موقع عقائد الشيعة
الإمامية
صلح الإمام الحسن عليه السلام
الاجتماع في الكوفة
وكان طبيعياً أن يتفق الفريقان بعد توقيعهما الصلح، على مكان يلتقيان فيه على سلام،
ليكون اجتماعهما في مكان واحد تطبيقاً عملياً للصلح الذي يشهده التاريخ، وليعترف كل منهما على مسمع من الناس بما أعطى صاحبه من نفسه وبما يلتزم له من الوفاء بعهوده. واختارا الكوفة، فأقفلا اليها، وأقفل معهما سيول من الناس غصت بهم العاصمة الكبرى، وهم ـ على الاكثر ـ أجناد الفريقين، تركوا معسكريهما وخفوا لليوم التاريخي الذي كتب على طالع الكوفة النحس أن تشهده راغمة أو راغبة. وللمرة الاولى تزخر عاصمة العراق بعشرات الالوف من أجناد الشام الحمر ـ مسلمين ومسيحيين. ولهذين المعسكرين ـ الكوفة والشام ـ سوابقهما التي لا تعهد الهوادة في سلسلة العداوات التاريخية والوقائع الدامية، منذ حوادث سلمان الباهلي وحبيب بن مسلمة الفهري
(على عهد عثمان بن عفان) والى يوم الصلح هذا. فما ظنك يومئذ بحال الجندي الكوفي الثابت على الوفاء، الذي قدّر له ان يلقي سلاحه تحت موجة طاغية من مكاء الجنود الشاميين وتصديتهم التي عجت بها أروقة المسجد الجامع، الذي كان أسس على تقوى من اللّه.
وكانت الفجيعة القاتلة للفئة المخلصة من أنصار أهل البيت عليهم السلام، وللذين جهلوا من هؤلاء الانصار أهداف الحسن في الصلح، أو جهلوا حقيقة الوضع بدوافعه التي اقتادت الحسن الى الصلح. أما الاكثرية الخائنة فقد مزقت الستار في يومها المنشود، وظهرت على المسرح باللون الذي لا تشتبه فيه الابصار، وشوهد بين جماهير الشاميين زُمَرٌ من الكوفيين يساهمونهم الفرح المغبون في مهرجاناتهم الباردة، وانتصارهم
المغلوب!!.
ونودي في الناس الى المسجد الجامع، ليستمعوا هناك الى الخطيبين الموقعين على معاهدة الصلح.
وكان لابد لمعاوية أن يستبق الى المنبر، فسبق اليه وجلس عليه (1)، وخطب في الناس خطبته الطويلة التي لم ترو المصادر منها الا فقراتها البارزة فحسب.
منها (على رواية اليعقوبي) :
« أما بعد ذلكم، فانه لم تختلف أمة بعد نبيها، الا غلب باطلها حقها!! » ـ قال : « وانتبه معاوية لما وقع فيه. فقال : الا ما كان من هذه الامة، فان حقها غلب باطلها (2)!! ».
ومنها (على رواية المدائني) :
« يا أهل الكوفة، أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وألي رقابكم، وقد آتاني اللّه ذلك وانتم كارهون!. ألا ان كل دم أصيب في هذه الفتنة مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين!!. ولا يصلح الناس الا ثلاث : اخراج
العطاء عند محله، واقفال الجنود لوقتها، وغزو العدو في داره، فان لم تغزوهم غزوكم ».
وروى أبو الفرج الاصفهاني عن حبيب بن أبي ثابت مسنداً، أنه ذكر في هذه الخطبة علياً فنال منه، ثم نال من الحسن (3)!!.
1 ـ قال جابر بن سمرة : « ما رأيت رسول اللّه يخطب الا وهو قائم، فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه » رواه الجزائري في آيات الاحكام
(ص 75)، والظاهر أن معاوية أول من خطب وهو جالس.
2 ـ تاريخ اليعقوبي (ج 2 ص 192).
3 ـ شرح النهج (ج 4 ص 16).
وزاد أبو اسحق السبيعي (1) فيما رواه من خطبة معاوية قوله : « الا وان كل شيء أعطيت الحسن بن علي تحت قدميّ هاتين لا أفي به!! ».
قال أبو اسحق : « وكان واللّه غداراً (2) ».
ثم تطلع الناس، فاذا هم بابن رسول اللّه الذي كان أشبههم به خلقاً وخلقاً وهيبة وسؤدداً، يخطو من ناحية محراب أبيه في المسجد العظيم ليصعد على منبره. وفي غوغاء الناس ولع بالفضول لا يصبر عن استقراء الدقائق من شؤون الكبراء، فذكروا لجلجة معاوية في خطبته، ورباطة الجأش الموفورة في الحسن وقد استوى على أعواده، وأخذ يستعرض الجموع الزاخرة التي كانت تضغط المسجد الرحب على سعته، وكلها ـ اذ ذاك ـ أسماع مرهفة لا همَّ لها الا أن تعي ما يردّ به على معاوية، فيما خرج به عن موضوع الصلح، فنقض العهود وأهدر الدماء وتطاول على الاولياء. وكان الحسن بن علي (ع) أسرع الناس بديهة بالقول، وأبرع الخطباء المفوَّهين على تلوين الموضوعات، فخطب في هذا الموقف الدقيق، خطبته البليغة الطويلة التي جاءت من أروع الوثائق عن الوضع القائم بين الناس وبين أهل البيت عليهم السلام بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ووعظ ونصح ودعا المسلمين ـ في أولها ـ الى المحبة والرضا والاجتماع، وذكّرهم ـ في أواسطها ـ مواقف أهله بل مواقف الانبياء، ثم ردّ على معاوية ـ في آخرها ـ دون أن يناله بسب أو شتم، ولكنه كان بأسلوبه البليغ، أوجع شاتم وسابّ.
1 ـ هو عمرو بن عبد اللّه الهمداني التابعي، الذي يقال عنه أنه صلى اربعين سنة صلاة الغداة بوضوء العتمة، وكان يختم القرآن في كل ليلة، ولم يكن في زمانه أعبد منه ولا أوثق في الحديث.
2 ـ شرح النهج (ج 4 ص 16).
قال : « الحمد للّه كلما حمده حامد، وأشهد ان لا اله الا اللّه كلما شهد له شاهد. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى، وائتمنه على
الوحي، صلى اللّه عليه وآله وسلم. أما بعد، فواللّه اني لارجو أن اكون قد اصبحت بحمد الله ومنّه، وأنا انصح خلق اللّه لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة، ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وانَّ ما تكرهون في الجماعة،
خير لكم مما تحبون في الفرقة، الا واني ناظر لكم خيراً من نظركم لانفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليَّ رأيي. غفر اللّه لي ولكم، وأرشدني واياكم لما فيه المحبة والرضا (1) ».
ثم قال : « أيها الناس، ان اللّه هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وان لهذا الامر مدة، والدنيا دول. قال اللّه عزّ وجل لنبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم : قل ان ادري أقريب ام بعيد ما توعدون. انه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون. وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين (2) ».
ثم قال : «.. وان معاوية زعم لكم أني رأيته للخلافة أهلاً، ولم أرَ نفسي لها أهلاً، فكذب معاوية. نحن أولى الناس بالناس في كتاب اللّه عزّ وجل وعلى لسان نبيه. ولم نزل ـ أهل البيت ـ مظلومين منذ قبض اللّه نبيه. فاللّه بيننا وبين من ظلمنا، وتوثب على رقابنا، وحمل الناس علينا، ومنعنا سهمنا من الفيء،
ومنع أمَّنا ما جعل لها رسول اللّه. واقسم باللّه لو أن الناس بايعوا أبي حين
فارقهم رسول الله، لاعطتهم السماء قطرها والارض بركتها، ولما طمعت فيها يا معاوية..
فلما خرجت من معدنها، تنازعتها قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء، أنت
وأصحابك. وقد قال رسول اللّه : ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، الا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا الى ما تركوا. فقد ترك بنو
1 ـ الارشاد للشيخ المفيد
(ص 169 ـ طبع ايران).
2 ـ المسعودي (هامش ابن الاثير ج 6 ص 61 ـ 62)، وابن كثير (ج 8 ص 18)، والطبري
(ج 6 ص93).
اسرائيل هارون وهم يعلمون أنه خليفة موسى فيهم، واتبعوا السامريّ، وتركت هذه الامة أبي وبايعوا غيره وقد سمعوا رسول اللّه يقول له : أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا النبوة، وقد رأوا رسول اللّه نصب أبي يوم غدير خم، وأمرهم ان يبلغ أمره الشاهدُ الغائب. وهرب رسول اللّه من قومه وهو يدعوهم الى اللّه، حتى دخل الغار، ولو أنه وجد أعواناً لما هرب، كف أبي يده حين ناشدهم، واستغاث فلم يغث. فجعل اللّه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، وجعل اللّه النبي في سعة حين دخل الغار ولم يجد اعواناً. وكذلك أبي وأنا في سعة من اللّه، حين خذلتنا هذه الامة. وانما هي السنن والامثال يتبع بعضها بعضاً (1) ».
ثم قال :
« فوالذي بعث محمداً بالحق، لا ينتقص من حقنا ـ أهل البيت ـ أحد الا نقصه اللّه من عمله، ولا تكون علينا دولة الا وتكون لنا العاقبة، وَلتعلَمُنَّ نبأه بعد حين (2) ».
ثم دار بوجهه الى معاوية ثانياً، ليرد عليه نيله من أبيه، فقال ـ وما أروع ما قال ـ :
« أيها الذاكر علياً! أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول اللّه وجدك عتبة بن ربيعة،
وجدتي خديجة وجدتك فُتيلة ـ فلعن اللّه أخملنا ذكراً، والأمنا حسباً وشرنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً!! ».
1 ـ البحار (ج 10 ص 114).
2 ـ المسعودي (هامش ابن الاثير ج 6 ص 61 ـ 62).
قال الراوي : « فقال طوائف
من أهل المسجد : آمين. قال الفضل بن الحسن : قال يحيي بن معين : وانا أقول آمين. قال ابو الفرج قال أبو عبيد قال الفضل : وانا اقول آمين. ويقول علي بن الحسين الاصفهاني
(أبو الفرج) : آمين قال ابن أبي الحديد : قلت ويقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب
(يعني شرح النهج) : آمين (1) ».
اقول : ونحن بدورنا نقول : آمين.
وهذه الخطبة هي الوحيدة في تاريخ الخطابات العالمية، التي حظيت بهتاف الاجيال على طول التاريخ.
وكذلك قول الحق، فانه لا ينفك يعلو صعداً ولا يعلى عليه.
وتجهز الحسن ـ بعد ذلك ـ للشخوص الى المدينة، وجاءه من سراة شيعته المسيب بن نجية الفزاري وظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه، فقال الحسن : « الحمد للّه الغالب على أمره. لو أجمع الخلق جميعاً على أن لا يكون ما هو كائن ما استطاعوا ». وتكلم المسيب وعرض اخلاصه الصميم لاهل البيت (ع). فقال له الحسين (ع) : « يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا » وقال الحسن (ع) : « سمعت أبي يقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : من أحب قوماً كان معهم ». ثم عرض له المسيب وظبيان بالرجوع، فقال : « ليس الى ذلك سبيل ». فلما كان من غد خرج من الكوفة، وشيعه الناس بالبكاء!! ولم تكن اقامته فيها بعد الصلح الا اياماً قلائل.
فلما صار بدير هند (2) (الحيرة) نظر الى الكوفة وقال :
ولا عن قلىً فارقت دار معاشري
|
|
هم المانعون حوزتي وذماري (3)
|
1 ـ شرح النهج (ج 4 ص 16).
2 ـ هند هذه، هي بنت النعمان بن المنذر، وكانت مترهبة في ديرها هذا بالحيرة.
3 ـ يراجع عما سبق شرحالنهج (ج 4 ص 6).
اقول : وأي نفس ملائكية هذه التي لقيت من نشوز هذه الخاصرة ومن بوائقها ما لقيت، ثم هي تودعها بهذا البيت من الشعر، فلا تذكر من
تاريخها الطويل العريض، الا وفاء الاوفياء « المانعين الحوزة والذمار » وهم الذين منعوا عنه من أراده في المدائن، والذين ثبتوا على طاعته يوم العسرة في مسكن، فكانوا اخوان الصدق وخيرة الانصار، على قلتهم.
ثم سار الموكب الفخم الذي كان يقل على رواحله، بقية اللّه في الارض، وتراث رسول اللّه (ص) في الاسلام، وقد ضاقت بهم الكوفة أو ضاقوا بها، فيمموا شطر وطنهم الاول، ليمتنعوا هناك بجوار قبر جدهم الاعظم من مكاره الدهر الخوان.
وصبَّ اللّه على الكوفة بعد خروج آل محمد منها، الطاعون الجارف، فكان عقوبتها العاجلة على موقفها من هؤلاء البررة الميامين. وهرب منها واليها الاموي
[المغيرة بن شعبة] خوف الطاعون، ثم عاد اليها فطعن به فمات (1).
1 ـ ارجع الى المسعودي على هامش ابن الاثير
(ج 6 ص 97).
|