- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 72، 73:
49 - القول في
احتمال الرسل والأنبياء والأئمة الآلام وأحوالهم بعد الممات
وأقول: إن رسل
الله تعالى من البشر وأنبياءه والأئمة من خلفائه محدثون مصنوعون تلحقهم الآلام،
وتحدث لهم اللذات، وتنمي أجسامهم بالأغذية، وتنقص على مرور الزمان، ويحل بهم الموت
ويجوز عليهم الفناء، وعلى هذا القول إجماع أهل التوحيد. وقد خالفنا فيه المنتمون
إلى التفويض وطبقات الغلاة.
وأما أحوالهم بعد
الوفاة فإنهم ينقلون من تحت التراب فيسكنون بأجسامهم وأرواحهم جنة الله تعالى،
فيكونون فيها أحياء يتنعمون إلى يوم الممات، يستبشرون بمن يلحق بهم من صالحي أممهم
وشيعتهم، ويلقونه بالكرامات وينتظرون من يرد عليهم من أمثال السابقين من ذوي
الديانات.
وإن رسول الله
صلى الله عليه وآله والأئمة من عترته خاصة لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم
في دار الدنيا بإعلام الله تعالى لهم ذلك حالا بعد حال، ويسمعون كلام المناجي لهم
في مشاهدهم المكرمة العظام بلطيفة من لطائف الله تعالى بينهم بها من جمهور العباد،
وتبلغهم المناجاة من بعد كما جاءت به الرواية، وهذا مذهب فقهاء الإمامية كافة وحملة
الآثار منهم، ولست أعرف فيه لمتكلميهم من قبل مقالا، وبلغني عن بني نوبخت رحمهم
الله خلاف فيه، ولقيت جماعة من المقصرين عن المعرفة ممن ينتمي إلى الإمامة أيضا
يأبونه، وقد قال الله تعالى فيما يدل على الجملة: {وَلاَ
تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ
قُتِلُواْ
فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْوَاتًا
بَلْ
أَحْيَاء
عِندَ
رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ
*
فَرِحِينَ بِمَا
آتَاهُمُ
اللَّهُ مِن
فَضْلِهِ
وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالَّذِينَ
لَمْ
يَلْحَقُواْ بِهِم
مِّنْ
خَلْفِهِمْ
أَلاَّ
خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ
وَلاَ
هُمْ
يَحْزَنُونَ} وما يتلو هذا من الكلام. وقال في قصة مؤمن آل فرعون: {قِيلَ
ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي
رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:"من سلم علي عند قبري سمعته، ومن سلم
علي من بعيد بلغته سلام الله عليه ورحمة الله وبركاته". ثم الأخبار في تفصيل ما
ذكرناه من الجمل عن أئمة آل محمد صلى الله عليه وآله بما وصفناه نصا ولفظا أكثر،
وليس هذا الكتاب موضع ذكرها فكنت أوردها على التفصيل والبيان.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 73،74:
50 - القول في
رؤية المحتضرين رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام عند
الوفاة
هذا باب قد أجمع
عليه أهل الإمامة، وتواتر الخبر به عن الصادقين من الأئمة عليهم السلام، وجاء عن
أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال للحارث الهمداني رحمه الله:
يا حار همدان من يمت يرني من مؤمن أو منافق قبـــلا
يعرفني طرفـه وأعرفــه
بعينه واسمه وما فعــــلا
في أبيات مشهورة،
وفيه يقول إسماعيل بن محمد السيد رحمه الله:
ويراه المحضور حين تكون الروح بين
اللهاة والحلقوم
ومتى ما يشاء أخرج للناس فتدمي
وجوههم بالكلــوم
غير أني أقول فيه
إن معنى رؤية المحتضر لهما عليهما السلام هو العلم بثمرة ولايتهما، أو الشك فيهما
والعداوة لهما، أو التقصير في حقوقهما على اليقين بعلامات يجدها في نفسه وأمارات
ومشاهدة أحوال ومعاينة مدركات لا يرتاب معها بما ذكرناه، دون رؤية البصر لأعيانهما
ومشاهدة النواظر لأجسادهما باتصال الشعاع، وقد قال الله: {فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ}، وإنما أراد جل
شانه بالرؤية هيهنا معرفة ثمرة الأعمال على اليقين الذي لا يشوبه ارتياب. وقال
سبحانه: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ
أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ}. ولقاء الله تعالى هو لقاء جزائه على الأعمال وعلى هذا القول محققو النظر
من الإمامية، وقد خالفهم فيه جماعة من حشويتهم، وزعموا أن المحتضر يرى نبيه ووليه
ببصره كما يشاهد المرئيات وإنهما يحضران مكانه ويجاورانه بأجسامهما في المكان.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 62،
63:
33 - القول في عصمة نبينا محمد صلى الله
عليه وآله
وأقول: إن نبينا محمدا صلى الله عليه وآله
ممن لم يعص الله عز وجل منذ خلقه الله عز وجل إلى أن قبضه ولا تعمد له خلافا ولا
أذنب ذنبا على التعمد ولا النسيان، وبذلك نطق القرآن وتواتر الخبر عن آل محمد عليهم
السلام، وهو مذهب جمهور الإمامية.
والمعتزلة بأسرها على خلافه. وأما ما
يتعلق به أهل الخلاف من قول الله تعالى: {لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}
وأشباه ذلك في القرآن ويعتمدونه في الحجة على خلاف ما ذكرناه فإنه تأويل بضد ما
توهموه، والبرهان يعضده على البيان، وقد نطق الفرقان بما قد وصفناه فقال جل اسمه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ
وَمَا غَوَى} فنفى بذلك عنه كل
معصية ونسيان.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 47:
12- القول في الشفاعة
واتفقت الإمامية على أن رسول الله صلى
الله عليه وآله يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته، وأن أمير
المؤمنين عليه السلام يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأن أئمة آل محمد عليهم
السلام يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين.
ووافقهم على شفاعة الرسول صلى الله عليه
وآله المرجئة سوى ابن شبيب وجماعة من أصحاب الحديث. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك
وزعمت أن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله للمطيعين دون العاصين وأنه لا يشفع في
مستحق العقاب من الخلق أجمعين.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 79،80:
57 - القول في
الشفاعة
وأقول: إن رسول
الله صلى الله عليه وآله يشفع يوم القيامة في مذنبي أمته من الشيعة خاصة فيشفعه
الله عز وجل ويشفع أمير المؤمنين عليه السلام في عصاه شيعته فيشفعه الله عز وجل
وتشفع الأئمة عليهم السلام في مثل ما ذكرناه من شيعتهم فيشفعهم ويشفع المؤمن البر
لصديقه المؤمن المذنب فتنفعه شفاعته ويشفعه الله، وعلى هذا القول إجماع الإمامية
إلا من شذ منهم، وقد نطق به القرآن وتظاهرت به الأخبار، قال الله تعالى في الكفار
عند إخباره عن حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان: {فَمَا
لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:"إني أشفع يوم
القيمة فأشفع فيشفع علي عليه السلام فيشفع، وإن أدنى المؤمنين شفاعة يشفع في أربعين
من إخوانه".
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 135، 137:
154 - القول في أن النبي صلى الله عليه وآله بعد أن خصه الله بنبوته كان
كاملا يحسن الكتابة
إن الله تعالى لما جعل نبيه صلى الله عليه وآله جامعا لخصال الكمال كلها
وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها يصح له الكمال ويجتمع فيه الفضل،
والكتابة فضيلة من منحها فضل ومن حرمها نقص، ومن الدليل على ذلك أن الله تعالى جعل
النبي صلى الله عليه وآله حاكما بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه فلا بد أن يعلمه
الحكم في ذلك، وقد ثبت أن أمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق
وتبرئ بها الذمم وتقوم بها البينات وتحفظ بها الديون وتحاط بها الأنساب، وأنها فضل
تشرف المتحلي به على العاطل منه، وإذا صح أن الله جل اسمه قد جعل نبيه بحيث وصفناه
من الحكم والفضل ثبت أنه كان عالما بالكتابة محسنا لها.
وشيء آخر وهو أن النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجا في
فهم ما تضمنته الكتب من العقود وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في
بعض ما كلفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلفه الحكم فيه إلى
سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه، فثبت أنه صلى الله عليه وآله كان يحسن
الكتابة. وشيء آخر وهو قول الله سبحانه: {هُوَ
الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ
لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه كما يستحيل
أن يعلمهم الحكمة وهو لا يعرفها، ولا معنى لقول من قال: (إن الكتاب هو القرآن خاصة)
إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلا بدليل، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر
أصحاب الحديث.
ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى:
{وَمَا كُنتَ
تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ} فنفي عنه إحسان الكتابة وخطه قبل النبوة خاصة فأوجب بذلك إحسانه لها بعد
النبوة، ولولا أن ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل، ولو كان حاله صلى الله
عليه وآله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوة كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه
أن ينفيه بلفظ يفيده لا يتضمن خلافه فيقول له: {وَمَا
كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} إذ ذاك، ولا في الحال، أو يقول: لست تحسن الكتابة
ولا تأتي بها على كل حال، كما إنه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه عنه بلفظ يعم
الأوقات فقال الله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ
الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ} وإذا كان الأمر على ما بيناه ثبت أنه صلى الله عليه وآله كان يحسن الكتابة بعد
أن نبأه الله تعالى على ما وصفناه. وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم.
وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 63:
34 - القول في جهة إعجاز القرآن
وأقول: إن جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى
لأهل الفصاحة واللسان عن المعارضة للنبي صلى الله عليه وآله بمثله في النظام عند
تحديه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله وإن كان في مقدورهم دليلا على نبوته صلى
الله عليه وآله، واللطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان، وهذا من
أوضح برهان في الإعجاز وأعجب بيان. وهو مذهب النظام وخالف فيه جمهور أهل الاعتزال.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 78،79:
56 - القول في
الحساب وولاته والصراط والميزان
وأقول: إن الحساب
هو موافقة العبد على ما أمر به في دار الدنيا وإنه يختص بأصحاب المعاصي من أهل
الإيمان، وأما الكفار فحسابهم جزاؤهم بالاستحقاق والمؤمنون الصالحون يوفون أجورهم
بغير حساب.
وأقول: إن
المتولي لحساب من ذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام
والأئمة من ذريتهما عليهم السلام بأمر الله تعالى لهم بذلك وجعله إليهم تكرمة لهم
وإجلالا لمقاماتهم وتعظيما على سائر العباد، وبذلك جاءت الأخبار المستفيضة عن
الصادقين عليهم السلام عن الله تعالى، وقد قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني الأئمة عليهم السلام على ما جاء في التفسير الذي
لا شك في صحته ولا ارتياب.
وأقول: إن الصراط
جسر بين الجنة والنار تثبت عليه أقدام المؤمنين وتزل عنه أقدام الكفار إلى النار،
وبذلك جاءت أيضا الأخبار.
وأما الميزان فهو
التعديل بين الأعمال والمستحق عليها، والمعدلون في الحكم إذ ذاك هم ولاة الحساب من
أئمة آل محمد عليهم السلام، وعلى هذا القول إجماع نقلة الحديث من أهل الإمامة، وأما
متكلموهم من قبل فلم أسمع لهم في شيء منه كلاما.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 106، 107:
فصل: في الأعراف قال أبو جعفر: اعتقادنا في الأعراف أنه سور... إلى آخره.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: قد قيل إن الأعراف جبل بين الجنة والنار. وقيل
أيضا: إنه سور بين الجنة والنار. وجملة الأمر في ذلك: أنه مكان ليس من الجنة ولا من
النار.
وقد جاء الخبر بما ذكرناه، وأنه إذا كان يوم القيامة كان به رسول الله وأمير
المؤمنين والأئمة من ذريته صلى الله عليه وآله وهم الذين عني الله سبحانه بقوله:
{وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ
بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ
يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} وذلك أن الله تعالى يعلمهم أصحاب الجنة وأصحاب
النار بسيماء يجعلها عليهم وهي العلامات وقد بين ذلك في قوله تعالى:
{يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ} و {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ}.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ} فأخبر أن في خلقه طائفة
يتوسمون الخلق فيعرفونهم بسيماهم.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في بعض كلامه: أنا صاحب العصا
والميسم. يعني: علمه بمن يعلم حاله بالتوسم.
وروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه سئل عن قوله تعالى: {إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} قال: فينا نزلت أهل البيت. يعني: في الأئمة عليهم
السلام.
وقد جاء الحديث بأن الله تعالى يسكن الأعراف طائفة من الخلق لم يستحقوا
بأعمالهم الجنة على الثبات من غير عقاب، ولا استحقوا الخلود في النار وهم المرجون
لأمر الله، ولهم الشفاعة، ولا يزالون على الأعراف حتى يؤذن لهم في دخول الجنة
بشفاعة النبي صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين والأئمة من بعده عليهم السلام.
وقيل أيضا: إنه مسكن طوائف لم يكونوا في الأرض مكلفين فيستحقون بأعمالهم جنة
ونارا، فيسكنهم الله ذلك المكان ويعوضهم على آلامهم في الدنيا بنعيم لا يبلغون به
منازل أهل الثواب المستحقين له بالأعمال. وكل ما ذكرناه جائز في العقول.
وقد وردت به أخبار والله أعلم بالحقيقة من ذلك إلا أن المقطوع به في جملته
أن الأعراف مكان بين الجنة والنار يقف فيه من سميناه من حجج الله تعالى على خلقه،
ويكون به يوم القيامة قوم من المرجين لأمر الله، وما بعد ذلك فالله أعلم بالحال
فيه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 119:
[حد التكفير]
فصل: وليس يجوز أن يعرف الله تعالى من هو كافر به، ولا يجهله من هو به مؤمن،
وكل كافر على أصولنا فهو جاهل بالله، ومن خالف أصول الإيمان من المصلين إلى قبلة
الإسلام فهو عندنا جاهل بالله سبحانه وإن أظهر القول بتوحيده تعالى، كما أن الكافر
برسول الله صلى الله عليه وآلهجاهل بالله وإن كان فيهم من يعترف بتوحيد الله تعالى
ويتظاهر بما يوهم المستضعفين أنه معرفة بالله تعالى.
وقد قال الله تعالى: {فَمَن يُؤْمِن
بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا} فأخرج بذلك المؤمن عن أحكام
الكافرين، وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية، فنفى عمن كفر بنبي
الله صلى الله عليه وآله الإيمان، ولم يثبت له مع الشك فيه المعرفة بالله على حال.
وقال سبحانه وتعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
الآخِرِ
-إلى قوله-
وَهُمْ صَاغِرُونَ} فنفى الإيمان عن اليهود
والنصارى، وحكم عليهم بالكفر والضلال.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 120:
فصل: في كيفية نزول الوحي
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله [في نزول الوحي]: اعتقادنا في ذلك أن بين عيني
إسرافيل... إلخ.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: هذا أخذه أبو جعفر رحمه الله من شواذ الحديث،
وفيه خلاف لما قدمه من أن اللوح ملك من ملائكة الله تعالى. وأصل الوحي هو الكلام
الخفي، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إفهام المخاطب على السر له عن غيره والتخصيص
له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان [فيما يخص] به الرسل صلى الله
عليهم خاصة دون من سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله.
قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى
أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية، فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا
مناما أو كلاما سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، قال الله تعالى: {وَأَوْحَى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية، يريد به الإلهام الخفي، إذ كان [خاصا بمن]
أفرده به دون من سواه، فكان علمه حاصلا للنحل بغير كلام جهز به المتكلم فأسمعه
غيره.
وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
أَوْلِيَآئِهِمْ} بمعنى ليوسوسون إلى أوليائهم بما يلقونه من الكلام في أقصى أسماعهم،
فيخصون بعلمهم دون من سواهم، وقال سبحانه: {فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} يريد به أشار إليهم من غير
إفصاح الكلام، شبه ذلك بالوحي لخفائه عمن سوى المخاطبين، ولستره عمن سواهم.
وقد يري الله سبحانه وتعالى في المنام خلقا كثيرا ما يصح تأويله [ويثبت حقه]
لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي، ولا يقال في هذا الوقت لمن طبعه
الله على علم شيء أنه يوحى إليه.
وعندنا أن الله تعالى يسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله كلاما يلقيه
إليهم في علم ما يكون، لكنه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين
على أنه لا وحي [إلى أحد] بعد نبينا صلى الله عليه وآله، وأنه لا يقال في شيء مما
ذكرناه أنه وحي إلى أحد.
ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحيانا ويحظره أحيانا، ويمنع السمات بشيء
حينا ويطلقها حينا. فأما المعاني، فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدمناه.
فصل: قال الشيخ المفيد رحمه الله: فأما الوحي من الله تعالى إلى نبيه صلى
الله عليه وآله فقد كان تارة بإسماعه الكلام من غير واسطة، وتارة بإسماعه الكلام
على ألسن الملائكة.
والذي ذكره أبو جعفر رحمه الله من اللوح والقلم وما ثبت فيه فقد جاء به
حديث، إلا أنا لا نعزم على القول به، ولا نقطع على الله بصحته، ولا نشهد منه إلا
بما علمناه، وليس الخبر به متواترا يقطع العذر ولا عليه إجماع، ولا نطق به القرآن،
ولا ثبت عن حجة الله تعالى فينقاد له والوجه أن نقف فيه ونجوزه ولا نقطع به ولا
نجزم له ونجعله في حيز الممكن.
فأما قطع أبي جعفر به وعلمه على اعتقاده فهو يستند إلى ضرب من التقليد،
ولسنا من التقليد في شيء.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 140، 142:
في تفسير آية: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا} الآية
قال أبو جعفر رحمه الله: إن الله تعالى جعل أجر نبيه صلى الله عليه وآله على
أداء الرسالة وإرشاد البرية مودة أهل بيته عليهم السلام واستشهد على هذا بقوله
تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
قال الشيخ رحمه الله: لا يصح القول بأن الله تعالى جعل أجر نبيه مودة أهل
بيته عليهم السلام ولا أنه جعل ذلك من أجره عليه السلام لأن أجر النبي صلى الله
عليه وآله في التقرب إلى الله تعالى هو الثواب الدائم، وهو مستحق على الله تعالى في
عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الأعمال يتعلق بالعباد، لأن العمل يجب أن يكون
لله تعالى خالصا، وما كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره.
هذا مع أن الله تعالى يقول: {وَيَا قَوْمِ
لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} وفي موضع آخر: {يَا
قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي
فَطَرَنِي} فلو كان الأجر على ما ظنه أبو جعفر في معنى الآية لتناقض القرآن، وذلك أنه
كان تقدير الآية: قل لا أسألكم عليه أجرا، بل أسألكم عليه أجرا، ويكون أيضا: إن
أجري إلا على الله، بل أجري على الله وعلى غيره. وهذا محال لا يصح حمل القرآن عليه.
فإن قال قائل: فما معنى قوله: {قُل لاَّ
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أو ليس هذا يفيد أنه قد
سألهم مودة القربى لأجره على الأداء؟ قيل له: ليس الأمر على ما ظننت لما قدمناه من
حجة العقل والقرآن والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة، لكنه استثناء منقطع،
ومعناه: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، لكن ألزمكم المودة في
القربى وأسألكموها، فيكون قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا}، كلاما تاما قد استوفى معناه، ويكون قوله: إلا
المودة في القربى، كلاما مبتدأ، فائدته: لكن المودة في القربى سألتكموها، وهذا
كقوله: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ} والمعنى فيه: لكن إبليس، وليس باستثناء من جملة،
وكقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ
الْعَالَمِينَ} معناه: لكن رب العالمين ليس بعدو لي، قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وكان المعنى في قوله: وبلدة ليس بها أنيس، على تمام الكلام واستيفاء معناه،
وقوله: إلا اليعافير، كلام مبتدأ معناه: لكن اليعافير والعيس فيها، وهذا بين لا
يخفى الكلام فيه على أحد ممن عرف طرفا من اللسان، والأمر فيه عند أهل اللغة أشهر من
أن يحتاج معه إلى استشهاد.
-
رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 4
ص 13، 16:
(فصل) ثم يقال لهذا الخصم: أليس النبي صلى
الله عليه وآله قد أقام بمكة ثلاثة عشر سنة يدعو الناس إلى الله تعالى ولا يرى سل
السيف ولا الجهاد، ويصبر على التكذيب له والشتم والضرب وصنوف الأذى، حتى انتهى أمره
إلى أن القوا على ظهره صلى الله عليه وآله وهو راكع السلى، وكانوا يرضخون قدميه
بالأحجار، ويلقاه السفيه من أهل مكة فيشتمه في وجهه ويحثو فيه التراب، ويضيق عليه
أحيانا، ويبلغ أعداؤه في الأذى بضروب النكال، وعذبوا أصحابه أنواع العذاب، وفتنوا
كثيرا منهم حتى رجعوا عن الإسلام، وكان المسلمون يسألونه الأذن لهم في سل السيف
ومباينة الأعداء فيمنعهم عن ذلك، ويكفهم، ويأمرهم بالصبر على الأذى.
وروي: أن عمر بن الخطاب لما أظهر الإسلام
سل سيفه بمكة وقال: لا يعبد الله سرا، فزجره رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك.
وقال له عبد الرحمن بن عوف الزهري: لو تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله لأخذ كل
رجل بيده رجلين إلى جنب رجل منهم فقتله. فنهاه النبي صلى الله عليه وآله عما قال.
ولم يزل ذلك حاله إلى أن طلب من النجاشي
-وهو ملك الحبشة- أن يخفر أصحابه من قريش ثم أخرجهم إليه واستتر عليه وآله السلام
خائفا على دمه في الشعب ثلاث سنين، ثم هرب من مكة بعد موت عمه أبي طالب مستخفيا
بهربه، وأقام في الغار ثلاثة أيام ثم هاجر عليه وآله والسلام إلى المدينة ورأى
النهي منه للقيام واستنفر أصحابه وهم يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر، ولقي بهم ألف رجل
من أهل بدر، ورفع التقية عن نفسه إذ ذاك.
ثم حضر المدينة متوجها إلى العمرة، فبايع
تحت الشجرة بيعة الرضوان على الموت، ثم بدا له عليه وآله السلام فصالح قريشا ورجع
عن العمرة ونحر هديه في مكانه، وبدا له من القتال، وكتب بينه وبين قريش كتابا سألوه
فيه محو (بسم الله الرحمن الرحيم) فأجابهم إلى ذلك، و دعوا إلى محو اسمه من النبوة
في الكتاب لاطلاعهم إلى ذلك، فاقترحوا عليه أن يرد رجلا مسلما إليهم حتى يرجع إلى
الكفر أو يتركوه فأجابهم إلى ذلك هذا وقد ظهر عليهم في الحرب.
فإذا قال الخصم: بلى ولابد من ذلك إن كان
من أهل العلم والمعرفة بالأخبار.
قيل له: فلم لم يقاتل بمكة وما باله صبر
على الأذى، ولم منع أصحابه عن الجهاد وقد بذلوا أنفسهم في نصرة الإسلام، وما الذي
اضطره إلى الاستجارة بالنجاشي وإخراج أصحابه من مكة إلى بلاد الحبشة خوفا على
دمائهم من الأعداء، وما الذي دعاه إلى القتال حين خذله أصحابه وتثاقلوا عليه فقاتل
بهم مع قلة عددهم، وكيف لم يقاتل بالحديبية مع كثرة أنصاره وبيعتهم له على الموت،
وما وجه اختلاف أفعاله في هذه الأحوال؟ فما كان في ذلك جوابكم فهو جوابنا في ظهور
السلف من أباء صاحب الزمان واستتاره وغيبته فلا تجدون من ذلك مهربا. والحمد لله
المستعان، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.
-
أخبار الآحاد لا تثمر علما ولا توجب عملا ومن عمل على شيء منها فعلى الظن يعتمد في
عمله
- عدم سهو النبي صلى الله عليه وآله -
الشيخ المفيد ص 20، 21:
الحديث الذي روته الناصبة، والمقلدة من
الشيعة أن النبي’ سها في صلاته، فسلم في ركعتين ناسيا، فلما نبه على غلطه فيما صنع،
أضاف إليها ركعتين، ثم سجد سجدتي السهو، من أخبار الآحاد التي لا تثمر علما، ولا
توجب عملا، ومن عمل على شيء منها فعلى الظن يعتمد في عمله بها دون اليقين، وقد نهى
الله تعالى عن العمل على الظن في الدين، وحذر من القول فيه بغير علم ويقين.
- عدم سهو النبي صلى الله عليه وآله -
الشيخ المفيد ص 22:
وإذا كان الخبر بأن النبي’ سها من أخبار
الآحاد التي من عمل عليها كان بالظن عاملا، حرم الاعتقاد بصحته، ولم يجز القطع به،
ووجب العدول عنه إلى ما يقتضيه اليقين من كماله’ وعصمته، وحراسة الله تعالى له من
الخطأ في عمله، والتوفيق له فيما قال وعمل به من شريعته، وفي هذا القدر كفاية في
إبطال مذهب من حكم على النبي’ بالسهو في صلاته، وبيان غلطه فيما تعلق به من الشبهات
في ضلالته.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 209، 210:
مسألة أخرى: فإن قالوا: إن لأبي بكر من
الإنفاق على رسول الله صلى الله عليه وآله والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي
طالب عليه السلام، ولا لغيره من الصحابة، حتى جاء الخبر عنه صلى الله عليه وآله،
أنه قال: "ما نفعنا مال كمال أبي بكر". وقال عليه السلام في موطن آخر: "ما أحد من
الناس أعظم نفعا علينا حقا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة".
جواب: قيل لهم: قد تقدم لنا من القول فيما
يدعى من إنفاق أبي بكر ما يدل المتأمل له على بطلان مقال أهل الخلاف، وإن كنا لم
نبسط الكلام في معناه بعد، فإن أصل الحديث في ذلك عائشة، وهي التي ذكرته عن رسول
الله صلى الله عليه وآله، وأضافته بغير حجة، وقد عرفت ما كان من خطأها في عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله، وارتكابها معصية الله تعالى في خلافه حتى نزل فيها وفي
صاحبتها حفصة بنت عمر بن الخطاب: {إِن تَتُوبَا
إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. ثم الذي كان منها
في أمر عثمان بن عفان حتى صارت أوكد الأسباب في خلعه، وقتله، فلما كان من أمره ما
كان، وبايع الناس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حسدته على ذلك، وكرهت
أمره، ورجعت عن ذم عثمان بن عفان إلى مدحه، وقذفت أمير المؤمنين عليه السلام بدمه،
وخرجت من بيتها إلى البصرة إقداما على خلاف الله تعالى فيما أمرها به في كتابه،
فألبت عليه ودعت إلى حربه، واجتهدت في سفك دمه واستئصال ذريته وشيعته، وأثارت من
الفتنة ما بقي في الأمة ضررها في الدين إلى هذه الغاية. ومن كانت هذه حالها لم يوثق
بها في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا آمنت على الأدغال في دين الله
تعالى، لا سيما فيما تجربه نفعا إليها وشهادة بفضل متى صح لكان لها فيه الحظ
الأوفر، وهذا ما لا يخفى على ذوي حجا...
فصل: على أنه لو كان لأبي بكر إنفاق على
ما تدعيه الجهال، لوجب أن يكون له وجه معروف، وكان يكون ذلك لوجه ظاهر مشهور، كما
اشتهرت صدقة أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه، وهو في الركوع حتى علم به الخاص،
والعام، وشاعت نفقته بالليل والنهار والسر والإعلان، ونزول بها محكم القرآن، ولم
تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه، حتى أجمعت عليها أمة الإسلام، وجاء بها صريح
القول في البيان، واستفاض إطعام المسكين واليتيم والأسير، وورد الخبر به مفصلا
في{هل أتى على الإنسان}.
فكان أقل ما يجب في ذلك أن يكون كشهرة
نفقة عثمان بن عفان في جيش العسرة، حتى لم يختلف في ذلك من أهل العمل اثنان، ولما
خالف الخبر في إنفاق أبي بكر ما ذكرناه، وكان مقصورا على ابنته خاصة، ويكفي في ما
شرحناه، ومضافا إلى من في طريقه من أمثال الشعبي وأشباهه المعروفين بالعصبية لأبي
بكر وعمر وعثمان، والتقرب إلى بني أمية بالكذب والتخرص والبهتان، مما يدل على فساده
بلا ارتياب.
فصل: مع أن الله تعالى قد أخبر في ذلك
بأنه المتولي عناء نبيه صلى الله عليه وآله عن سائر الناس، ورفع الحاجة عنه في
الدين والدنيا إلى أحد من العباد، فقال تعالى {أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً
فَأَغْنَى}. فلو جاز أن يحتاج مع ذلك إلى نوال أحد
من الناس لجاز أن يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى، ولما ثبت أنه غني في الهدى
بالله وحده، ثبت أنه غني في الدنيا بالله تعالى دون الخلق كما بيناه.
فصل: على أنه لو كان فيما عدده الله تعالى
من أشياء يتعدى الفضل إلى أحد من الناس، فالواجب أن تكون مختصة بآبائه عليهم
السلام، وبعمه أبي طالب رحمه الله، وولده عليه السلام، وبزوجته خديجة بنت خويلد رضي
الله عنها، ولم يكن لأبي بكر في ذلك حظ ولا نصيب على كل حال.
وذلك أن الله تعالى آوى يتمه بجده عبد
المطلب، ثم بأبي طالب من بعده، فرباه وكفله صغيرا، ونصره وواساه ووقاه من أعدائه
بنفسه وولده كبيرا، وأغناه بما رزقه الله من أموال آبائه رحمهم الله تعالى وتركاتهم
وهم ملوك العرب، وأهل الثروة منهم واليسار بلا اختلاف، ثم ما أفاده من بعده في
خروجه إلى الشام من الأموال، وما كان انتقل إليه من زوجته خديجة بنت خويلد.
وقد علم جميع أهل العلم ما كانت عليه من
سعة الأحوال، وكان لها من جليل الأموال، وليس لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير
وسعد وسعيد وعبد الرحمن وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من سائر الناس سوى من سميناه
سبب لشيء من ذلك، يتعدى به فضلهم إليه على ما بيناه، بل كانوا فقراء فأغناهم الله
بنبيه صلى الله عليه وآله، وكانوا ضلالا فدعاهم إلى الهدى، ودلهم على الرشاد،
وكانوا أذلة فتوصلوا بإظهار اتباع نبوته إلى الملك والسلطان.
وهب أن في هؤلاء المذكورين من كان له قبل
الإسلام من المال ما ينسب به إلى اليسار، وفيهم من له شرف بقبيلة يبين به ممن عداه،
هل لأحد من سامعي الأخبار وأهل العلم بالآثار ريب في فقر أبي بكر وسوء حاله في
الجاهلية والإسلام، ورذالة قبيلته من قريش كلها، وظهور المسكنة في جمهورهم على
الاتفاق؟.
ولو كان له من السعة ما يتمكن به من صلة
رسول الله صلى الله عليه وآله والإنفاق عليه ونفعه بالمال، كما ادعاه الجاهلون،
لأغنى أباه ببعضه عن النداء على مائدة عبد الله بن جدعان بأجرة على ذلك بما يقيم به
رمقه، ويستر به عورته بين الناس، ولارتفع هو عن الخياطة وبيع الخلقان بباب بيت الله
الحرام إلى مخالطة وجوه التجار، ولكان غنيا به في الجاهلية عن تعليم الصبيان
ومقاساة الأطفال في ضرورته إلى ذلك لعدم ما يغنيه عنه ما وصفناه.
وهذا دليل على ضلال الناصبة فيما ادعوه له
من الإنفاق للمال، وبرهان يوضح عن كذبهم فيما أضافوه إلى النبي صلى الله عليه وآله
من مدحه على الإنفاق.
فصل آخر: مع أنه لو ثبت لأبي بكر نفقة مال
على ما ظنه الجهال لكان خلو القرآن من مديح له على الإجماع وتواتر الأخبار، مع
نزوله بالمدح على اليسير من ذوي الإنفاق، دليلا على أنه لم يكن لوجه الله تعالى،
وأنه يعتمد بالسمعة والرياء، وكان فيه ضرب من النفاق.
وإذا ثبت أن الله تعالى عدل كريم لا ينوه
بذكر اليسير من طاعاته، ويخفي الكثير، ولا يمدح الصغير، ويهمل الكبير، ففي خلو
القرآن من ذكر إنفاق أبي بكر أو مدحه له بذكر الإنفاق على الشرط الذي وصفناه أوضح
برهان على ما قدمناه.
ثم يقال لهم: قد علمت الكافة أن نفقات
الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إنما كانت في السلاح والكراع ومعونة
الجهاد وصلات فقراء المسلمين، وتزويد المرملين، ومعونة المساكين، ومواساة
المهاجرين، وأن النبي صلى الله عليه وآله لم يسترفد أحدا منهم ولا استوصله، ولا جعل
عليه قسما من مؤنته، ولا التمس منهم شيئا أهله وعشيرته، وقد حرم الله تعالى عليه
وعلى أهل بيته أكل الصدقات، وأسقط عن كافتهم الأجر له على تبليغهم عن الله تعالى
الرسالات، ونصب الحجج لهم وإقامة البينات، في دعائهم إلى الأعمال الصالحات،
واستنقاذهم بلطفه من المهلكات، وإخراجهم بنور الحق عن الظلمات.
وكان صلى الله عليه وآله من أزهد الناس في
الدنيا وزينتها، ولم يزل مخرجا لما في يديه من مواريث آبائه، وما أفاء الله تعالى
من الغنائم والأنفال، وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه، وذوي الخلة من
أتباعه حتى استدان من المال ما قضاه أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاته، وكان هو
المنجز لعداته فأي وجه مع ما وصفناه من حاله صلى الله عليه وآله لإنفاق أبي بكر على
ما ادعوه، لولا أن الناصبة لا تأنف من الجهل ولا تستحيي من العناد؟!.
فصل: مع أنا لا نجدهم يحيلون على وجه فيما
يذكرونه من إنفاق أبي بكر، إلا على ما ادعوه من ابتياعه بلال بن حمامة من مواليه،
وكانوا عزموا بعد الإيمان ليردوه عنه إلى الكفر والطغيان.
وهذا أيضا من دعاويهم الباطلة المتعرية من
الحجج والبرهان، وهو راجع في أصله إلى عائشة، وقد تقدم من القول فيما ترويه وتضيفه
إلى النبي صلى الله عليه وآله، ما يغني عن الزيادة فيه والتكرار.
ولو ثبت على غاية أمانيهم في الضلال لما
كان مصححا لروايتهم مدح أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله، وإخباره بانتفاعه
بنفقته عليه ومواساته بالمال، لأن بلالا لم يكن ولدا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا
أخا ولا والدا، ولا قريبا ولا نسيبا، فيكون خلاصه من العذاب بمال أبي بكر نافعا
للنبي صلى الله عليه وآله، ولا مختصا به دون سائر أهل الإسلام.
ولو تعدى ما خص بلالا من الانتفاع بمال
أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله، لموضع إيمانه برسالته، وإقراره بنبوته
ولكونه في جملة أصحابه، لتعدى ذلك إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع ملائكة الله
تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين، لأن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله يتضمن
الإيمان بجميع النبيين والملائكة والمؤمنين والصديقين والشهداء والصالحي، وقد انكشف
عن جهالات الناصبة وتجرئهم في بدعهم، وضعف بصائرهم، وسخافة عقولهم، ومن الله نسأل
التوفيق.
فصل: على أن الثابت من الحديث في مدح
النبي صلى الله عليه وآله خديجة بنت خويلد رضي الله عنها دون أبي بكر، والظاهر
المشهور من انتفاع النبي صلى الله عليه وآله بمالها، يوضح عن صحته واختصاصها به دون
من ادعى له بالبهتان، وقد اشترك في نقل الحديث الفريقان من الشيعة والحشوية، وجاء
مستفيضا عن عائشة بنت أبي بكر على البيان. فروى عبد الله بن المبارك، عن مجالد، عن
الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا ذكر خديجة
أحسن الثناء عليها، فقلت له يوما: ما تذكر منها وقد أبدلك الله خيرا منها؟! فقال:
"ما أبدلني الله خيرا منها، صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس،
ورزقني الله الولد منها ولم يرزقني من غيرها" وهذا يدل على بطلان حديثها في مدح أبي
بكر بالمواساة، ويوجب تخصيصها بذلك دونه، ويوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة أيضا من
سبق أبي بكر جماعة الأمة إلى الإسلام، إذ فيه شهادة من الرسول صلى الله عليه وآله
بتقدم إيمان خديجة رحمها الله على سائر الناس.
- حديث نحن معاشر الأنبياء - الشيخ المفيد
ص 19:
بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ المفيد
رضي الله عنه: إذا سلم للخصوم ما ادعوه على النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (نحن
معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، كان محمولا على
على ان الذي تركه الانبياء عليهم السلام
صدقة، فإنه لا يورث، ولم يكن محمولا على ان ما خلفوه من أملاكهم فهو صدقة لغير هم
لا يورث.
والحجة على ذلك أن التأويل الأول موافق
لعموم القرآن وتأويل الناصبة مانع من العموم، وما يوافق ظاهر القرآن أولى بالحق مما
خالفه. فإن قالوا: هذا لا يصح، وذلك لان كل شيء تركه الخلق بأجمعهم صدقة وكان من
صدقاتهم لم يورث ولم يصح ميراثه فلا يكون حينئذ لتخصيص الأنبياء عليهم السلام بذكره
فائدة معقولة. قيل لهم: ليس الأمر كما ذكرتم، وذلك أن الشيء قد يعم بتخصيص البعض
للتحقيق به أنهم أولى الناس بالعمل بمعناه وألزم الخلق له، وإن كان دينا لمن سواهم
من المكلفين، قال الله عزوجل:
{إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}
وان كان منذرا لجميع العقلاء. وقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ} وان كان قد يعمرها
الكفار ومن هو بخلاف هذه الصفة. وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ} وان كان في الكفار من إذا ذكر الله وجل
قلبه وخاف، وفي المؤمنين من يسمع ذكر الله وهو مسرور بنعم الله أو مشغول بضرب من
المباح، فلا يلحقه في الحال وجل ولا يعتريه خوف. وهذا محسوس معروف بالعادات وهو
كقول القائل: نحن معاشر المسلمين لا نقر على منكر، وإن كان أهل الملل من غيرهم لا
يقرون على ما يرونه من المنكرات، وفي المسلمين من يقر على منكر يعتقد صوابه
بالشبهات. وكقول فقيه من الفقهاء: نحن معاشر الفقهاء لا نرى قبول شهادة الفاسقين،
وقد ترى ذلك جماعة ممن ليس من الفقهاء. وكقول القائل: نحن معاشر القراء لا نستجيز
خيانة الظالمين، وقد يدخل معهم من يحرم ذلك من غير القراء من العدول والفاسقين،
وأمثال هذا في القول المعتاد كثير. وإنما المعنى في التخصيص به التحقيق بمعناه،
والتقدم فيه، وأنهم قدوة لمن سواهم، وأئمتهم في العمل نحو ما ذكرناه. ووجه آخر وهو
أنه يحتمل أن يكون قوله عليه وآله السلام -إن صح عنه- انه قال: (نحن معاشر الأنبياء
لا نورث ما تركناه. صدقة لا يورث) أي لا يستحقه أحد من أولادنا وأقربائنا وإن صاروا
إلى حال الفقراء التي من صار إليها من غيرهم حلت لهم صدقات أهليهم، لان الله تعالى
حرم الصدقة على أولاد الأنبياء وأقاربهم تعظيما لهم ورفعا لأقدارهم عن الإدناس،
وليس ذلك في من سواهم من الناس لان غير الأنبياء عليهم السلام إذا تركوا صدقات
ووقوفا ووصايا للفقراء من سائر الناس فصار أولادهم وأقاربهم من بعدهم إلى حال الفقر
كان لهم فيها حقوق أوكد من حقوق غيرهم من الأباعد. فمنع رسول الله صلى الله عليه
واله وسلم ذريته وأهل بيته من نيل ما تركه من صدقاته وإن افتقروا وخرجوا من حال
الغنى، وكان المعنى في قوله (لا نورث) أي لا يصير من بعدنا إلى ورثتنا على حال،
وهذا معروف في انتقال الأشياء من الأموات إلى الأحياء، والوصف له بأنه ميراث وان لم
يوجد من جهة الإرث. قال الله عز وجل:
{وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ}.
فصل: وقد تعلق بعضهم بلفظ آخر في هذا
الخبر فقال: إن النبي صلى الله عليه وآله قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما
تركناه هو صدقة) وهذا أيضا لا يصح. فالوجه فيه: أن الذي تركناه من حقوقتا وديوننا
فلم نطالب في حياتنا ونستنجزه قبل مماتنا فهو صدقة على من هو في يده من بعد موتنا
وليس يجوز لورثتنا أن يتعرضوا لتمليكه فانا قد عفونا لمن هو في يده عنه بتركنا قبضه
منه في حياتنا، وليس معناه ما تأوله الخصوم.
والدليل على ذلك: أن الذي ذكرناه فيه
موافق لعموم القرآن وظاهره. وما ادعاه المخالف دافع لعموم القرآن ومخالف لظاهره،
وحمل السنة على وفاق العموم أولى من حمله على خلاف ذلك والله ولي التوفيق والحمد
لله رب العالمين وصلواته على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
تكميل:
وبعد تمام هذه الرسالة الثمينة ننقل بعض
كلمات الأعلام حول هذا الحديث تتميما للفائدة وتبيينا للحق. اللهم أرنا الحق حقا
حتى نتبعه وارنا الباطل باطلا حتى نجتنبه.
قال القرطبي في تفسيره: ويحتمل قوله عليه
السلام: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث) أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم وان
كان فيهم من ورث ماله كزكريا على أشهر الأقوال فيه. وهذا كما تقول: إنا معاشر
المسلمين إنما شغلتنا العبادة، والمراد أن ذلك فعل الأكثر، ومنه ما حكى سيبويه: إنا
معاشر العرب أقرى الناس للضيف.
قال الفخر الرازي في تفسير الآية 11 من
سورة النساء: الموضع الرابع من تخصيصات هذه الآية ما هو مذهب أكثر المجتهدين أن
الأنبياء عليهم السلام لا يورثون، والشيعة خالفوا فيه. روي أن فاطمة عليها السلام
لما طلبت الميراث ومنعوها منه، احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام (نحن معاشر
الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) فعند هذا احتجت فاطمة عليها السلام بعموم قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنثَيَيْنِ} وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا
يجوز تخصيص بخبر واحد.
ثم إن الشيعة قالوا: بتقدير أن يجوز تخصيص
عموم القرآن بخبر واحد إلا أنه غير جائز ههنا، وبيانه من ثلاثة أوجه: احدها: انه
على خلاف قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}
وقوله تعالى: {وَوَرِثَ
سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} قالوا ولا يمكن حمل ذلك على وراثة العلم
والذين لان ذلك لا يكون وراثة في الحقيقة، بل يكون كسبا جديدا مبتدأ، إنما التوريث
لا يتحقق إلا في المال على سبيل الحقيقة.
وثانيها: أن المحتاج إلى معرفة هذه
المسألة ما كان إلا فاطمة وعلي والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء وأهل
الذين، وأما أبو بكر فانه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة، لأنه ما كان
ممن يخطر بباله انه يرث من الرسول عليه الصلاة والسلام فكيف يليق بالرسول عليه
الصلاة والسلام أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا جاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له
إلى معرفتها أشد الحاجة؟.
وثالثها: يحتمل أن قوله (ما تركناه صدقة
صلة) (لا نورث) والتقدير: أن الشيء الذي تركناه صدقة، فذلك الشيء لا يورث فان قيل:
فعلى هذا التقدير لا يبقى للرسول خاصية في ذلك. قلنا: بل تبقى الخاصية لا حتمال أن
الأنبياء إذا عزموا على التصدق بشيء فبمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم ولا يرثه وارث
عنهم، وهذا المعنى مفقود في حق غيرهم.
قال العلامة الحلي رحمه الله: إن أبا بكر
منع فاطمة إرثها فقالت: يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي!! واحتج عليها
برواية تفرد هو بها عن جميع المسلمين، مع قلة رواياته وقلة علمه، وكونه الغريم لان
الصدقة تحل عليه. فقال لها: إن النبي قال: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه
صدقة)، والقرآن مخالف لذلك فإن صريحه يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وآله فيه
بقوله تعالى: {يُوصِيكُمْ
اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}. وقد نص على أن
الأنبياء يورثون، فقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}. وقال عن
زكريا: {إِنِّي خِفْتُ
الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}،
وناقض فعله أيضا هذه الرواية، لان أمير المؤمنين والعباس، اختلفا في بغلة رسول الله
صلى الله عليه وآله وسيفه وعمامته وحكم بها ميراثا لأمير المؤمنين، ولو كانت صدقة
لما حلت على علي عليه السلام، وكان يجب على أبي بكر انتزاعها منه، ولكان أهل البيت
الذين حكى الله تعالى عنهم بأنه طهرهم تطهيرا مرتكبين ما لا يجوز، نعوذ بالله من
هذه المقالات الردية والاعتقادات الفاسدة. وأخذ فدكا من فاطمة وقد وهبها إياها رسول
الله صلى الله عليه وآله فلم يصدقها، مع أن الله قد طهرها وزكاها واستعان بها النبي
صلى الله عليه وآله في الدعاء على الكفار على ما حكى الله تعالى وأمره بذلك فقال
تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا
وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}
فكيف يأمره الله تعالى بالاستعانة -وهو سيد المرسلين- بابنته وهي كاذبة في دعواها
غاصبة لمال غيرها نعوذ بالله من ذلك فجاءت بأمير المؤمنين عليه السلام فشهد لها فلم
يقبل شهادته، قال: إنه يجر إلى نفسه، وهذا من قلة معرفته بالأحكام، ومع أن الله
تعالى قد نص في آية المباهلة أنه نفس رسول الله صلى الله عليه وآله فكيف يليق بمن
هو بهذه المنزلة واستعان به رسول الله صلى الله عليه وآله بأمر الله في الدعاء يوم
المباهلة أن يشهد بالباطل ويكذب ويغصب المسلمين أموالهم نعوذ بالله من هذه المقالة.
وشهد لها الحسنان عليهما السلام فرد
شهادتهما وقال: هذان ابناك لا أقبل شهادتهما لأنهما يجران نفعا بشهادتهما، وهذا من
قلة معرفته بالأحكام أيضا، مع أن الله قد أمر النبي صلى الله عليه وآله بالاستعانة
بدعائهما يوم المباهلة فقال: {أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ}. وحكم رسول
الله صلى الله عليه وآله بأنهما سيدا شباب أهل الجنة، فكيف يجامع هذا شهادتهما
بالزور والكذب وغصب المسلمين حقهم نعوذ بالله من ذلك. ثم جاءت بأم أيمن فقال: إمرأة
لا يقبل قولها مع أن النبي صلى الله عليه وآله قال: >أم أيمن من أهل الجنة<، فعند
ذلك غضبت عليه وعلى صاحبه وحلفت أن لا تكلمه ولا صاحبه، حتى تلقى أباها وتشكو إليه
فلما حضرتها الوفاة أوصت أن تدفن ليلا ولا يدع أحدا منهم يصلي عليها. وقد رووا
جميعا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك".
قال العلامة الأميني في الغدير: لو كان
رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك (أي حديث نحن معاشر...) لوجب أن يفشيه إلى
آله وذويه الذين يدعون الوراثة منه ليقطع معاذيرهم في ذلك بالتمسك بعمومات الإرث من
آي القرآن الكريم والسنة الشريفة، فلا يكون هناك صخب وحوار تتعقبهما محن، ولا تموت
بضعته الطاهرة وهي واجدة على أصحاب أبيها ويكون ذلك كله مثارا للبغضاء والعداء في
الأجيال المتعاقبة بين أشياع كل من الفريقين، وقد بعث هو صلى الله عليه وآله لكسح
تلكم المعرات وعقد الإخاء بين الأمم والأفراد. ألم يكن صلى الله عليه وآله وسلم على
بصيرة مما يحدث بعده من الفتن الناشئة من عدم إيقاف أهله وذويه على هذا الحكم
المختص به صلى الله عليه وآله وسلم المخصص لشرعة الإرث؟ حاشاه. وعنده علم المنايا
والبلايا والقضايا والفتن والملاحم. وهل ترى أن دعوى الصديق الأكبر أمير المؤمنين
وحليلته الصديقة الكبرى صلوات الله عليهما وآلهما على أبي بكر ما استولت عليه يده
مما تركه النبي صلى الله عليه وآله من ماله كانت بعد علم وتصديق منهما بتلك السنة
المزعومة صفحا منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا؟ أو كانت عن جهل منهما بما جاء به
أبو بكر؟ نحن نقدس ساحتهما [أخذا بالكتاب والسنة] عن علم بسنة ثابتة والصفح عنها،
وعن جهل يربكهما في الميزان.
ولماذا يصدق أبو بكر في دعواه الشاذة عن
الكتاب والسنة، فيما لا يعلم إلا من قبل ورثته صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه الذي
هتف صلى الله عليه وآله وسلم به وبوصايته من بدء دعوته في الأندية والمجتمعات؟!.
ولم تكن أذن واعية لدعوى الصديقة وزوجها؟
قال ابن أبي الحديد في شرحه على النهج:
وسألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟.
قال: نعم. قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة؟. فتبسم ثم قال
كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته. قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد
دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يكن يمكنه
الاعتذار والموافقة بشيء لأنه قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان
من غير حاجة إلى بينة ولا شهود. وهذا كلام صحيح وان كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل.
قال السيد شرف الدين في كتاب ( النص
والاجتهاد). وإليك كلمة في هذا الموضوع لعيلم المنصورة الأستاذ محمود أبو رية
المصري المعاصر، قال: بقي أمر لابد أن نقول فيه كلمة صريحة: ذلك هو موقف أبي بكر من
فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، وما فعل معها في ميراث
أبيها، لانا إذا سلمنا بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وانه قد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وآله قد قال (انه لا يورث) وانه لا تخصيص في عموم هذا الخبر،
فإن أبا بكر كان يسعه أن يعطي فاطمة رضي الله عنها بعض تركة أبيها صلى الله عليه
وآله كأن يخصها بفدك وهذا من حقه الذي لا يعارضه فيه أحد، إذ يجوز للخليفة أن يخص
من يشاء بما شاء. قال: وقد خص هو نفسه الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة وغيرهما
ببعض متروكات النبي. على أن فدكا هذه التي منعها أبو بكر لم تلبث أن اقطعها الخليفة
عثمان لمروان -هذا كلامه بنصه-.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 158، 162:
فصل: ومن كلام
الشيخ أدام الله عزه في المتعة، قال الشيخ أدام الله عزه: حضرت دار بعض قواد الدولة
وكان بالحضرة شيخ من الاسماعيلية يعرف بابن لؤلؤ فسألني ما الدليل على إباحة
المتعة؟.
فقلت له: الدلالة
على ذلك قول الله جل جلاله: {وَأُحِلَّ
لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ
فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ
الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} فاحل جل اسمه نكاح المتعة بصريح لفظها وبذكر أوصافه من
الآجر عليها والتراضي بعد الفرض من الازدياد في الأجل وزيادة الأجر فيها.
فقال: ما أنكرت
أن تكون هذه الآية منسوخة بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} فحظر الله تعالى النكاح إلا لزوجة أو ملك يمين، وإذا لم
تكن المتعة زوجة ولا كانت ملك يمين فقد سقط قول من أحلها.
فقلت له: قد
أخطأت في هذه المعارضة من وجهين: أحدهما أنك ادعيت أن المستمتع بها ليست بزوجة
ومخالفك يدفعك عن ذلك ويثبتها زوجة في الحقيقة.
والثاني أن سورة
المؤمنين مكية وسورة النساء مدنية والمكي متقدم للمدني فكيف يكون ناسخا له وهو
متأخر عنه، وهذه غفلة شديدة فقال: لو كانت المتعة زوجة لكانت ترث ويقع بها الطلاق،
وفي إجماع الشيعة على أنها غير وارثة ولا مطلقة، دليل على فساد هذا القول.
فقلت له: وهذا
أيضا غلط منك في الديانة، وذلك أن الزوجة لم يجب لها الميراث ويقع بها الطلاق من
حيث كانت زوجة فقط، وإنما حصل لها ذلك بصفة تزيد على الزوجية، والدليل على ذلك أن
الأمة إذا كانت زوجة لم ترث ولم تورث والقاتلة لا ترث، والذمية لا ترث، والأمة
المبيعة تبين بغير طلاق، والملاعنة تبين أيضا بغير طلاق وكذلك المختلعة والمرتدة
والمرتد عنها زوجها والمرضعة قبل الفطام بما يوجب التحريم من لبن الأم أو الزوجة
تبين بغير طلاق، وكل ما عددناه زوجات في الحقيقة فبطل ما توهمت فلم يأت بشيء.
فقال صاحب المجلس
وهو رجل أعجمي لا معرفة له بالفقه وإنما يعرف الظواهر: أنا أسالك في هذا الباب عن
مسالة خبرني هل تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله متعة أو تزوج أمير المؤمنين عليه
السلام؟.
فقلت له: لم يأت
بذلك خبر ولا علمته.
فقال لي: لو كان
في المتعة خير ما تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام.
فقلت له: أيها
القائد ليس كل ما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله كان محرما وذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كافة لم يتزوجوا بالإماء، ولا نكحوا
الكتابيات ولا خالعوا ولا تزوجوا بالزنج ولا نكحوا السند ولا اتجروا إلى الأمصار
ولا جلسوا باعة للتجارة وليس ذلك كله محرما ولا منه شيء محظورا إلا ما اختصت الشيعة
به دون مخالفيها من القول في نكاح الكتابيات.
فقال: دع هذا
وخبرني عن رجل ورد من قم يريد الحج فدخل إلى مدينة السلام فاستمتع فيها بامرأة ثم
انقضى أجلها فتركها وخرج إلى الحج وكانت حاملا منه ولم يعلم بحالها فحج ومضى إلى
بلده وعاد بعد عشرين سنة وقد ولدت بنتا وشبت ثم عاد إلى مدينة السلام فوجد فيها تلك
الابنة فاستمتع بها وهو لا يعلم أليس يكون قد نكح بنته وهذا فظيع جدا.
فقلت له: إن أوجب
هذا الذي ذكره القائد تحريم المتعة وتقبيحها، أوجب تحريم نكاح الميراث وكل نكاح
وتقبيحه، وذلك أنه قد يتفق فيه مثل ما وصفته وجعلته طريقا إلى حظر المتعة، وذلك أنه
لا يمنع أن يخرج رجل من أهل السنة وأصحاب أحمد بن حنبل من خوارزم قاصدا للحج فينزل
بمدينة السلام ويحتاج إلى النكاح، فيستدعي امرأة من جيرانه حنبلية سنية فيسألها أن
تلتمس له امرأة ينكحها، فتدله على امرأة شابة ستيرة ثيب لا ولي لها فيرغب فيها
وتجعل المرأة أمرها إلى إمام المحلة وصاحب مسجدها، فيحضر رجلين ممن يصلي معه ويعقد
عليها النكاح للخوارزمي السني الذي لا يرى المتعة ويدخل بالمرأة ويقيم معها إلى وقت
رحيل الحاج إلى مكة، فيستدعي الشيخ الذي عقد عليه النكاح فيطلقها بحضرته ويعطيها
عدتها وما يجب عليه من نفقتها، ثم يخرج فيحج وينصرف من مكة على طريق البصرة إلى
بلده وقد كانت المرأة حاملا وهو لا يعلم فيقيم عشرين سنة ثم يعود إلى مدينة السلام
للحج، فينزل في تلك المحلة بعينها ويسأل عن العجوز فيفقدها لموتها فيسأل عن غيرها،
فتاتيه قرابة لها أو نظيرة لها في الدلالة فتذكر له جارية هي بنت المتوفاة بعينها،
فيرغب فيها ويعقد عليها كما عقد على أمها بولي وشاهدين ثم يدخل بها فيكون قد وطئ
بنته فيجب على القائد أن يحرم لهذا الذي ذكرناه كل نكاح.
فاعرض الشيخ
السائل أولا فقال: عندنا أنه يجب على هذا الرجل أن يوصي إلى جيرانه باعتبار حالها،
وهذا يسقط هذه الشناعة.
فقلت له: إن كان
هذا عندكم واجبا فعندنا أوجب منه وأشد لزوما أن يومي المستمتع ثقة من إخوانه في
البلد باعتبار حال المستمتع بها، فإن لم يجد أخا أوصى قوما من أهل البلد وذكر لهم
أنها كانت زوجته ولم يذكر المتعة وهذا شرط عندنا فقد سقط أيضا ما توهمته.
ثم أقبلت على
صاحب المجلس فقلت له: إن أمرنا مع هؤلاء المتفقهة عجيب وذلك أنهم مطبقون على
تبديعنا في نكاح المتعة مع إجماعهم على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد كان أذن
فيها وأنها عملت على عهده، ومع ظاهر كتاب الله عز وجل في تحليلها، وإجماع آل محمد
عليهم السلام على إباحتها، والاتفاق على أن عمر حرمها في أيامه مع إقراره بأنها
كانت حلالا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، فلو كنا على ضلالة فيها لكنا في
ذلك على شبهة تمنع ما يعتقده المخالف فينا من الضلال والبراءة منا.
وليس فيمن
يخالفنا إلا من يقول في النكاح وغيره بضد القران وخلاف الإجماع ونقض شرع الإسلام
والمنكر في الطباع وعند ذوي المروءات، ولا يرجع في ذلك إلى شبهة تسوغه في قوله وهم
معه يتولى بعضهم بعضا ويعظم بعضهم بعضا، وليس ذلك إلا لاختصاص قولنا بآل محمد عليهم
السلام فلعداوتهم لهم رمونا عن قوس واحد.
هذا أبو حنيفة
النعمان بن ثابت يقول: لو أن رجلا عقد على أمه عقدة النكاح وهو يعلم أنها أمه ثم
وطئها لسقط عنه الحد ولحق به الولد. وكذلك قوله في الأخت والبنت، وكذلك سائر
المحرمات، ويزعم أن هذا نكاح شبهة أوجبت سقوط الحد عنه. ويقول: لو أن رجلا استأجر
غسالة أو خياطة أو خبازة أو غير ذلك من أصحاب الصناعات ثم وثب عليها فوطئها وحملت
منه سقط عنه الحد ولحق به الولد. ويقول: إذا لف الرجل على إحليله حريرة ثم أولجه في
قبل امرأة ليست له بمحرم حتى ينزل لم يكن زانيا ولا وجب عليه الحد. ويقول: إن الرجل
إذا يلوط بغلام فأوقب لم يجب عليه الحد ولكن يردع بالكلام الغليظ والأدب والخفقة
بالنعل والخفقتين وما أشبه ذلك. ويقول: إن شرب النبيذ الصلب المسكر حلال طلق، وهو
سنة وتحريمه بدعة.
وقال الشافعي:
إذا فجر الرجل بامرأة فحملت منه فأولدت بنتا فانه يحل للفاجر أن يتزوج بهذه البنت
ويطأها ويولدها، لا حرج عليه في ذلك، فاحل نكاح البنات، وقال: لو أن رجلا اشترى
أخته من الرضاعة ووطئها لما وجب عليه الحد، وكان يجيز سماع الغناء بالقصب وأشباهه.
وقال مالك بن
أنس: إن وطئ النساء في أحشاشهن حلال طلق، وكان يرى سماع الغناء بالدف وأشباهه من
الملاهي، ويزعم أن ذلك سنة في العرسات والولائم.
وقال داود بن علي
الإصفهاني: إن الجمع بين الأختين في ملك اليمين حلال طلق، والجمع بين الأم والبنت
غير محظور.
فاقتسم هؤلاء
الفجور وكل منكر فيما بينهم واستحلوه ولم ينكر بعضهم على بعض، مع أن الكتاب والسنة
والإجماع تشهد بضلالهم في ذلك، ثم عظموا أمر المتعة والقران شاهد بتحليلها والسنة
والإجماع يشهدان بذلك، فيعلم أنهم ليسوا من أهل الدين ولكنهم من أهل العصبية
والعداوة لآل محمد عليهم السلام، فاستعظم صاحب المجلس ذلك وأنكره وأظهر البراءة من
معتقديه وسهل عليه أمر المتعة والقول بها.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 31، 34:
فصل: ومن كلام
الشيخ أدام الله عزه أيضا حضر في دار الشريف أبي عبد الله محمد ابن محمد بن طاهر
رحمه الله، وحضر رجل من المتفقهة يعرف بالورثاني وهو من فقهائها فقال له الورثاني:
أليس من مذهبك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان معصوما من الخطأ، مبرأ من الزلل
مأمونا عليه من السهو والغلط، كاملا بنفسه غنيا عن رعيته؟.
فقال له الشيخ
أيده الله: بلى كذلك كان صلى الله عليه وآله قال له: فما تصنع في قول الله جل جلاله
{وَشَاوِرْهُمْ
فِي
الأَمْرِ
فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى
اللَّهِ}. أليس قد أمره الله بالاستعانة بهم في الرأي وأفقره
إليهم، فكيف يصح لك ما ادعيت مع ظاهر القران وما فعله النبي صلى الله عليه وآله؟.
فقال له الشيخ
أدام الله عزه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يشاور أصحابه لفقر منه إلى
آرائهم ولحاجة دعته إلى مشورتهم من حيث ظننت وتوهمت بل لأمر آخر أنا أذكره لك بعد
الإيضاح عما أخبرتك به، وذلك أنا قد علمنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان
معصوما من الكبائر والصغائر وإن خالفت أنت في عصمته من الصغائر وكان أكمل الخلق
باتفاق أهل الملة وأحسنهم رأيا وأوفرهم عقلا وأكملهم تدبيرا، وكانت المواد بينه
وبين الله سبحانه متصلة والملائكة تتواتر عليه بالتوفيق من الله عز وجل والتهذيب
والأنباء له عن المصالح، وإذا كان بهذه الصفات لم يصح أن يدعوه داع إلى اقتباس
الرأي من رعيته لأنه ليس أحد منهم إلا وهو دونه في سائر ما عددناه، وإنما يستشير
الحكيم غيره على طريق الاستفادة والاستعانة برأيه إذا تيقن أنه أحسن رأيا منه وأجود
تدبيرا وأكمل عقلا أو ظن ذلك، فأما إذا أحاط علما بأنه دونه فيما وصفناه، لم يكن
للاستعانة في تدبيره برأيه معنى لان الكامل لا يفتقر إلى الناقص فيما يحتاج فيه إلى
الكمال، كما لا يفتقر العالم إلى الجاهل فيما يحتاج فيه إلى العلم والآية بينة يدل
متضمنها على ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ
فِي
الأَمْرِ
فَإِذَا
عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ
عَلَى
اللَّهِ} فعلق وقوع الفعل بعزمه دون رأيهم ومشورتهم، ولو كان
إنما أمره بمشورتهم للاستعانة برأيهم لقال له: فإذا أشاروا عليك فاعمل وإذا اجتمع
رأيهم على شيء فأمضه، فكان تعلق فعله بالمشورة دون العزم الذي يختص، به فلقا جاء
الذكر بما تلوناه سقط ما توهمته.
فأما وجه دعائهم
إلى المشورة عليه صلى الله عليه وآله فان الله أمره أن يتألفهم بمشورتهم ويعلمهم
بما يصنعونه عند عزماتهم ليتادبوا بآداب الله عز وجل فاستشارهم لذلك لا للحاجة إلى
آرائهم، على أن هاهنا وجها آخر بينا وهو أن الله سبحانه أعلمه أن في أمته من يبتغي
له الغوائل ويتربص به الدوائر ويسر خلافه ويبطن مقته ويسعى في هدم أمره ويناقضه في
دينه ولم يعرفه بأعيانهم ولا دله عليهم بأسمائهم، فقال عز اسمه: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى
النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ
ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} وقال جل اسمه: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} وقال تبارك اسمه: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ
عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} وقال: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ
وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} وقال عز من قائل: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال جل جلاله: {وَإِذَا
قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} {وَلاَ
يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ
كَارِهُونَ}. ثم قال سبحانه
بعد أن أنبأه عنهم في الجملة: {وَلَوْ نَشَاء
لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
الْقَوْلِ} فدله عليهم
بمقالهم وجعل الطريق إلى معرفتهم ما يظهر من نفاقهم في لحن قولهم، ثم أمره بمشورتهم
ليصل بما يظهر منهم إلى علم باطنهم، فإن الناصح تبدو نصيحته في مشورته، والغاش
المنافق يظهر ذلك في مقاله، فاستشارهم صلى الله عليه وآله لذلك، ولأن الله جل جلاله
جعل مشورتهم الطريق إلى معرفتهم. ألا ترى أنهم لما أشاروا ببدر عليه صلى الله عليه
وآله في الأسرى فصدرت مشورتهم عن نيات مشوبة في نصيحته كشف الله تعالى ذلك له وذمهم
عليه وأبان عن إدغالهم فيه، فقال جل وتعالى: {مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ
عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *
لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} فوجه التوبيخ
إليهم والتعنيف على رأيهم وأبان لرسوله صلى الله عليه وآله عن حالهم فيعلم أن
المشورة لهم لم تكن للفقر إلى آرائهم وإنما كانت لما ذكرناه.
فقال شيخ من
القوم يعرف بالجراحي وكان حاضرا: يا سبحان الله أترى أن أبا بكر وعمر كانا من أهل
النفاق؟ كلا ما نظن أنك أيدك الله تطلق هذا وما رأينا أن النبي صلى الله عليه وآله
استشار ببدر غيرهما، فإن كانا هما من المنافقين فهذا ما لا نصبر عليه ولا نقوى على
استماعه، وإن لم يكونا من جملة أهل النفاق فاعتمد على الوجه الأول، وهو أن النبي
صلى الله عليه وآله أراد أن يتألفهم بالمشورة ويعلمهم كيف يصنعون في أمورهم.
فقال له الشيخ
أدام الله عزه: ليس هذا من الحجاج أيها الشيخ في شيء وإنما هو استكبار واستعظام
معدول به عن الحجة والبرهان ولم نذكر إنسانا بعينه وإنما أتينا بمجمل من القول
ففصله الشيخ وكان غنيا عن تفصيله. فصاح الورثاني وأعلى صوته بالصياح يقول: الصحابة
أجل قدرا من أن يكونوا من أهل النفاق وسيما الصديق والفاروق، وأخذ في كلام نحو هذا
من كلام السوقة والعامة وأهل الشغب والفتن. فقال له الشيخ أدام الله عزه: دع عنك
الضجيج وتخلص مما أوردته عليك من البرهان واحتل لنفسك وللقوم فقد بان الحق وزهق
الباطل بأهون سعي والحمد لله.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 102، 104:
فصل: ومن كلامه
أدام الله عزه أيضا: سئل الشيخ أدام الله حراسته عن معصية داود عليه السلام ما
كانت؟.
فقال: فيها
جوابان: أحدهما أن الله سبحانه لما جعله خليفة في الأرض بقوله: {يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ} أراد سبحانه
وتعالى أن يهذبه ويؤدبه لأمر علمه منه فجعل ذلك بملائكته دون البشر وأهبط عليه
الملكين في صورة بشرين، فقالا له: {خَصْمَانِ
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ} فقال داود عليه
السلام للمدعي حاكما على المدعى عليه من غير أن يسأل المدعى عليه عن صحة دعوى
المدعي {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ
نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}.
وقد كان الحكم
يوجب أن لا يعجل بذلك حتى يسأل المدعى عليه فيقول له: ما تقول في هذه الدعوى؟ فلما
عجل بالحكم قبل الاستثبات كان ذلك منه صغيرة ووجب عليه التوبة منها وتبين ذلك في
الحال ففعل ما وجب عليه مما وصفناه، قال الله عز وجل {وَظَنَّ
دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
والجواب الآخر:
حكاه الناصر فأخبر أن داود عليه السلام ذكرت له امرأة أوريا بن حنان فسأله أن ينزل
له عنها ليتزوج بها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك مباحا في شرعه ، فامتنع عليه أوريا
ورغب بامرأته على جزع لحقه من الامتناع عليه ورهبة حصلت له منه. وكانت الخطيئة من
داود عليه السلام أن طلب ذلك من أوريا بن حنان وهو نبي وملك مطاع وأوريا رعية
وتابع، ولو سأل أوريا ذلك مثله من الرعية لما كان بسؤاله مخطئا لأنه لم يكن يحدث له
عند الامتناع من الجزع والخوف والهلع ما حدث له عند الامتناع من نبيه وملكه ورئيسه
داود عليه السلام، وهذا الجواب غير بعيد، والله نسأل التوفيق.
قال الشيخ أدام
الله عزه: فإن قال قائل: أليس قد نطق القرآن بوقوع المعصية من نبي من أنبياء الله
سبحانه في حال نبوته، وهذا خلاف مذهبك في ارتفاع المعاصي عن الأنبياء كلهم والأئمة
عليه السلام لأنهم على أصلك معصومون من الذنوب والخطأ في الدين.
فالجواب: أن الذي
أذهب إليه في هذا الباب أنه لا يقع من الأنبياء عليهم السلام ذنب بترك واجب مفترض،
ولا يجوز عليهم خطأ في ذلك ولا سهو يوقعهم فيه وإن جاز منهم ترك نفل ومندوب إليه
على غير القصد والتعمد، ومتى وقع ذلك منهم عوجلوا بالتنبيه عليه، فيزولون عنه في
أسرع مدة وأقرب زمان.
فأما نبينا صلى
الله عليه وآله خاصة والأئمة من ذريته عليه السلام فلم يقع منهم صغيرة بعد النبوة
والإمامة من ترك واجب ولا مندوب إليه، لفضلهم على من تقدمهم من الحجج عليهم السلام
وقد نطق القرآن بذلك وقامت الدلائل منه ومن غيره على ذلك للائمة من ذريته عليهم
السلام قال الله تعالى وقد ذكر معصية آدم عليه السلام: {وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فسمى المعصية غواية وذلك حكم كل معصية، إذ كان فاعلها يخيب بفعلها من ثواب
تركها، وكانت الغواية هي الخيبة في وجه من الوجوه، وعلى مفهوم اللغة، قال الشاعر:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن
يغو لا يعدم على الغي لائما
وقال الله سبحانه
في آية الدين عند ذكر الشهود: {وَاسْتَشْهِدُواْ
شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} يريد لئلا تنسى إحداهما فسمى النسيان ضلالا، وذلك معروف في اللغة، فلما
تقرر أن كل معصية غواية وكل نسيان ضلال دل قوله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى *
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} على أنه قد نفى عن نبيه عليه واله السلام المعامي على كل وجه والنسيان من
كل وجه، وهذا بين لمن تأمله.
قال الشيخ أدام
الله عزه: وأقول: إن ترك النفل قد يسمى معصية كما أن فعله قد يسمى طاعة لاسيما إذا
وقع ذلك من نبي أو وصي أو صفي فإنهم لمنزلتهم عند الله سبحانه يؤاخذهم بالقليل من
الفعل ولا يعذرهم فيه ليؤدبهم بذلك ويهذبهم ويزجرهم عن مثله في المستقبل، ولو وقع
من غيرهم، ما كان ليؤاخذهم به ولا يعجل لهم الأدب عليه على ما قدمت ذكره.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 19:
فقال القاضي: ما
أحسن ما قلت ولقد أصبت فيما أوضحت وكشفت، فخبرني الآن إذا كان النبي صلى الله عليه
وآله قد نص على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقد أظهر فرض
طاعته وإذا أظهره استحال أن يكون مخفيا، فما بالنا لا نعلمه إن كان الأمر على ما
ذكرت في حد النص وحقيقته؟
فقال الشيخ أيده
الله: أما الإظهار من النبي صلى الله عليه وآله فقد وقع ولم يك خافيا في حال ظهوره،
وكل من حضره فقد علمه ولم يرتب فيه ولا اشتبه عليه، فأما سؤالك عن علة فقدك العلم
به الآن وفي هذا الزمان، فإن كنت لا تعلمه على ما أخبرت به عن نفسك فذلك لدخول
الشبهة عليك في طريقه لعدولك عن وجه النظر في الدليل ا لمفضي بك إلى حقيقته، ولو
تأملت الحجة فيه بعين الإنصاف لعلمته. ولو كنت حاضرا في وقت إظهار النبي صلى الله
عليه وآله له لما أخللت بعلمه ولكن العلة في ذهابك عن اليقين فيه ما وصفناه.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 124، 128:
فصل: ومن كلام
الشيخ أدام الله عزه أيضا، سئل عن صلاه أبي بكر بالناس هل كانت عن أمر النبي صلى
الله عليه وآله أم عن غير أمره؟ فقال: الذي صح في ذلك وثبت أن عائشة قالت: مروا أبا
بكر أن يصلي بالناس، فكان الأمر بذلك من جهتها في ظاهر الحال، وادعى المخالفون أنها
إنما أمرت بذلك عن النبي صلى الله عليه وآله ولم تثبت لهم هذه الدعوى بحجة يجب
قبولها.
قال الشيخ أدام
الله عزه: والدليل على أن الأمر كان مختصا بعائشة دون النبي صلى الله عليه وآله قول
النبي لها عند إفاقته من غشيته وقد سمع صوت أبي بكر في المحراب: "إنكن لصويحبات
يوسف" ومبادرته معجلا معتمدا على أمير المؤمنين عليه السلام والفضل بن العباس
ورجلاه يخطان الأرض من الضعف حتى نحى أبا بكر عن المحراب، فلو كان عليه السلام هو
الذي أمره بالصلاة لما رجع باللوم على أزواجه في ذلك ولا بادر وهو على الحال التي
وصفناها حتى صرفه عن الصلاة، ولكان قد أقره حتى يقضي فرضه ويتم الصلاة وفي صرفه له
وقوله لعائشة ما ذكرناه، دليل على صحة ما وصفناه.
قال الشيخ أدام
الله عزه: وقد تعلق القوم في تأويل قول النبي صلى الله عليه وآله "إنكن لصويحبات
يوسف" بشيء يدل على جهلهم، فقالوا: إن لهذا القول من النبي صلى الله عليه وآله سببا
معروفا وهو أنه صلى الله عليه وآله قال: قدموا أبا بكر، فقالت عائشة: يا رسول الله
إن أبا بكر رجل أسيف فإن قام مقامك لم يملك العبرة فمر عمر أن يصلي بالناس. فقال
النبي صلى الله عليه وآله لها عند خلافها عليه: "إنكن لصويحبات يوسف".
وقد كان اعترض
علي بهذا الكلام شيخ من مشايخ أهل الحديث واعتمده. فقلت له: أول ما في هذا الباب
أنك قد اعترفت بخلاف عائشة للنبي صلى الله عليه وآله وردها عليه أمره حتى أنكر
عليها ذلك، وفي الاعتراف به شهادة منك عليها بالمعصية لله عز وعلا ولرسوله وهذا
أعظم مما تنكرونه على الشيعة من شهادتهم عليها بالمعصية بعد النبي صلى الله عليه
وآله عند محاربتها لأمير المؤمنين عليه السلام.
والثاني أنه لا
خلاف أن النبي صلى الله عليه وآله كان من أحكم الحكماء وأفصح الفصحاء ولم يكن يشبه
الشيء بخلافه ويمثله بضده وإنما كان يضع المثل في موضعه فلا يخرم مما مثله به في
معناه شيئا، ونحن نعلم أن صويحبات يوسف إنما عصين الله وخالفنه بأن أرادت كل واحدة
منهن من يوسف عليه السلام ما أرادته الأخرى وفتنت به كما فتنت به صاحبتها، وبذلك
نطق القرآن قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا
إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي
فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ
مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ}.
فلو كانت عائشة
دفعت الأمر عن أبيها ولم ترد شرف ذلك المقام له ولم تفتتن بمحبة الرئاسة وعلو
المنزلة، لكان النبي صلى الله عليه وآله في تشبيهها بصويحبات يوسف قد وضع المثل في
غير موضعه وشبه الشيء بضده وخلافه ورسول الله صلى الله عليه وآله يجل عن هذه الصفة
ولا يجوز عليه النقص ويرتفع عن الجهل بحقيقة الأمثلة.
وإذا كان الأمر
على ما وصفناه ثبت أن التمثيل إنما وقع من النبي صلى الله عليه وآله لموضع خلاف
المرأة له وتقدمها بالأمر لأبيها عليه لفتنتها بمحبة الاستطالة والرغبة في حوز
الفضيلة بذلك والرئاسة على ما قدمناه.
قال الشيخ أدام
الله عزه: وقد قالوا أيضا في مبادرة النبي صلى الله عليه وآله بالخروج إلى المسجد
وصرف أبي بكر عن الصلاة إنما كان ذلك لان المسلمين كانوا متعلقي القلوب برسول الله
صلى الله عليه وآله محزونين بتأخره عنهم فخشى عليه السلام أن يتأخر عنهم فيختلفوا
ويرجف عليه منهم المرجفون، ولم يبادر إلى ما ذكرتموه من الإنكار لصلاة أبي بكر
بالناس. فيقال لهم لو كان الأمر على ما وصفتموه لما نحى رسول الله بين أبا بكر عن
المحراب، ولأمكنه الوصول إلى غرضه مع إتمام أبي بكر للصلاة بان كان عليه واله
السلام يخرج إلى القوم عند فراغ أبي بكر من الصلاة فيشاهدونه على حال الاستقلال
ويسرون بلقائه ويبطل ما يتخوفونه من أراجيفهم عليه، ولا يعزل الرجل عن صلاة قد أمره
بإقامتها ليدل بذلك على أنه قد أحدث ما يوجب عزله أو يكشف عن حال مستحقة له كانت
مستورة عن الأنام، لأجلها لم يصح أن يصلي بالناس أو يكون القول على ما قلناه من
الله لم يكن عن أمره عليه السلام تلك الصلاة، أو كان عليه واله السلام لما خرج صلى
خلفه كما فعل على أصولكم مع عبد الرحمان لما أدركه وهو في الصلاة فلم يعزله عن
المقام وصلى عليه السلام خلفه مع المؤتمين به من الناس.
وقد علم العقلاء
بالعادة الجارية أن الذي يقدم إنسانا في مقام يشرف به قدره ويعظم به منزلته لا
يبادر بعد تقديمه بغير فصل إلى صرفه وحط تلك الرتبة التي كان جعلها له إلا لحادث
يحدثه أو اعتراض أمر ظاهر يرفع الشبهة بظهوره من (غير ن خ) تغير حاله الموجبة
لصرفه، وإن الفعل الذي وقع من النبي صلى الله عليه وآله في باب أبي بكر مع القول
الذي اقترن إليه من التوبيخ لزوجته لا يكون من الحكماء إلا للنكير المحض، والدلالة
على استدراك ما كان يفوت من الصلاح بالفعل لو لم يقع فيه ذلك البدار ومن أنكر ما
وصفناه خرج من العرف والعادات.
وقد زعم قوم من
أهل العناد أن النبي صلى الله عليه وآله لم يعزل أبا بكر عن الصلاة بخروجه إلى
المسجد وأنه كان مع ذلك على إمامته في الصلاة، قلنا لهم فكان أبو بكر إماما للنبي
صلى الله عليه وآله وكان الرسول مؤتما به في الحال؟ فقالوا بأجمعهم: لا.
قلنا لهم: أفكان
شريكا للنبي صلى الله عليه وآله في إمامة الصلاة حتى كانا جميعا إمامين للمسلمين في
تلك الصلاة؟ فقالوا أيضا: لا.
قلنا لهم: أفليس
لما خرج النبي صلى الله عليه وآله كان هو إمام المسلمين في تلك الصلاة وصار أبو بكر
بعد أن كان إمامهم فيها مؤتما كأحد الجماعة بالنبي صلى الله عليه وآله؟
قالوا: بلى، قلنا
لهم: من لا يعقل أن هذا صرف له من المقام فليس يعقل شيئا على الوجوه والأسباب، وهذه
الطائفة رحمك الله جهال جدا وأوباش غمار، ولعل معاندا منهم لا يبالي بما قال، يرتكب
القول بأن أبا بكر كان باقيا على إمامته في الصلاة بعد خروج النبي صلى الله عليه
وآله.
فيقال له: هذا
خروج من الإجماع، ومع أنه خروج من الإجماع فما معنى ما جاء به التواتر وحصل عليه
الإطباق من أن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس ثم الاختلاف في ابتدائه من
حيث ابتدأ أبو بكر من القران أو من حيث انتهى من القران، ومع ذلك فإذا كان أبو بكر
هو الإمام للنبي صلى الله عليه وآله في آخر صلاة صلاها عليه السلام فواجب أن يكون
النبي صلى الله عليه وآله معزولا عن إمامة أمته ومصروفا عن النبوة لان الله تعالى
أخره في آخر أيامه عن المقام وختم بذلك عمله في ملة الإسلام، وليس يشبه هذا ما
يدعونه في صلاته خلف عبد الرحمان فإن ذلك وإن كان أيضا ظاهر الفساد فقد صلى رسول
الله صلى الله عليه وآله بعد ذلك بالناس وأخر عبد الرحمان عما كان قدمه فيه ولم يجب
أن تثبت سنته بتقدمه عليه إذ أفعال رسول الله صلى الله عليه وآله ينسخ بعضها بعضا
فلا تثبت السنة منها إلا بما استقر، وآخر أفعاله عليه السلام سنة ثابتة إلى آخر
الزمان.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 141، 149:
فصل: ومن كلام
الشيخ أدام الله عزه: في توبة طلحة والزبير على ما تدعيه المعتزلة من ذلك، قال
الشيخ أدام الله عزه: أما طلحة فقتل بين الصفين وهو مصمم على الحرب، وهذه حال
ظاهرها الإقامة على الفسق، ومن ادعى باطنا غيرها فقد ادعى علم غيب لا يجب قبوله منه
إلا ببرهان ولا برهان على ذلك، مع أن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أمير المؤمنين
عليه السلام أنه مر به وهو قتيل فقال لأصحابه: أجلسوا طلحة فأجلسوه فقال: هل وجدت
ما وعدك ربك حقا فقد وجدت ما وعدني ربي حقا، ثم قال: أضجعوا طلحة وقال في موضع آخر
وقد مر به: لقد كان لك برسول الله صحبة لكن الشيطان دخل منخريك فأوردك النار. وكتب
عليه السلام إلى عماله في الآفاق بالفتح وكان فيه: "إن الله تعالى قتل طلحة والزبير
على بغيهما وشقاقهما ونكثهما وهزم جمعهما ورد عائشة خاسرة" في كلام طويل، ولو كان
الرجل تائبا لما قال هذا القول فيه أمير المؤمنين عليه السلام، مع أنا إن جوزنا
توبة طلحة مع الحال التي وصفناها ووجب علينا الشك في أمره والانتقال عن ظاهر حاله،
وجب أن يشك في كل فاسق وكافر ظهر لنا ضلاله ولم يظهر منه ندمه بل كان على ظاهر
الضلال إلى وقت خروجه من الدنيا، وهذا فاسد. وقد استقصيت القول في هذا الباب في
كتابي المعروف بالمسالة الكافية.
وأما الزبير فقتل
وهو منهزم من غير إظهار ندم ولا إقلاع ولا توبة، ولو كان انصرافه للندم والتوبة
لكان يصير إلى أمير المؤمنين عليه السلام ويكون مصير إلى حيزه ويظهر نصرته ومعونته
كما جرد في حربه وعداوته، ولو جاز أن يقطع على توبته ويجب علينا ولايته مع ما
وصفناه، لوجب على المسلمين أن يقطعوا على توبة كل منهزم عن الرسول صلى الله عليه
وآله وإن لم يصيروا إلى حيزه ولا أظهروا الإقرار بنبوته، وقد تعلق القوم في باب
الزبير بقولين رويا عن أمير المؤمنين عليه السلام أما أحدهما: فإنهم ذكروا أن
الزبير رجع عن الحرب بعد أن ذكره أمير المؤمنين عليه السلام كلام رسول الله صلى
الله عليه وآله فقال له عبد الله ابنه: يا أبت تتركنا في مثل هذا المقام وتنصرف عنا
في مثل هذه الحال. فقال له: يا بني إن عليا ذكرني أمرا أنسانيه الدهر، فقال له عبد
الله: لا ولكنك فررت من سيف ابن أبى طالب، فقالوا: فرجع الزبير عند ذلك كارا على
أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام فقال أمير المؤمنين: أفرجوا للشيخ فانه محرج.
قالوا: فلما شهد
له أمير المؤمنين عليه السلام بذلك وكف أصحابه عن قتله دل على ندمه وتوبته.
والقول الآخر
زعموا أن ابن جرموز لما جاء برأس الزبير وبسيفه إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال
له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار. قالوا: فلو
لم يكن الزبير تائبا لما كان قاتله ضالا من أهل النار ولو لم يكن من أهل الجنة لما
كان قاتله من أهل النار.
قال الشيخ أدام
الله عزه: فيقال لهم: إن كان رجوع الزبير عند إذكار أمير المؤمنين عليه السلام توبة
توجب مدحه فالإنصاف يوجب أن رجوعه عند تحريض ابنه له نقض للتوبة وإصرار يوجب ذمه،
بل رجوعه إلى القتال على الوجه الذي روي أسوأ الحالة لأنه يدل على عناده بارتفاع
الشبهة عنه في فسقه به وضلاله، ولأنه ترك الديانة للحمية والعصبية والأنفة ومحبة
الرياسة، وهذا بخلاف ما ظننتموه.
أما قول أمير
المؤمنين عليه السلام: "أفرجوا للشيخ فانه محرج" فانه متى صح كان على الاستهزاء
والذم لأنه لا يجوز أن يأمر عليه السلام أصحابه بالتمكين لعدوه من حربه ولا يجيز
لهم تسويغه إظهار خلافه، ولأن الحرج لا يدعو إلى الفسق ولا يبعث على خلاف الحق، مع
أن الذي كان من ابن الزبير غير محرج لأهل الإيمان إلى إظهار الضلال ولا ملجئ لأحد
من الخلق إلى ارتكاب المعاصي والطغيان، فعلم أن قول أمير المؤمنين عليه السلام متى
صح عنه صلوات الله عليه وسلامه خرج مخرج قوله سبحانه: {ذُقْ
إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وقوله تعالى: {انظُرْ إِلَى إِلَهِكَ
الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}، وقوله سبحانه: {فَمَا
أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} ونظائر ذلك من آي القران.
وأما ترك أمير
المؤمنين عليه السلام الأمر لأصحابه بقتل الزبير وقتاله فذلك من تفضله ومنه عليه،
وهو كقول رسول الله صلى الله عليه وآله في المن على أهل مكة وأمانهم فليس في العفو
عن الجاني، وترك التعجيل لعقوبته دلالة على الرضا بفعاله، بل هو دليل التفضل والصفح
للتألف والاستصلاح.
وأما تعلقهم بما
رووا عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله لابن جرموز حين جاء برأس الزبير، بشر
قاتل ابن صفية بالنار، وأن ذلك يوجب للزبير الجنة ويدل على أنه من أهل الإيمان فأول
ما في هذا الباب أنه ليس كل من وجب عليه النار بقتل نفس دل على أن النفس من أهل
الجنة لان قتل المعاهد يوجب النار وإن كان المقتول في النار وقتل الغيلة يوجب النار
وإن كان المقتول في النار، وقتل الكافر لشفاء الغيظ دون الديانة أو للرياء والسمعة
أو للقربة إلى المخلوقين أو للعبث أو لجعله علامة لفجور أو لقتل مؤمن كل ذلك يوجب
لفاعله النار وإن كان المقتول في النار، وكذلك قتل الكافر الكافر يوجب النار وإن
كان الكافر من أهل النار.
على أن قصة ابن
جرموز في قتل الزبير والمعنى الذي وجب له به النار معروف عند من سمع الأخبار غير
مختلف فيه بين نقلة السير والآثار، وذلك أن ابن جرموز كان يوم الجمل مع عائشة في
نفر من بني سعد فقتل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام جماعة فلما رأى الدائرة
على أصحاب الجمل لحق بالأحنف بن قيس وهو بالجلحاء على فرسخين من البصرة معتزلا
للقتال، فجاء رجل إلى الأحنف فأسر إليه أن الزبير بوادي السباع متوجها إلى المدينة
مستخفيا من الناس، فقال الأحنف رافعا صوته: ما عسيت أن أصنع بالزبير إن كان بوادي
السباع. وقد جاء فقتل الناس بعضهم ببعض وفتنهم ثم انطلق سالما إلى المدينة.
فعلم القوم انه
إنما رفع صوته ليعلمهم بذلك وأنه يعجبه قتله، فقام ابن جرموز ومعه رجلان من بني عوف
بن سعد أحدهما فضالة بن حابس والآخر جميع بن عمير فركبوا خيولهم فأدركوه وقد توجه
منطلقا ركض فرسه فسبقهم إليه عمرو بن جرموز فحذره (فحدقه ن خ) الزبير وجعل يتحذر
منه فقال له عمرو: لا بأس عليك فإنما أنا منطلق في طريقي ومصاحبك، فآمنه الزبير عند
ذلك واطمان إليه فاغتفله حتى إذا شغل عنه طعنه بالرمح فقتله ثم نزل فاحتز رأسه فأتى
به الأحنف ثم انحدر به إلى أمير المؤمنين عليه السلام متقربا به إليه صلوات الله
عليه يريد الخروج بذلك عما صنع في قتاله وقتل أصحابه، ولم يك قتله له تدينا ولا على
بصيرة من أمره وكان ذلك معلوما لأمير المؤمنين عليه السلام بما أنبأه به الرسول صلى
الله عليه وآله فلأجل ذلك خبر بأنه من أهل النار. مع أنه قد استحق النار بأمانه
وقتله له بعد الأمان ثم باغتياله أيضا. مع أن ابن جرموز خرج على أمير المؤمنين عليه
السلام مع الخوارج وكان لآخذا برايتهم فقتله الله على يد أمير المؤمنين عليه السلام
وأورده بقتله إياه النار فكان الخبر الذي رووه خبرا عن عاقبته لئلا يلتبس أمره بقتل
الزبير فيظن أن ذلك عاصم له عن استحقاق العقاب.
وقد أطبق أهل
النقل على مثل القول الذي روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في ابن حرموز عند مجيئه
برأس الزبير عن النبي عليه السلام في رجل من الأنصار قتل جماعة من المشركين في يوم
احد وأبلى بلاء حسنا فبشره رسول الله صلى الله عليه وآله بالنار فرووا أن رجلا من
الأنصار كان يقال له قزمان قاتل في يوم أحد قتالا شديدا حتى قتل ستة نفر من
المشركين أو سبعة فأثبته الجراح فاحتمل إلى بيته وجاء المسلمون إلى رسول صلى الله
عليه وآله فأخبروه بخبره، وذكروه عنده بحسن معونته وزكوة ومدحوه فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله: إنه من أهل النار فأتى النبي صلى الله عليه وآله بعد ذلك فقيل له: يا رسول
الله إن قزمان قد استشهد فقال صلى الله عليه وآله يفعل الله ما يشاء ثم أتى فقيل:
يا رسول الله إنه قتل نفسه، فقال: اشهدوا أني رسول الله.
وذكروا أنه لما
احتمل وبه الجراح نزل في دور بني ظفر فقال له المسلمون: أبشر فقد أبليت اليوم،
فقال: بم تبشروني فو الله ما قاتلت إلا على أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت، فلما
اشتد به ألم الجراح جاء إلى كنانته فاخذ منها مشقصا فقتل نفسه.
فإذا كان الأمر
على ما شرحناه وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد قطع بالنار على رجل جاهد في
الظاهر لمعونة الإسلام وقتل جماعة من المشركين ثم شهد عليه بالعقاب عند إخبار
المسلمين له ببلائه وعظم نكايته في الكفار وحسن معونته لما علم من عاقبة أمره ومآله
إلى الفعل الذي يستحق به النار مخافة أن يشتبه أمره على أهل الإسلام فيعتقدوا فيه
الإيمان مع قتله نفسه بما سلف له من الجهاد أو يشكوا في استحقاقه العقاب، لم ينكر
أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام بشر ابن جرموز بالنار عند مجيئه برأس الزبير
لعاقبة أمره والعلم منه بضميره الذي يستحق به العقاب وما سبق له من العلم فيه
بحصوله على الخارجية في العقد، وقتاله الذي كان منه يوم النهروان مخافة أن يشتبه
أمره فيما يصير إليه على أحد من أهل الإيمان كما وصفناه وبيناه.
ولا يدل ذلك منه
عليه السلام على استحقاق الزبير الجنان ولا على توبته من الضلال ولا على عدم
استحقاقه النار كما لم يدل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله على استحقاق من قتل
قزمان من الكفار الجنان ولا على توبتهم من الشرك وانتقالهم إلى الإسلام، ولا على
عدم استحقاقهم العقاب، وهذا بين لمن تدبره.
ووجه آخر وهو أن
بعض الشيعة قال إن ابن جرموز إنما استحق النار لخلافه على الإمام العادل عليه
السلام في قتل الزبير بن العوام وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام نادى يوم البصرة
ألا لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولكم ما حوى عسكرهم من الكراع والسلاح،
فخالفه ابن جرموز واتبع الزبير فكان في ذلك مخالفا للإمام وعاصيا له في أفعاله
فاستحق النار لما ارتكبه من ضلاله ولم يجب بذلك أن يكون الزبير من أهل الجنة لأنه
لا تعلق لاستحقاته الثواب باستحقاق هذا المخالف لأمامه العقاب، وهذا وجه لا باس
بالتعلق به بل هو واضح معتمد.
سؤال: قال الشيخ أدام الله عزه: فان قال
قائل ما أنكرتم أن يكون إخبار النبي صلى الله عليه وآله باستحقاق قاتل
الزبير النار يدل على استحقاق الزبير الجنان ويوجب أن
قاتله إنما استحق النار من أجل أن المقتول من أهل الجنة لا لشيء من الأسباب التي
ذكرتموها وإلا فمتى ما كان الأمر على ما ادعيتموه دون ما ذكرناه، بطل معنى قول
النبي صلى الله عليه وآله لأنه قد نبه باستحقاق القاتل النار على استحقاق المقتول
الجنة بذكر المقتول والحكم على قاتله بالنار الجواب.
قيل له: إن لذكر
النبي صلى الله عليه وآله الزبير وقتله عند البشارة لقاتله بالنار وجها غير الذي
ظننته وهو أنه لما كان الزبير رأس الفتنة وأمير أهل الضلالة وقائد أهل النكث
والجهالة كان القتل له يوجب على الظاهر لقاتله أعظم المنازل وأجل المراتب وأكبر
الثواب والمدائح كما يجب لقاتل النبي صلى الله عليه وآله أو الصديق التقي أو إمام
المسلمين البر الوفي عظيم العقاب، وكان المعلوم من حال هذا القاتل ضد ما يقتضيه
الظاهر، أراد رسول الله صلى الله عليه وآله الإبانة عن حاله والكشف عن باطنه وماله
لئلا يلتبس أمره على ما قدمناه فيما سلف وليزيل الشبهة فيما يجب من الاعتقاد فيه
على ظاهر الحال.
وهذا يجري مجرى
من علم الله سبحانه أنه يقتل عبدا مسلما تقيا برا عدلا وفيا على غير التعمد، ومع
حسن الطوية وسلامة النية والإخلاص لله تعالى في الطاعة، فذكر النبي صلى الله عليه
وآله أن هذا القاتل من أهل الجنة فقال: إن فلانا يعني الإمام سيقتل وإن قاتله من
أهل الجنة ليكشف بذلك عن حاله ويمنع الاعتقاد فيه ما يوجبه ظاهر فعله من القتل الذي
تلبس بالتعمد. وإنما بشره بالجنة مع وصفه بقتل رجل من أهل الجنة ليدل على أن قتله
له لم يقع على الوجه الذي به يستحق العقاب وليزيل الشبهة من أمره ويصرف الناس عن
اعتقاد موجب ظاهره. وهذا كقول نبي قال لأمته: ألا ترون أن فلانا الصائم نهاره
القائم ليله المتصدق بماله، إعلموا أنه من أهل النار ليدلهم بذلك على مآله ويكشف
لهم عن باطنه ولتزول الشبهة عنهم في أمره بحسن ظاهره، أو قال في رجل مرتكب لكبائر
الذنوب، اعلموا أن فلانا الشارب للخمور القاتل للنفوس المرتكب للفجور من أهل الجنة،
فذلك سائغ جائز يدل على مال الرجل ويكشف عن عاقبته ويمنع من الاعتقاد لما يجب
بظاهره على أغلب الأمور ومدار هذا الباب هو أن كل من فعل فعلا أوجب ظاهره فيه حكما
لأجل الفعل وكان الباطن عند الله سبحانه وتعالى يخالف الظاهر وأراد الإبانة عن حاله
وإزالة الشبهة في أمره، حكم عليه بخلاف حكم الظاهر وعلقه بذكر الفعل الذي يوجب على
الظاهر ضد ما حكم به لأجل الباطن ليزيل الشبهة بذكر ذلك، ويدل على ما كان ملتبسا
بالفعل بعينه.
ولولا أن النبي
صلى الله عليه وآله ذكر قاتل الزبير وخبر عنه بالنار عند ذكر قتله لوجب أن يعتقد في
قاتله منزلة أجل الصالحين، ومن فقأ عين الفتنة واجتث أصل الضلالة حتى يجب له من
الحكم أن ينزل في أعلى منازل المثابين، من حيث كان الزبير أعظم أهل الفتنة عقابا
لكونه إمام القوم وداعيهم إلى الفتنة، ولما يجب من تعاظم الثواب لقاتل من يتعاظم له
العقاب، ولما يجب لمزيل الفتنة من الثواب الموفي على ما يستحقه مثيرها من العقاب.
ولما علم الله
سبحانه من حال ابن جرموز ما ذكرناه، أعلم نبيه عليه السلام ذلك ليدل أمته عليه
فدلهم بالذكر الذي حكيناه، وهذا واضح لمن تأمله وأحسن النظر فيه والمنة لله جل
وعلا.
- المسائل السروية- الشيخ المفيد ص 41، 42:
فصل: البشارة بالنبي والأئمة عليهم الصلاة
والسلام. ومثل ما بشر به آدم عليه السلام من تأهيله نبيه عليه وآله السلام لما أهله
له، وتأهيل أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام لما أهلهم له ، وفرض عليه
تعظيمهم وإجلالهم، كما بشر به في الكتب الأولى من بعثه لنبينا صلى الله عليه وآله،
فقال في محكم كتابه: {النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا
عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ
وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وقوله تعالى مخبرا عن المسيح عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن
بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. وقوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ
مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} يعني رسول الله
صلى الله عليه وآله. فحصلت البشائر به من الأنبياء أجمعهم قبل إخراجه إلى العالم
بالوجود، وإنما أراد جل اسمه بذلك إجلاله وإعظامه، وأن يأخذ العهد له على الأنبياء
والأمم كلها، فلذلك أظهر لآدم عليه السلام صورة شخصه وأشخاص أهل بيته عليهم السلام،
وأثبت أسماءهم له ليخبره بعاقبتهم ويبين له عن محلهم عنده ومنزلتهم لديه. ولم
يكونوا في تلك الحال أحياء ناطقين ولا أرواحا مكلفين، وإنما كانت أشباحهم دالة
عليهم حسب ما ذكرناه.
- المسائل
السروية- الشيخ المفيد ص 43 :
فصل: البشارة
بالنبي والأئمة في الكتب الأولى. وقد بشر الله عز وجل بالنبي والأئمة عليه السلام
في الكتب الأولى، فقال في بعض كتبه التي أنزلها على أنبيائه عليهم السلام، وأهل
الكتب يقرونه، واليهود والنصارى يعرفونه: أنه ناجى إبراهيم الخليل عليه السلام في
مناجاته: "أني قد عظمتك وباركت عليك وعلى إسماعيل، وجعلت منه اثني عشر عظيما
وكثرتهم جدا جدا، وجعلت منهم شعبا عظيما لأمة عظيمة".
- المسائل
السروية- الشيخ المفيد ص 96، 101:
المسالة الحادية
عشرة: أصحاب الكبائر
ما قوله أدام
الله تعالى رفعته في إخراج الله تعالى من ارتكب الكبائر من النار، أو العفو عنه في
القيامة عند حسابه؟. والشيخ الجليل المفيد أدام الله مدته يحتسب الأجر في إملاء
مسألة كافية في هذا الباب حسب ما ثبت عنده عن الأئمة الهادية عليهم السلام، ويورد
شبه المعتزلة فيه، ويجيب عنها، ويتكلم عليها بعبارته اللطيفة حسب ما يحسم أشاغيب
الخصوم في هذا الباب، فقل متفضلا إن شاء الله.
الجواب: إن الذين
يردون القيامة مستحقين العقاب ودخول النار صنفان: أحدهما: الكافر على اختلاف كفره،
واختلاف أحكامهم في الدنيا. وصنف: أصحاب ذنوب قد ضموها إلى التوحيد ومعرفة الله
تعالى ورسوله وأئمة الهدى عليهم السلام، خرجوا من الدنيا من غير توبة، فاخترمتهم
المنية على الحوية، وكانوا قبل ذلك يسوفون التوبة، ويحدثون أنفسهم بالإقلاع عن
المعصية ففاتهم ذلك لاخترام المنية لهم دونه. فهذا الصنف مرجو لهم العفو من الله
تعالى، والشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أئمة الهدى عليهم السلام،
ومخوف عليهم العقاب. غير أنهم إن عوقبوا فلا بد من انقطاع عقابهم ونقلهم من النار
إلى الجنة ليوفيهم الله تبارك وتعالى جزاء أعمالهم الحسنة الصالحة التي وافوا بها
الآخرة من: المعارف، والتوحيد،
والإقرار بالنبوة والأئمة، والأعمال الصالحات، لأنه لا يجوز في حكم العدل أن يأتي
العبد بطاعة ومعصية فيخلد في النار بالمعصية ولا يعطى الثواب على الطاعة، لان من
منع ما عليه واستوفى ماله كان ظالما معبثا وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وبهذا
قضت العقول، ونزل الكتاب المسطور، وثبتت الأخبار عن أئمة أهل بيت محمد عليهم
السلام، وإجماع شيعتهم المحدثين العلماء منهم المستبصرين. ومن خالف في ذلك من
منتحلي مذهب الإمامية فهو شاذ عن الطائفة، وخارق لإجماع العصابة. والمخالف في ذلك
هم المعتزلة، وفرق من الخوارج والزيدية.
فصل: أدلة بطلان
القول بالحبط
ومما يدل على صحة
ما ذكرناه في هذا الباب ما قدمناه القول في معناه في أن العارف الموحد يستحق
بالعقول على طاعته وقربته ثوابا دائما. وقد ثبت أن معصيته لا تنافي طاعاته، وذنوبه
لا تضاد حسناته واستحقاقه الثواب. وأنه لا تحابط بين المعاصي والطاعات، لاجتماعها
من المكلف في حالة واحدة. وأن استحقاق الثواب لا يضاد استحقاق العقاب، إذ لو ضادة
لتضاد الجمع بين المعاصي والطاعات، إذ بهما يستحق الثواب والعقاب. وإذا ثبت اجتماع
الطاعة والمعصية دل على استحقاق الثواب والعقاب. وهذا يبطل قول المعتزلة في التحابط
المخالف لدليل الاعتبار. وقد قال الله عز وجل: {مَن
جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ
يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. وقال تعالى: {إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ
مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}. وقال تعالى: {فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ}. وقال عز وجل: {ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. وقال سبحانه: {أَنِّي
لاَ
أُضِيعُ
عَمَلَ
عَامِلٍ
مِّنكُم
مِّن
ذَكَرٍ
أَوْ
أُنثَى
بَعْضُكُم
مِّن
بَعْضٍ}. فأخبر تعالى أنه لا يضيع أجر المحسنين، وأنه يوفي
العاملين أجرهم بغير حساب، وأنه لا يظلم مثقال ذرة ، فأبطل بهذه الآيات دعوى
المعتزلة على الله تعالى أنه يحبط الأعمال الصالحات، أو بعضها، ولا يعطي عليها
أجرا. وأبطل قولهم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّـيِّئَاتِ}. هذا مع قوله
سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} فأخبر أنه لا يغفر الشرك مع عدم التوبة منه، وأنه يغفر
ما سواه بغير التوبة، ولولا ذلك لم يكن لتفريقه بين الشرك وما دونه في حكم الغفران
معنى معقول. وقال تبارك وتعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}. وهذا القول لا يجوز أن يكون متوجها إلى المؤمنين الذين
لا تبعة بينهم وبين الله تعالى، ولا متوجها إلى الكافرين الذين قد قطع الله على
خلودهم في النار، فلم يبق إلا أنه توجه إلى مستحق العقاب من أهل المعرفة والتوحيد.
وفيما ذكرنا أدلة
يطول شرحها، والذي اثبتناه هاهنا مقنع لمن تأمله إن شاء الله. وقد أمليت في هذا
المعنى كتابا سميته (الموضح في الوعد والوعيد) إن وصل إلى السيد الشريف الفاضل
الخطير أدام الله تعالى رفعته أغناه عن غيره من الكتب في المعنى إن شاء الله تعالى.