والنوع الفريد من تضحيته.
ولكي نتوفر على فهم هذه المواهب الثلاث على الاخص ، كخصائص حسنية لها مميزاتها التي لا تقبل الجدال ، نقول :
1 ـ اما جهاده
فقد كان أروع الجهاد ، وآلمه للنفس ، وأوسعه ميدانا وأطوله عناء.
انه جاهد في سبيل الله ولكن في ميادين كثيرة ، لا في ميدان واحد : جاهد عدوه بما زحف الى لقائه ، وبما جوبه به من فِتنَه وأسوائه ، وجاهد أصحابه وجنوده بما حاول من استصلاحهم بمخلتف الاساليب ، فأعيته الاساليب كلها ، وجاهد نفسه بما ضبط من عواطفها ، وبما كبت من طموحها ، وبما ردًّ من سلطانها ، ولا نعرف في زعماء البشرية انسانا تمكن من نفسه ومن أعصابه ومن عواطفه كما تمكن منها الحسن في مواقفه التي مرّ عليها ، وجاهد شيعته المخلصين في تشيّعهم له ، بما تحمل من عتابهم الجرىء على قبوله الصلح ، فوقف منهم موقفه الذي دلّ بذاته ، على خصائصه الملكية الممتازة التي لا تفارق الامام « المعصوم » ، بما ملك من حفيظته ، وبما ربط من جأشه ، وبما قابلهم به من هدوء الطبيعة ، وميوعة اللهجة وطول الاناة.
وأجاب كلا على عتابه أوضح جواب ، وأقربه الى صواب ، وكشف له عن أهدافه فيما أتاه ، بما استأصل به شأفة عتابه ، فاذا المخاطب مأخوذ ببراعة الحجة وروعة الغرض وأصالة الرأى ، يستذكر بمواقف امامه مواقف الانبياء ، ويتسقط من أخباره مساقط الوحي ، فاذاهو هي.
واليك هنا نموذجا واحدا مما قاله له أحدهم ومما أجابه به ، قال :
« يا ابن رسول الله لم هادنت معاوية وصالحته ، وقد علمت ان الحق لك دونه ، وان معاوية ضال باغ ؟ ».
فأجابه :
« يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى على خلقه واماما عليهم بعد أبي ؟ » قال : « بلى » ، قال : « الست الذي قال رسول الله لي ولا حي : الحسن والحسين امامان قاما أو قعدا ؟ » قال : « بلى » ، قال « فأنا اذاً امام لو قمت وأنا امام اذا قعدت ».
« يا ابا سعيد ، علة مصالحتي لمعاوية ، علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولاهل مكة حين انصرف من الحديبية ، اولئك كفار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل ».
« يا أبا سعيد ، اذا كنت اماما من قبل الله تعالى ذكره ، لم يجب ان يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وان كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألا ترى الخضر لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار ، سخط موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه ، حتى أخبره فرضي ، هكذا أنا ، سخطتم عليَّ بجهلكم وجه الحكمة ، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الارض أحد الا قتل (1) ».
اقول : وللحسن من فصيلة هذا الجهاد ، جهاد اخر مثله ، مع فصيلة أخرى من الناس ، هم الامويون أنفسهم [ وسنشير اليه قريبا ] .
وهذه وحدها خمسة ميادين ، أفنى الحسن عليه السلام فيها عمره الشريف وتحمل همومها بقوة ثابتة ، وجلد عنيف.
ولم يبق ميدان للجهاد ، لم يبرز الحسن فيه للنضال.
وانه اذ ينزل عن سلطان ملكه ، انما يجاهد في الله من هذا الطريق ابقاءً على الاسلام ، و تيسيرا لحياة المسلمين ، ودفعا للقتل عن المؤمنين ، وهو في ذلك كالذي يزل عن حقه في حياته جهادا في سبيل الله ، ويبيع الله نفسه ليشتري منه جنته.
1 ـ البحار ( ج 10 ص 101 ).
2 ـ واما صبره
فانه صدى جهاده ، والحصن الذي يلجأ اليه في مختلف ميادينه.
ولقي من زمانه ومن أهل زمانه ، الحرمان و الخيانة و الغدر و المؤامرات و النفاق و الغيلة و نقض العهود ، و بهتان الاعداء و سبابهم ، و ازورار الاصدقاء و عتابهم ، وما لم يلقه أحد غيره فيما نعهد من زعماء التاريخ ، وتفجرت عليه من كل مكان ، المحن السود والنكبات الفواتن.
فقابل كل ذلك بالصبر الذي لا توازنه الجبال.
وعالج الاوضاع التي دارت حوله ، بما اوتي من الحكمة البالغة الحنكة الموهوبة ، متدرّجا معها من البداية الى النهاية ، لا يستسلم للغضب ولا يتأثر بالعاطفة ، ولا يستكين للحوادث ، ولا يتقلقل للمربكات ، ولا تهزّه الا نُصرَةُ الدين كلمة القرآن ودعوة الاسلام.
وهذا هو الحسن السبط على حقيقته التي خلقه الله عليها. ولن ينكر على الحسن خصاله هذه ، الا متعنت جاهل ، أو عدّو متحامل ، وكانت مزاياه في عصره مُثُلَ المزايا ، وكان كرمه في الناس مضرب المثل. وكان من حلاوة حديثه ، و سرعة بديهته ، و قوة حجته ، و هيبته ، و حلمه ، و حجاه ، ما شهد به أعداؤه فضلا عن أصدقائه.
انظر الى تقريظ معاوية له في خواتيم « المشاجرات » التي كان يثيرها عليه في مجالسه ، والى اطرائه اياه في مناسبات أخرى لا تتصل بهذه المشاجرات.
فقال مرة وهو يطري حلاوة حديثه :
« ما تكلم عندي أحد أحب اليَّ اذا تكلم ان لا يسكت من الحسن ابن علي (1) ».
1 ـ اليعقوبي ( ج 2 ص 202 ) ، وابن كثير ( ج 8 ص 39 ).
وقال عنه وقد ذكر عنده :
« انهم قوم قد الهموا الكلام (1) ».
وقال عن هيبته وحسن محضره :
« والله ما رأيته الا كرهت غيابه وهبت عتابه (2) ».
وقال ايضا :
« فوالله ما رأيته قط ، جالسا عندي ، الا خفت مقامه وعيبه لي (3) ».
وقال يمدحه :
نعم هذا هو معاوية وهو عدو الحسن رقم 1. واما مروان بن الحكم ، فهو الذي كان يقول عن الحسن عليه السلام : « انه ليوازن حلمه الجبال (5) ».
وكان التظاهر بالثناء على الحسن من عدويه هذين ، دليل قوة الحسن في الناس ، والا فدليل خضوعهما للامر الواقع ، أو هو الستار الذي يسدله الخصم على الفكرة التي يجهز بها على خصمه.
اما هذه المشاجرات التي مررنا على ذكرها مرورا ، والتي حفل بكثير منها بعض الموسوعات ذات الشأن ، فهي « الحُدَيَّا (6) » التي كان ينشط لها
معاوية في مضطربه مع الحسن ، حين يوجد الحسن في الشام [ بعد الصلح ] أو حين يوجد هو في المدينة.
1 ـ العقد الفريد ( ج 2 ص 323).
2 ـ البحار ( ج 10 ص 116 ).
3 ـ شرح النهج ( ج 2 ص 101 ).
4 ـ ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 73 ).
5 ـ ابن ابي الحديد ( ج 4 ص 5 و ص18 ).
6 ـ : ( المنازعة والمباراة ).
وكانت مجالس يستعد لها معاوية ، بالاقوياء من أصدقائه الخلّص واقرابئه الأدنين ، الذين يساهمونه النظر الى أهل البيت عليهم السلام كالعائق لهم عن النفوذ الى قلوب الناس ، فيجمع اليه ـ عمرو بن العاص ، عتبة بن أبي سفيان ، وعمرو بن عثمان بن عفان ، والمغيرة بن شعبة ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، وزياد أبن ابيه ، وربما جمع بعض هؤلاء دون بعض ، وربما ضم اليهم آخرين. ثم يدعو الحسن عليه السلام ، فلا يزال يبرز لمشاجرته رجال الحلبة من هذا الحزب ، الواحد تلو الاخر ، مشبوب الحفيظة ، وارم الانف لا يدع شيئا يقدر عليه فيما يتحدّى به الحسن الا أتاه ، ليشفي نفسه وليرضي هواه ، فاذا هي مؤامرة في أسلوب مشاجرة.
أما الحسن عليه السلام وهو « الصخرة الململمة التي تنحط عنها السيول ، وتقصر دونها الوعول ، ولا تبلغها السهام » ـ على حد تعبير عبد الله بن جعفر عنه (1) ـ ، فقد كان له من براءة القلب وروحانية النفس وشعار الطهر ، ما يربأ به عن النزول الى مثل مهاتراتهم.ولكنه كان يجيبهم وهو يقول : « أما والله لوالا أن بني أمية تنسبني الى العجز عن المقال لكففت تهاونا ».
ويردّ عليهم بالحجة القوية البالغة التي ترغم ذلك العناد الصاعد ليعود استكانةً وهزيمةً و ذهولاً.
ويسعرض في بعض ردوده عليهم ، ميراث النبوة و ولاية الامر ، فيستدرجهم ببديهته التي تغترف من بحره المتدفق الزاخر ، الى الاعتراف له بحقه وبحق أبيه.
1 ـ يراجع المحاسن والمساويء للبيهقي ( ج 1 ص 62 ).
ويمضي قائلاً فلا يزال بهم ، حتى يجزيهم على بذاءتهم المنكرة ، غير
مستعين ـ مثلهم ـ بالكذب ، ولا متذرع ـ مثلهم ـ بالبذاء. بل يطعن كلاً على انفراده ، فيصيب منه أبرز مقوّماته ، في نسبه المعروف أو حسبه الموصوف ... وان أبلغ حدياك لخصمك ، أن تمسه في غروره وفي صميم مزاياه التي يخالها مناط أمجاده ، ومرتكز شخصيته.
وكان الحسن في كل هذه المجالس ، الغالب القوي الى جانب الضعفاء المغلوبين.
وكان أشد القوم شعورا بالضعف والتماسا للهزيمة [ في هذه المجالس ] كبيرهم الذي كان أكثرهم وسائل في القوة المادية الطيعة لاوامره ، وكان يغيظه أن يرى أشلاء اخوانه وبني عمومته ، مضرجةً بطعناتها النجل ، عند نهاية كل شجار.
فيقول لهم آنذاك : « قد كنت أخبرتكم و أبيتم ، حتى سمعتم ما أظلم عليكم بيتكم وأفسد عليكم مجلسكم ! ».
ويقول لهم : « قد انبأتكم أنه ـ يعني الحسن ـ ممن لا تطاق عارضته ! ».
ويقول وهو يخاطب مروان بن الحكم : « قد كنت نهيتك عن هذا الرجل ، وأنت تأبى الا انهماكا فيما يعنيك ، اربع على نفسك ، فليس أبوك كأبيه ، ولا أنت مثله. أنت ابن الطريد الشريد ، وهو ابن رسول الله صلى الله عليه واله الكريم ، ولكن رب باحث عن حتفه ، وحافر عن مديته ».
ويقول لعمرو بن العاص مؤنبا ومحرضا : « طعنك أبوه ـ يعني أمير المؤمنين عليه السلام ـ فوقيت نفسك بخصييك ، فلذلك تحذره ! ».
ويقول له في مجلس اخر : « لا تجار البحار فتغمرك ، ولا الجبال فتبهرك ، واسترح من الاعتذار ! ».
و يندم ابن الزبير ، وهو اذ ذاك من ندماء معاوية ، على مشاجرته للحسن (ع) ، فيعتذر قائلا : « اعذر ابا محمد فما حملني على محاورتك الا هذا ـ ويشير الى معاوية ـ ، أحبَّ الاغراء بيننا ، فهلا اذ جهلت أمسكتَ عني ، فانكم أهل بيت سجيتكم الحلم والعفو .. ».
فيقول له معاوية وقد عزّ عليه أن يسمعه وهو يعتذر الى الحسن اعتذار المنهزم المغلوب : « أما انه قد شفى بلابل صدري منك ، ورمى مقتلك فصرت كالحجل في كف البازيّ ، يتلاعب بك كيف أراد ، فلا أراك تفتخر على أحد بعدها ! ».
ويقول في أعقاب مشاجرة اشترك فيها ابن العاص و مروان و ابن سمية في جهة ، و الحسن بن علي (ع) في جهة ، ما لفظه : « أجاد عمرو الكلام لولا أن حجته دحضت ، وتكلم مروان لولا أن نكص » ، ثم التفت الى زياد وقال : « ما دعاك الى محاورته ، ما كنت الا كالحجل في كف البازي ! ».
فقال عمرو : « الا رميت من ورائنا ؟ » ، قال معاوية : « اذاً كنت شريككم في الجهل ، أفاخر رجلاً جده رسول الله وهو سيد من مضى ومن بقي ، وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ». ثم قال لعمرو : « والله لئن سمع به اهل الشام ، لهي السوءة السوءاء » ، فقال عمرو : « لقد ابقى عليك ، ولكنه طحن مروان وزيادا طحن الرحى بثفالها ، و وطئهما وطء البازل القراد بمنسمه ! » ، فقال زياد : « قد والله فعل ، ولكن معاوية يأبى الا الاغراء بيننا وبينهم ».
وهكذا شهد على معاوية بالاغراء على هذه المهاترات كل من ابن الزبير ورياد صريحا ، وشهد عليه السلام في الكثير من ردوده عليهم. قالوا : « وخلا عبدالله بن عباس بالحسن ، فقبّل بين عينيه وقال : « أفديك يا ابن عم والله ما زال بحرك يزخر ، وانت تصول حتى شفيتني من أولاد .... (1) ».
1 ـ يراجع المحاسن والمساوىء للبيهقي ( ج 1 ص 59 ـ 64 ) ، والعقد الفريد ( ج 2 ص 323 ) ، والبحار ( ج 10 ص 116 ).
وتجد خطب الحسن عليه السلام في هذه المشاجرات مجتمعة في كتابنا « أوج البلاغة » ـ فيما اثر عن الامامين الحسنين من الخطب والكتب والكلمات ـ مشروحا.
وكانت نصوص هذه المشاجرات بصيغها البلاغية ، وقيمها الادبية ، جديرة بالعرض ، كتراث عربي أصيل يدل بنفسه على صحة نسبه ويعطينا بأسلوبه وصياغته ، صورة عن « أدب المشاجرات » في عصره. ولكن الذي رغّبنا عن استعراضها في سطورنا هذه ، ايغالها المؤسف بالتهتــار البذيء ، الذي بلغ به صاغة الاكاذيب الامويون غايتهم ، فأساءوا لانفسهم أكثر مما أرادوا بعّد وهم ، وما كانوا محسنين.
واذ قد آثرنا الرغبة عن استعراضها هنا ، فلا نؤثر أن نتجاهل ـ في موضوع الكلام على صبر الحسن عليه السلام ـ ما بلغته هذه المجالس ، من الاساءة الى الحسن ، وما بلغه الحسن في نفسه من عظيم الصبر عليها ، وعظيم البلاء في التعرض لها ولا مثالها من اساليب معاوية وأحابيله ، سلما وحربا.
ومما لا شك فيه ، انها كانت مجالس مبيتة ، وكان لها هدفها السياسي المقصود ، وهي من هذه الناحية ، أحد ميادين معاوية ، فيما شنه على الحسن وشيعته من حزب الاعصاب التي استبدل بها حرب الميدان.
ثم كان من ميادين حربه ( الباردة ) ما سيجيء الالمام بطرف منه في الفصول القريبة.
3 ـ التضحية
واما النوع الفريد من تضحيته ، فهو موقفه من الحكم والسلطان ، وفي سبيل مبدئه.
وقد تكون التضحية بالعرش من صاحب الحق به ، أشد دلالة على انكار الذات من التضحية بالنفس. وانكار الذات في سبيل المبدأ ، أوضح صفات الحسن بن علي (ع) ، وأروع أدواته في جهاده الموصول الحلقات.
وهي على كل حال ، آلم التضحيتين للنفس ، وأطولهما عناء في الحياة ، وأشدهما ارهاقا لكيان الانسان.
وقديما كان الحرص على العرش أعنف اثرا في نفوس القائمين عليه ، من الحرص على النفس بله المبدأ ، فترى العدد الكثير ممن فدى عرشه بنفسه ، ولا ترى الا عددا ضئيلا جدا ممن فدى نفسه بعرشه.
وفي التاريخ صور بشعة كثيرة من قرابين العروش التي كان يفتدي الملوك عروشهم بها اولا ، وبأنفسهم أخيرا [ اذا لم يكن بد من الفداء بالنفس ] .
وعلى مثل هذه النسبة من كثرة التضحية بالنفس في سبيل التاج وندرة التضحية بالتاج في سبيل النفس ، كان الفرق بين قيمتها المعنوية فيما يتواضع عليه الناس من القيم المعنوية للاشياء.
وذلك هو سر ما تستأثر به الحادثة النادرة ، من حوادث السخاء بالعرش من اهتمام الناس ، ولغط الاندية ، وقالة الجماهير. وهو سر ما تستثير من نهم المتطفلين الى الاشتباك بألوان النقاش ومختلف التحاليل والتعاليل. ولا يروى التاريخ حادثة سلطان يتنازل عن عرشه ، ثم لا يختلف عليه الناس ، فمن مصوّب ومخطيء ، وعاذر وعاذل ، [ فقوم له وآخرون عليه ] .
الا الحسن بن علي عليهما السلام.
فقد خرج عن سلطان ملكه ، وضحّى بامكانياته الدنيوية كلها ، في سبيل مبدئه ، فما شك انسان قط في نيته واخلاصه واستهدافه المصلحة ، وسمّو تضحيته في الله. وسمي عامه « عام الجماعة » اشعارا بالاجماع على موافقته والاخذ برأيه ـ عمليا ـ.
وتلك هي آية عظمته في التاريخ.
وآية مقامه المكين من قلوب المسلمين.
وآية سلطانه الروحي الذي لا يضيره نزع الصولجان.
وشكا بعضهم عزوفه ـ بهذه التضحية ـ عن معركة السلاح وكان من هؤلاء أفراد من كبار شيعته ، ولكن أحدا ممن شكا ذلك بدوافعه الزمنية ،
لم يشكَّ قط في صحة ما أتاه الامام بدوافعه الدينية ، من صلاح الامة ، وحقن دمائها ، والانتصار لاهدافها.
وسترى فيما تقرأه قريبا ـ في الفصل الاتي ـ أن العاتيين لم ينصفوا الحسن فيما شكوه منه ، أو عتبوا به عليه ، وان الحل الذي اتخذه الحسن للخروج من مشاكله الاخيرة ، كان هو المخرج الوحيد لظرفه الخاص.
ولم يكن الحسن بن علي عليهما السلام ، حين قرر النزول الى اصعب التضحيتين ألما في النفس ، وأفضلهما أثرا في الدين ، واقلهما حدوثا في التاريخ ، وأكبرهما قيمة في عرف الناس ، مثارا لشبهة ، أو مجالا لنقد ، أو هدفا لاتهام ، وأين يجد الاتهام أو الشبهة او النقد سبيله فيمن يختار من الوجوه أشدها على نفسه. وأنفعها لغيره ، وأقربها الى ربه. وهو هو الرباني المعترف به ، والمطهر بنص الكتاب عن كل ما يوجب شبهةً أو خطأ او اتهاما.
ومتى كانت الدنيا من حساب الحسن ، حتى يطمع بالحياة فيها ، وحتى يستأخر على حسابها ما ينتظره ـ في لقاء ربه ـ من المقام المحمود ، و ـ في جوار جده وأبويه ـ من الكرامة ، يحبونه بها ويزلفونه الى الله تعالى شأنه ؟
ومتى كان الحسن بن علي ، الرعديد الجبان ، حتى يخاف القتل ، فيتقيه بالتنازل عن ملكه. ومن أين تَسمُتُ الى الحسن بن علي الجبانة يا ترى ؟. أمن أبيه اسد الله واسد رسوله ، أم من جديه رسول الله صلى الله عليه واله وشيخ البطحاء ، أم من عميه سيدي الشهداء العظيمين حمزة وجعفر ، أم من اخيه أبي الشهداء ، أم من مواقفه المشهورة في مختلف الميادين ، يوم الدار ويوم البصرة وفي مظلم ساباط (1) ، وهو ذلك الرئبال الذي « اذا سار سار الموت حيث يسير » على حد تعبير عدوه فيه ؟؟؟ [ والفضل ما شهدت به الاعداء ] .
1 ـ يراجع « الفخري » عن موقف الحسن يوم الدار ، و « كتاب الجمل » للمفيد عن مواقفه يوم البصرة ، و « اليعقوبي » عن بسالته في حادثة مظلم ساباط.
وكانت تضحيته بسلطانه لذاتها ، من أروع آيات شجاعته ، لو كانوا يشعرون.
فأين هو الطمع بالحياة ، أو الخوف من القتل.
وليس في موازين الحسن ، الا مبادئُه التي لا يوازنها في حسابه شي ء اخر ، فرأى أن يفدي مبادئه بسلطانه ليحفظ كيانها وكرامتها ، وليحميها من الايدي العادية التي لا تخاف عاجل عار ولا آجل نار ، وتولّى شطر هذه الخطة متساميا على الدنيا لا يتغير ولا ينحرف ولا يحيد ، فاذا به المنتصر في صميم الخذلان ، والفاتح في صميم الهزيمة ، والظافر في صميم الانهيار.
ورضي لنفسه أن تحيا حياة أهون من آلامها الموت ، صيانة لاهدافه من أن تموت ، ورضي لنفسه أن تكون بكل وجودها أداة الخير للغير ، دون أيّ استغلال أو استئثار أو احتكار. وهذا بمفرده ، قصارى ما يصل اليه أفذاذ المصلحين في التاريخ ، وقصارى ما تصبو اليه التربية الاسلامية لتحقيق وجهة النظر الاسلامي ، في نشر الاصلاح في الناس ، وفي تعبئة المبادىء الصحيحة في المجتمع.
وكثير اولئك الذين خدموا مبادئهم ، بتحمل النوائب في أنفسهم ، الا أنّ أحدا من اولئك لم يبلغ مبلغ الحسن فيما تحمله ، من الوانها المختلفة ، التي اصطلحت عليه ، وصحبته كظله الملازم له حتى ختمت حياته ـ في نهاية المطاف ـ بالنكبة الكبرى.
فكان ـ من جميع أطرافه ـ أمثولة الامام الصاعد في مثاليته ، والمصلح العظيم الذي اختط للمصلحين ، آلم التضحيات للنفس ، في سبيل الابقاء على المبدأ.
وقاد الخطوات المقبلة ، بما زهد فيه من حظوظ الدنيا العاجلة ، فكان زهده في دنياه ، وصبره على مثل حياته ، وتضحيته بملكه ، هو نفسه جهادا في سبيل الله ، وانتصارا في خلود المبدأ ، وأداته في الخلود.