- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 46،
47:
11- القول في الوعيد
واتفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في
النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى
والإقرار بفرائضه من أهل الصلوة، ووافقهم على هذا القول كافة المرجئة سوى محمد بن
شبيب وأصحاب الحديث قاطبة. وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أن الوعيد بالخلود
في النار عام في الكفار وجميع فساق أهل الصلوة.
واتفقت الإمامية على أن من عذب بذنبه من
أهل الإقرار والمعرفة والصلوة لم يخلد في العذاب وأخرج من النار إلى الجنة فينعم
فيها على الدوام، ووافقهم على ذلك من عددناه.
وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعموا أنه
لا يخرج من النار أحد دخلها للعذاب.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 49:
16- القول في أصحاب البدع وما يستحقون
عليه من الأسماء والأحكام
واتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم
كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم،
فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات
منهم على تلك البدعة فهو من أهل النار.
وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك، وزعموا أن
كثيرا من أهل البدع فساق وليسوا بكفار، وأن فيهم من لا يفسق ببدعته ولا يخرج بها عن
الإسلام كالمرجئة من أصحاب ابن شبيب والبترية من الزيدية الموافقة لهم في الأصول
وإن خالفوهم في صفات الإمام.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 57،
58:
26- القول في العدل والخلق
أقول: إن الله عز وجل عدل كريم، خلق الخلق
لعبادته وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وعمهم بهدايته، بدأهم بالنعم وتفضل عليهم
بالإحسان، لم يكلف أحدا إلا دون الطاقة، ولم يأمره إلا بما جعل له عليه الاستطاعة.
لا عبث في صنعه ولا تفاوت في خلقه لا قبيح
في فعله، جل عن مشاركة عباده في الأفعال، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال.
لا يعذب أحدا إلا على ذنب فعله، ولا يلوم
عبدا إلا على قبيح صنعه.
لا يظلم مثقال ذرة فإن تك حسنة يضاعفها
ويؤت من لدنه أجرا عظيما.
وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامية وبه
تواترت الآثار عن آل محمد صلى الله عليه وآله.
وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلا ضرارا
منها وأتباعه، وهو قول كثير من المرجئة وجماعة من الزيدية والمحكمة ونفر من أصحاب
الحديث، وخالف فيه جمهور العامة وبقايا ممن عددناه، وزعموا أن الله تعالى خلق أكثر
خلقه لمعصيته، وخص بعض عباده بعبادته، ولم يعمهم بنعمته وكلف أكثرهم ما لا يطيقون
من طاعته، وخلق أفعال جميع بريته، وعذب العصاة
على ما فعله فيهم من معصيته، وأمر بما لم يرد ونهى عما أراد، وقضى بظلم العباد وأحب
الفساد وكره من أكثر عباده الرشاد، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 60:
29- القول في ابتداء الخلق في الجنة
وأقول: إنه لم يكن جائزا ابتداء الخلق في
الجنة على وجه التنعيم من غير تكليف، لأنه لو كان يكون اقتطاعا لمن علم الله تعالى
منه أنه إن كلفه أطاع على النعيم المستحق على الأعمال الذي هو أعلى وأجل وأسنى من
التفضل بالتنعيم، والله سبحانه أكرم من أن يقتطع أحدا عن نفع حسن أو يقتصر به على
فضل غيره أفضل منه له وأصلح في التدبير، لأن ذلك لا يقع إلا من جاهل يحسن ذلك أو
محتاج إلى منعه أو بخيل، والله تعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا. وهذا مذهب جمهور
الإمامية. وقد جاءت به آثار عن الأئمة عليهم السلام.
والبغداديون من المعتزلة يوافقون فيه،
والبصريون منهم يخالفون الجماعة عليه، ويوافقهم في هذا الخلاف المجبرة والمشبهة.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 61:
31- القول في أن الله لا يعذب إلا على ذنب
أو على فعل قبيح
وأقول: إن الله جل جلاله عدل كريم لا يعذب
أحدا إلا على ذنب اكتسبه أو جرم اجترمه أو قبيح نهاه عنه فارتكبه.
وهذا مذهب سائر أهل التوحيد سوى الجهم بن
صفوان وعبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي. فأما الجهم بن صفوان فإنه كان
يزعم أن الله يعذب من اضطره إلى المعصية ولم يجعل له قدرة عليها ولا على تركها من
الطاعة، وأما عبد السلام الجبائي فإنه كان يزعم أن العبد قد يخلو من فعل الخير
والقبيح معا ويخرج عن الفعل والترك جميعا فيعذبه الله سبحانه على إن لم يفعل الواجب
وإن لم يكن بخروجه منهما فعل شيئا أو فعل به شيء، وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من
أهل التوحيد وهو في القبح كمذهب جهم وفي بعض الوجوه أعظم قبحا منه.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 71:
47 - القول في
تكليف الملائكة
وأقول: إن
الملائكة مكلفون وموعودون ومتوعدون. قال الله تبارك وتعالى: {وَمَن
يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ
نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
وأقول، إنهم
معصومون مما يوجب لهم العقاب بالنار، وعلى هذا القول جمهور الإمامية وسائر المعتزلة
وأكثر المرجئة وجماعة من أصحاب الحديث. وقد أنكر قوم من الإمامية أن تكون الملائكة
مكلفين، وزعموا أنهم إلى الأعمال مضطرون ووافقهم على ذلك جماعة من أصحاب الحديث.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 75،76:
52 - القول في
أحوال المكلفين من رعايا الأئمة عليهم السلام بعد الوفاة
أقول: إنهم أربع
طبقات: طبقة يحييهم الله ويسكنهم مع أوليائهم في الجنان، وطبقة يحيون ويلحقون
بأئمتهم في محل الهوان، وطبقة أقف فيهم وأجوز حياتهم وأجوز كونهم على حال الأموات،
وطبقة لا يحيون بعد الموت حتى النشور والمآب.
فأما الطبقة
المنعمة فهم المستبصرون في المعارف المتمحصون للطاعات، وأما المعذبة فهم المعاندون
للحق المسرفون في اقتراف السيئات، وأما المشكوك في حياتهم وبقائهم مع الأموات فهم
الفاسقون من أهل المعرفة والصلوة الذين اقترفوا الآثام على التحريم لها للشهوة دون
العناد والاستحلال، وسوفوا التوبة منها فاخترموا دون ذلك فهؤلاء جائز من الله عز
وجل اسمه رفع الموت عنهم لتعذيبهم في البرزخ على ما اكتسبوه من الأجرام وتطهيرهم
بذلك منها قبل الحشر ليردوا القيامة على الأمان من نار جهنم ويدخلوا بطاعتهم
الجنان، وجائز تأخير حياتهم إلى يوم الحساب لعقابهم هناك أو العفو عنهم كما يشاء
الله عز وجل وأمرهم في هذين القسمين مطوي عن العباد.
وأما الطبقة
الرابعة فهم المقصرون عن الغاية في المعارف عن غير عناد والمستضعفون من سائر الناس،
وهذا القول على الشرح الذي أثبت هو مذهب نقلة الآثار من الإمامية وطريقه السمع
وصحيح الأخبار وليس لمتكلميهم من قبل فيه مذهب مذكور.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 76، 77:
53 - القول في
نزول الملكين على أصحاب القبور ومساءلتهما عن الاعتقاد
وأقول: إن ذلك
صحيح وعليه إجماع الشيعة وأصحاب الحديث، وتفسير مجمله أن الله تعالى ينزل على من
يريد تنعيمه بعد الموت ملكين اسمهما (مبشر) و (بشير) فيسألان عن ربه جلت عظمته وعن
نبيه ووليه فيجيبهما بالحق الذي فارق الدنيا على اعتقاده والصواب، ويكون الغرض في
مساءلتهما استخراج العلامة بما يستحقه من النعيم فيجدانها منه في الجواب.
وينزل جل جلاله
على من يريد تعذيبه في البرزخ ملكين اسماهما (ناكر) و (نكير) فيوكلهما بعذابه،
ويكون الغرض من مساءلتهما له استخراج علامة استحقاقه من العذاب بما يظهر من جوابه
من التلجلج عن الحق أو الخبر عن سوء الاعتقاد أو إبلاسه وعجزه عن الجواب.
وليس ينزل
الملكان من أصحاب القبور إلا على من ذكرناه، ولا يتوجه سؤالهما منهم إلا إلى
الأحياء جد الموت لما وصفناه، وهذا هو مذهب حملة الأخبار من الإمامية ولهم فيما
سطرت منه آثار وليس لمتكلميهم من قبل فيه مقال عرفته فاحكيه على النظام.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 78،79:
56 - القول في
الحساب وولاته والصراط والميزان
وأقول: إن الحساب
هو موافقة العبد على ما أمر به في دار الدنيا وإنه يختص بأصحاب المعاصي من أهل
الإيمان، وأما الكفار فحسابهم جزاؤهم بالاستحقاق والمؤمنون الصالحون يوفون أجورهم
بغير حساب.
وأقول: إن
المتولي لحساب من ذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام
والأئمة من ذريتهما عليهم السلام بأمر الله تعالى لهم بذلك وجعله إليهم تكرمة لهم
وإجلالا لمقاماتهم وتعظيما على سائر العباد، وبذلك جاءت الأخبار المستفيضة عن
الصادقين عليهم السلام عن الله تعالى، وقد قال الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} يعني الأئمة عليهم السلام على ما جاء في التفسير الذي
لا شك في صحته ولا ارتياب.
وأقول: إن الصراط
جسر بين الجنة والنار تثبت عليه أقدام المؤمنين وتزل عنه أقدام الكفار إلى النار،
وبذلك جاءت أيضا الأخبار.
وأما الميزان فهو
التعديل بين الأعمال والمستحق عليها، والمعدلون في الحكم إذ ذاك هم ولاة الحساب من
أئمة آل محمد عليهم السلام، وعلى هذا القول إجماع نقلة الحديث من أهل الإمامة، وأما
متكلموهم من قبل فلم أسمع لهم في شيء منه كلاما.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 82:
60 - القول في
أبواب الوعيد
وأقول: في الوعيد
ما قد تقدم حكايته عن جماعة الإمامية، وأقول بعد ذلك إن من عمل لله عملا وتقرب إلى
الله بقربة أثابه على ذلك بالنعيم المقيم في جنات الخلود، وبنو نوبخت رحمهم الله
يذهبون إلى أن كثيرا من المطيعين لله سبحانه وتعالى يثابون على طاعتهم في دار
الدنيا وليس لهم في الآخرة من نصيب، ومعي على ما ذهبت إليه أكثر المرجئة وجماعة من
الإمامية.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 82:
61 - القول في
تحابط الأعمال
وأقول: إنه لا
تحابط بين المعاصي والطاعات ولا الثواب ولا العقاب وهو مذهب جماعة من الإمامية
والمرجئة، وبنو نوبخت يذهبون إلى التحابط فيما ذكرناه ويوافقون في ذلك أهل
الاعتزال.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 86، 69:
70 - القول في
التوبة من مظالم العباد
أقول: إن من شرط
التوبة إلى الله سبحانه من مظالم العباد الخروج إلى المظلومين من حقوقهم بأدائها
إليهم أو باستحلالهم منها على طيبة النفس بذلك والاختيار له، فمن عدم منهم صاحب
المظلمة وفقده خرج إلى أوليائه من ظلامته أو استحلهم منها على ما ذكرناه، ومن عدم
الأولياء حقق العزم على الخروج إليهم متى وجدهم واستفرغ الوسع في ذلك بالطلب في
حياته والوصية له بعد وفاته، ومن جهل أعيان المظلومين أو مواضعهم حقق العزم والنية
في الخروج من الظلامة إليهم متى عرفهم وجهد وأجهد نفسه في التماسهم، فإذا خاف فوت
ذلك بحضور أجله وصى به على ما قدمناه، ومن لم يجد طولا لرد المظالم سأل الناس الصلة
له والمعونة على ما يمكنه من ردها أو آجر نفسه إن نفعه ذلك وكان طريقا إلى استفادة
ما يخرج به من المظالم إلى أهلها.
والجملة في هذا
الباب أنه يجب على الظالمين استفراغ الجهد مع التوبة في الخروج من مظالم العباد،
فإنه إذا علم الله ذلك منهم قبل توبتهم وعوض المظلومين عنهم إذا عجز التائبون عن رد
ظلاماتهم، وإن قصر التائبون من الظلم فيما ذكرناه كان أمرهم إلى الله عز وجل فإن
شاء عاقبهم وإن شاء تفضل عليهم بالعفو والغفران، وعلى هذا إجماع أهل الصلوة من
المتكلمين والفقهاء.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 91:
76 - القول في
أهل الآخرة، وهل هم مأمورون أو غير مأمورين؟
وأقول: إن أهل
الآخرة مأمورون بعقولهم بالسداد، ومحسن لهم ما حسن لهم في دار الدنيا من الرشاد،
وإن القلوب لا تنقلب عما هي عليه الآن ولا تتغير عن حقيقتها على كل حال.
وهذا مذهب متكلمي
أهل بغداد ذكرناه. ويخالف فيه البصريون ومن ذكرناه.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 91:
77 - القول في
أهل الآخرة، وهل هم مكلفون أو غير مكلفين؟
وأقول: إن أهل
الآخرة صنفان: فصنف منهم في الجنة وهم فيها مأمورون بما يؤثرون ويخف على طباعهم
ويميلون إليه ولا يثقل عليهم من شكر المنعم سبحانه وتعظيمه وحمده على تفضله عليهم
وإحسانه إليهم وما أشبه ذلك من الأفعال، وليس الأمور لهم بما وصفناه إذا كانت الحال
فيه ما ذكرناه تكليفا لأن التكليف إنما هو إلزام ما يثقل على الطباع ويلحق بفعله
المشاق.
والصنف الآخر في
النار وهم من العذاب وكلفه ومشاقه وآلامه على ما لا يحصى من أصناف التكليف للأعمال،
وليس يتعرون من الأمر والنهي بعقولهم حسب ما شرحناه. وهذا قول الفريق الذي قدمناه
ويخالف فيه من الفرق من سميناه وذكرناه.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 92:
78 - القول في
أهل الآخرة، وهل هم مختارون لأفعالهم أو مضطرون أم ملجئون على ما يذهب إليه أهل
الخلاف؟
وأقول: إن أهل
الآخرة مختارون لما يقع منهم من الأفعال وليسوا مضطرين ولا ملجئين وإن كان لا يقع
منهم الكفر والعناد.
وأقول: إن الذي
يرفع توهم وقوع الفساد منهم وقوع دواعيهم إليه لا ما ذهب إليه من خالف في ذلك من
الإلجاء والاضطرار.
وهو مذهب متكلمي
البغداديين، وكان أبو الهذيل العلاف يذهب إلى أن أهل الآخرة مضطرون إلى الأفعال،
والجبائي وابنه يزعمان أنهم ملجئون إلى الأعمال.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 92،93:
79 - القول في
أهل الآخرة وهل يقع منهم قبيح من الأفعال؟
أقول: إن أهل
الآخرة صنفان: فصنف من أهل الجنة مستغنون عن فعل القبيح، ولا يقع منهم شيء منه على
الوجوه كلها والأسباب، لتوفر دواعيهم إلى محاسن الأفعال وارتفاع دواعي فعل القبيح
عنهم على كل حال. والصنف الآخر من أهل النار قد يقع منهم القبيح على غير العناد،
قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى
النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا
وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن
قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقال سبحانه: {وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ
الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن
قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}، فأخبر جل اسمه عن كذبهم في الآخرة والكذب قبيح بعينه
وباطل على كل حال.
وهذا المذهب أيضا
مذهب من ذكرناه من متكلمي أهل بغداد ويخالف فيه البصريون من أهل الاعتزال.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 111:
115 - القول في نعيم أهل الجنة أهو تفضل أو ثواب؟
وأقول: إن نعيم أهل الجنة على ضربين: فضرب منه تفضل محض لا يتضمن شيئا من
الثواب، والضرب الآخر تفضل من جهة وثواب من أخرى. وليس في نعيم أهل الجنة ثواب وليس
بتفضل على شيء من الوجوه، فأما التفضل منه المحض فهو ما يتنعم به الأطفال والبله
والبهائم، إذ ليس لهؤلاء أعمال كلفوها، فوجب من الحكمة إثابتهم عليها.
وأما الضرب الآخر فهو تنعيم المكلفين وإنما كان تفضلا عليهم لأنهم لو منعوها
ما كانوا مظلومين، إذ ما سلف لله تعالى عندهم من نعمه وفضله وإحسانه يوجب عليهم
أداء شكره وطاعته وترك معصيته، فلو لم يثبهم بعد العمل ولا ينعمهم لما كان لهم
ظالما فلذلك كان ثوابه لهم تفضلا.
وأما كونه ثوابا فلأن أعمالهم أوجبت في جود الله تعالى وكرمه تنعمهم
وأعقبتهم الثواب وأثمرته لهم فصار ثوابا من هذه الجهة وإن كان تفضلا من جهة ما
ذكرناه، وهذا مذهب كثير من أهل العدل من المعتزلة والشيعة، ويخالف فيه البصريون من
المعتزلة والجهمية ومن اتبعهم من المجبرة.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 112:
116 - القول في ثواب الدنيا وعقابها وتعجيل المجازاة فيها
وأقول: إن الله تعالى جل اسمه يثيب بعض خلقه على طاعتهم في الدنيا ببعض
مستحقهم من الثواب، ولا يصح أن يوفيهم أجورهم فيها لما يجب من إدامة جزاء المطيعين،
وقد يعاقب بعض خلقه في الدنيا على معاصيهم فيها ببعض مستحقهم على خلافهم له وبجميعه
أيضا، لأنه ليس كل معصية له يستحق عليها عذابا دائما كما ذكرنا في الطاعات، وقد قال
الله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). وقال:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء
عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ
جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} فوعدهم بضروب من الخيرات في الدنيا على الأعمال
الصالحات. وقال في بعض من عصاه:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. وقال في آخرين منه
{لنُذِيقَهُمْ عَذَابَ
الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى}، {لَّهُمْ
عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم
مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ}. وجاء الخبر مستفيضا عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه قال:"حمى يوم كفارة ذنوب سنة" وقال:"صلة الرحم منسأة في الأجل". وهذا مذهب
جماعة من أهل العدل وتفصيله على ما ذكرت في تعجيل بعض الثواب وكل العقاب وبعضه مذهب
جمهور الشيعة وكثير من المرجئة.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 114، 115:
120 - القول في الشهادة
وأقول: إن الشهادة منزلة يستحقها من صبر على نصرة دين الله تعالى صبرا قاده
إلى سفك دمه وخروج نفسه دون الوهن منه في طاعته تعالى، وهي التي يكون صاحبها يوم
القيامة من شهداء الله وأمنائه وممن ارتفع قدره عند الله وعظم محله حتى صار صديقا
عند الله مقبول القول لاحقا بشهادته الحجج من شهداء الله حاضرا مقام الشاهدين على
أممهم من أنبياء الله صلوات الله عليهم قال الله عز وجل: {وَلِيَعْلَمَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَيَتَّخِذَ
مِنكُمْ
شُهَدَاء
وَاللَّهُ لاَ
يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ}. وقال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ
وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ}. فالرغبة إلى الله تعالى في الشهادة إنما هي رغبة
إليه في التوفيق للصبر المؤدي إلى ما ذكرناه، وليست رغبة في فعل الكافرين من القتل
بالمؤمنين لأن ذلك فسق وضلال، والله تعالى يجل عن ترغيب عباده في أفعال الكافرين من
القتل وأعمال الظالمين. وإنما يطلق لفظ الرغبة في الشهادة على المتعارف من إطلاق
لفظ الرغبة في الثواب، وهو فعل الله تعالى فيمن وجب له بأعماله الصالحات، وقد يرغب
أيضا الإنسان إلى الله تعالى في التوفيق لفعل بعض مقدوراته، فتعلق الرغبة بذكر نفس
فعله دون التوفيق كما يقول الحاج: (اللهم ارزقني العود إلى بيتك الحرام) والعود
فعله وإنما يسأل التوفيق لذلك والمعونة عليه، ويقول: (اللهم ارزقني الجهاد وأرزقني
صوم شهر رمضان) وإنما مراده من ذلك المعونة على الجهاد والصيام، وهذا مذهب أهل
العدل كافة وإنما خالف فيه أهل القدر والإجبار.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 124:
134 - القول في خلق الجنة والنار
وأقول: إن الجنة والنار في هذا الوقت مخلوقتان،
وبذلك جاءت الأخبار وعليه إجماع أهل الشرع والآثار.
وقد خالف في هذا القول المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية، فزعم أكثر من
سميناه أن ما ذكرناه من خلقهما من قسم الجايز دون الواجب، ووقفوا في الوارد به من
الآثار وقال من بقي منهم بإحالة خلقهما. واختلفوا في الاعتلال، فقال أبو هاشم بن
الجبائي إن ذلك محال لأنه لا بد من فناء العالم قبل نشره وفناء بعض الأجسام فناء
لسايرها، وقد انعقد الإجماع على أن الله تعالى لا يفني الجنة والنار، وقال الآخرون
وهم المتقدمون لأبي هاشم خلقهما في هذا الوقت عبث لا معنى له، والله تعالى لا يعبث
في فعله ولا يقع منه الفساد.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 94، 97:
فصل: فيما وصف به الشيخ أبو جعفر الموت قال أبو جعفر: باب الموت، قيل لأمير
المؤمنين... إلى آخره.
قال الشيخ أبو عبد الله: ترجم الباب بالموت وذكر غيره، وقد كان ينبغي أن
يذكر حقيقة الموت أو يترجم الباب بمال الموت وعاقبة الأموات، فالموت، هو يضاد
الحياة، يبطل معه النمو ويستحيل معه الإحساس، وهو محل الحياة فينفيها، وهو من فعل
الله تعالى وليس لأحد فيه صنع ولا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى.
قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ} فأضاف الإحياء [إلى نفسه، وأضاف الإماتة إليها].
وقال سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فالحياة ما كان بها النمو
والإحساس وتصح معها القدرة والعلم، والموت ما استحال معه النمو والإحساس ولم تصح
معه القدرة والعلم، وفعل الله تعالى الموت بالإحياء لينقلهم من دار العمل والامتحان
إلى دار الجزاء والمكافأة، وليس يميت الله عبدا من عبيده إلا وإماتته أصلح له من
بقائه، ولا يحييه إلا وحياته أصلح له من موته، وكل ما يفعله الله تعالى بخلقه فهو
أصلح لهم وأصوب في التدبير.
وقد يمتحن الله تعالى كثيرا من خلقه بالآلام الشديدة قبل الموت، ويعفي آخرين
من ذلك، وقد يكون الألم المتقدم للموت [ضربا من] العقوبة لمن حل به، ويكون استصلاحا
له ولغيره، ويعقبه نفعا عظيما، وعوضا كثيرا، وليس كل من صعب عليه خروج نفسه كان
بذلك معاقبا، ولا كل من سهل عليه الأمر في ذلك كان به مكرما مثابا.
وقد ورد الخبر بأن الآلام التي تتقدم الموت تكون كفارات لذنوب المؤمنين،
وتكون عقابا للكافرين، وتكون الراحة قبل الموت استدراجا للكافرين، وضربا من ثواب
المؤمنين. وهذا أمر مغيب عن الخلق، لم يظهر الله تعالى أحدا من خلقه على إرادته فيه
تنبيها له، حتى يتميز له حال الامتحان من حال العقاب، وحال الثواب من حال
الاستدراج، وتغليظا للمحنة ليتم التدبير الحكيم في الخلق.
فأما ما ذكره أبو جعفر من أحوال الموتى بعد وفاتهم، فقد جاءت الآثار به على
التفصيل.
وقد أورد بعض ما جاء في ذلك إلا أنه ليس مما ترجم به الباب في شيء، والموت
على كل حال أحد بشارات المؤمن، إذ كان أول طرقه إلى محل النعيم، وبه يصل ثواب
الأعمال الجميلة في الدنيا، وهو أول شدة تلحق الكافر من شدائد العذاب، وأول طرقه
إلى حلول العقاب، إذ كان الله تعالى جعل الجزاء على الأعمال بعده وصيره سببا لنقله
من دار التكليف إلى دار الجزاء، وحال المؤمن بعد موته أحسن من حاله قبله، وحال
الكافر بعد مماته أسوء من حاله قبله، إذ المؤمن صائر إلى جزائه بعد مماته، والكافر
صائر إلى جزائه بعد مماته.
وقد جاء في الحديث عن آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أنهم قالوا:
الدنيا سجن المؤمن، والقبر بيته، والجنة مأواه، والدنيا جنة الكافر، والقبر سجنه،
والنار مأواه.
وروي عنهم عليهم السلام أنهم قالوا: الخير كله بعد الموت، والشر كله بعد
الموت. ولا حاجة بنا مع نص القرآن بالعواقب إلى الأخبار، [ومع شاهد] العقول إلى
الأحاديث.
وقد ذكر الله تعالى جزاء الصالحين فبينه، وذكر عقاب الفاسقين ففضله، وفي
بيان الله سبحانه وتفصيله غنى عما سواه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 108، 111:
فصل: في الصراط قال أبو جعفر
اعتقادنا في الصراط أنه حق، وأنه جسر.
قال الشيخ المفيد أبو عبد الله رحمه الله: الصراط في اللغة هو الطريق، فلذلك
سمي الدين صراطا، لأنه طريق إلى الصواب، [وله سمي] الولاء لأمير المؤمنين والأئمة
من ذريته عليهم السلام صراطا.
ومن معناه قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا صراط الله المستقيم، وعروته
الوثقى التي لا انفصام لها. يعني: أن معرفته والتمسك به طريق إلى الله سبحانه.
وقد جاء الخبر بأن الطريق يوم القيامة إلى الجنة كالجسر يمر به الناس، وهو
الصراط الذي يقف عن يمينه رسول الله صلى الله عليه وآله وعن شماله أمير المؤمنين
عليه السلام ويأتيهما النداء من قبل الله تعالى: {أَلْقِيَا
فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} وجاء الخبر أنه لا يعبر الصراط يوم القيامة إلا
من كان معه براءة من علي بن أبي طالب عليه السلام من النار.
وجاء الخبر بأن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف على الكافر. والمراد
بذلك أنه لا تثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدة ما يلحقهم من أهوال يوم
القيامة ومخاوفها، فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الذي هو أدق من الشعرة وأحد
من السيف. وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدة في عبوره على الصراط، وهو طريق
إلى الجنة وطريق إلى النار، يشرف العبد منه إلى الجنة ويرى منه أهوال النار.
وقد يعبر به عن الطريق المعوج فلهذا قال الله تعالى: {وَأَنَّ
هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} فميز بين طريقه الذي دعا إلى سلوكه من الدين،
وبين طرق الضلال.
وقال الله تعالى فيما أمر به عباده من الدعاء وتلاوة القرآن: {اهدِنَا
الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} فدل على أن ما سواه صراط غير مستقيم.
وصراط الله تعالى دين الله، وصراط الشيطان طريق العصيان، والصراط في الأصل
على ما بيناه هو الطريق، والصراط يوم القيامة هو الطريق المسلوك إلى الجنة أو النار
على ما قدمناه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 116، 119:
فصل: في الجنة والنار
قال أبو جعفر اعتقادنا في الجنة أنها دار البقاء.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: الجنة، دار النعيم لا يلحق من دخلها نصب ولا
يلحقهم فيها لغوب، وجعلها الله سبحانه دارا لمن عرفه وعبده، [ونعيمها دائم] لا
انقطاع له، والساكنون فيها على أضرب:
فمنهم: من أخلص لله تعالى، فذلك الذي يدخلها على أمان من عذاب الله تعالى.
ومنهم: من خلط عمله الأصلح بأعماله السيئة كأن يسوف منها التوبة، فاخترمته
المنية قبل ذلك، فلحقه خوف من العقاب في عاجله وآجله، أو في عاجله دون آجله، ثم سكن
الجنة بعد [عفو الله أو عقابه].
ومنهم: من يتفضل عليه بغير عمل سلف منه في الدنيا، وهم الولدان المخلدون
الذين جعل الله تعالى تصرفهم لحوائج أهل الجنة ثوابا للعاملين، وليس في تصرفهم مشاق
عليهم ولا كلفة، لأنهم مطبوعون إذ ذاك على المسار بتصرفهم في حوائج المؤمنين.
وثواب أهل الجنة الالتذاذ [بالمآكل والمشارب] والمناظر والمناكح وما تدركه
حواسهم مما يطبعون على الميل إليه، ويدركون مرادهم بالظفر به وليس في الجنة من
البشر من يلتذ بغير مأكل ومشرب وما تدركه الحواس من الملذوذات.
وقول من يزعم: أن في الجنة بشرا يلتذ بالتسبيح والتقديس من دون الأكل
والشرب، قول شاذ عن دين الإسلام، وهو مأخوذ من مذهب النصارى الذين زعموا أن
المطيعين في الدنيا يصيرون في الجنة ملائكة لا يطعمون ولا يشربون ولا ينكحون.
وقد أكذب الله سبحانه هذا القول في كتابه بما رغب العاملين فيه من الأكل
والشرب والنكاح، فقال تعالى: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ
وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ} الآية، وقال تعالى: {فِيهَا
أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} الآية، وقال تعالى: {حُورٌ
مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} وقال تعالى: {وَحُورٌ
عِينٌ} وقال سبحانه: {وَزَوَّجْنَاهُم
بِحُورٍ عِينٍ} وقال سبحانه: {وَعِندَهُمْ
قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} وقال سبحانه: {إِنَّ
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} الآية، وقال سبحانه: {وَأُتُواْ
بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ}.
فكيف استجاز من أثبت في الجنة طائفة من البشر لا يأكلون ولا يشربون ويتنعمون
بما به الخلق من الأعمال يتألمون، وكتاب الله تعالى شاهد بضد ذلك والإجماع على
خلافه، لولا أن قلد في ذلك من لا يجوز تقليده أو عمل على حديث موضوع؟!
وأما النار، فهي [دار من] جهل الله سبحانه، وقد يدخلها بعض من عرفه [بمعصية
الله] تعالى، غير أنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها إلى النعيم المقيم، وليس يخلد
فيها إلا الكافرون.
وقال تعالى: (فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا
يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يريد [بالصلي هاهنا] الخلود فيها، وقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا} وقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ
مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ
مِنْهُمْ} الآيتان. وكل آية تتضمن ذكر الخلود في النار فإنما هي في الكفار دون أهل
المعرفة بالله تعالى بدلائل العقول والكتاب المسطور والخبر الظاهر المشهور والاجماع
والرأي السابق لأهل البدع من أصحاب الوعيد.
- المسائل
السروية- الشيخ المفيد ص 62:
المسألة الخامسة:
عذاب القبر ما قوله أدام الله تأييده في عذاب القبر وكيفته؟ ومتى يكون؟ وهل ترد
الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر، أو يكون بين
النفختين؟.
الجواب: الجواب
عن هذا السؤال قد تقدم في المسألة التي سبقت هذه المسالة. والكلام في عذاب القبر
طريقه السمع دون العقل. وقد ورد عن أئمة الهدى عليهم السلام أنهم قالوا: "ليس يعذب
في القبر كل ميت، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر، ولا ينعم كل ماض لسبيله،
وإنما ينعم منهم من محض الإيمان محضا، فأما سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم".
وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصة. فعلى ما جاء به الأثر من ذلك
يكون الحكم ما ذكرناه.
وأما كيفية عذاب
الكافر في قبره، ونعيم المؤمن فيه، فإن الأثر أيضا قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح
المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا، في جنة من جنانه، ينعمه فيها إلى يوم الساعة،
فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي بلي في التراب وتمزق، ثم أعاده إليه وحشره إلى
الموقف، وأمر به إلى جنة الخلد، فلا يزال منعما ببقاء الله عز وجل. غير أن جسده
الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا، بل يعدل طباعه ويحسن صورته فلا يهرم
مع تعديل الطباع، ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب. والكافر يجعل في قالب كقالبه في
الدنيا، في محل عذاب يعاقب به، ونار يعذب بها حتى الساعة، ثم ينشأ جسده الذي فارقه
في القبر، ويعاد إليه، ثم يعذب به في الآخرة عذاب الأبد، ويركب أيضا جسده تركيبا لا
يفنى معه. وقد قال الله عز وجل: {النَّارُ
يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا
آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. وقال في قصة الشهداء:
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وهذا قد مضى فيما تقدم. فدل على أن العذاب والثواب يكون قبل القيامة
وبعدها، والخبر وارد بأنه يكون مع فراق الروح الجسد في الدنيا.
والروح هاهنا
عبارة عن انفعال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة التي يصح معها العلم
والقدرة، لأن هذه الحياة عرض لا يبقى، ولا يصح عليه الإعادة. فهذا ما عول عليه أهل
النقل، وجاء به الخبر على ما بيناه.
- المسائل
السروية- الشيخ المفيد ص 96، 101:
المسالة الحادية
عشرة: أصحاب الكبائر
ما قوله أدام
الله تعالى رفعته في إخراج الله تعالى من ارتكب الكبائر من النار، أو العفو عنه في
القيامة عند حسابه؟. والشيخ الجليل المفيد أدام الله مدته يحتسب الأجر في إملاء
مسألة كافية في هذا الباب حسب ما ثبت عنده عن الأئمة الهادية عليهم السلام، ويورد
شبه المعتزلة فيه، ويجيب عنها، ويتكلم عليها بعبارته اللطيفة حسب ما يحسم أشاغيب
الخصوم في هذا الباب، فقل متفضلا إن شاء الله.
الجواب: إن الذين
يردون القيامة مستحقين العقاب ودخول النار صنفان: أحدهما: الكافر على اختلاف كفره،
واختلاف أحكامهم في الدنيا. وصنف: أصحاب ذنوب قد ضموها إلى التوحيد ومعرفة الله
تعالى ورسوله وأئمة الهدى عليهم السلام، خرجوا من الدنيا من غير توبة، فاخترمتهم
المنية على الحوية، وكانوا قبل ذلك يسوفون التوبة، ويحدثون أنفسهم بالإقلاع عن
المعصية ففاتهم ذلك لاخترام المنية لهم دونه. فهذا الصنف مرجو لهم العفو من الله
تعالى، والشفاعة من رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أئمة الهدى عليهم السلام،
ومخوف عليهم العقاب. غير أنهم إن عوقبوا فلا بد من انقطاع عقابهم ونقلهم من النار
إلى الجنة ليوفيهم الله تبارك وتعالى جزاء أعمالهم الحسنة الصالحة التي وافوا بها
الآخرة من: المعارف، والتوحيد،
والإقرار بالنبوة والأئمة، والأعمال الصالحات، لأنه لا يجوز في حكم العدل أن يأتي
العبد بطاعة ومعصية فيخلد في النار بالمعصية ولا يعطى الثواب على الطاعة، لان من
منع ما عليه واستوفى ماله كان ظالما معبثا وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وبهذا
قضت العقول، ونزل الكتاب المسطور، وثبتت الأخبار عن أئمة أهل بيت محمد عليهم
السلام، وإجماع شيعتهم المحدثين العلماء منهم المستبصرين. ومن خالف في ذلك من
منتحلي مذهب الإمامية فهو شاذ عن الطائفة، وخارق لإجماع العصابة. والمخالف في ذلك
هم المعتزلة، وفرق من الخوارج والزيدية.
فصل: أدلة بطلان
القول بالحبط
ومما يدل على صحة
ما ذكرناه في هذا الباب ما قدمناه القول في معناه في أن العارف الموحد يستحق
بالعقول على طاعته وقربته ثوابا دائما. وقد ثبت أن معصيته لا تنافي طاعاته، وذنوبه
لا تضاد حسناته واستحقاقه الثواب. وأنه لا تحابط بين المعاصي والطاعات، لاجتماعها
من المكلف في حالة واحدة. وأن استحقاق الثواب لا يضاد استحقاق العقاب، إذ لو ضادة
لتضاد الجمع بين المعاصي والطاعات، إذ بهما يستحق الثواب والعقاب. وإذا ثبت اجتماع
الطاعة والمعصية دل على استحقاق الثواب والعقاب. وهذا يبطل قول المعتزلة في التحابط
المخالف لدليل الاعتبار. وقد قال الله عز وجل: {مَن
جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ
يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}. وقال تعالى: {إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ
مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}. وقال تعالى: {فَمَن
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ}. وقال عز وجل: {ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. وقال سبحانه: {أَنِّي
لاَ
أُضِيعُ
عَمَلَ
عَامِلٍ
مِّنكُم
مِّن
ذَكَرٍ
أَوْ
أُنثَى
بَعْضُكُم
مِّن
بَعْضٍ}. فأخبر تعالى أنه لا يضيع أجر المحسنين، وأنه يوفي
العاملين أجرهم بغير حساب، وأنه لا يظلم مثقال ذرة ، فأبطل بهذه الآيات دعوى
المعتزلة على الله تعالى أنه يحبط الأعمال الصالحات، أو بعضها، ولا يعطي عليها
أجرا. وأبطل قولهم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
السَّـيِّئَاتِ}. هذا مع قوله
سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} فأخبر أنه لا يغفر الشرك مع عدم التوبة منه، وأنه يغفر
ما سواه بغير التوبة، ولولا ذلك لم يكن لتفريقه بين الشرك وما دونه في حكم الغفران
معنى معقول. وقال تبارك وتعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ}. وهذا القول لا يجوز أن يكون متوجها إلى المؤمنين الذين
لا تبعة بينهم وبين الله تعالى، ولا متوجها إلى الكافرين الذين قد قطع الله على
خلودهم في النار، فلم يبق إلا أنه توجه إلى مستحق العقاب من أهل المعرفة والتوحيد.
وفيما ذكرنا أدلة
يطول شرحها، والذي اثبتناه هاهنا مقنع لمن تأمله إن شاء الله. وقد أمليت في هذا
المعنى كتابا سميته (الموضح في الوعد والوعيد) إن وصل إلى السيد الشريف الفاضل
الخطير أدام الله تعالى رفعته أغناه عن غيره من الكتب في المعنى إن شاء الله تعالى.