- كنزالفوائد- أبو الفتح الكراجكي ص 102 :
(فصل
في ذكر البداء)
اعلم
ايدك الله تعالى ان اصحابنا دون المتكلمين يقولون بالبداء ولهم في نصرة القول به
كلام ومعهم فيه آثار وقد استشنع ذلك منهم مخالفوهم وشنع عليهم به مناظروهم وإنما
استشنعوه لظنهم انه يؤدي الى القول بان الله تعالى علم في البداء ما لم يكن يعلم
وإذا قدر الناصر للبداء على الاحتراز من هذا الموضع فقد احسن ولم تبق عليه اكثر من
اطلاق اللفظ وقد قلنا ان ذلك قد ورد به السمع وقد اتفق لي فيه كلام مع أحد المعتزلة
بمصر انا احكيه لتقف عليه:
(حكاية
مجلس في البداء) كنت سئلت معتزليا حضرت معه مجلسا فيه قوم من اهل العلم فقلت له لم
انكرت القول بالبداء وزعمت انه لا يجوز على الله تعالى فقال لانه يقتضي ظهور امر
الله سبحانه كان عنه مستورا وفي هذا انه قد تجدد له العلم بما لم يكن به عالما فقلت
له ابن لنا من اين علمت انه يوجب ذلك وتقتضيه ليسع الكلام معك فيه فقال هذا هو معنى
البداء والتعارف يقضي بيننا ولسنا نشك ان البداء هو الظهور ولا يبدو للامر إلا
لظهور شيء مجدد من علم أو ظن لم يكن معه من قبل (وبيان ذلك) ان طبيبا لو وصف لعليل
ان يشرب في وقته شراب الورد حتى إذا اخذ العليل القدح بيده ليشرب ما امره به قال له
الطبيب في الحال صبه ولا تشربه وعليك بشرب النيلوفر بدله فلسنا نشك في ان الطبيب قد
استدرك الامر (وظهر له من حال العليل ما لم يكن عالما به من قبل فغير عليه الامر)
لما تجدد له من العلم ولو لا ذلك لم يكن معنى لهذا الخلاف فقلت له هذا مما في
الشاهد وهو من البداء فيجوز عندك ان يكون في البداء قسم غير هذا فقال لا اعلم في
الشاهد غير هذا القسم ولا ارى انه يجوز في البداء قسم غيره ولا
يعلم.
فقلت
له ما تقول في رجل له عبد اراد ان يختبر حاله وطاعته من معصيته ونشاطه من كسله فقال
له في يوم شديد البرد سر لوقتك هذا الى مدينة كذا لتقبض مالا لي بها فاحسن العبد
لسيده الطاعة وقدم المبادرة ولم يحتج بحجة فلما راى سيده مسارعته وعرف شهامته
ونهضته شكره على ذلك وقال له اقم على حالك فقد عرفت انك موضع للصنيعة وأهل للتعويل
عليك في الامور العظيم أيجوز عندك هذا وان جاز فهل هو داخل في البداء ام لا فقال
هذا مستعمل وراينا مثله في الشاهد وقد بدا فيه للسيد وليس هو قسما ثانيا بل هو
بعينه الاول هو الذي لا يجوز على الله عزوجل.
فقلت
له لم زعمت أنه القسم الاول فقال لان في الاول قد استفاد الطبيب علما بحال المريض
له يكن بها عالما كما ان في الثاني قد استفاد السيد علما بحال العبد لم يكن بها
عالما فهما عندي سواء فقلت له لم جعلت الجمع بينهما من حيث ذكرت اولى من التفرقة
بينهما من حيث كان احدهما مريدا لاتمام قبل ان يبدو له فيه فينهى عنه وهو الطبيب
والاخر غير مريد لاتمامه على كل وجه وهو سيد العبد بل كيف لم تفرق بينهما من حيث ان
الطبيب لم يجز قط ان يقع منه اختلاف الامر إلا لتجدد علم له لم يكن وسيد العبد يجوز
ان يقع منه النهي بعد الامر من غير ان يتجدد له علم ويكون عالما بنهضته في الحالين
ومسارعته الى ما احب و إنما امره بذلك ليعلم الحاضرون حسن طاعته ومبادرته الى ما
امره وانه ممن يجب اصطفاؤه والاحسان إليه والتعويل في الامور عليه قال فإذا سلمت لك
الفرق بينهما فما تنكر ان يكون دالا على ان مثالك الذي اتيت به غير داخل في البداء
قلت انكرت ذلك من قبل البداء هو عندنا جميعا نهي الامر عما أمر به قبل وقوعه في
وقته وإذا كان هذا هو الحد المراعي فهو موجود في مثالنا وقد اجمع العقلاء ايضا على
ان السيد فيه قد بدا له فيما أمر به عبده قال فإذا دخل القسمان في البداء فما الذي
تجيز على الله تعالى منهما فقلت اقربهما الى قصة إبراهيم الخليل عليه السلام
واشبههما لما أمر الله تعالى في المنام بذبح ولده اسماعيل عليه السلام فلما سارع
المأمور راضيا بالمقدور واسلما جميعا صابرين وتله للجبين نهاه الله عن الذبح بعد
متقدم الامر واحسن الثناء عليهما وضاعف لهما الاجر وهذا نظير ما مثلت من أمر السيد
وعبده وهو النهي عن المأمور به قبل وقوع فعله قال فمن سلم لك ان إبراهيم عليه
السلام مامور بذلك من قبل الله سبحانه قلت سلمه لي من يقر بان منامات الانبياء عليه
السلام صادقه ويعترف بانها وحي الله في الحقيقة وسلمه لي من يؤمن بالقرآن ويصدق ما
فيه من الاخبار وقد تضمن الخبر عن اسماعيل انه قال لابيه عليهما السلام يا ابت افعل
ما تؤمر ستجدني ان شاء من الصابرين وقول الله تعالى لابراهيم قد صدقت الرؤيا وثناؤه
عليه حيث قال (كذلك نجزي المحسنين وليس بمحسن من) امتثل غير أمر الله تعالى في ذبح
ولده وهذا واضح لمن انصف من نفسه قال فاني لا اسمي هذا بداء فقلت له ما المانع لك
من ذلك اتوجه الحجة عليك به ام مخالفته للمثال المتقدم ذكره فقال يمنعني من ان
اسميه البداء ان البداء لا يكشف الا عن متجدد علم لمن بدا له وظهوره له بعد ستره
وليس في قصة إبراهيم واسماعيل عليهم السلام ما يكشف عن تجدد علم الله سبحانه ولا
يجوز ذلك عليه فلهذا قلت انه ليس ببداء فقلت له هذا خلاف لما سلمته لنا من قبل
واقررت به من ان سيد العبد يجوز ان يامره بما ذكرناه ثم يمنعه مما امره به وينهاه
مع علمه بانه يطيعه في الحالين لغرضه في كشف امره للحاضرين ثم يقال لك ما تنكر من
اطلاق اللفظ بالبداء في قصة إبراهيم واسماعيل عليهما السلام لانها كشفت لهما عن علم
متجدد ظهر لهما كان ظنهما سواه وهو ازالة هذا التكليف بعد تعلقة والنهى عن الذبح
بعد الامر به قال افتقول ان الله تعالى اراد الذبح لما أمر به ام لم يرده واعلم انك
ان قلت انه لم يرده دخلت في مذاهب المجبرة لقولك ان الله تعالى أمر بما لا يريده
وكذلك ان قلت انه اراده دخلت في مذهبهم ايضا من حيث انه نهى عما اراده فما خلاصك من
هذا فقلت له هذه شبهة يقرب امرها والجواب عنها لازم لنا جميعا لتصديقنا بالقصة
واقرارنا بها وجوابي فيها ان الذبح في الحقيقة هو تفرقة الاجزاء ثم قد تسمى الافعال
التي في مقدمات الذبح مثل القصد والاضجاع واخذ الشفرة ووضعها على الحلق ونحو ذلك
ذبحا مجازا واتساعا ونظير هذا ان الحاج في الحقيقة هو زائر بيت الله تعالى على
منهاج ما قررته الشريعة من الاحرام والطواف والسعي وقد يقال لمن شرع في حوائجه
لسفره في حجة من قبل ان يتوجه إليه انه حاج اتساعا ومجازا ( فاقول ) ان مراد الله
تعالى فيما أمر به لخليله إبراهيم عليه السلام من ذبح ولده انما كان مقدمات الذبح
من الاعتقاد اولا والقصد ثم الاضطجاع للذبح ترك الشفرة على الحلق وهذه الافعال
الشاقة ليس بعدها غير الاتمام بتفرقة اجزاء الحلق وعبر عن ذلك بلفظ الذبح ليصح من
إبراهيم عليه السلام الاعتقاد له والصبر على المضض فيه الذي يستحق جزيل الثواب عليه
ولو فسر له في الامر المراد على التعيين لما صح منه الاعتقاد للذبح ولا كان ما أمر
به شاقا يستحق عليه الثناء والمدح وعظيم الاجر ( الذي ) نهى الله تعالى عنه هو
الذبح في الحقيقة وهو الذي لم يبق غيره ولم تتعلق الارادة قط به فقد صح بهذا ان
الله تعالى لم يامر بما لا يريد ولا نهى عما اراد والحمد لله قال الخصم فقد انتهى
قولك الى ان الذي امر به غير الذي نهى عنه وليس هذا هو البداء فقلت أما في ابتداء
الامر فما ظن إبراهيم عليه السلام إلا ان المراد هو الحقيقة وكذلك كان ظن ولده
اسماعيل عليه السلام فلما انكشف بالنهي لهما ما علماه مما كان ظنهما سواه كان ظاهره
بداء لمشابهته لحال من يامر بالشئ وينهى عنه بعينه في وقته وليستسلمه على ظاهر
الامر دون باطنه فلم يرد على ما ذكرت شيئا وهذا الذي اتفق لي من الكلام في البداء
والحمد لله.
(مسألة)
فان قال قائل ما تقولون في الذبيح ومن كان من ولدي إبراهيم صلى الله عليه اكان
اسماعيل ام اسحاق عليهما السلام قلنا الذبيح عندنا هو اسماعيل وبهذا يشهد ظاهر
القرآن والخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه واله اما القرآن فإن الله تعالى قال
حكاية عن ابراهيم عليه السلام * (رب هب لي من الصالحين) * الصافات فاخبر عن سؤاله
في الولد قال الله تعالى * (فبشرناه بغلام حليم) * الصافات ثم اخبر عن حال هذا
الغلام فقال فلما بلغ معه السعي * (قال يا بني انى ارى في المنام اني أذبحك) *
الصافات فوصف قصة الذبح المختصة بهذا الغلام الى قوله * (انا كذلك نجزى المحسنين) *
الصافات ثم قال بعد ذلك * (وبشرناه باسحاق نبيا من الصالحين) * الصافات فاعلمنا ان
اسحاق إنما اتاه بعد الولد الاول الذي اجيبت فيه دعوته وراى في المنام انه يذبحه
وهذا يدل على انه غير اسحاق وليس غيره ممن ينسب هذا إليه إلا اسماعيل عليه السلام
وأما الخبر المأثور فقول رسول الله صلى الله عليه واله انا ابن الذبيحين يعنى
اسماعيل وعبد الله بن عبد المطلب ولو كان الذبيح اسحاق لما صح هذا الخبر على ظاهره
لانه ليس هو ابنه وهو ابن اسماعيل عليه السلام.