1- قبل بيعة
الإمام الحسن
يكفينا الآن ، ونحن بصدد موضوع لا ندري على التحقيق ، مدى تأثره بسوابقه ومقارناته ، ان نرجع ولو قليلاً ـ الى استعراض بعض الاوضاع الاجتماعية التي ثاب اليها المسلمون لاول مرة بعد عهد النبوة ، بما كان للنبوة من اثر عميق في النفوس ، وسلطان قوي على تكوين المجتمع ، ويد صناع في بناء عناصر الحيوية في الاتباع.
يكفينا ونحن نستوحي الذكريات لوضع الصورة العابرة هنا ، ان نأخذ من كل مناسبة صلتها بموضوعنا ، أو نأخذ بالمناسبات ذات الصلة من دون غيرها ، لنتعرف ـ على ضوء هذا الاسلوب ـ مدى تأثر موضوعنا بماضيه.
وكان الحدث الاكبر في تاريخ الاسلام هو وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وانقطاع ذلك الاشعاع السماوي الذي كان يفيض على الدنيا كلها بالخير ، فاذا الدنيا كلها مظلمة تستعد للشر. وانقطعت الارض بموت رسول اللّه (ص) عن السماء ، اذ كان الوحي هو بريدها الى الارض واداة صلتها بها. وهل للارض غنى عن السماء ، وفي السماء رزقها ومنها خيرها وحياتها وحيويتها ونورها ودينها. وما كان أشد من هذه الوحشة على الدنيا ، ولا أفدح من هذه الخسارة على المسلمين ، لو انه كان ـ ونعوذ باللّه ـ
انقطاعاً باتاً وانفصالاً نهائياً. ولكن رسول اللّه (ص) أدرك ما سيمتحن به المؤمنون بعده من عظيم الرزية بانقطاع الوحي من بينهم ، وكان بالمؤمنين رؤوفاً
رحيماً ، فأخبرهم بان حبلاً واحداً سيبقى متصلاً بينهم وبين السماء. وهل حبل أولى
بالتمسك من حبل السماء وقد انقطع الوحي ، قال:
« اني تركت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الارض ، وعترتي اهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما » (1).
ومن حق البحث الذي بين ايدينا ان يستقرئ في هذه المناسبة موقف المجتمع من عترة النبي (ص) ، او موقف الجماعات التي كانت تدعي لنفسها حق التمثيل للمجتمع ، لينظر فيما خلفوا رسول اللّه في عترته ـ استغفر اللّه ـ بل لينظر فيما يتصل من ذلك بموضوعنا من هذه المناسبة العابرة. واذا كانت العترة عشيرة الرجل ، فعلي أبرز رجالها بعد رسول اللّه ، واذا كانت ذريته ، فالحسن كبير عترة النبي من بعده. وتجيز اللغة اطلاق العترة على الصنفين ـ العشيرة والذرية ـ معاً.
نعم انه قدّر لهذا المجتمع ، ان ينقسم انقسامته التاريخية التي وقعت فور الفاجعة العظمى بوفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، حين تأول قوم فانساحوا الى تأولاتهم ، وتعبّد آخرون فثبتوا على الصريح من قول نبيهم ، وللنبي تصريحات كثيرة في موضوع الترشيح للخلافة ليس هنا مكان استعراضها. ولسنا الآن بصدد مناقشة المتأولين أو مساجلة المتعبدين ، لان كل شيء مما نتفق عليه معهم جميعاً ، أو مع فريق واحد منهم ، أو مما نختلف فيه قد تم في حينه على صورته. وليس فيما تتناوله بحوثنا الآن ما يستطيع ان يغير الواقع عن واقعه.
1 ـ اخرجه الترمذي وهو الحديث 874 من احاديث كنز العمال
(ص 44 ج 1) وعلى نسق هذا الحديث احاديث كثيرة اخرى روتها الصحاح والمسانيد ، وجاء في بعضها « اني تارك فيكم خليفتين كتاب اللّه ممدود بين السماء والارض او ما بين السماء والارض وعترتي اهل بيتي وانهما
لن يفترقا حتى يردا علي الحوض » ـ (الامام احمد والطبراني في الكبير).
ولكنا ـ ولنلتمس المعاذير للمتأولين ـ على مخالفتهم لنصوص نبيهم نقول: انهم نظروا الى هذه النيابة عن الوحي التي جعلها رسول اللّه (ص) للكتاب وللعترة من بعده ، في حديثه هذا وفي نظائره الكثيرة من الاحاديث الاخرى ، نظرتهم السياسية التي لا تعني الانكار على رسول اللّه ، ولكنها تهدف ـ قبل كل شيء ـ الى « المصلحة » فيما يرون ، ورأوا ان وجوب اطاعة الاوامر النبوية في الموضوعات السياسية ، منوط بذوي التجارب من الشيوخ المتقدمين بالسن. فان صادقوا على ما أراده النبي فذاك ، والا فليكن ما أرادوا هم.
وهكذا زويت الخلافة عن العترة. وهكذا صار من الممكن وربما من المستحسن لدى فريق عظيم من مسلمة محمد
(صلى اللّه عليه وآله) ، ان يصبح معاوية أيضاً ممن ينازع على خلافة الاسلام ويطلبها لنفسه ، ويحتج عليها بالسن (1) ايضاً ، ويصادق عليها الشيوخ المسنون ايضاً كعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وابي هريرة الدوسي. ولم تكن حملة معاوية هذه بما فيها من استخفاف بقدسية الاسلام ، الاولى من نوعها ، ولكنها كانت تمتد بجذورها الى عهد أقدم ، والى تصالح وتعاون أسبق ، ومن طراز أسمى (2).
1 ـ يلحظ هنا كتاب معاوية الى الحسن عليه السلام شرح النهج
(ج 4 ص 13).
2 ـ ويراجع للتأكد تصريح معاوية نفسه فيما رواه المسعودي (ج 6 ص 78 ـ 79 هامش ابن الاثير). وبنى على ذلك كثير من شعرائنا القدامى قصائدهم العامرة. وهو ما عناه مهيار الديلمي
في لاميته بقوله:
وما الخبيثان ابن هند وابنه
بمبدعين في الذي جاءا به
|
|
وان طغى خطبهما بعد وجل
وانما تقفيا تلك السبل
|
وهو ما عناه قبله استاذه الشريف الرضي
رحمه اللّه بقوله:
الا ليس فعل الآخرين وان علا
|
|
على قبح فعل الاولين بزائد
|
وهو ما عناه قبلهما الكميت بقوله:
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم
|
|
فيا اخرا اسدى له الشراول
|
الى امثال كثيرة اخرى.
ولم يبق مخفياً ان الحجر الاساسي لهذا التدهور غير المنتظر ، كان هو الذي بني هناك في المدينة المنورة ، وقامت عليه سقيفة بني ساعدة بما
ابرم فيها من حبل جديد هو غير الحبل الممدود ـ عمودياً ـ من السماء الى الارض الذي عناه رسول اللّه (ص) في حديثه الآنف الذكر. ولكنه حبل آخر اريد ليمتد مع التاريخ ـ افقياً.
وتوالت تحت السقيفة أحدا
نزعات تفرقت كغصون الـ
|
|
ثٌ أثارت كوامناً وميولا
ـعوسج الغض شائكاً مدخولا (1)
|
ووقف صاحب الحق بالخلافة من اخوانه المتأولين ، موقفه المشرف الذي دل بذاته ، وبما حفظ الاسلام من الانهيار ، على انه وحده كان الوسيط بين الناس وحبل السماء. وتلكأ عن بيعتهم بمقدار ما نبه الذهنية الاسلامية الى الحق المغلوب على امره ، واخذ الى البيعة ـ بعد ذلك ـ أخذاً (2). وسأله بعض اصحابه: « كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ » فقال: « انها كانت أثرة ، شحت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم للّه والمعود اليه القيامة. ودع عنك نهباً صيح في حجراته (3) »..
1 ـ لبولس سلامة.
2 ـ قال معاوية فيما كتبه اليه مع أبي امامة الباهلي:
« وتلكأت في بيعته ـ يعني بيعة ابي بكر ـ حتى حملت اليه قهراً تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش
!!. ».
3 ـ نهج البلاغة (ج 1 ص 299) ، شرح محمد عبده.
لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم.
وعشا عن انواره مناوئوه ، وعلى أبصارهم غشاوة الذحول. فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره واخوته وعلمه وعبادته ، وتصريحات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في شأنه ، التي كانوا يستوعبونها يومئذ اكثر مما نستوعبها نحن. ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه ، ونقموا عليه شدته في احقاق الحق ، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين ، منذ كان يصنع الاسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.
ونقموا عليه سنه لانه كان في العقد الرابع. ولا عجب اذا رأى ذوو الحنكة المسنون ، ان لا يكون الخليفة بعد رسول اللّه مباشرة ، الا وهو في العقد السابع مثلاً.
وخفي عليهم ان الامامة في الاسلام دين كالنبوة نفسها ، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة ، ولا يجوز عليها ما لا يجوز على النبوة في عظمتها. فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص على التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات اللّه وتصريحات نبيه (ص). وكانت سن علي يوم وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، سن عيسى بن مريم يوم رفعه اللّه عز وجل ، أفيجوز لعيسى ان ينتهي بقصارى نبوته في الارض الى هذه السن ، ولا يجوز لعلي أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين ، وهي السن التي اختارها اللّه لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سنيّ الانسان لما اختارها اللّه للمصطفين من عباده في الجنان.
ونقموا عليه قرباه « فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد » ولا نعرف كيف انقلبت الفضيلة ـ على هذا المنطق ـ سبباً لنقمة. ولا نفهم كيف كانت « القرابة » بموجتها القصيرة ، وبما هي اقرب الى النبي صلى اللّه عليه وآله حائلاً دون الخلافة ، ثم هي بموجتها الطويلة ، وبما هي أبعد عن النبي ، دليل الخلافة والحجة الوحيدة في ما دلفوا به من حجاج خصومهم.
وحسبوا انهم أحسنوا صنعاً للاسلام وللمصلحة العامة بفصلهم الخلافة عن بيت النبوة ، وبما فسحوا المجال لبيوتات اخرى ، تتعاون ـ بدورها ـ على غزو المنصب الديني الأعلى ، أبعد ما يكون بطبيعته عن مجالات الغزو والغلبة والاستيلاء بالقوة والعنف.
وخفي عليهم ما كان يحتاط به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لامته ولعترته ، حين سجل الخلافة في بيته.
وجاءت الاحداث ـ بعد ذلك ـ فنبهت العقول الواعية الى اخطاء القوم وصواب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.
فكانت « عملية الفصل » هذه ، هي مثار الخلافات التاريخية الحمر ، بين عشاق الخلافة في مختلف الاجيال ، ومبعث مآسٍ فظيعة في المسلمين ، ومصدر انعكاسات مزرية في مثالية الاسلام ، كان المسلمون في غنى عنها لو قدّر للخلافة ـ من يومها الاول ـ ان تأخذ طريقها اللاحب الذي لا يجوز فيه اجتهاد ، ولا تمسه سياسة ، ولا يتصرف فيه احد غير اللّه ورسوله.
« وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى اللّه ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ».
وهل كان التناحر والتطاحن المديد العمر المتوارث مع الاجيال فيما بين الاسر البارزة في المسلمين ، الا نتيجة فسح المجال لهذا او ذاك في الطماح الى غزو المقام الرفيع.
وهل كانت المجازر الفظيعة التي جابهها المسلمون في الفترات المختلفة من تاريخ الاسلام: بين بني هاشم وبني امية: وبين بني الزبير وبني امية: وبين بني العباس وبني امية: وبين بني علي وبني العباس... الا النتيجة المباشرة لفصم ذلك التقليد الديني الذي احتاط به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، ليكون حائلاً دون امثال هذه المآسي والاحداث المؤسفة في الاسلام.
وهل كانت « فجائع العترة » الفريدة من نوعها ـ بالقتل والصلب والسبي والتشريد ـ الا اثر الخطأة الاولى ، التي خولفت بها سياسة النبي (ص) فيما اراده لامته ولعترته ، وفيما حفظ به امته وعترته جميعاً ، لو انهم اطاعوه فيما اراد.
ولكنهم جهلوا مغزى هذه السياسة البعيدة النظر ، فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد ، انصهاراً بسياسة اخرى.
وكانت هي المعذرة الظاهرة التي لم يجدوا غيرها معذرة يبوحون بها للناس. اما معذرتهم الباطنة ، فلا يعلم بها الا العالم ببواطن الامور وهي على الاكثر لا تعدو الذكريات الدامية في حروب الدعوة الاسلامية
، أو الحسد الذي « يأكل الدين كما تأكل النار الحطب » ـ كما في الحديث الشريف.
وكان حب الرياسة وشهوة الحكم ، شر أدواء الناس وبالاً على الناس ، وأشدها استفحالاً في طباع الاقوياء من زعماء ومتزعمين.
وما النبوة ولا الامامة بما هما ـ منصب إلهي ـ من مجالات السياسة بمعناها المعروف ، وكل سياسة في النبوة أو في شيء من ذيولها الادارية ، فهو دين والى الدين. والمرجع الوحيد في كل ذلك ، هو صاحب الدين نفسه ، وكلمته هي الفصل في الموضوع.
ولكي تتفق معي على مسيس اتصال هذه المناسبة بموضوعنا اتصالاً وشيجاً ، عليك ان تتطلع الى اللغة المتظلمة الناقمة التي ينكشف عنها الحسن بن علي عليهما السلام في هذا الشأن ، بما كتبه الى معاوية ، ابان
البيعة له في الكوفة. قال: « فلما توفي ـ يعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم ـ تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش: نحن قبيلته واسرته واولياؤه ، ولا يحل لكم ان تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب ان القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم في امر محمد. فأنعمت لهم وسلمت اليهم ، ثم حاججنا (1) نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب ، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج ، فلما صرنا اهل بيت محمد واولياءه الى محاجتهم ، وطلب النصف منهم ، باعونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه وهو الولي النصير.
« ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا ، وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام ، أمسكنا عن منازعتهم ، مخافة على الدين ان يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به ، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.
« فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الاسلام محمود ، وانت ابن حزب من الاحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار !! » (2).
وهكذا نجد الحسن عليه السلام ، يعطف ـ بالفاء ـ عجبه من توثب معاوية على تعجبه لتوثب الاولين عليهم في حقهم وسلطان بيتهم. ومن هنا تنبثق مناسبة اتصال قضيته بقضايا الخلائف السابقين ، وتنبثق معها مناسبات اخرى. بعضها للاخوين. وبعضها للابوين. وبعضها للحق العام.
1 ـ وكان من افظع النكايات بقضية اهل البيت عليهم السلام ، ان تختفي كل هاتيك المحاججات في التاريخ. ثم لا نقف منها الا على النتف الشاردة التي اغفلتها الرقابة العدوة عن غير قصد.. وهنا الذكر قول الشاعر المجدد الحاج عبد الحسين الازري:
اقرأ بعصرك ما الاهواء تكتبه
|
|
ينبئك عما جرى في سالف الحقب
|
2 ـ ابن ابي الحديد (ج 4 ص 12).
وما نحن بالذاكرين شيئاً منها هنا ، لانا لا نريد ان نتصل بهذه البحوث ، في سطورنا هذه ، الا بمقدار ما تتصل هي بالصميم من موضوعنا.
وعلمنا ان الرشاقة السياسية البارعة التي ربحت الموقف بعد وفاة رسول اللّه (ص) في لحظات ، والتي سماها كبير من اقطابها « بالفلتة » وسماها معاوية « بالابتزاز للحق والمخالفة على الامر (1) » ، كانت بنجاحها الخاطف دليلاً على سبق تصميم في الجماعات التي وليت الحل والعقد هناك. فكان من السهل ان نفهم من هذا التصميم « اتجاهاً خاصاً » نحو العترة من آل محمد (ص) له اثره في حينه ، وله آثاره بعد ذلك.
فكانوا المغلوبين على امرهم ، والمقصيين ـ عن عمد ـ في سائر التطورات البارزة التي شهدها التاريخ يومئذ (2).
فلا الذي عهد بالخلافة قدمهم. ولا الذي حصر الخليفة في الثلاثة من الستة انصفهم. ولولا رجوع الاختيار الى الشعب نفسه مباشرة ، بعد حادثة الدار ، لما كان للعترة نصيب من هذا الامر على مختلف الادوار.
1 ـ تجد ذلك صريحاً فيما كتبه معاوية لمحمد بن ابي بكر. قال: « كان ابوك وفاروقه اول من ابتزه ـ يعني علياً عليه السلام ـ حقه وخالفه على امره. على ذلك اتفقا واتسقا ، ثم انهما دعواه الى بيعتهما فابطأ عنهما وتلكأ عليهما ، فهما به الهموم وارادوا به العظيم. ثم انه بايع لهما وسلم لهما. واقاما لا يشركانه في امرهما ، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما اللّه.. ـ ثم اردف قائلاً ـ: فان يك ما نحن فيه صواباً ، فابوك استبد به ونحن شركاؤه ، ولولا ما فعل ابوك من قبل ، ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا اليه ، ولكنا رأينا اباك فعل ذلك به من قبلنا واخذنا بمثله ».. اه المسعودي على هامش ابن الاثير
(ج 6 ص 78 ـ 79).
2 ـ ونجد في كلمات امير المؤمنين (ع) شواهد كثيرة على ذلك. قال: « فواللّه ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض اللّه نبيه حتى يوم الناس هذا ». وقال: اللهم اني استعديك على قريش ومن اعانهم ، فانهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا على منازعتي امراً هو لي..
ثم كان لهذا « الاتجاه الخاص » أثره في خلق معارضة قوية للعهدين اللذين رجعا بامرهما الى العترة من آل محمد صلى اللّه عليه وآله.
وفي حروب البصرة وصفين فمسكن شواهد كثيرة على ما نقول.
وفي موقف ابن عمر (1) وسعد بن ابي وقاص واسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وقدامة بن مظعون وعبد اللّه بن سلام وحسان بن ثابت وأبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير.. وهم « القعّاد » الذين آثروا الحياد ، واستنكفوا من البيعة لعلي ولابنه الحسن عليهما السلام شواهد اخرى.
ولهذه المعارضة ميادينها المختلفة والوانها المتعددة. ومنها المواقف السلبية النابية التي جوبه بها زعماء العترة عليهم السلام ، في المدينة اولاً ، وفي الكوفة اخيراً.
والا فما الذي كان يحدو علياً عليه السلام ، ليقول من على منبره في الكوفة:
« يا أشباه الرجال ولا رجال ، ويا أحلام الاطفال وعقول ربات الحجال ، أما واللّه لوددت أن اللّه أخرجني من بين أظهركم ، وقبضني الى رحمته من بينكم ، ووددت أني لم أركم ولم أعرفكم ، فقد والله ملأتم صدري غيظاً. وجرعتموني الامرين أنفاساً. وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان.. »
الى كثير مما يشبه هذا القول ، مما أثر عنه في خطبه وكلماته.
اليست هي المعارضة التي زرعت نوابتها الخبيثة في كل مكان من حواضر علي عليه السلام ، فأخذت على الناس التقاعس عن نصرته بشتى المعاذير.
1 ـ قال المسعودي
(هامش ابن الاثير ج 5 ص 178 ـ 179): « ولكن عبد اللّه بن عمر بايع يزيد بعد ذلك وبايع الحجاج لعبد الملك بن مروان !. » ورأى المسعودي ان يسمى هؤلاء « القعاد » بالعثمانية. ورأى ابو الفدا
(ج 1 ص 171) ان يسميهم « المعتزلة » لاعتزالهم بيعة علي (ع) ـ اقول: وما هم بالعثمانية ولا المعتزلة ولكنهم الذين ماتوا ولم يعرفوا امام زمانهم.
أقول هذا. ولا اريد ان أتتاسى ـ معه ـ العوامل الاخرى التي شاركت « الاتجاه » ـ الآنف الذكر ـ في تكوين هذه المعارضة بموقفيها ـ الايجابي المسلح والسلبي الخاذل ـ تجاه العترة النبوية في العهد الهاشمي الكريم.
ولا أشك بان العدل الصارم ، والمساواة الدقيقة في التوزيع التي كانت طابع هذا العهد ، بل هي ـ دون ريب ـ طابع العهود الهاشمية مع القرن الاول ، في نبوتها وفي خلافتها. ـ هي الاخرى التي تحسس منها الناس أو قسم من الناس ، بشيء من الضيق لا يتسع للطاعة المطلقة ولا للاخلاص الحر اللذين لن ينتفع بغيرهما في ميدان سلم أو ميدان حرب.
والظروف الطارئة بمقتضياتها الزمنية التي طلعت بها على الناس خزائن الممالك المهزومة في الفتوح ، والطعوم الجديدة من الحياة التي لا عهد لهؤلاء الناس بمثلها من قبل ـ كل ذلك ، كان له أثره في خلق الحس المظلم الذي من شأنه ان يظل دائماً في الجهة المعاكسة للنور.
وفي بحران هذا « الاتجاه الخاص » الذي تعاون على تكوينه ربع قرن من السنين ، يتمثل عهد علي عليه السلام في خلافته قبل بيعة الحسن في الكوفة.
والحسن من علي (عليهما السلام) كبير ولده ، وولي عهده ، وشريك سرائه وضرائه ، يحس بحسّه ويألم بألمه. وهو ـ اذ ذاك ـ على صلة وثيقة بالدنيا التي أحاطت بابيه من قومه ومن رعيّته ومن أعدائه ، فهو لا يجهلها ولا يغفل عنها ، وكان ينطوي ممّا يدور حوله على شجى مكتوم ، يشاركه فيه أخوه كما يشاركه في اخوّته. وكان هذا الشجى المكتوم ، هو الشيء الظاهر مما خلف به هؤلاء المسلمون ـ يومئذ ـ نبيَّهم في عترته ، جواباً على قوله (ص) لهم: « فانظروا كيف تخلفوني فيهما !! ».
وكان الحسن عليه السلام ، اذ ينطوي على هذا الشجى ، لا يلبث ان يستروح الامل ـ أحياناً ـ بما يجده في صحابة أبيه البهاليل من النجدة والحيوية والمفاداة وشمائل الاخلاص الذي لا تشوبه شائبة طمع في دنيا ، ولا شائبة هوى في سياسة.
ومن هؤلاء ، القواد العسكريون ، والخطباء المفوّهون. والفقهاء والقراء والصفوة الباقية من بناة الاسلام. كانوا ـ بجدارة ـ العدة التي يستند عليها امير المؤمنين ، في حربه وسلمه. وكانوا ـ بحق ـ دعامة العهد الهاشمي فيما تعرض له هذا العهد ، من زلازل وزعازع واخطار.
وكانوا المسلمين الذين وفوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، فيما واثقوه عليه في ذريته ، بأن يمنعوهم بما يمنعون به انفسهم وذراريهم. فلم لا يستروح الحسن بهم روائح الامل لقضية ابيه ، بل لقضية نفسه.
وكانوا المؤمنين الذين آمنوا بكلمات اللّه في اهل بيت نبيهم وذوي قرباه وآمنوا بوصيّنبيهم ، وبمراتبه التي رتبها اللّه له أو رتّبه لها. وفهموا علياً كما يجب أن يفهم. وعليٌّ هو ذلك البطل الذي لم يحلم المسلمون بعد رسول اللّه (ص) بمثله ، اخلاصاً في الحق ، وتفادياً في الاسلام ، ونصحاً للمسلمين ، واستقامة على العدل ، واتساعاً في العلم. ولن ينقص علياً في كبرياء معانيه ، جحود الآخرين فضائله ومميزاته ، ولهؤلاء الآخرين من مطامعهم واهوائهم شغل شاغل يملأ فراغ نفوسهم. وما في ملاكات علي عليه السلام متسع للاهواء والمطامع. فليكن هؤلاء ـ دائماً ـ في الملاكات البعيدة عن علي ، وليكونوا في المعسكر الذي يقوم على المساومة بالمال والولايات..
وليكن مع علي زمرته المنخولة تلك ، المسلمة اسلامها الصحيح امثال عمار بن ياسر ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد اللّه وعبد الرحمن ابني بديل ، ومالك بن الحارث الاشتر ، وخباب بن الارت ، ومحمد بن ابي بكر ، وابي الهيثم بن التيهان ، وهاشم بن عتبة
ابن ابي وقاص (المرقال) ، وسهل بن حنيف ، وثابت بن قيس الانصاري ، وعقبة بن عمرو ، وسعد بن الحارث بن الصمة ، وابي فضالة الانصاري ، وكعب بن عمرو الانصاري ، وقرضة بن كعب الانصاري ، وعوف بن الحارث بن عوف ، وكلاب بن الاسكر الكناني ، وابي ليلى بن بليل.... واضراب هؤلاء من قادة الحروب وأحلاس المحاريب ، الذين انكروا الظلم ، واستعظموا البدع ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وتسابقوا الى الموت في سبيل اللّه ، استباق غيرهم الى المطامع في سبيل الدنيا.
ومن الخير ، أن ننبّه هنا ، الى ان جميع هذه الصفوة المختارة كانت قد استشهدت في ميادين علي عليه السلام ، وان ثلاثاً وستين بدرياً استشهد معهم في صفين (1) وحدها ، وان أضعاف هذه الاعداد كانت خسائر الحروب المتعاقبة مدى ثلاث سنوات.
فما ظنك الآن ، بذلك الامل الذي كان يداعب الحسن عليه السلام بوجود الانصار ، وهل بقي للحسن ـ بعد هذا ـ الا الشجى المكتوم ، مضاعفاً على تضاعيف الايام.
اما معسكر علي عليه السلام ، فقد نكب نكبته الكبرى ، حين أصحر من خيرة رجالاته ، ومراكز الثقل فيه.
واما دنيا علي عليه السلام ، فقد عادت لسقيا الغصص وشرب الرنق ـ على حد تعبيره هو فيما ندب به
أصحابه عند مصارعهم.
وتلفّت عليّ الى آفاقه المترامية التي تخضع لامره ، فلم يجد بين جماهيرها المتدافعة ، من ينبض بروح اولئك الشهداء ، أو يتحلى بمثل مزاياهم ، اللهم الا النفر الاقل الذي لا يناط به أمل حرب ولا أمل سلم.
ولولا قوة تأثيره في خطبه ، وعظيم مكانته في سامعيه ، لما تألف له ـ بعد هؤلاء ـ جيش ، ولا قامت له بعدهم قائمة.
1 ـ اسم موضوع على شاطئ الفرات بين « عانة » و « دير الشعار ». كان ميدان الحروب الطاحنة بين الكوفة والشام.
وهكذا أسلمته ظروفه لان يكون هدف المقاطعة من بعض ، وهدف العداء المسلح من آخرين ، وهدف الخذلان الممقوت من الاتباع
(فلا اخوان عند النجاء ، ولا أحرار عند النداء).
وأيّ حياة هذه التي لا تحفل بأمل ، ولا ترجى لنجاح عمل. وقد أزمع فيها الترحال عباد اللّه الاخيار ، الذين باعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى ، بكثير من الآخرة لا يفنى.
فسُمِعَ وهو يقول (اللهم عجل للمراديّ شقاءه) وسُمِعَ وهو يقول (فما يحبس أشقاها ان يخضبها بدم أعلاها) ، وسُمِعَ وهو يقول
(أما واللّه لوددت ان اللّه أخرجني من بين أظهركم وقبضني الى رحمته من بينكم).
وسلام عليه يوم وُلِد. ويوم سبق الناس الى الاسلام. ويوم صنع الاسلام بسيفه. ويوم امتحن. ويوم مات. ويوم يبعث حياً.
وترك من بعده لولي عهده ، ظرفه الزمنّي النابي ، القائم على اثافيّه الثلاث ـ فقر الأنصار. والعداء المسلَح. والمقاطعة الخاذلة.
|