موقع عقائد الشيعة
الإمامية
صلح الحسن عليه السلام
في الموقف السياسي
9- بداية
النهاية
وجاء الى الحسن عليه السلام بريد مسكن ـ لاول مرة ـ و اذا
بكتاب قيس بن سعد و هو يقول :
« انهم نازلوا معاوية بقرية يقال لها « الجنوبية »
بازاء « مسكن » وان معاوية أرسل الى عبيد الله بن العباس، يرغبه في المصير اليه،
وضمن له الف الف درهم. يعجل له منها النصف، ويعطيه النصف الاخر عند دخوله الكوفة. فانسل عبيد الله
في الليل، الى معسكر معاوية في خاصته، واصبح الناس قد فقدوا
اميرهم، فصلى بهم قيس بن سعد ونظر في امورهم (1) ».
والكتاب في فقرته الاولى، يشعرنا بان عبيد الله بن
عباس لم يراسل (2)
الحسن منذ نزل بجيشه عند مسكن.
ولا ادري هل في انقطاع اتصال احد القواد عن المركز الاعلى ما يدل على سبق اصرار على التمرد؟. على اننا لا نعلم على التحقيق الفواصل
الزمانية التي تتسع للمراسلات بين نزوله مسكن وبين هروبه الى معاوية.
وتتابعت أخبار مسكن مع كتاب قيس و بعده ( واخبار
السوء اسرع الاخبار بدارا وأكثرها انتشارا )، فبلغ الحسن أن هذه « الخاصة » التي
ورد ذكرها في كتاب قيس، والتي سمتها المصادر الاخرى « اهل الشرف والبيوتات » أو «
الوجوه وأهل البيوت »، كانت شريكة عبيدالله في تدبير خطة الخيانة وعلم ايضا ان بعض
هؤلاء سبق عبيدالله الى الهزيمة ـ وتطرفت
1 ـ الارشاد ( ص 170 ).
2 ـ لان الفقرة هي الخبر الاول الذي وصل الحسن عن نزولهم مسكن. والكتاب من قيس لا
من عبيدالله.
بعض الانباء فأوغلت في النكاية بعبيدالله
حتى قالت « انه مرّ بالراية (1)».
وهيأت هذه الحركة العدوة جواً لتمردٍ خبيث، نشبت
عدواه في قوافل اخرى من اجيش،
فنشطوا للفرار و هم يحسبون ان في اتباع اهل الشرف والبيوتات مغنما يخسرونه اذا
تخلفوا عنهم.
وعمل معاوية اكثر ما يمكن ان يعمل لاثارة هذا التمرد، ثم لتغذيته بعد اثارته ثم لتوسعته بعد تغذيته، وكان العارف بنفسيات ابناء البيوت
الرعاديد، الذين غلبهم الترف وانستهم النعمة الوارفة عنعناتهم العربية العنود،
فكان لا ينفك يتوقع انزلاقهم اليه، ويتوسل اليهم بمختلف الوسائل وانواع الكيد،
حتى لقد نجح في استذلال شموخهم عن طريق المطامع المادية التي تطامن لسحرها كبيرهم
المغرور، فنزل يهرول امامهم، الى الهوة التي لا يختارها شريف يعتز بشرفه، ولا
قائد يغار على سمعته.
وهكذا « جعل اصحاب الحسن الذين وجههم مع عبيدالله
يتسللون الى معاوية، الوجوه وأهل البيوتات (2)
» و اتباعهم طبعا.
ثم صعد عدد الفارين من الزحف، عن طريق الخيانة لله
ولرسوله ولابن رسوله،
الى ثمانية الاف !! [ كما يحدثنا أحمد بن يعقوب في تاريخه ].
قال :
« انه ـ يعني معاوية ـ أرسل الى عبيد الله بن عباس،
وجعل له الف الف درهم، نصار اليه في ثمانية الاف من اصحابه، واقام قيس بن سعد على
محاربته (3) ».
نعم، ثمانية الاف من اثني عشر الفا !..
انها الثغرة المخيفة في جدار المعسكر الواقف في جبهة
القتال أمام
1 ـ البحار ( ج 10 : ص
114 ). 2 ـ شرح النهج ( ج 4 ص 8 ). 3 ـ اليعقوبي ( ج2 ص 191 )، وروضة
الشهداء ( ص 115).
ستين الفا من الاعداء الاشداء، لا، بل
انه الانهيار المخيف،
والنكبة التي تهدد بالكارثة القريبة.
فليتحمل عبيدالله مسؤوليتها الثقيلة في الله، وفي
التاريخ !!.
وظن هؤلاء المتسرعون الى الفتنة، والراكضون بكل
اعصابهم الى الهزيمة، انهم اذا عملو مثل العمل الذي أتاه ابن عم الخليفة واولى
الناس برعاية حقه والوفاء ببيعته فانهم غير ملومين، واصطلحوا على مثل هذا المنطق
المفلوج لتبرير عملهم أمام الناس، ولكن الناس لم ينظروا الى هزيمتهم الا من ناحية
اطارها المموّه بالذهب الوهّاج، ذهب معاوية « الزائف »، ثم لم يشهدوا من أمجاد «
ابناء البيوتات » الا سبقهم لنقض المواثيق التي واثقوا الله عليها،
وبيعهم الدنيا بالدين.
وما كان بالقوم ـ وهم يفرون من ميادين الحسن ـ أنهم
ينكرون فضله ومزاياه، أو يجهلون سمسموه وكفاءاته، ولكنهم كانوا يريدونه لدنياهم
ثم لا يجدونه حيث يريدون.
وما كان بهم ـ وهم يفرون الى معاوية ـ أنهم وثقوا به
وبمواعيده، وانهم لم يقدروا العاقبة التي قابلهم بها يوم دخل الكوفة فنقض كل عهد و
وعد. وما معاوية بالرجل الذي يخفي أمره، ولا هم من الطبقة الذين يجهلون امثاله وهو
اذ ذاك بين سمعهم وبصرهم.
اذاً، فلا بغض الحسن ولا جهلهم له، ولا حب معاوية
ولا ثقتهم به ـ كان هو السبب كله لنفورهم وفرارهم، ولكنها كانت حوافز أخرى او
حوافز من الوان شتى،
دفعت بهؤلاء الموّلهين الى هذا الشكل من الجهر بالسوء الذي لا يزال صداه البغيض يرن
في مسمع التاريخ.
وما يدرينا فلعلها كانت مراحل مقرّرة ومؤامرات مدبّرة
سبق اليها الزعماء المعارضون، ليتقوا بها المصير الذي كان ينتظرهم، فيما لو أديل
للكوفة من الشام. وكان من شأن التدابير الواسعة التي اخذ بها الامام في دعوة
الاقطار الاسلامية الى الجهاد، ومن بوادر النشاط الذي تطوع له الشيعة في عضد هذه
الدعوة، ما هو خليق بأن يبعث في نفوس القلقين من الخونة والرؤساء المتبوعين،
الخوف على أنفسهم ومصالحهم، وان يزدادوا حذرا مما كانوا قد تورطوا فيه من مناورات
ومعارضات تجاه معسكرهم في الكوفة. فرأوا في الالتحاق بمعاوية خروجا من هذا الخوف،
وتحريبا سريع الاثر في قوة الجانب الذي يخافونه، وكان من تنفيذ الخطة في أضيق وقت
وعلى اوسع نطاق، ما يؤيد كونها نتيجة لمؤامرة كثيرة الانصار.
ولعل فهم مأساة الهزيمة على هذا الوجه اقرب الى
الواقع، مما فهمها عليه سائر رواتها من أعدائها ومن اصدقائها.
وليس معنى هذا التفسير، أن معاوية لم يعد أحدا او لم
يرش قائدا.
كلا... فانه سخا بالمواعيد حتى أذهلهم، واعطي
القائد وحده مليونا من الدراهم حتى اشترى دينه وكرامته.
ولكن الشيء الذي يسترعي النظر ويستدعي التنبيه، ان
حوادث الهزيمة لم تنسب الى اسم صريح اخر غير عبيدالله بن عباس [قائد المقدمة في
مسكن] أنه قبض من معاوية في سبيل الخيانة نقدا معينا. تري، فكيف رضي الزعماء الاخرون من معاوية بالوعد دون النقد، لولا ان يكون الخوف
الذي ذكرناه، هوالذي بعث فيهم روح الهزيمة وزين لهم الاكتفاء بالوعود !!.
وللخوف سلطانه على النفوس، ولاسيما نفوس المترفين من
الناس، فلا بدع اذا قدح في نفوس « أبناء البيوتات » فكرة الخيانة و أوقدتها ـ بعد
ذلك ـ مغريات الشام، في بيئة ليس فيها اغراء بغير الله والعدل الصارم.
وهكذا انكشفت كل جماعة من عناصر هذا الجيش عن مكنونها
الذي مزف الستار، وظهر على المسرح باللون الذي لا تشتبه فيه الابصار، فكان لحب
العافية من قوم وللعصبيات الجاهلية من اخرين وللاهواء والمنازع وأصحابها الاثر
المستبين فيما آل اليه الموقف من نتائج واضرار.
وفضحت المطامع أولئك الذين لم يلتحقوا بهذا الجيش الا
طمعا بالغنائم، وسرهم أن يتلقفوا الغنائم من طريق الخيانة في سهولة ويسر، وكانوا
يظنون انهم لن ينالوها الا بعد أن تزيغ قلوبهم هلعا، من قراع الاسنة و الضرب
الدراك.
ونزلوا عن هذا الطريق الى الدرك الاسفل من حظوظهم
التي تخيروها لانفسهم مغرورين. « فمن نكث فانما ينكث على نفسه ومن اوفى بما عاهد
عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ».
وما كان المسلم الذي يترك امامه ليلتجيء الى البغاة
الا شرا من باغ، واولئك هم المستضعفون في دينهم، والقلقون في دنياهم، وان صفوف
معاوية لاولى بالمستضعفين القلقين.
ومازت النكبة الذين جثموا في مواقعهم، وثبتو على
مبدأ المقاومة لا يلتسمون محيدا عنه، وصمدوا ولكنهم انما صمدوا للموت المحقق
(1)، ينتظرونه فرحين مطمئنين، دفاعا عن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه
وآله، ووفاءً لله ببيعتهم.
وكان الصمود للنكبات، والصبر على الكوارث،
والاستعداد لتحمل الآلام وبذل التضحيات، أنبل دليل على طيب المعدن، وصدق النية،
وصلابة العود، والجدارة بالحياة. وهذه هي نعوت شيعة الحسن الاوفياء.
ثم كان لانباء هذه النكبات المروعة في مسكن، وقعها
السيء الذي يناسب خطورتها، في أوساط الجيش الاخرالذي كان يعسكر في ( المدائن ).
1 ـ قال ابن كثير ( ج 8 ص 19 ) : « قال أبو العريف : كنا في مقدمة الحسن بن علي
بمسكن، مستميتين من الجد على قتال أهل الشام.. ».
وبلغت البالغات في تهويل هذه الاخبار بين
حلقات هذا الجيش رقمها القياسي. وفي هذا الجيش كثرة ساحقة من رعاع أهل السواد ومن
اخلاط الناس ومختلف الاحزاب. وفيه ـ الى هؤلاء و اولئك ـ البهاليل من الهاشمين
اليمامين، والكتل المخلصة من ربيعة و همدان.
وكادت الرجة العاتية أن تجتاح المعسكر، لولا هذه
الاطواد الراسية في مختلف أكنافه، الاطواد التي كانت تتكسر على صخرتها شتي
المحاولات التي كان يتسرع اليها المتوثبون الى الفتنة.
اما الحسن نفسه، فقد قابل هذه المزعجات بالامل الذي
يعمر القلوب القوية والنفوس الخالدة، وكان يرى ان الاخفاق في ظرف خاص أو مكان خاص، لا يعني الحرمان من الازدهار والاثمار اخيرا في ظرف لا يجب ان يكون هو ـ بشخصه ـ
صاحبه، ولكن بمبدئه، وثمة نقطة التركز في أهداف الحسن ـ مخفقا او منتصرا ـ
وثمة مركز التجلي « الرباني » الذي تنشق عنه الانسانية في شخصية هذا الامام الروحي، بأفضل ما قدر لها من مراتب الانسياح في ذات الله، والفناء في سبيل الله.
ثم انه لم يزل على نشاطه الموفور، في تدوير دولاب
حركته وجهاده وجيوشه، رغم ما كان يحسه من وميض الفتنة الذي أخذ يستعر تحت رماد
الاحدات المتعاقبة بين يديه. ولم يسمع منه كلمة واحده تتجاوز به الى جحمة غضب، أو
تدل بحدتها على ما كان يشيع في نفسه من بلاغة الخطب، وروعة التشاؤم، والنقمة على
الوضع، اللهم الا كلماتة التوجيهية التي كان يقصد بها تدريب جماهيره على النظام،
وتعليمهم الاتزام بقواعد « الجهاد » في الاسلام.
ودار بوجه الى كوفته، كأنه يتذكر شيئا، أو يستعرض
اشياء عقت الكوفة بها أياديه عندها وأيادي أبيه من قبل. وكان ابوه هو باعث مجدها،
ومؤسس كيانها المستطيل الشامخ، الذي باتت تتمتع به كأعظم حاضرة في العالم الاسلامي، تلتقي عندها حضاراته، وتثوب اليها شعوبه من مختلف الاجناس، وتلتحم بمصالحها
الثقافية والتجارية مع اعظم الاقطار المعروفة في ذلك الزمان. والكوفة هي كل شيء في
سياسة الحسن عليه السلام، أو هي اعظم ذخيرة كان يدخرها للايام السود، والوقائع
الحمر، والبلايا الملونة التي شاءت الليالي أن تجمعها عليه في وقته الحاضر ـ فذكر، وهو يستعرض في نفسه سوابقه مع الكوفة أو سوابق الكوفة معه، انثيال الناس ـ هناك
ـ على بيعته والاخذ بيده، واجماعهم على قبول شرطه يوم رضي أن يمد يده لبيعتهم «
على أن تكون بالسمع والطاعة، وأن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم ».
ثم نظر الى حوادث « مسكن » وزلزلة الاكثر من جيوشه «
الكوفيين » هناك، ونفورهم من القتال وركونهم الى الفرار، وانخداعهم بالمطامع،
وجهرهم بالعصيان، ونقضهم المواثيق التي عاهدوا الله عليها.
فساءه، ان تبلغ السفالة البشرية، وميوعة الدين،
وصفاقة الاخلاق، في عصبة تدعى الاسلام، وتتقلد القرآن، وتؤمن ـ على ظاهرها ـ
بالنبي فتصلي عليه وعلى اله، في صلواتها الخمس كل يوم خمس مرات ـ مبلغها من هؤلاء
الذين خانوا النبي في آله، وخانوا الله في مواثيقه، وباءوا بمخزاة التاريخ على
غير كلفة ولا اكتراث.
وظنوا ان معاوية مانعهم من الموت والفقر، ولا والله
ما من الموت مفر، ولا رشوات معاوية بأجدى لهم من الرزق الحلال الذي قدّر لهم في
هذه الحياة، وسيصعد معاوية منبره في الكوفة، معلنا على رؤوسهم حنثه بأيمانه و
عهوده و مواعيده، وجاعلا « كل ذلك تحت قدميه (1) »، وما هي الا شنشنته
التي كان يمليها عليه طموحه الى الغلبة بكل سبب منذطمع بالطفرة الى التاج.
1 ـ يراجع عن هذا
التصريح اكثر المصادر التاريخية، وذكره ابن قتيبة في « تاريخ الخلفاء الراشدين
ودولة بني امية » ( ص 151 ـ مطبعة مصطفي محمد ـ بمصر ).
وليت شعري الى
أين كان يفرّ هؤلاء من الفقر الذي اتقوه بالفرار من امامهم الشرعي، يوم يستيقنون
اصرار معاوية على الخلف بوعده وعهوده ـ وانهم لمستيقنون ـ والى أين كانوا يفرون من
الموت وقد خافوه بالجهاد مع ابن بنت نبيهم (ص)، وانه لمدركهم « ولو كانوا في بروج
مشيدة »، وسيدركهم وهم فقراء من دينهم ودنياهم معا، فلا بمواثيق الله عملوا ولا
على رشوات معاوية حصلوا، وسيموتون ميتتهم الجاهلية التي سبقت لابائهم فاستبقوا بها
الى النار، وبئس الورد المورود.
« يا ويح من ولى الكتا *** ب قفاه
والدنيا أمامه
فليقر عن سنَّ الندا *** مة يوم لا تغني الندامة
وليدر كنَّ على الغرا *** مة سوء عاقبة الغرامه
يالعنة صارت على
*** أعناقهم طوق الحمامة
(1) »
وكان الوزر
الاكبر الذي تأزره الكوفيون في مسكن، وزر النفر الذين قادوا الحركة الخائنة في
خطواتها الاولى، منذ ركبوا المآثم السود بتكتلاتهم ومكاتباتهم..
وتمثل للحسن وهو بالمدائن، أفراد من « الوجوه وابناء
البيوتات » في جيش مسكن كان يعرفهم بلحن القول حينا ولحن العمل احيانا، وما كانوا
بالذين ينقطعون عنه وعن جماعته في الكوفة، ولكنهم المنقطعون عن مودته وعن الاخلاص
لاهدافه فيما يبطنون، ولم يكن شيء مما يبطنونه بالذي يغيب عنه، ولا شيء يزاولونه
ـ في مناوراتهم معه ـ فيجهله من نواياهم. وكانوا اذ يتصلون به، انما يصطنعون الدين
وسيلة الى الدنيا، ويخيل اليهم انهم قد حذقوا اتخاذ الوسيلة، حتى اذا علموا خطأهم
يدأوا يزرعون في بطاح غدهم نوابت الزرع الخبيث، وعادوا وهم ـ في عهده ـ على سابق
عهدهم، يوم كانوا يجترون تملقهم الاصفر وخذلانهم الاسود الذي نسجوا عليه لعابهم
المرير في عهد ابيه امير المؤمنين عليه السلام في الكوفة يوم سئم أبوه الحياة من
سوء صحبتهم، وتمني الموت صريحا لفراقهم.
1 ـ بديع الزمان
الهمداني.
وعلم الحسن بن
علي غير متردد في علم، ان هذه العصابة نفسها كانت هي أصابع معاوية التي عاثت
بمقدرات جيشه في مسكن، وهي التي شجعت القوافل على الفرار الى معاوية، اغترارا
برشواته الاخاذة المنوعة التي جاوز بها معاوية المألوف من رشوات الناس وعرض فيها من
العرض ما لا يعهد الرشوة بمثله، حتى لقد كتب الى بعضهم : « وبنت من بناتي (1)
» !.
وكانت الخصيصة البارزة في معاوية، انه الرجل الذي لا
تفوته الفرص السانحة من مآزق خصومه، وكان هو ـ قبل كل شيء ـ الصناع المفن في بعث
هذه المآزق واستغلال فرصها، وكانت هذه هي موهبته التي خلب بها الباب المعجبين به،
وبرع فيها البراعة بأقصى حدودها، حتى ليخيل الى مؤرخته حين ينظرون اليه من هذه
الزاوية أنه الداهية، وانه السياسي المحنّك، وانه العسكري المفنّ.
ولكن دراسة معاوية ـ على ضوء ما تقلب فيه الرجل من
أطوار وما زاوله من محاولات ـ كمحارب لرسول الله (ص) في بدر (2)، فطليق
من طلقاء يوم الفتح بمكة، فصعلوك (3) لا مال له يركض حافيا ـ بغير نعل
ـ تحت ركاب علقمة بن وائل الحضرمي (4) في المدينة، فوال على الشام ولكن
من عمر وعثمان مدى عشرين سنة، فمحارب للامامين علي وابنه
1 ـ علل الشرائع لابن
بابويه ( ص 84 ـ طبع ايران ). 2 ـ ابن النديم ( ص 249 ) قال : « سئل هشام بن
الحكم عن معاوية أشهد بدرا ؟ فقال : نعم من ذاك الجانب ! ».
3 ـ الدميري ( ج1 : ص 59 ) قال : « وكانت امرأة استشارت النبي (ص) في ان تتزوج
منه ـ يعني معاوية ـ فقال ـ انه صعلوك لا مال له ».
4 ـ البيهقي في المحاسن والمساوئ (ج1 : ص 209 و 210 ) وغيره.
الحسن (ع) اربع سنوات، فمدّع للخلافة عن
رسول الله (ص) يناقضه صريحا في أحكامه ويخالفه عامدا في سرته، ويقول : « والله ما
بقي شيء يصيبه الناس من الدنيا الا وقد اصبته (1) » ـ أقول : ان دراسته
على ضوء محاولاته الكثيرة، و وصولياته المنوّعة مما ذكر أو لم يذكر، لا تفضي بنا
الى الاعتراف بكل الاوصاف التي يسبغها عليه المعجبون به.
ولا تدل على أكثر من براعته في استغلال الفرص جاهلية
واسلاما.
وما كان من الدهاء، ولا من السياسة بمعناها الصحيح،
ان يتصل الانسان في طريقه الى مآربه بوسائل لا يملك لها وجاهة الاقناع ـ ولو ظاهرا
ـ في عرف المجتمع، ولا أن يتسور الى اهدافه بالشذوذ المكشوف الذي لا يهضمه تقليد،
ولا يقرّه دين، ثم هو لا ينفك يحاول أن يدّعي أنه رئيس حماة الدين، وكبير رعاة
التقاليد.
وما من دهاء في منطقة مناقضات.
ولا من دهاء في اغتيال الآمنين من الناس، ولا في
اعلان السب والشتم وفرضه على الناس في كل مكان، ولا في نقض العهود والحنث بالايمان.
ان شيئا من ذلك لا يدخل في حساب الدهاء، ولا هو من
سياسة الملك، ولكنها الاساليب البدائية في دنيا العداوات، ولعل في أدنياء
المتناجزين من سواد الناس من يستطيع أن يأتي بالافظع الاروع من هذه الاساليب نكالا
في خصومه. أفيكون حينئذ أعظم دهاء من معاوية ؟.
و متى كان الشذوذ في الكيد دهاء يا ترى ؟.
و اذا كان معاوية فيما اتاه من هذه الافاعيل النكر
داهية، فلقد زاده ابنه يزيد دهاء، لانه توسل الى مآربه بوسائل انكى من وسائل ابيه.
ودع عنك من شواهد الضعف في معاوية، استضاءه البيزنطيين بالمال، وخطالبه الطائش الذي نقض عليه سياسته ـ في الكوفة ـ عند دخوله اليها،
و موقفه الفطير من شهداء ( مرج عذراء )، واشياء اخرى ليس هنا مجال بحثها.
1 ـ المصدر السابق.
ولكننا ـ
ولننصف القائلين بدهائه ـ نتذكر لمعاوية موقفا يشبه أن يكون فيه « الداهية » الذي
يحيك الخطط ليمهد الى غده، ثم هو يصدر الى الناس من وراء خطته بعذر يقبله المعنيون
به.
ذلك هو الموقف المبرقع الذي وقفه معاوية من نجدة
عثمان، يوم خلع و قتل..
وربح معاوية من مقتل عثمان انصارا من « العثمانية »
قبلوا عذره اذ يخذل (1) عثمان وهو حي، ثم تطوعوا له لينصر بهم عثمان
وهو ميت، وهو انما ينتصر بهم لنفسه، ولكنهم لا يشعرون. فعزز بهذه الحفنة من «
الاغنياء » جبهته الضعيفة في
ميادينه مع علي عليه السلام.
1 ـ نجد التصريح بهذه الحقيقة التاريخية
في كثير مما دار حولها من أحاديث معاصريها وخطبهم و أشعارهم. وكان فيما واجه به شبث
بن ربعي معاوية أن قال له : « انه والله لا يخفي علينا ما تعزو وما تطلب، انك لم
تجد شيئا تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم الاقولك : قتل
امامكم مظلوما فنحن نطلب بدمه، فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا ان قد ابطأت عنه
بالنصر، وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، ورب متمني أمر وطالبه،
الله عزوجل يحول دونه بقدرته. وربما اوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته. و والله ما
لك في واحدة منهما خير، لئن اخطأت ما ترجو، لانت شر العرب حالا في ذلك، ولئن
أصبت ما تمني، لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار، فاتق الله يا معاوية، ودع
ما أنت عليه ولا تنازع الامر اهله.. ». الطبري ( ج 5 ص 243 ).
وأخرج ابن عساكر عن ابي الطفيل عامر بن واثلة، أنه دخل على معاوية فقال له : « ما
منعك عن نصر عثمان اذ لم ينصره المهاجرون والانصار؟ ». فقال معاوية : « أما لقد كان
حقه واجبا عليهم أن ينصوره ». قال : « فما منعك يا امير المؤمنين من نصره ومعك أهل
الشام ؟ » فقال معاوية « أما طلبي بدمه نصرة له ؟ » فضحك أبو الطفيل بن واثلة ثم
قال : « انت وعثمان كما قال الشاعر » :
« لا الفينك بعد الموت تندبني
|
|
وفي حياتي ما زودتني زادي ! »
|
و روى المسعودى ما رواه ابن عساكر ثم ذكر
في جواب ابي الطفيل لمعاوية قوله : « منعنى ما منعك اذ تربص به ريب المنون، وانت
بالشام !» . وقال البلاذري : « ان
معاوية لما استصرخه عثمان، تثاقل عنه، وهو في ذلك يعده، حتى اذا اشتد به الحصار، بعث اليه يزيد بن أسد القشيري وقال له : اذا أتيت ذا خشب فاقم بها، ولا تقل
الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، فانا الشاهد وانت الغائب !!.. قالوا : فاقام بذي
خشب حتى قتل عثمان، فاستقدمه ».
ومن هنا عرض
معاوية عسكريته على التاريخ.
ولا نعرف عن عسكرية معاوية ـ بما يلتقي عند هذه
الكلمة من المعنيين ـ شيئا مذكورا.
فلا هو بالعسكري على المعنى المصطلح عليه، الذي يعني
« بوضع الخطط و قيادة الميدان »، ولا هو بالعسكرى في شجاعته وفروسيته، حين يدعي
لمقارعة شجاع أو منازلة فارس.
ودعاه (1) امير المؤمنين ( عليه السلام )
ليبارزه، فاما واما، فأبى اباء الرعاديد !!!.
1 ـ قال البيهقي في المحاسن والمساوىء ( ج1 ص 37 ) : « ولما كان حرب صفين، كتب
امير المؤمنين الى معاوية بن أبي سفيان : ما لك يقتل الناس بيننا، ابرز لي فان
قتلتني استرحت مني، وان قتلتك استرحت منك. فقال له عمرو بن العاص : أنصفك الرجل،
فابرز اليه. قال : كلا يا عمرو، أردت أن ابرز اليه فيقتلني. وتثب على الخلافة بعدي
!!.. قد علمت قريش أن ابن ابي طالب سيدها وأسدها ».
وقال ( ص38 ) : « عن الشعبي، أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ناس، فلما
رآه مقبلا استضحك فقال ـ يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك وأقر عينك، ما كل ما أرى
يوجب الضحك. فقال معاوية : خطر ببالي يوم صفين يوم بارزت أهل العراق، فحمل عليك
علي بن ابي طالب فلما غشيك طرحت نفسك عن دابتك وابديت عورتك ! كيف حضرك ذهنك في تلك
الحال ؟. أما والله لقد واقفت هاشميا منافيا، ولو شاء ان يقتلك لقتلك. فقال عمرو :
يامعاوية ان كان أضحكك شأني فمن نفسك فاضح. أما والله لو بدا له من صفحتك مثل الذي
بدا له من صفحتي لاوجع قذالك وأيتم عيالك، وأنهب مالك، وعزل سلطانك، غير أنك
تحرزت منه بالرجال في أيديها العوالي، أما اني قد رأيتك يوم دعاك الى
البراز فأحولت عيناك، وأزبد شدقاك، وتنشر منخراك، وعرق جبينك، وبدا من اسفلك ما
أكره ذكره !! فقال معاوية : حسبك حيث بلغت، لم نرد كل هذا.. ».
و روى هذا الحديث المسعودي ( هامش ابن الاثير ج 6 : ص 91 ) وبدأه بقول عمرو بن
العاص لمعاوية : « لولا مصر وولايتها لركبت النجاة منها، فاني أعلم ان علي بن ابي
طالب على الحق وانا على ضده، فقال معاوية : مصر والله أعمتك، ولولا مصر لالفيتك
بصيرا، ثم ضحك معاوية ضحكا ذهب به كل مذهب. قال : مم تضحك يا امير المؤمنين أضحك
الله سنك ؟ قال : أضحك من حضور ذهنك يوم بارزت عليا ».
نعم هو صاحب
موهبة ـ كما قلنا ـ ولكن في حيز محدود، وصاحب سخاء ولكن من نوع فريد، وصاحب هواية
خاصة لها سلطانها القاهر على نفسه.
فأما موهبته ففي اغتنام الفرص من مآزق الناس، واما
هوايته ففي الغلبة والسلطان، واما سخاؤه فبما لا يسخو به من يحسب لاخرته حسابها.
والمرجح أن معاوية كان يعرف من نفسه قصورها عن
العسكري الذي كان يجب أن يكونه وهو يناضل أشجع عسكرية في الاسلام، فكان يود دائما
ان يلتوي بحروبه مع العراق، الى الطريقة الخاضعة لموهبته، ويفر ـ ما وسعه الفرارـ
ـ من حرب السلاح الى حرب الفتن.
وكانت التجارب التي صارعها معاوية في حروب صفين، هي
الاخرى التي املت عليه القناعة القصوى بهذا الاختيار.
ولم يفلت معاوية من النهيار المحقق الذي حاق به يوم
ذاك، والذي نشط به الى محاولة الفرار بنفسه على ظهر جواد، الا حين أخذ بالرأى
البكر الذي أملاه عليه مستشاره الكبير « ابن العاص » ! ثم كانت الفتنة بنطاقها
الواسع الذي خلق للمسلمين انواع المشاكل والنكبات فيما بعد.
فالفتنة في نظر معاوية خير مركب للنجاح، وهي بتجارب
معاوية امضي أثرا من السلاح،
فكيف لا يجنح اليها كلما حاق به مأزق من هذه المآزق التي كان يجرها على نفسه في
مختلف المناسبات ؟.
ورفق معاوية في ميدان « الفتنة » الى تعبئة جهاز من
النوع الثقيل، لا نعهد مثله لغيره، بما يسر له من الثراء الضخم الذي مهدته له بلاد الشام في
عقدين كاملين من السنين وبما حظى به من صحب مساعير في هذا الميدان، أمثال المغيرة
بن شعبة وعمرو بن العاص. وكان ابن العاص هذا، أعظم مصارع على هذا المسرح، وهو
الذي « ما حكَّ قرحة الا نكأها ».
واستلحق ـ الى هذين ـ زياد بن عبيد الرومي الذي
انتزعه من معسكر الحسن عليه السلام انتزاعته (1) المفضوحة في التاريخ،
فكانوا ثالوثه المخيف الذي فتن الناس وزلزل الدنيا وبلبل الاسلام. واخيرا فان
الفتنة بمعناها الاعم، هي موهبة معاوية التي لا يغلبه عليها ألمعي قط.
1 ـ كان زياد هذا، عامل الحسن بن علي (ع) على ناحية من فارس وهو عليها منذ عهد
ابيه بعثه اليها عبدالله بن عباس منذ كان على البصرة.
فكتب اليه معاوية يتوعده ويتهدده، فقام زياد في محل عمله بفارس خطيبا فشتم معاوية
ووصفه « بابن آكلة الاكباد و كهف النفاق وبقية الاحزاب »، وهدده بابني رسول الله
(ص) ـ وهو اذ ذاك من شيعتهما ـ وبأجنادهما من المسلمين. وتجد نص الخطبة في فصل «
عدد الجيش » من هذا الكتاب.
واما قضية استلحاقه، فهي على الاجمال، حكاية زنية يزنيها ابو سفيان ببغي من ذوات
الاعلام بالطائف كانت تؤدي الضريبة الى الحرث بن كلدة الثقفي، تدعى « سمية » فيكون
نتيجتها « زياد » هذا، ويقبل معاوية شهادة كل من ابن أسماء الحرمازي وأبي مريم
الخمار السلولي ـ قواد هذه البغي وغيرها من امثالها ـ فيستلحق زيادا كاخ شرعي رغم
ان عبدالله بن عامر ( صهر معاوية على ابنته هند ) كان يهم أن يأتي بقسامة من قريش
يحلفون أن اباسفيان لم ير سمية !! ثم تكشف جويرية بنت ابي سفيان لزياد عن شعرها
وتقول له : « أنت أخي أخبرني بذلك ابومريم !!» ثم يقول زياد عن أبيه الاول الذي ولد
على فراشه فبدله بأبي سفيان، وكان عبدا روميا للحرث بن كلدة الثقفي، يدعى « عبيدا
» : « وما كان عبيد الا والدا مشكورا ونزل!!.. » وكان ذلك سنة 41 للهجرة على
الاصح.
وعدَّ الناس حادثة الاستلحاق أعظم تهتك وقع في الاسلام علنا.
قال ابن الثير : « وكان استلحاقه أول ما ردت به احكام الشريعة علانية، فان رسول
الله (ص) قضي بالولد للفراش وللعاهر الحجر، وقضي معاوية بعكس ذلك، طبقا لما كان
العمل عليه قبل الاسلام، يقول الله تعالى : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله
حكما لقوم يوقنون » انتهى
بلفظه.
وعلم زياد ان العرب لا تقر له بالنسب الجديد لعلمهم بحقيقة حاله، وبالدراعي التي
اقتضت استلحاقه، فعمل « كتاب المثالب » والصق فيه بالعرب كل نقيصة، فدل بذلك ايضا
على شعوبيته الهوجاء.
وقضي للكوفة ان يحكمها زياد هذا ـ بعد هلاك حاكمها الاموي الاول المغيرة بن شعبة
الثقفي ـ فجعل منها جحيما يستعر وزلزالا لا يستقر.
قال الطبري ( ج 6 ص 123 ) : « ان زيادا لما قدم الكوفة قال : قد جئتكم في أمر ما
طلبته الا لكم. قالوا : ادعنا الى ما شئت. قال : تلحقون نسبي بمعاوية. قالوا : اما
بشهادة الزور فلا ». وهو اول من جمع له الكوفة والبصرة معا، واول من سير بين يديه
بالحراب، ومشي بين يديه بالعمد، واتخذ الحرس. وكان يستخلف على البصرة عند غيابه «
سمرة بن جندب » وعلى الكوفة « عمرو بن حريث » ولما رجع الى البصرة بعد ستة اشهر وجد
سمرة قد قتل ثمانية الاف من الناس !!.. « كلهم قد جمع القرآن ».
ومات زياد سنة 53 هـ. وجاء المهدي العباسي سنة 159 هـ فالغى هذا الاستلحاق، وأمر
باخراج آل زياد من ديوان قريش والعرب، وعاد زياد الى ابيه العبد الرومي مرة اخرى
!!.
وعلى هذه
القاعدة، طوّر معاوية حزبه مع الحسن الى الحرب بالفتن.
وكان اذ يعسكر بجيوشه على حدود العراق، لا يريد
القتال، وانما يخاف المبادءة من خصومه. ويود لو حاربهم في ميدان غير ميدان الجيوش.
ولم يبح بسرّه هذا، الا على أسلوب من المصانعة
والتمويه، يتظاهر من ورائهما بالجنوح الى المصلحة والخوف على امور الناس. فيقول
حين ينظر الى جيوش الفريقين في موقفه من الحسن بن علي عليهما السلام : « ان قَتَلَ
هؤلاء، هؤلاء، وهؤلاء، هؤلاء، من لي بامور الناس (1) »، ويقول : «
الامر الكبير يدفعه الامر الصغير (2) ».
وما يدرينا، فلعله اذ يتلكأ بهذا ونحوه، انما يتلكأ
لانه يحذر نتائج حرب السلاح، فيمالو صدق العراق بالقراع. وليكن ـ على هذا الاحتمال
ـ قد جهل موقف الكوفة في نفيرها مع الحسن وخيّل اليه من نتائج الدعاوة الشيعية ما
لم يكن.
1 ـ ابن كثير ( ج 8 ص 17 ).
2 ـ المسعودى : هامش ابن الاثير ( ج 6 ص 67 ).
وقد يكون معني
تردده، انه كان يرى اتقاء الفضيحة التي لا يسرها عذر امام العالم الاسلامي، في
محاربة سيدى شباب أهل الجنة، ابني بنت رسول الله صلى الله عليه واله، وجها لوجه.
وقد يكون انما أغراه باتخاذ هذه الوسيلة دون وسيلة
السلاح، كتب الخونة من رؤساء الكوفة وزعماء قبائلها « يعرضون بها له السمع والطاعة، ويتبرعون له بالمواعيد، ويتخذون عنده الايادي، ويستحثونه على المسير نحوهم،
ويضمنون له تسليم الحسن عند دنوهم من عسكره، أو الفتك به (1) ».
وكان من أبرع اساليب « الفتنة » ان يجمع معاوية كل ما
ورد عليه من كتب هؤلاء، ثم يدعو كلا من المغيرة بن شعبة وعبدالله بن عامر بن كريز
وعبدالرحمن بن الحكم، فيوفدهم جميعا بهذه الكتب كلها الى الحسن (2)
نفسه ليطلع عليها، وليعرف نوايا أصحابها من متطوعة صفوفه، ثم ليكون من اللفتة
البارعة مدخل للمفاوضة في الصلح أو التفاهم على نصفٍ من الامر، فيما لو وجد هذا
الوفد من جانب الحسن عليه السلام استعداداً لتفاهم او صلح.
وتفقّد الحسن خطوط الكوفيين وتواقيعهم بشيء من
العناية و الامعان كما لو كان يعرف ـ قبل ذلك خطوطهم وتواقيهم وتأكد صحة نسبة الكتب
لاصحاب التواقيع، ولكنها لم تكن لتزيده معرفة بأصحابها، ولم ير فيها جديدا لا
يعهده من هذه الطبقة المعروفة بميولها و أهوائها وشذوذها الخلقي، الذي جرّ عليه
الشيء الكثير من المآسي والنكبات في شتى مراحله منذ فاه بدعوة الجهاد.
ثم رجع بخطابه الى الوفد الشامي، دقيق العبارة لا
يبت بأمر ولا ينكشف عن سرّ، ولم يترك النصيحة للمغيرة ورفاقه، بالدعوة الى الله
عزّ وجل، عن طريق نصرته وترك البغي عليه، وذكّرهم بما هم مسؤولون عنه أمام الله
ورسوله في حقه.
1 ـ سبق ذكر المصادر في
الفصل الثالث. 2 ـ يراجع اليعقوبي ( ج2 ص 191 ).
ولا نعلم ـ بعد
ذلك ـ ولا فيما ترويه المصادر، أنه ذكر الصلح بنفي أو اثبات.
ولكنا علمنا أن المغيرة ورفاقه الذين دخلوا معسكر
المدائن حين اذن لهم بدخوله لعرض هذه الكتب على الامام، لم يغادروا المعسكر حتى
زرعوا في ميدانه أكبر فتنة في الناس. فخرج الوفد العدّ و ويستعرض في طريقه مضارب
الجيش، وهو اذ ذاك هدف الانظار في حركته، وهدف الاسماع في حديثه، فقال بعض
أفراده لبعض ـ وهم يرفعون من أصواتهم ليسمعهم الناس ـ : « ان الله قد حقن بابن رسول
الله الدماء وسكن الفتنة، وأجاب الى الصلح (1) ».
وما كان حديثهم هذا الا الفتنة نفسها، ليعبروا بها
وبمثيلاتها من هذا الطراز، الى انتزاع الصلح انتزاعا.
و اذا هي الطعنة النجلاء، في ظروف موليّة كظروف
المدائن بما كان قد لحقها من التبلبل الذريع، في أعقاب الحوادث المؤسفة في معسكر «
مسكن ».
وكانت أكثرية المدائن لا تزال ملحة على مباشرة الحرب، فهي لا ترى للصلح مكانا، و كان يخيل اليها أن في بقايا المجاهدين في مسكن كفاية
لمنازلة معاوية، وأن في احتياطي المدائن ما يضمن لمسكن القوة على الصمود فيما لو
ضعفت كفايتها. وربما كانوا أو كان فيهم، من لا يتخيل شيئا من ذلك، ولكنهم انما
يلحّون على الحرب لانهم « يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة (2) ». وتلك هي
نعرة الخوارج في جيش الحسن عليه السلام. وكيف يقول المغيرة ورفاقه « ان الحسن أجاب
الى الصلح »، انها الكلمة الكافرة
التي لا يجوز الصبر عليها ـ برأيهم.
وكان شغب فئة كبيرة كالخوارج، مدعاة لزلزلة فئات
أكثر عددا ولا سيما من أغرار الناس المتارجحين بين الطاعة والعصيان، والمتأهبين
للفتن والاضطرابات مع كل ناعق بها وفي كل آن.
1 ـ يراجع اليعقوبي ( ج
2 ص 191 ) 2 ـ البحار ( ج 10 ص 110 ) والارشاد.
وجاءت الخطة
المدبرة التي أجاد حياكتها الثالوث الشامي، فتنة عنيفة الاثر على مقدرات المدائن،
ناشزة على خطط التدبير.
ومن السهل أن نفطن الان ـ جازمين ـ الى ان اجوبة
الحسن لهذا الوفد، لم تكن لتشتمل على ذكر الصلح او الاستعداد له، لانه لو كان قد
اجاب اليه كما اشاعه الوفد عند خروجه منه، لا نتهي كل شيء ولا غلق الموقف بين
العراق والشام.فلم هذه الفتن اذاً ؟. وهل هي الا من قبيل استعمال السلاح مع الصلح ؟
وهل معني الصلح الا نزع السلاح ؟.
وعلى هذا، فلا تصريح بقبول الصلح من جانب الحسن
قطعا.
وانما هي الفتتة، وهي سلاح الشام الانكي.
وتلوّن معاوية في هذا السلاح تولّنا مخفيا جدا، فعمد
الى سلة أكاذيب، يختار مضامينها اختيارا دقيقا، وينخل أساليبها نخلا فينا، ثم
يبعث بها الى معسكرات الحسن، هنا وهناك.
« فكان يدس الى عسكر الحسن ـ في المدائن ـ من يتحدث :
ان قيس بن سعد ـ وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس ـ قد صالح معاوية وصار معه
(1) ».
«ويوجه الى عسكر قيس ـ في مسكن ـ من يتحدث ان الحسن
قد صالح معاوية و أجابه (2) ».
ثم ينشر في اشاعة اخرى على معسكر المدائن « الا ان
قيس بن سعد قد قتل فانفروا (3) ».
وما ظنك بأثر هذه الشائعات في جيش مثل جيش المدائن،
وقد سبق له أنه علم خيانة قائد سابق لم يكن أهلا للخيانة، فلِم لا يصدق خيانة
الثاني، أو الخبر بقتله ؟.
وفي مسكن مثل ما في المدائن من مآسٍ ودفائن وقوافل
تنزع الى الفرار، وعملاء لا يفتأون يبعثون الفتن ويبثون افظع الاخبار.
1 و 2 ـ اليعقوبي ( ج 2 ص 191 ).
3 ـ ابن الاثير ( ج 3 ص 161 ) والطبرى ( ج 6 ص 92 ) وابن كثير ( ج 8 ص 14 )
والدميري في حياة الحيوان ( ص 57 ).
وهكذا بلغ
معاوية « بفتنه » ما أراد، وبات الجيشان كلاهما طمعة الاضطرابات والحوادث المؤسفة
التي لا تناسب ساحة قتال.
وما مني الاسلام منذ ضرب بجرانه على جزيرة العرب،
بأفظع من هذه النكبة التي يترنح بها موقف الخلافة الاسلامية، بين تثاقل الجنود،
وتخاذل الزعماء وخيانة القائد، وفتن العدو !.
انها الظروف القاهرة التي بدأت تنذر باكداس من الخطوب
و النكبات والتي ستجر حتما الى نهاية تاريخ قصير، كان انصع وأروع صفحات التاريخ
الاسلامي، وابعدها ارتفاعا في المجد، وأقربها اسبابا الى الفخر.
انها الكارثة التي تؤذن باللحظة المشؤومة في تاريخ
الاسلام، اللحظة القائمة على عملية الفصل بين العهدين، عهد الخلافة بمميزاتها
ومثاليتها، وعهد « الملك المعضوض (1) » وبلائه المقدَّر المفروض.
وكان الحسن عليه السلام، أعرف الناس بقيم هذه
المعنويات المهددة وأحرص المسلمين على حفظ الاسلام، والرجل الحديدي الذي لا تزيده
النكبات المحيطة به، الا لمعانا في الاخلاص، واتقادا في الرأي، واستبسالا في
تلبية الواجب، وتفاديا للمبدأ.
ولم يكن لتساوره الحيرة، على كثرة ما كان في موقفه
من البواعث عليها، ولا وجد في صدره حرجا (2) ولا تلوّما ولا ندما،
ولكنه وقف ليختار الرأي، و ليرسم الخطة، وليتخذ التدابير.
وكان لابد لاصطفاء الرأي، من دراسة سائر الاراء.
وذلك ما نريد أن نسيمه : « موقف الحيرة ».
1 ـ قال الدميري ( ج 1 ص 58 ) بوعد ان ذكر خلافة الحسن عليه السلام وأحصى ايامها :
« وهي تكملة ما ذكره رسول الله (ص) من مدة الخلافة، ثم تكون ملكا عضوضا ثم تكون
جبروتا وفسادا في الارض، وكان كما قال رسول الله (ص).. ».
2 ـ قال ابن كثير ( ج 8 ص 19 ) : « وهو ـ يعني الحسن عليه السلام ـ في ذلك، الامام
البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره حرجا و لا تلوما و لا ندما بل هو راض بذلك، مستبشر به ».
|