- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 28:
[معنى كشف الساق]
قال الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المتوفى سنة 381
ه في رسالة اعتقاداته في معنى قوله تعالى: {يَوْمَ
يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} الساق: وجه الأمر وشدته.
قال الشيخ المفيد: معنى قوله تعالى: {يَوْمَ
يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} يريد به يوم القيامة [يكشف فيه] عن أمر شديد صعب عظيم، وهو الحساب
والمداقة على الأعمال، والجزاء على الأفعال، وظهور السرائر وانكشاف البواطن،
والمداقة على الحسنات والسيئات، فعبر بالساق عن الشدة، ولذلك قالت العرب فيما عبرت
به عن شدة الحرب وصعوبتها: (قامت الحرب على ساق) و (قامت الحرب بنا على ساق) وقال
شاعرهم أيضا وهو سعد بن خالد:
كشفت لهم عن ساقها * وبدا من الشر الصراح
وبدت عقاب الموت * يخفق تحتها الأجل المتاح
ومن ذلك قولهم: قد قامت السوق، إذا ازدحم أهلها واشتد أمرها بالمبايعة
والمشاراة، ووقع الجد في ذلك والاجتهاد.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 30:
[تأويل اليد]
فصل: ومضى في كلام أبي جعفر رحمه الله شاهد اليد عن القدرة قوله تعالى: {وَاذْكُرْ
عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} فقال: ذو القوة.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: وفيه وجه آخر وهو أن اليد عبارة عن النعمة، قال
الشاعر:
له علي أياد لست أكفرها
وإنما الكفر ألا تشكر النعم
فيحتمل أن قوله تعالى: {دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ} يريد به ذا النعم، ومنه قوله تعالى: {بَلْ
يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} يعني نعمتيه العامتين في الدنيا والآخرة.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 31:
[نفخ الأرواح]
أبو جعفر رحمه الله في قوله تعالى: {وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِن رُّوحِي} فقال: هي روح مخلوقة أضافها إلى نفسه كما أضاف البيت إلى نفسه وإن كان
خلقا له.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: ليس وجه إضافة الروح [والبيت] إلى نفسه والنسبة
إليه من حيث الخلق فحسب، بل الوجه في ذلك التمييز لهما بالإعظام والإجلال والاختصاص
بالإكرام والتبجيل من جهة التحقق بهما، ودل بذلك على أنهما يختصان منه بكرامة
وإجلال لم يجعله لغيرهما من الأرواح والبيوت، فكان الغرض من ذلك دعاء الخلق إلى
اعتقاد ذلك فيهما والإعظام لهما به.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 33، 34:
[حكمة الكناية والاستعارة]
فصل: والذي قاله أبو جعفر رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {مَا
مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أن المراد: بقدرتي وقوتي.
قال أبو عبد الله: ليس هذا هو الوجه في التفسير، لأنه يفيد تكرار المعنى،
فكأنه قال: بقدرتي وقدرتي أو بقوتي وقوتي، إذ القدرة هي القوة والقوة هي القدرة،
وليس لذلك معنى في وجه الكلام، والوجه ما قدمناه من ذكر النعمة، وأن المراد بقوله:
{مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
بِيَدَيَّ} إنما أراد به نعمتي اللتين هما في الدنيا والآخرة. والباء في قوله تعالى:
{بِيَدَيَّ} تقوم مقام اللام، فكأنه
قال: خلقت ليدي، يريد به لنعمتي، كما قال: {وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} والعبادة من الله تعالى
نعمته عليهم، لأنها تعقبهم ثوابه تعالى في النعيم الذي لا يزول.
وفي تأويل الآية وجه آخر، وهو: أن المراد باليدين فيها هما القوة والنعمة،
فكأنه قال خلقت بقوتي ونعمتي.
وفيه وجه آخر وهو، أن إضافة اليدين إليه إنما أريد به تحقق الفعل له وتأكيد
إضافته إليه وتخصيصه به دون ما سوى ذلك من قدرة أو نعمة أو غيرهما، وشاهد ذلك قوله
تعالى:
{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} وإنما أراد: ذلك بما قدمت
من فعلك، وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن
مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} والمراد به: فبما كسبتم.
والعرب تقول في أمثالها: (يداك أوكتا وفوك نفخ) يريدون به أنك فعلت ذلك وتوليته
وصنعته واخترعته وإن لم يكن الإنسان استعمل به جارحتيه اللتين هما يداه في ذلك
الفعل.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 35، 37:
[المكر والخدعة من الله، معنى الله يستهزئ بهم]
فصل: وذكر أبو جعفر رحمه الله في قوله تعالى:
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} و {نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} و {وَمَكَرُواْ
وَمَكَرَ اللَّهُ} و {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} أن العبارة بذلك كله [عن
جزاء الأفعال].
[قال أبو عبد الله]: وهو كما قال إلا أنه لم يذكر الوجه في ذلك، والوجه: أن
العرب تسمي الشيء باسم المجازى عليه للتعلق فيما بينهما والمقارنة، فلما كانت
الأفعال المجازى عليها مستحقة لهذه الأسماء كان الجزاء، مسمى بأسمائها، قال الله
تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} فسمى ما يأكلونه من الطيبات تسمية النار وجعله
نارا، لأن الجزاء عليه النار.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 38، 39:
[نسبة النسيان إلى الله]
فصل: ذكر أبو جعفر رحمه الله: أن النسيان من الله تعالى يجري مجرى المخادعة
منه للعصاة، وأنه سمي بذلك باسم المجازى عليه.
[قال أبو عبد الله]: والوجه فيه غير ذلك: وهو أن النسيان في اللغة هو الترك
والتأخير، قال الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يريد ما ننسخ من آية نتركها على حالها أو نؤخرها،
فالمراد بقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ} تركوا [إطاعة الله تعالى]،
وقوله: {فَنَسِيَهُمْ} يريد به تركهم من ثوابه،
وقوله تعالى: {أَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} أي: ألجأهم إلى ترك تعاهدها
ومراعاتها بالمصالح بما شغلهم به من العقاب. فهذا وجهه وإن كان ذلك أيضا وجها غير
منكر، والله ولي التوفيق.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 48، 53:
فصل: في الإرادة والمشيئة قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله نقول: شاء الله
وأراد ولم يحب ولم يرض، وشاء عز اسمه ألا يكون شيء إلا بعلمه وأراد مثل ذلك.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: الذي ذكره الشيخ أبو جعفر رحمه الله في هذا
الباب لا يتحصل، ومعانيه تختلف وتتناقض، والسبب في ذلك أنه عمل على ظواهر الأحاديث
المختلفة ولم يكن ممن يرى النظر فيميز بين الحق منها والباطل ويعمل على ما يوجب
الحجة، ومن عول في مذهبه على الأقاويل المختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف
ما وصفناه.
والحق في ذلك: أن الله تعالى لا يريد إلا ما حسن من الأفعال، ولا يشاء إلا
الجميل من الأعمال ولا يريد القبائح ولا يشاء الفواحش، تعالى الله عما يقول
المبطلون علوا كبيرا. قال الله تعالى: {وَمَا اللَّهُ
يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ} وقال تعالى: {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال تعالى: {يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} الآية. وقال: {وَاللَّهُ
يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن
تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا}. وقال: {يُرِيدُ
اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} فخبر سبحانه أنه لا يريد
بعباده العسر، بل يريد بهم اليسر، وأنه يريد لهم البيان ولا يريد لهم الضلال، ويريد
التخفيف عنهم ولا يريد التثقيل عليهم، فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك
إرادة البيان لهم والتخفيف عنهم واليسر لهم، وكتاب الله تعالى شاهد بضد ما ذهب إليه
الضالون المفترون على الله الكذب، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
فأما ما تعلقوا به من قوله تعالى: {فَمَن
يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} فليس للمجبرة به تعلق ولا
فيه حجة من قبل أن المعنى فيه أن من أراد الله تعالى أن ينعمه ويثيبه جزاء على
طاعته شرح صدره للإسلام بالألطاف التي يحبوه بها، فييسر له بها استدامة أعمال
الطاعات، والهداية في هذا الموضع هي النعيم.
قال الله تعالى فيما خبر به عن أهل الجنة: {الْحَمْدُ
لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا} الآية، أي: نعمنا به وأثابنا إياه، والضلال في
هذه الآية هو العذاب قال الله تعالى: {إِنَّ
الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} فسمى الله تعالى العذاب ضلالا والنعيم هداية،
والأصل في ذلك أن الضلال هو الهلاك والهداية هي النجاة.
قال الله تعالى حكاية عن العرب: {أَئِذَا
ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} يعنون إذا هلكنا فيها وكان
المعنى في قوله: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} ما قدمناه وبيناه، {وَمَن
يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} ما وصفناه، والمعنى في قوله تعالى: {يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} يريد سلبه التوفيق عقوبة له على عصيانه ومنعه
الألطاف جزاء له على إساءته، فشرح الصدر ثواب الطاعة بالتوفيق، وتضييقه عقاب
المعصية بمنع التوفيق، وليس في هذه الآية على ما بيناه شبهة لأهل الخلاف فيما ادعوه
من أن الله تعالى يضل عن الإيمان، ويصد عن الإسلام، ويريد الكفر، ويشاء الضلال.
وأما قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ
لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} فالمراد به الإخبار عن
قدرته، وأنه لو شاء أن يلجئهم إلى الإيمان ويحملهم عليه بالإكراه والاضطرار لكان
على ذلك قادرا، لكنه شاء تعالى منهم الإيمان على الطوع والاختيار، وآخر الآية يدل
على ما ذكرناه وهو قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} يريد أنه قادر على إكراههم على الإيمان، لكنه لا
يفعل ذلك، ولو شاء لتيسر عليه.
وكل ما يتعلقون به من أمثال هذه الآية فالقول فيه ما ذكرناه أو نحوه على ما
بيناه، وفرار المجبرة من إطلاق القول بأن الله تعالى يريد أن يعصى ويكفر به، ويقتل
أولياؤه، ويشتم أحباؤه إلى القول بأنه يريد أن يكون ما علم كما علم، ويريد أن تكون
معاصيه قبائح منهيا عنها، وقوع فيما هربوا منه، وتورط فيما كرهوه، وذلك أنه إذا كان
ما علم من القبيح كما علم وكان تعالى مريدا لأن يكون ما علم من القبيح كما علم فقد
أراد القبيح وأراد أن يكون قبيحا فما معنى فرارهم من شيء إلى نفسه وهربهم من معنى
إلى عينه، فكيف يتم لهم ذلك مع أهل العقول، وهل قولهم هذا إلا كقول إنسان: أنا أسب
زيدا لكني أسب أبا عمرو، وأبو عمرو هو زيد، أو كقول اليهود إذ قالوا سخرية بأنفسهم:
نحن لا نكفر بمحمد صلى الله عليه وآله لكنا نكفر بأحمد، فهذا رعونة وجهل ممن صار
إليه، وعناء وضعف عمل ممن اعتمد عليه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 54، 56:
[تفسير آيات القضاء والقدر]
فصل: فيما ذكر الشيخ أبو جعفر في القضاء والقدر قال الشيخ أبو جعفر رحمه
الله في القضاء والقدر: الكلام في القدر منهي عنه، وروى حديثا لم يذكر له إسنادا.
قال الشيخ أبو عبد الله المفيد عليه الرحمة: عول أبو جعفر رحمه الله في هذا
الباب على أحاديث شواذ لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت وثبت إسنادها ولم يقل فيه
قولا محصلا، وقد كان ينبغي له لما لم يكن يعرف للقضاء معنى أن يهمل الكلام فيه،
والقضاء معروف في اللغة وعليه شواهد من القرآن، فالقضاء على أربعة أضرب: أحدها:
الخلق، والثاني: الأمر، والثالث: الإعلام، والرابع: القضاء [في الفصل بالحكم].
فأما شاهد القضاء في معنى الخلق فقوله تعالى: {ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ -إلى قوله-
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} يعني خلقهن سبع سموات في يومين.
وأما شاهد القضاء في معنى الأمر فقوله تعالى: {وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} يريد أمر ربك.
وأما شاهد القضاء في الإعلام فقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} يعني أعلمناهم ذلك وأخبرناهم به قبل كونه.
وأما شاهد القضاء بالفصل بالحكم بين الخلق فقوله تعالى: {وَاللَّهُ
يَقْضِي بِالْحَقِّ} [يعني يفصل بالحكم] بالحق بين الخلق وقوله: {وَقُضِيَ
بَيْنَهُم بِالْحَقِّ} يريد وحكم بينهم بالحق، وفصل بينهم بالحق.
وقد قيل إن للقضاء وجها خامسا وهو الفراغ من الأمر، واستشهد على ذلك بقول
يوسف عليه السلام: {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ} يعني فرغ منه، وهذا يرجع إلى معنى الخلق.
وإذا ثبت ما ذكرناه في أوجه القضاء بطل قول المجبرة أن الله تعالى قضى
بالمعصية على خلقه،
لأنه لا يخلو إما أن يكونوا
يريدون به أن الله خلق العصيان في خلقه، فكان يجب أن يقولوا قضى في خلقه بالعصيان
ولا يقولوا قضى عليهم، لأن الخلق فيهم لا عليهم، مع أن الله تعالى قد أكذب من زعم
أنه خلق المعاصي لقوله سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} فنفى عن خلقه القبح وأوجب له الحسن، والمعاصي
قبائح بالاتفاق، ولا وجه لقولهم قضى بالمعاصي على معنى أنه أمر بها، لأنه تعالى
أكذب مدعي ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
ولا معنى لقول من زعم أنه قضى بالمعاصي على معنى أنه أعلم الخلق بها إذا كان
الخلق لا يعلمون أنهم في المستقبل يطيعون أو يعصون ولا يحيطون علما بما يكون منهم
في المستقبل على التفصيل، ولا وجه لقولهم إنه قضى بالذنوب على معنى أنه حكم بها بين
العباد، لأن أحكامه تعالى حق والمعاصي منهم ولا لذلك فائدة وهو لغو بالاتفاق، فبطل
قول من زعم أن الله تعالى يقضي بالمعاصي والقبائح.
والوجه عندنا في القضاء والقدر بعد الذي بيناه في معناه أن لله تعالى في
خلقه قضاء وقدرا وفي أفعالهم أيضا قضاء وقدرا معلوما ويكون المراد بذلك أنه قد قضى
في أفعالهم الحسنة بالأمر بها وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنها، وفي أنفسهم بالخلق
لها، وفيما فعله فيهم بالإيجاد له، والقدر منه سبحانه فيما فعله إيقاعه في حقه
وموضعه، وفي أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر والنهي والثواب والعقاب، لأن ذلك
كله واقع موقعه، موضوع في مكانه لم يقع عبثا ولم يصنع باطلا، فإذا فسر القضاء في
أفعال الله تعالى والقدر بما شرحناه زالت الشنعة منه، وثبتت الحجة به، ووضح الحق
فيه لذوي العقول، ولم يلحقه فساد ولا إخلال.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 57، 59:
[تفسير أخبار القضاء والقدر]
فأما الأخبار التي رواها أبو جعفر رحمه الله في النهي عن الكلام في القضاء
والقدر فهي تحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون النهي خاصا بقوم كان كلامهم في ذلك يفسدهم
ويضلهم عن الدين ولا يصلحهم في عبادتهم إلا الإمساك عنه وترك الخوض فيه، ولم يكن
النهي عنه عاما لكافة المكلفين، وقد يصلح بعض الناس بشيء يفسد به آخرون، ويفسد
بعضهم بشيء يصلح به آخرون، فدبر الأئمة عليهم السلام أشياعهم في الدين بحسب ما
علموه من مصالحهم فيه.
وثانيا: أن يكون النهي عن الكلام في القضاء والقدر النهي عن الكلام فيما خلق
الله تعالى وعن علله وأسبابه وعما أمر به وتعبد، وعن القول في علل ذلك إذا كان طلب
علل الخلق والأمر محظورا، لأن الله تعالى سترها عن أكثر خلقه، ألا ترى أنه لا يجوز
لأحد أن يطلب لخلقه جميع ما خلق عللا مفصلات فيقول لم خلق كذا وكذا؟ حتى يعد
المخلوقات كلها ويحصيها، ولا يجوز أن يقول: لم أمر بكذا؟ أو تعبد بكذا؟ ونهى عن
كذا؟ إذ تعبده بذلك وأمره لما هو أعلم به من مصالح الخلق ولم يطلع أحدا من خلقه على
تفصيل علل ما خلق وأمر به وتعبد، وإن كان قد أعلم في الجملة أنه لم يخلق الخلق عبثا
وإنما خلقهم للحكمة والمصلحة، ودل على ذلك بالعقل والسمع. فقال سبحانه: {وَمَا
خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} وقال:
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} يعني بحق ووضعناه في موضعه وقال: {وَمَا
خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقال فيما تعبد به: {لَن
يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ}.
وقد يصح أن يكون الله تعالى خلق حيوانا بعينه لعلمه بأنه يؤمن عند خلقه
كفار، أو يتوب عند ذلك فساق، أو ينتفع به مؤمنون، أو يتعظ به ظالمون، أو ينتفع
المخلوق نفسه بذلك، أو يكون عبرة لواحد في الأرض أو في السماء وذلك مغيب عنا، وإن
قطعنا في الجملة أن جميع ما صنع الله تعالى إنما صنعه لأغراض حكيمة ولم يصنعه عبثا،
وكذلك يجوز أن يكون تعبدنا بالصلاة لأنها تقربنا من طاعته وتبعدنا عن معصيته، وتكون
العبادة بها لطفا لكافة المتعبدين بها أو لبعضهم، فلما خفيت هذه الوجوه وكانت
مستورة عنا ولم يقع دليل على التفصيل فيها، وإن كان العلم بأنها حكمة في الجملة كان
النهي عن الكلام في معنى القضاء والقدر إنما هو نهي عن طلب علل لها مفصلة، فلم يكن
نهيا عن الكلام في معنى القضاء والقدر.
هذا إن سلمنا الأخبار التي رواها أبو جعفر رحمه الله. فأما إن بطلت أو اختل
سندها فقد سقط عنا عهدة الكلام فيها.
والحديث الذي رواه عن زرارة حديث صحيح من بين ما روى، والمعنى فيه ظاهر ليس
به على العقلاء خفاء، وهو مؤيد للقول بالعدل ودال على فساد القول بالجبر، ألا ترى
إلى ما رواه عن أبي عبد الله عليه السلام من قوله: "إذا حشر الله تعالى الخلائق
سألهم عما عهد إليهم ولم يسألهم عما قضى عليهم" وقد نطق القرآن بأن الخلق مسؤولون
عن أعمالهم، فلو كانت أعمالهم [بقضاء الله] تعالى لما سألهم عنها، فدل على أن قضاء
الله تعالى ما خلقه من ذوات العباد وفيهم وأنه تعالى لا يسألهم إلا عن أعمالهم التي
عهد إليهم فيها، فأمرهم بحسنها ونهاهم عن قبيحها، وهذا الحديث موضح لمعنى القضاء
والقدر فلا وجه [للقول حينئذ بأنه] لا معنى للقضاء والقدر معقول، إذ كان بينا حسبما
ذكرناه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 112، 113:
فصل: في العقبات على طريق المحشر
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله في العقبات: اسم كل عقبة اسم فرض أو أمر أو
نهي.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: العقبات عبارة عن الأعمال الواجبات والمسألة
عنها والمواقفة عليها، وليس المراد بها جبال في الأرض تقطع وإنما هي الأعمال شبهت
بالعقبات، وجعل الوصف لما يلحق الإنسان في تخلصه من تقصيره في طاعة الله تعالى
كالعقبة التي يجهد صعودها وقطعها.
قال الله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} الآية، فسمى سبحانه الأعمال التي كلفها العبد
عقبات تشبيها لها بالعقبات والجبال لما يلحق الإنسان في أدائها من المشاق، كما
يلحقه في صعود العقبات وقطعها.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إن أمامكم عقبة كؤودا، ومنازل مهولة، لا بد
من الممر بها، والوقوف عليها، فإما برحمة من الله نجوتم، وإما بهلكة ليس بعدها
انجبار".
أراد عليه السلام بالعقبة: تخلص الإنسان من التبعات التي عليه، وليس كما ظنه
الحشوية من أن في الآخرة جبالا وعقبات يحتاج الإنسان إلى قطعها ماشيا وراكبا، وذلك
لا معنى له فيما توجبه الحكمة من الجزاء، ولا وجه لخلق عقبات تسمى بالصلاة والزكاة
والصيام والحج وغيرها من الفرائض، يسأم الإنسان أن يصعدها، فإن كان مقصرا في طاعة
الله حال ذلك بينه وبين صعودها، إذ كان الغرض في القيامة المواقفة على الأعمال
والجزاء عليها بالثواب والعقاب، وذلك غير مفتقر إلى تسمية عقبات وخلق جبال، وتكليف
قطع ذلك وتصعيبه أو تسهيله مع أنه لم يرد خبر صحيح بذلك على التفصيل فيعتمد عليه
وتخرج له الوجوه، وإذا لم يثبت بذلك خبر كان الأمر فيه ما ذكرناه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 120:
فصل: في كيفية نزول الوحي
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله [في نزول الوحي]: اعتقادنا في ذلك أن بين عيني
إسرافيل... إلخ.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: هذا أخذه أبو جعفر رحمه الله من شواذ الحديث،
وفيه خلاف لما قدمه من أن اللوح ملك من ملائكة الله تعالى. وأصل الوحي هو الكلام
الخفي، ثم قد يطلق على كل شيء قصد به إفهام المخاطب على السر له عن غيره والتخصيص
له به دون من سواه، وإذا أضيف إلى الله تعالى كان [فيما يخص] به الرسل صلى الله
عليهم خاصة دون من سواهم على عرف الإسلام وشريعة النبي صلى الله عليه وآله.
قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى
أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية، فاتفق أهل الإسلام على أن الوحي كان رؤيا
مناما أو كلاما سمعته أم موسى في منامها على الاختصاص، قال الله تعالى: {وَأَوْحَى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الآية، يريد به الإلهام الخفي، إذ كان [خاصا بمن]
أفرده به دون من سواه، فكان علمه حاصلا للنحل بغير كلام جهز به المتكلم فأسمعه
غيره.
وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
أَوْلِيَآئِهِمْ} بمعنى ليوسوسون إلى أوليائهم بما يلقونه من الكلام في أقصى أسماعهم،
فيخصون بعلمهم دون من سواهم، وقال سبحانه: {فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} يريد به أشار إليهم من غير
إفصاح الكلام، شبه ذلك بالوحي لخفائه عمن سوى المخاطبين، ولستره عمن سواهم.
وقد يري الله سبحانه وتعالى في المنام خلقا كثيرا ما يصح تأويله [ويثبت حقه]
لكنه لا يطلق بعد استقرار الشريعة عليه اسم الوحي، ولا يقال في هذا الوقت لمن طبعه
الله على علم شيء أنه يوحى إليه.
وعندنا أن الله تعالى يسمع الحجج بعد نبيه صلى الله عليه وآله كلاما يلقيه
إليهم في علم ما يكون، لكنه لا يطلق عليه اسم الوحي لما قدمناه من إجماع المسلمين
على أنه لا وحي [إلى أحد] بعد نبينا صلى الله عليه وآله، وأنه لا يقال في شيء مما
ذكرناه أنه وحي إلى أحد.
ولله تعالى أن يبيح إطلاق الكلام أحيانا ويحظره أحيانا، ويمنع السمات بشيء
حينا ويطلقها حينا. فأما المعاني، فإنها لا تتغير عن حقائقها على ما قدمناه.
فصل: قال الشيخ المفيد رحمه الله: فأما الوحي من الله تعالى إلى نبيه صلى
الله عليه وآله فقد كان تارة بإسماعه الكلام من غير واسطة، وتارة بإسماعه الكلام
على ألسن الملائكة.
والذي ذكره أبو جعفر رحمه الله من اللوح والقلم وما ثبت فيه فقد جاء به
حديث، إلا أنا لا نعزم على القول به، ولا نقطع على الله بصحته، ولا نشهد منه إلا
بما علمناه، وليس الخبر به متواترا يقطع العذر ولا عليه إجماع، ولا نطق به القرآن،
ولا ثبت عن حجة الله تعالى فينقاد له والوجه أن نقف فيه ونجوزه ولا نقطع به ولا
نجزم له ونجعله في حيز الممكن.
فأما قطع أبي جعفر به وعلمه على اعتقاده فهو يستند إلى ضرب من التقليد،
ولسنا من التقليد في شيء.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 123، 127:
فصل: في نزول القرآن
قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله: إن القرآن نزل في شهر رمضان في ليلة القدر
جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثم أنزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة... إلخ.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: الذي ذهب إليه أبو جعفر في هذا الباب أصله حديث
واحد لا يوجب علما ولا عملا. ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالا بحال يدل على
خلاف ما تضمنه الحديث، وذلك أنه قد تضمن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا
يكون على الحقيقة إلا بحدوثه عند السبب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ
قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقوله: {وَقَالُوا
لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} وهذا خبر عن ماض، ولا يجوز
أن يتقدم مخبره، فيكون حينئذ جزاءا عن ماض وهو لم يقع بل هو في المستقبل. وأمثال
ذلك في القرآن كثيرة.
وقد جاء الخبر بذكر الظهار وسببه، وأنها لما [جادلت النبي صلى الله عليه
وآله] في ذكر الظهار أنزل الله تعالى:
{قَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} وهذه قصة كانت بالمدينة
فكيف ينزل الله تعالى الوحي بها بمكة قبل الهجرة، فيخبر بها أنها قد كانت ولم تكن!
ولو تتبعنا قصص القرآن لجاء مما ذكرناه كثير لا يتسع به المقال، وفيما ذكرناه منه
كفاية لذوي الألباب. وما أشبه ما جاء به الحديث بمذهب المشبهة الذين زعموا أن الله
سبحانه وتعالى لم يزل متكلما بالقرآن ومخبرا عما يكون بلفظ كان، وقد رد عليهم أهل
التوحيد بنحو ما ذكرناه.
وقد يجوز في الخبر الوارد في نزول القرآن جملة في ليلة القدر بأن المراد أنه
نزل جملة منه في ليلة القدر ثم تلاه ما نزل منه إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله
فأما أن يكون نزل بأسره وجميعه في ليلة القدر فهو بعيد مما يقتضيه ظاهر القرآن
والمتواتر من الأخبار وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء.
فصل: فأما قوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} ففيه وجهان غير ما ذكره أبو
جعفر وعول فيه على حديث شاذ:
أحدهما: أن الله تعالى نهاه عن التسرع إلى تأويل القرآن قبل الوحي إليه به،
وإن كان في الإمكان من جهة اللغة ما قالوه على مذهب أهل اللسان.
والوجه الآخر: أن جبرئيل عليه السلام كان يوحي إليه بالقرآن فيتلوه معه حرفا
بحرف، فأمره الله تعالى أن لا يفعل ذلك ويصغي إلى ما يأتيه به جبرئيل، أو ينزله
الله تعالى عليه بغير واسطة حتى يحصل الفراغ منه، فإذا تم الوحي به تلاه ونطق به
وقرأه.
فأما ما ذكره المعول على الحديث من
التأويل فبعيد، لأنه لا وجه لنهي الله تعالى له عن العجلة بالقرآن الذي هو في
السماء الأربعة حتى يقضى إليه وحيه، لأنه لم يكن محيطا علما بما في السماء الرابعة
قبل الوحي به إليه، فلا معنى لنهيه عما ليس في إمكانه. اللهم إلا أن يقول قائل ذلك
أنه كان محيطا علما بالقرآن المودع في السماء الرابعة، فينتقض كلامه ومذهبه، لأنه
كان في السماء الرابعة لأن ما في صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وحفظه في الأرض
فلا معنى لاختصاصه بالسماء، ولو كان ما في حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله يوصف
بأنه في السماء الرابعة خاصة لكان ما في حفظ غيره موصوفا بذلك، ولا وجه يكون حينئذ
لإضافته إلى السماء الرابعة، ولا إلى السماء الأولى فضلا عن السماء الرابعة! ومن
تأمل ما ذكرناه علم أن تأويل الآية على ما ذكره المتعلق بالحديث بعيد عن الصواب.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 140، 142:
في تفسير آية: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا} الآية
قال أبو جعفر رحمه الله: إن الله تعالى جعل أجر نبيه صلى الله عليه وآله على
أداء الرسالة وإرشاد البرية مودة أهل بيته عليهم السلام واستشهد على هذا بقوله
تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
قال الشيخ رحمه الله: لا يصح القول بأن الله تعالى جعل أجر نبيه مودة أهل
بيته عليهم السلام ولا أنه جعل ذلك من أجره عليه السلام لأن أجر النبي صلى الله
عليه وآله في التقرب إلى الله تعالى هو الثواب الدائم، وهو مستحق على الله تعالى في
عدله وجوده وكرمه، وليس المستحق على الأعمال يتعلق بالعباد، لأن العمل يجب أن يكون
لله تعالى خالصا، وما كان لله فالأجر فيه على الله تعالى دون غيره.
هذا مع أن الله تعالى يقول: {وَيَا قَوْمِ
لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} وفي موضع آخر: {يَا
قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي
فَطَرَنِي} فلو كان الأجر على ما ظنه أبو جعفر في معنى الآية لتناقض القرآن، وذلك أنه
كان تقدير الآية: قل لا أسألكم عليه أجرا، بل أسألكم عليه أجرا، ويكون أيضا: إن
أجري إلا على الله، بل أجري على الله وعلى غيره. وهذا محال لا يصح حمل القرآن عليه.
فإن قال قائل: فما معنى قوله: {قُل لاَّ
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أو ليس هذا يفيد أنه قد
سألهم مودة القربى لأجره على الأداء؟ قيل له: ليس الأمر على ما ظننت لما قدمناه من
حجة العقل والقرآن والاستثناء في هذا المكان ليس هو من الجملة، لكنه استثناء منقطع،
ومعناه: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}، لكن ألزمكم المودة في
القربى وأسألكموها، فيكون قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا}، كلاما تاما قد استوفى معناه، ويكون قوله: إلا
المودة في القربى، كلاما مبتدأ، فائدته: لكن المودة في القربى سألتكموها، وهذا
كقوله: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ
أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ} والمعنى فيه: لكن إبليس، وليس باستثناء من جملة،
وكقوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ
الْعَالَمِينَ} معناه: لكن رب العالمين ليس بعدو لي، قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
وكان المعنى في قوله: وبلدة ليس بها أنيس، على تمام الكلام واستيفاء معناه،
وقوله: إلا اليعافير، كلام مبتدأ معناه: لكن اليعافير والعيس فيها، وهذا بين لا
يخفى الكلام فيه على أحد ممن عرف طرفا من اللسان، والأمر فيه عند أهل اللغة أشهر من
أن يحتاج معه إلى استشهاد.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 125:
135 - القول في كلام الجوارح ونطقها وشهادتها
وأقول: إن ما تضمنه القرآن من ذكر ذلك. إنما هو على الاستعارة دون الحقيقة،
كما قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى
السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. ولم يكن منهما نطق على التحقيق.
وهذا مذهب أبي القاسم البلخي وجماعة من أهل العدل ويخالف فيه كثير من
المعتزلة وساير المشبهة والمجبرة.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 49، 63:
فإن قال: أليس قد روى أصحاب الحديث عن
النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "خير القرون القرن الذي أنا فيه، ثم الذين
يلونه". وقال عليه السلام: "إن الله تعالى اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم
فقد غفرت لكم". وقال عليه السلام: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" فكيف
يصح مع هذه الأحاديث أن يقترف أصحابه السيئات، أو يقيموا على الذنوب والكبائر
الموبقات؟!
قيل له: هذه أحاديث آحاد، وهي مضطربة
الطرق والإسناد، والخلل ظاهر في معانيها والفساد، وما كان بهذه الصورة لم يعارض
الإجماع ولا يقابل حجج الله تعالى وبيناته الواضحات، مع أنه قد عارضها من الأخبار
التي جاءت بالصحيح من الإسناد، ورواها الثقات عند أصحاب الآثار، وأطبق على نقلها
الفريقان من الشيعة والناصبة على الاتفاق، ما ضمن خلاف ما انطوت عليه فأبطلها على
البيان: فمنها:
ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه
قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا في حجر ضب
لاتبعتموهم" فقالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن إذن؟!".
وقال صلى الله عليه وآله في مرضه الذي
توفي فيه: "أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى".
وقال صلى الله عليه وآله في حجة الوداع
لأصحابه: "ألا وإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم
هذا في بلدكم هذا، ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب، ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفارا،
يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إني قد شهدت وغبتم".
وقال عليه السلام لأصحابه أيضا: "إنكم
محشورون إلى الله تعالى يوم القيامة حفاة عراة، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم
ذات الشمال، فأقول: يا رب، أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم
يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".
وقال عليه السلام "أيها الناس، بينا أنا
على الحوض إذ مر بكم زمرا، فتفرق بكم الطرق، فأناديكم: ألا هلموا إلى الطريق،
فيناديني مناد من ورائي: إنهم بدلوا بعدك، فأقول: ألا سحقا، ألا سحقا".
وقال عليه السلام: "ما بال أقوام يقولون:
إن رحم رسول الله صلى الله عليه وآله لا تنفع يوم القيامة، بلى والله إن رحمي
لموصولة في الدنيا والآخرة، وإني أيها الناس فرطكم على الحوض، فإذا جئتم، قال الرجل
منكم: يا رسول الله أنا فلان بن فلان، وقال الآخر: أنا فلان بن فلان، فأقول: أما
النسب فقد عرفته، ولكنكم أحدثتم بعدي فارتددتم القهقري".
وقال عليه السلام وقد ذكر عنده الدجال:
"أنا لفتنة بعضكم أخوف مني لفتنة الدجال".
وقال عليه السلام "إن من أصحابي من لا
يراني بعد أن يفارقني". في أحاديث من هذا الجنس يطول شرحها، وأمرها في الكتب عند
أصحاب الحديث أشهر من أن يحتاج فيه إلى برهان، على أن كتاب الله عز وجل شاهد بما
ذكرناه، ولو لم يأت حديث فيه لكفى في بيان ما وصفناه:
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ
رَسُولٌ
قَدْ
خَلَتْ
مِن
قَبْلِهِ
الرُّسُلُ
أَفَإِن
مَّاتَ
أَوْ
قُتِلَ انقَلَبْتُمْ
عَلَى
أَعْقَابِكُمْ
وَمَن
يَنقَلِبْ
عَلَىَ
عَقِبَيْهِ
فَلَن
يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي
اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}،
فأخبر تعالى عن ردتهم بعد نبيه صلى الله عليه وآله على القطع والثبات.
وقال جل اسمه: {وَاتَّقُواْ
فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فأنذرهم الله سبحانه من الفتنة في الدين،
وأعلمهم أنها تشملهم على العموم، إلا من خرج بعصمة الله من الذنوب.
وقال سبحانه وتعالى: {الم
* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ *
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ}
وهذا صريح في الخبر عن فتنتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله بالاختبار، وتمييزهم
بالأعمال.
وقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}
إلى آخر الآية، دليل على ما ذكرناه.
وقوله تعالى: {أَمْ
حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}
يزيد ما شرحناه. ولو ذهبنا إلى استقصاء ما في هذا الباب من آيات القرآن، والأخبار
عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لانتشر القول فيه، وطال به الكتاب. وفي قول أنس
بن مالك: دخل رسول الله صلى الله عليه وآلهالمدينة، فأضاء منها كل شيء، فلما مات
عليه السلام أظلم منها كل شيء، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وآله الأيدي ونحن
في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا، شاهد عدل على القوم بما بيناه.
مع أنا نقول لهذا السائل المتعلق بالأخبار
الشواذ المتناقضة ما قدمنا حكايته، وأثبتنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
الذين توهمت أنهم لا يقارفون الذنوب، ولا يكتسبون السيئات، هم الذين حصروا عثمان
ابن عفان، وشهدوا عليه بالردة عن الإسلام، وخلعوه عن إمامة الأنام، وسفكوا دمه على
استحلال، وهم الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد العهود والإيمان،
وحاربوه بالبصرة، وسفكوا دماء أهل الإسلام، وهم القاسطون بالشام، ومنهم رؤساء
المارقة عن الدين والإيمان، ومن قبل منع جمهورهم الزكاة حتى غزاهم إمام عدل عندكم،
وسبي ذراريهم، وحكم عليهم بالردة والكفر والضلال.
فإن زعمت أنهم فيما قصصناه من أمرهم على
الصواب، فكفاك خزيا بهذا المقال، وإن حكمت عليهم أو على بعضهم بالخطأ وارتكاب
الآثام بطلت أحاديثك، ونقضت ما بينته من الاعتلال.
ويقال له أيضا: وهؤلاء الصحابة الذين رويت
ما رويت فيهم من الأخبار، وغرك منهم التسمية لهم بصحبة النبي صلى الله عليه وآله،
وكان أكابرهم وأفاضلهم أهل بدر، الذين زعمت أن الله قطع لهم المغفرة والرضوان، هم
الذي نطق القرآن بكراهتهم للجهاد، ومجادلتهم للنبي صلى الله عليه وآله في تركه،
وضنهم بأنفسهم من نصره، ورغبتهم في الدنيا، وزهدهم في الثواب، فقال جل اسمه: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ
فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ
يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن
يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ
الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
ثم زجرهم الله تعالى عن شقاق نبيهم صلى
الله عليه وآله، لما علم من خبث نياتهم وأمرهم بالطاعة والإخلاص، وضرب لهم فيما
أنبأ به من بواطن أخبارهم وسرائرهم الأمثال، وحذرهم من الفتنة بارتكابهم قبائح
الأعمال، وعدد عليهم نعمه ليشكروه ويطيعوه فيما دعاهم إليه من الأعمال، وأنذرهم
العقاب من الخيانة لله جلت عظمته، ولرسوله صلى الله عليه وآله، فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ *
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * إِنَّ
شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ *
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ
لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ
لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ
يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُواْ
فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ
فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم
بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ
أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ
وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
ومن قبيل هذا ما أكده عليهم من فرض الصبر
في الجهاد، وتوعدهم بالغضب على الهزيمة، لما علم من ضعف بصائرهم ، فلم يلتفتوا إلى
وعيده، وأسلموا نبيه صلى الله عليه وآله إلى عدوه في مقام بعد مقام.
فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا
لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى
فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ}.
هذا وقد أخبر جل اسمه عن عامة من حضر بدرا
من القوم، ومحبتهم للحياة، وخوفهم من الممات، وحضورهم ذلك المكان طمعا في الغنائم
والأموال، وأنهم لم يكن لهم نية في نصرة الإسلام. فقال تعالى: {إِذْ أَنتُم
بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ
مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن
لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن
بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ *
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا
لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
وقال في القوم بأعيانهم، وقد أمرهم نبيهم
صلى الله عليه وآله بالخروج إلى بدر، فتثاقلوا عنه، واحتجوا عليه، ودافعوه عن
الخروج معه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ
وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ
أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا
أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ
خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً * أَيْنَمَا تَكُونُواْ
يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} الآية.
وقال تعالى فيهم وقد كان لهم في الأسرى من
الرأي: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. فأخبر سبحانه بالنص الذي لا يحتمل التأويل أنهم
أرادوا الدنيا دون الآخرة، وآثروا العاجلة على الآجلة، وتعمدوا من العصيان ما لولا
سابق علم الله وكتابه، لعجل لهم العقاب.
وقال تعالى فيما قص من نبأهم في يوم أحد،
وهزيمتهم من المشركين، وتسليم النبي صلى الله عليه وآله: {إِذْ
تُصْعِدُونَ
وَلاَ
تَلْوُونَ
عَلَى
أحَدٍ وَالرَّسُولُ
يَدْعُوكُمْ
فِي
أُخْرَاكُمْ
فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً
بِغَمٍّ
لِّكَيْلاَ
تَحْزَنُواْ
عَلَى
مَا
فَاتَكُمْ وَلاَ
مَا
أَصَابَكُمْ
وَاللَّهُ
خَبِيرٌ
بِمَا
تَعْمَلُونَ}.
وقال جل اسمه في قصتهم بحنين، وقد ولوا
الأدبار ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام،
والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وسبعة من بني هاشم ليس معهم غيرهم من الناس: {وَيَوْمَ
حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا
وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ *
ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ...}
يعني أمير المؤمنين عليه السلام، والصابرين معه من بني هاشم دون سائر المنهزمين.
وقال سبحانه في نكثهم عهود النبي صلى الله
عليه وآله وهو حي بين أظهرهم موجود: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن
قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}.
وقد سمع كل من سمع من الأخبار، ما كان
يصنعه كثير منهم، والنبي صلى الله عليه وآله حي بين أظهرهم، والوحي ينزل عليه
بالتوبيخ لهم والتعنيف والإيعاد، ولا يزجرهم ذلك عن أمثال ما ارتكبوه من الآثام:
فمن ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب على المنبر في يوم الجمعة، إذ
جاءت عير لقريش قد أقبلت من الشام، ومعها من يضرب بالدف ويصفر، ويستعمل ما حظره
الإسلام، فتركوا النبي صلى الله عليه وآله قائما على المنبر، وانفضوا عنه إلى اللهو
واللعب، رغبة فيه، وزهدا في سماع موعظة النبي صلى الله عليه وآله، وما يتلوه عليهم
من القرآن. فأنزل الله عز وجل فيهم: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا
انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ
اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات
يوم يصلي بهم، إذ أقبل رجل ببصره سوء يريد المسجد للصلاة، فوقع في بئر كانت هناك
فضحكوا منه واستهزؤوا به، وقطعوا الصلاة، ولم يوقروا الدين، ولا هابوا النبي صلى
الله عليه وآله، فلما سلم النبي صلى الله عليه وآله، قال: "من ضحك فليعد وضوءه
والصلاة".
ولما تأخرت عائشة وصفوان بن المعطل في
غزوة بني المصطلق، أسرعوا إلى رميها بصفوان، وقذفوها بالفجور، وارتكبوا في ذلك
البهتان. وكان منهم في ليلة العقبة من التنفير لناقته صلى الله عليه وآله،
والاجتهاد في رميه عنها وقتله بذلك ما كان. ثم لم يزالوا يكذبون عليه صلى الله عليه
وآله في الأخبار حتى بلغه ذلك، فقال: "كثرت الكذابة علي فما أتاكم عني من حديث
فاعرضوه على القرآن".
فلو لم يدل على تهاونهم بالدين،
واستخفافهم بشرع نبيهم صلى الله عليه وآله، إلا أنهم كانوا قد تلقوا عنه أحكام
الإسلام على الاتفاق، فلما مضى صلى الله عليه وآله من بينهم جاؤوا بجميعها على غاية
الاختلاف، لكفى في ظهور حالهم ووضح به أمرهم وبان، فكيف وقد ذكرنا من ذلك طرفا
يستبصر به أهل الاعتبار، وإن عدلنا عن ذكر الأكثر إيثارا للاختصار.
فأما من كان منهم يظاهر النبي صلى الله
عليه وآله بالإيمان، ممن يقيم معه الصلاة، ويؤتي الزكاة، وينفق في سبيل الله، ويحضر
الجهاد، ويباطنه بالكفر والعدوان، فقد نطق بذكره القرآن كما نطق بذكر من ظهر منه
النفاق:
قال الله تعالى: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ
قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ
قَلِيلاً}.
وقال جل اسمه فيهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ
نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ
الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ}.
وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ
إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}. وقال سبحانه:
{وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ
فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}.
وقال عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ
تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ
خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ
فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
وقال فيهم وقد أحاطوا بالنبي صلى الله
عليه وآله، وجعلوا مجالسهم منه عن يمينه وشماله، ليلبسوا بذلك على المؤمنين:
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ * عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ عِزِينَ * أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ
نَعِيمٍ * كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ}. ثم دل الله تعالى نبيه
صلى الله عليه وآلهعلى جماعة منهم وأمره بتألفهم، والاغضاء عمن ظاهره بالنفاق منهم،
فقال: {سَيَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ
فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا
كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.
وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
وقال تعالى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ }.
وجعل لهم في الصدقة سهما منصوصا، وفي
الغنائم جزءا مفروضا، وكان من عددناه، وتلونا فيه القرآن، وروينا في أحواله
الأخبار، قد كانوا من جملة الصحابة، وممن شملهم اسم الصحبة، ويتحقق إلى الاعتزاء
إلى النبي صلى الله عليه وآله على طبقاتهم في الخطأ والعمد والضلال والنفاق بحسب ما
شرحناه، فهل يتعلق عاقل بعد هذا بذكر الصحبة، ومشاهدة النبي صلى الله عليه وآله في
القطع على فعل الصواب، وهل يوجب بذلك العصمة والتأييد، إلا بأنه مخذول مصدود عن
البيان؟!.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 65، 69:
فصل: فإن قال قائل: لسنا ندفع أنه قد كان
في وقت رسول الله صلى الله عليه وآله طوائف من أهل النفاق يستترون بالإسلام، وأن
منهم من كان أمره مطويا عن النبي صلى الله عليه وآله، منهم من فضحه الوحي وعرفه
الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله، ولا ندفع أيضا أنه قد وقع من جماعة من الصحابة
الأخيار ذلك سهوا عن الصواب، وخطأ في الهزيمة من الذي فرض عليهم مصابرته في الجهاد،
فإن الله تعالى قد عفا عنهم بما أنزله في ذلك من القرآن. لكنا ندفعكم عن تخطئة أهل
السقيفة، ومن اتبعهم من أهل السوابق والفضائل، ومن قطع له رسول الله صلى الله عليه
وآله بالسلامة، وحكم له بالصواب، وأخبر عنه أنه من أهل الجنان، كأبي بكر وعمر
وعثمان وعلي عليه السلام، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن نفيل
وعبد الرحمن بن عوف الزهري وأبي عبيدة بن الجراح، الذين قال النبي صلى الله عليه
وآله فيهم: "عشرة من أصحابي في الجنة" على ما جاء به الثابت في الأخبار، ومن قاربهم
في الفضائل، وماثلهم في استحقاق الثواب، فيجب أن يكون الكلام في هؤلاء القوم على
الخصوص، دون العموم في الأتباع والأصحاب.
قيل لهم: لو كان سؤالكم فيما سلف عن خاصة
من عممتموه على الإطلاق، لصدر جوابنا عنه بحسب ذلك على التمييز والإفراد، لكنكم
تعلقتم بالاسم الشامل، فاغتررتم باستحقاق التسمية بالصحبة والاتباع على الإطلاق،
فأوضحنا لكم عن غلطكم فيما ظننتموه منه بما لا يستطاع دفعه على الوجوه كلها
والأسباب.
وإذا كنتم الآن قد رغبتم عن ذلك السؤال،
واعتمدتم في المسألة عمن ذكرتموه على الخصوص دون كافة الأصحاب، فقد سقطت أعظم
أصولكم في الكلام، وخرجت الصحبة والاتباع والمشاهدة وسماع الوحي والقرآن، وإقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة، والإنفاق والجهاد من إيجاب الرحمة والرضوان، وسقط الاحتجاج
في الجملة، بالعصمة من كبائر الآثام والردة عن الإسلام بذلك، وبما رويتموه عن النبي
صلى الله عليه وآله من الأخبار، ولم يبق لكم فيمن تتولونه وتدينون بإمامته إلا الظن
والعصبية للرجال، والتقليد في الاعتقاد، والاعتماد على ما يجري مجرى الأسمار
والخرافات، وما لا يثبت على السير والامتحان ، وسنقفكم على حقيقة ذلك فيما نورده من
الكلام، إن شاء الله تعالى.
فصل: وعلى أن الذي تلوناه في باب الأسرى،
وإخبار الله تعالى عن إرادة المشير به لعرض الدنيا، وحكمه عليه باستحقاق تعجيل
العقاب، لولا ما رفع عن أمة رسول الله صلى الله عليه وآله من ذلك، وأخره للمستحقين
منهم إلى يوم المآب، لخص أبا بكر ومن شاركه في نيته وإرادته فيه، لأنه هو المشير في
الأسرى بما أشار على الإجماع من الأمة والاتفاق، فما عصمته السوابق والفضائل على ما
ادعيتموه له من الأخبار بعاقبته، والقطع له بالجنان، حسبما اختلفتموه من الغلط في
دين الله عز وجل، والتعمد لمعصية الله، وإيثار عاجل الدنيا على ثواب الله تعالى،
حتى وقع من ذلك ما أبان الله به عن سريرته، وأخبر لأجله عن استحقاقه لعقابه، وهو
وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد وسعيد وأبو عبيدة بن الجراح في جملة من
انهزم يوم أحد، وتوجه إليهم الوعيد من الله عز وجل، ولحقهم التوبيخ والتعنيف على ما
اكتسبوه بذلك من الآثام في قوله تعالى: {إِذْ
تُصْعِدُونَ
وَلاَ
تَلْوُونَ
عَلَى
أحَدٍ}
الآية.
وكذلك كانت حاله يوم حنين، بلا اختلاف بين
نقلة الآثار، ولم يثبت أحد منهم مع النبي صلى الله عليه وآله، وكان أبو بكر هو الذي
أعجبته في ذلك اليوم كثرة الناس، فقال: لم نغلب اليوم من قلة.
ثم كان أول المنهزمين، ومن ولى من القوم
الدبر، فقال الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ} فاختص من التوبيخ به لمقاله بما لم
يتوجه إلى غيره، وشارك الباقين في الذم على نقض العهد والميثاق.
وقد كان منه ومن صاحبه يوم خيبر ما لا
يختلف فيه من أهل العلم اثنان، وتلك أول حرب حضرها المسلمون بعد بيعة الرضوان، فلم
يفيا لله تعالى بالعقد مع قرب العهد، وردا راية رسول الله صلى الله عليه وآله على
أقبح ما يكون من الانهزام، حتى وصفهما رسول الله صلى الله عليه وآله بالفرار،
وأخرجهما من محبة الله عز وجل، ومحبة رسوله صلى الله عليه وآله بفحوى مقاله لأمير
المؤمنين عليه السلام، أو ما يدل عليه الخطاب حيث يقول: "لأعطين الراية غدا رجلا
يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار ، لا يرجع حتى يفتح الله على
يديه" فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام. هذا وقد دخل القوم كافة سوى أمير
المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: {وَلَقَدْ
كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ
اللَّهِ مَسْؤُولاً}.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 69، 71:
فأما ما تعلقوا به في العفو عنهم في قوله
تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ
تَوَلَّوْاْ
مِنكُمْ يَوْمَ
الْتَقَى
الْجَمْعَانِ
إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطَانُ
بِبَعْضِ
مَا كَسَبُواْ
وَلَقَدْ
عَفَا
اللَّهُ عَنْهُمْ} الآية، فإنه طريف، يدل على جهلهم، وضعف عقولهم، وذلك أنهم راموا
بما تعلقوا به من السوابق التي زعموا لأئمتهم، والقضايا والأخبار عن العواقب دفعا
عن إضافة الظلم إليهم، والخطأ في دفع النص على أمير المؤمنين عليه السلام، وجحد
حقوقه بعد النبي صلى الله عليه وآله، بما جلب عليهم إيجاب التخطئة لهم في حياة
الرسول صلى الله عليه وآله، والحكم عليهم بنقض العهود، وارتكاب كبائر الذنوب، وتوجه
الذم إليهم من أجل ذلك والوعيد، ثم اشتغلوا بطلب الحيل في تخليصهم من ذلك وتمحل
وجوه العفو عنهم فيما لا يمكنهم دفاعه من خلافهم على الله تعالى، وعلى نبيه صلى
الله عليه وآله وهو بين أظهرهم، وما كان أغناهم عن هذا التخليط والتهور لو سلكوا
طريق الرشاد، ولم تحملهم العصبية على
تورطهم ، وتدخلهم في العناد!.
وبعد: فإن العفو من الله سبحانه قد يكون
عن العاجل من العقاب، وقد يكون عن الآجل من العذاب، وقد يكون عنهما جميعا إذا شاء،
وليس في الآية أنه عفا عنهم على كل حال، ولا أنه يعفو عنهم في يوم المآب، بل ظاهرها
يدل على الماضي دون المستقبل، ويؤيده قوله تعالى: {وَلَقَدْ
كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ
اللَّهِ مَسْؤُولاً}. فقد ثبت أنه لا يكون العفو في كل حال،
وإن عفا فقد عفا عن السؤال، فإذن لا بد أن يكون معنى العفو على ما قلناه في الدنيا
عن العاجل دون الآجل، كما عفا سبحانه عنهم في يوم بدر، لما كان منهم من الرأي في
الأسرى، وقد أخبر أنه لولا ما سبق في كتابه، من دفع العقاب عن أمة محمد صلى الله
عليه وآله، وترك معاجلتهم بالنقمات، لمسهم منه جل جلاله عذاب عظيم، أو يكون العفو
عن خاص من القوم دون العموم، وإلا لتناقض القرآن.
وعلى أي الوجهين ثبت العفو عن المذكورين،
فقد خرج الأمر عن يد خصومنا في براءة ساحة من يذهبون إلى إمامته وتعظيمه والولاية
له لأنه لا تتميز الدعوى إلا بدليل، ولا دليل للقوم إلا ما تلوناه في العفو، وذلك
غير موجب بنفسه التغيير والتمييز بخروجه عن الاستيعاب، وعن الوقوع على كل حال.
على أنا لو سلمنا لهم العفو عنهم على ما
تمنوه، لما أوجب ذلك لهم العفو عما اكتسبوه من بعد من الذنوب، ولا دل على عصمتهم
فيما يستقبل من الأوقات، ولا خروجهم عن العمد في المعاصي والشبهات، فأين وجه الحجة
لهم فيما اعتمدوه لولا ضعف الرأي واليقين؟!
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 77، 84:
فصل: فإن قال قائل: فإني أترك التعلق
بالخبر عن النبي صلى الله عليه وآله بأن القوم في الجنة لما طعنتم به فيه، مما لا
أجد منه مخلصا، ولكن خبروني عن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ
الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا
الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
أليس قد أوجب لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد جنات عدن، ومنع بذلك
من تجويز الخطأ عليهم في الدين والزلل عن الطريق المستقيم، فكيف يصح القول مع ذلك
بأن الإمامة كانت دونهم لأمير المؤمنين عليه السلام وأنهم دفعوه بالتقدم عليه عن حق
وجب له على اليقين، وهل هذا إلا متناقض؟!.
قيل له: إن الله سبحانه لا يعد أحدا
بالثواب إلا على شرط الإخلاص والموافاة بما يتوجه الوعد بالثواب عليه، وأجل من أن
يعري ظاهر اللفظ بالوعد عن الشروط، لما في العقل من الدليل على ذلك والبرهان. وإذا
كان الأمر على ما وصفناه، فالحاجة ماسة إلى ثبوت أفعال من ذكرت في السبق والطاعة
لله تعالى في امتثال أوامره ظاهرا على وجه الإخلاص، ثم الموافاة بها على ما ذكرناه
حتى يتحقق لهم الوعد بالرضوان والنعيم المقيم وهذا لم يقم عليه دليل، ولا تثبت لمن
ذكرت حجة توجب العلم واليقين، فلا معنى للتعلق بظاهر الآية فيه، مع أن الوعد من
الله تعالى بالرضوان إنما توجه إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، دون أن
يكون متوجها إلى التالين الأولين. والذين سميتهم من المتقدمين على أمير المؤمنين
عليه السلام ومن ضممت إليهم في الذكر، لم يكونوا من الأولين في السبق، وإنما كانوا
من التالين للأولين، والتالين للتالين.
والسابقون الأولون من المهاجرين، هم: أمير
المؤمنين عليه السلام، وجعفر بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، وخباب، وزيد بن
حارثة، وعمار وطبقتهم. ومن الأنصار النقباء المعروفون، كأبي أيوب، وسعد بن معاذ،
وأبي الهيثم بن التيهان، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ومن كان في طبقتهم من
الأنصار. فأما أصحابك فهم الطبقة الثانية ممن ذكرناه، والوعد إنما حصل للمتقدمين في
الإيمان دونهم على ما بيناه، وهذا يسقط ما توهمت.
فصل: ثم يقال له: قد وعد الله المؤمنين
والمؤمنات في الجملة مثل وعد به السابقين من المهاجرين والأنصار، ولم يوجب ذلك نفي
الغلط عن كل من استحق اسم الإيمان، ولا إيجاب العصمة له من الضلال، ولا القطع له
بالجنة على كل حال. قال الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ
عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فإن وجب للمتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام الثواب على كل حال، لاستحقاقهم
الوصف بأنهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على ما ادعيت لهم في
المقال، فإنه يجب مثل ذلك لكل من استحق اسم الإيمان في حال من الأحوال، بما تلوناه،
وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإسلام.
ويقال له أيضا: قد وعد الله الصادقين مثل
ذلك، فقطع لهم بالمغفرة والرضوان، فقال سبحانه: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ
الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. فهل يجب لذلك أن يقطع على كل من صدق في مقاله بالعصمة من
الضلال، ويوجب له الثواب المقيم، وإن ضم إلى فعله قبائح الأفعال؟!. فإن قال: نعم.
خرج عن ملة الإسلام، وإن قال: لا يجب ذلك لعلة من العلل. قيل له في آية السابقين
مثل ما قال، فإنه لا يجد فرقا.
ويقال له أيضا: ما تصنع في قول الله
تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ
قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}؟! أتقول
أن كل من صبر على مصاب فاسترجع مقطوع له بالعصمة والأمان من العذاب، وإن كان مخالفا
لك في الاعتقاد، بل مخالفا للإسلام؟! فإن قال: نعم ظهر خزيه، وإن قال: لا يجب ذلك.
وذهب في الآية إلى الخصوص دون الاشتراط، سقط معتمده من عموم آية السابقين، ولم يبق
معه ظاهر فيما اشتبه به الأمر عليه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وخطأ
المتقدمين عليه حسب ما ذكرناه.
وهذا باب إن بسطنا القول فيه ، واستوفينا
الكلام في معانيه، طال به الخطاب، وفيما اختصرناه كفاية لذوي الألباب.
فصل: فإن قال في أصل الجواب أنه لا يجوز
تخصيص السابقين الأولين، ولا الاشتراط فيهم، لأنه سبحانه قد اشترط في التابعين،
وخصهم بقوله: {وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ}. فلو كان في
السابقين الأولين من يقع منه غير الحسن الجميل، لما أطلق الرضا عنهم في الذكر ذلك
الإطلاق، واشترط فيمن وصله بهم من التابعين.
قيل له: أول ما في هذا الباب، أنك أوجبت
للسابقين بهذا الكلام العصمة من الذنوب، ورفعت عنهم جواز الخطأ وما يلحقهم به من
العيوب، والأمة مجمعة على خلاف ذلك لمن زعمت أن الآية فيه صريحة، لأن الشيعة تذهب
إلى تخطئة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام، والمعتزلة والشيعة وأكثر
المرجئة وأصحاب الحديث يضللون طلحة والزبير في قتالهم أمير المؤمنين عليه السلام،
والخوارج تخطئ أمير المؤمنين عليه السلام وتبرأ منه ومن عثمان، وطلحة والزبير ومن
كان في حيزهما، وتكفرهم بحربهم أمير المؤمنين عليه السلام، وولايتهم عثمان بن عفان،
فيعلم أن إيجاب العصمة لمن يزعم أن الله تعالى عناه في الآية بالرضوان باطل، والقول
به خروج عن الإجماع.
على أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ
رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}
ليس هو شرطا في التابعين، وإنما هو وصف للاتباع، وتمييز له من ضروبه التي لا يوجب
شيء منها الرحمة والغفران، وهذا مما لا يبطل الخصوص في السابقين، والشرط في أفعالهم
على ما ذكرناه.
مع أنا قد بينا أن المراد بالسابقين
الأولين، هم الطبقة الأولى من المهاجرين والأنصار، وذكرنا أعيانهم وليس من
المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام والمخالفين عليه من كان من الأولين، وإن
كان فيهم جماعة من التالين، ولسنا ندفع ظاهر الأولين من القوم، وأنهم من أهل الثواب
وجنات النعيم على عمومهم دون الخصوص، وهذا أيضا يسقط تعلقهم بما ذكروه في التابعين،
على أنه لا يمتنع أن يكون الشرط في التابعين شرطا في السابقين، ويكتفى به بذكر
السابقين للاختصار، ولأن وروده في الذكر على الاقتران. ويجري ذلك مجرى قوله تعالى:
{وَاللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ}.
ويقال له أيضا: أليس الله تعالى يقول: {كُلُّ
نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *
إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ }. وفي الأنفس من لم يرده، ولم يستثنه
لفظا، وهم: الأطفال والبله والبهائم والمجانين؟! وإنما يدل استثناؤهم لفظا على
استثناء أهل العقول. فبم ينكر أن يكون الشرط في السابقين مثل الشرط في التابعين،
وأن اللفظ من ذكر السابقين موجود في التابعين؟ وهذا بين لمن تدبره. على أن الذي
ذكرناه في الخبر، وبينا أنه لا يجوز من الحكيم تعالى أن يقطع بالجنة إلا على شرط
الإخلاص، لما تحظره الحكمة من الاغراء بالذنوب، يبطل ظنهم في تأويل هذه الآية، وكل
ما يتعلقون به من غيرها في القطع على أمان أصحابهم من النار، للإجماع على ارتفاع
العصمة عنهم، وأنهم كانوا ممن يجوز عليه اقتراف الآثام، وركوب الخلاف لله تعالى على
العمد والنسيان، وقد تقدم ذلك فيما سلف، فلا حاجة بنا إلى الإطالة فيه.
فصل آخر: ويمكن أيضا مما ذكرناه من أمر
طلحة والزبير وقتالهما لأمير المؤمنين عليه السلام، وهما عند المخالفين من السابقين
الأولين، ويضم إليه ما كان من سعد بن عبادة، وهو سيد الأنصار ومن السابقين الأولين،
ونقباء رسول الله صلى الله عليه وآله في السقيفة، ترشح للخلافة، ودعا أصحابه إليه،
وما راموه من البيعة له على الإمامة حتى غلبهم المهاجرون على الأمر، فلم يزل مخالفا
لأبي بكر وعمر، ممتنعا عن بيعتهما في أهل بيته وولده وأشياعه إلى أن قتل بالشام على
خلافهما ومباينتهما. وإذا جاز من بعض السابقين دفع الحق في الإمامة، واعتقاد الباطل
فيها، وجاز من بعضهم استحلال الدم على الضلال، والخروج من الدنيا على غير توبة
ظاهرة للأنام، فما تنكر من وقوع مثل ذلك من المتقدمين على أمير المؤمنين عليه
السلام وإن كانوا من السابقين الأولين وما الذي يعصمهم مما وقع من شركائهم في السبق
والهجرة وغير ذلك مما تعدونه لهم في الصفات، وهذا مما لا سبيل إلى دفعه.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 85، 89:
فصل: فإن قال: فإذا كنتم قد أخرجتم
المتقدمين على أمير المؤمنين والمحاربين له والقاعدين عنه من رضا الله تعالى، وما
ضمنته آية السابقين بالشرط على ما ذكرتم، والتخصيص الذي وصفتم، ولما اعتمدتموه من
تعريهم من العصمة، وما واقعه من سميتموه منهم على الإجماع من الذنوب، فخبروني عن
قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.
فكيف يصح لكم تأويله بما يخرج القوم من الرضا والغفران، والإجماع منعقد على أن أبا
بكر وعمر وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا قد بايعوا تحت الشجرة، وعاهدوا النبي صلى الله
عليه وآله، أو ليس هذا الإجماع يوجب الرضا على البيان؟.
قيل له: القول في الآيتين جميعا سواء، وهو
في هذه الآية أبين وأوضح وأقرب طريقا، وذلك أن الله تعالى ذكر المبايعين، وخصص من
توجه إليه الرضا من جملتهم بعلامات نطق بها التنزيل، ودل بذلك على أن أصحابك أيها
الخصم خارجون عن الرضا على التحقيق، فقال جل اسمه: {لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ
فَتْحًا قَرِيبًا}.
فخص سبحانه بالرضا منهم من علم الله منهم
الوفاء، وجعل علامته من بينهم ثباته في الحروب بنزول السكينة عليه، وكون الفتح
القريب به وعلى يديه، ولا خلاف بين الأمة أن أول حرب لقيها رسول الله صلى الله عليه
وآله بعد بيعة الرضوان حرب خيبر، وأنه قدم أبا بكر فيها فرجع منهزما فارا من مرحب،
وثنى بعمر فرجع منهزما فارا، يجبن أصحابه ويجبنونه. فلما رأى ذلك رسول الله صلى
الله عليه وآله، قال: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله،
كرارا غير فرارا، لا يرجع حتى يفتح الله تعالى على يديه" فأعطاها أمير المؤمنين
عليه السلام فلقي مرحبا فقتله، وكان الفتح على يديه واختص الرضا به، ومن كان معه من
أصحابه وأتباعه، وخرج صاحباك من الرضا بخروجهما عن الوفاء، وتعريهما من السكينة،
لانهزامهما وفرارهما وخيبتهما من الفتح القريب، لكونه على يد غيرهما، وخرج من سميت
من أتبعاهما منه، إذ لا فتح لهم ولا بهم على ما ذكرناه وانكشف عن الرجلين خاصة،
بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "ويحبه الله ورسوله" ما كان مستورا،
لاستحقاقهما في الظاهر ضد ذلك من الوصف، كما استحقا اسم الفرار دون الكرار، ولولا
أن الأمر كما وصفناه لبطل معنى كلام النبي صلى الله عليه وآله، ولم يكن له فائدة،
وفسد تخصيصه عليا عليه السلام بما ضمنه من الثناء على ما شرحناه.
ومما يؤيد ذلك ويزيده بيانا قول الله عز
وجل: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ
لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً}.
فدل على أنه تعالى يسأل المولين يوم القيامة عن العهد، ويعاقبهم بنقض العهد، وليس
يصح اجتماع الرضا والمسألة والعقاب لشخص واحد، فدل ذلك على خصوص الرضا، ووجب إلحاقه
في الحكم بما لا يتوجه إليه السؤال، وإذا وجب ذلك بطل تعلق الخصم في الآية بالعموم،
وسقط اعتماده على البيعة في الجملة.
وعلى كل حال، هذا إن لم يكن في الآية
نفسها وفيما تلوناه بعدها دليل على خروج القوم من الرضا، وكان الأمر ملتبسا، فكيف
وفيها أوضح برهان بما رتبناه؟! ومما يدل على خصوص الآية أيضا قوله تعالى: {وَمَن
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً
إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ}. فتوعد على الفرار
بالغضب والنار، كما وعد على الوفاء بالرضا والنعيم، فلو كانت آية الرضا في
المبايعين على العموم وعدم الشرط لبطل الوعيد، وخرجت الآية النازلة عن الحكمة، ولم
يحصل لها فائدة ولا مفهوم، وذلك فاسد بلا ارتياب.
ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن
قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.
وهذا صريح باختصاص الرضا بطائفة من المبايعين دون الجميع، وبثبوت الخصوص في الموفين
بظاهر التنزيل الذي لا يمكن لأحد دفعه، إلا بالخروج عن الدين. على أن بعض أصحابنا
قد سلم لهم ما ظنوه من توجه الرضا إلى جميع المبايعين، وأراهم أنه غير نافع لهم
فيما اعتقدوه، لأن الرضا للماضي من الأفعال، وما هو في الحال لا يعصم من وقوع ضده
الموجب للسخط في المستقبل، وما يتوقع من الأحوال، وهذا ما لا يمكن لأحد من خصومنا
دفعه، إلا من قال منهم بالموافاة فإنه يتعلق بها، وكلامي المتقدم يكفي في الكثير
على الجميع، والحمد لله.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 90، 106:
فصل: فإن قال: قد فهمت ما ذكرتموه في هذه
وما قبلها من الآي، ولست أرى لأحد حجة في دفعه لوضوحه في البيان، ولكن خبروني عن
قوله تعالى في سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ
أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. أليس قد ذكر
المفسرون أنها في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب عليه السلام؟! واستدل
المتكلمون من مخالفيكم على صحة ذلك، بما حصل لهم من جميع هذه الصفات: فأولها: أنهم
كانوا حاضرين لنزولها بدليل كاف المواجهة بلا اختلاف، ثم أنهم كانوا ممن خاف في أول
الإسلام، فآمنهم الله تعالى، ومكن لهم في البلاد، وخلفوا النبي صلى الله عليه وآله
وأطاعهم العباد، فثبت أنها نزلت فيهم بهذا الضرب من الاعتبار، وإلا فبينوا لنا
الوجه في معناها، إن لم يكن الأمر على ما ذكرناه.
قيل له: إن تفسير القرآن لا يؤخذ بالرأي،
ولا يحمل على اعتقادات الرجال والأهواء، وما حكيته من ذلك عن المفسرين فليس هو
إجماعا منهم، ولا مرجوعا به إلى ثقة ممن تعاطاه ومن ادعاه، ولم يسنده إلى النبي صلى
الله عليه وآله، ولا إلى من تجب طاعته على الأنام. وممن فسر القرآن عبد الله بن
عباس، والمحكي عنه في تأويل هذه الآية غير ما وصفت بلا تنازع بين حملة الآثار،
وكذلك المروي عن محمد بن علي عليهما السلام، وعن عطاء ومجاهد، وإنما ذكر ذلك برأيه
وعصبيته مقاتل بن سليمان، وقد عرف نصبه لآل محمد صلى الله عليه وآله وجهله وكثرة
تخاليطه في الجبر والتشبيه، وما ضمنته كتبه في معاني القرآن.
على أن المفسرين للقرآن طائفتان: شيعة ،
وحشوية، فالشيعة لها في هذه الآية تأويل معروف تسنده إلى أئمة الهدى عليهم السلام،
والحشوية مختلفة في أقاويلها على ما ذكرناه، فمن أين يصح إضافة ما ادعوه من التأويل
إلى مفسري القرآن جميعا على الإطلاق، لولا عمى العيون وارتكاب العناد؟! فأما ما
حكوه في معناها عن المتكلمين منهم، فقد اعتمده جميعهم على ما وصفوه بالاعتبار الذي
ذكروه، وهو ضلال عن المراد، وخطأ ظاهر الفساد، من وجوه لا تخفى على من وفق للرشاد:
أحدها:
أن الوعد مشترط بالإيمان على التحقيق
بالأعمال الصالحات، وليس على ما يذهب إليه مخالفونا من إيمان أصحابهم على الحقيقة،
وأنهم كانوا من أصحاب الصالحات بإجماع، ولا دليل يقطع به على الحق عند الله، بل
الخلاف في ذلك ظاهر بينهم وبين خصومهم، والمدافعة عن الأدلة على ذلك موجودة
كالعيان.
والثاني: أن المراد في الآية بالاستخلاف
إنما هو توريث الأرض والديار، والتبقية لأهل الإيمان بعد هلاك الظالمين لهم من
الكفار، دون ما ظنه القوم من الاستخلاف في مقام النبوة، وتملك الإمامة وفرض الطاعة
على الأنام.
ألا ترى أن الله سبحانه قد جعل ما وعد به
من ذلك مماثلا لما فعله بالمؤمنين وبالأنبياء عليهم السلام قبل هذه الأمة في
الاستخلاف، وأخبر بكتابه عن حقيقة ذلك وصورته ومعناه، وكان بصريح ما أنزله من
القرآن مفيدا لما ذكرناه، من توريث الديار والنعم والأموال عموم المؤمنين دون
خصوصهم ومعنى ما بيناه، دون الإمامة التي هي خلافة للنبوة والإمرة والسلطان.
قال الله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ
يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُواْ
أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى
رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ
كَيْفَ تَعْمَلُونَ}. فبشرهم بصبرهم على أذى الكافرين بميراث
أرضهم، والملك لديارهم من بعدهم، والاستخلاف على نعمتهم، ولم يرد بشيء من ذلك
تمليكهم مقام النبوة والإمامة على سائر الأمة، بل أراد ما بيناه. ونظير هذا
الاستخلاف من الله سبحانه لعباده، ومما هو في معناه، قوله جل اسمه في سورة الأنعام:
{وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم
مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ}
وليس هذا الاستخلاف من الإمامة وخلافة النبوة في شيء وإنما هو ما قدمنا ذكره
ووصفناه. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ
خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}
فإنما أراد بذلك تبقيتهم بعد هلاك الماضين، وتوريثهم ما كانوا فيه من النعم، فجعله
من مننه عليهم ولطفه بهم ليطيعوه ولا يكفروا به كما فعل الأولون. ومنه قوله تعالى:
{آمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}
وقد علم كل ذي عقل أن هذا الاستخلاف مباين للعامة في معناه، وقد وفى الله الكريم
موعده لأصحاب نبيه صلى الله عليه وآله جميعا في حياته وبعد وفاته، ففتح لهم البلاد،
وملكهم رقاب العباد، وأحلهم الديار، وأغنمهم الأموال، فقال عز من قائل: {وَأَوْرَثَكُمْ
أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا}.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ثبت أن
المراد بالآية من الاستخلاف ما ذكرناه، ولم يتضمن ذلك الإمامة وخلافة النبوة على ما
بيناه، وكان الوعد به عموما لأهل الإيمان بما شرحناه، وبطل ما تعلق به خصومنا في
إمامة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام ووضح جهلهم في الاعتماد على التأويل
الذي حكيناه عنهم للآية لما تلوناه من كتاب الله تعالى وفصلنا وجهه وكشفناه.
وقد حكى هذا المعنى بعينه في تأويل هذه
الآية الربيع عن أبي العالية، والحسين بن محمد، عن الحكم، وغيرهما، عن جماعات من
التابعين، ومفسري القرآن.
فصل: على أن عموم الوعد بالاستخلاف
للمؤمنين الذي عملوا الصالحات من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله، على ما اختصوا به
من الصفات في عبادتهم لله تعالى على الخوف والأذى والاستسرار بدين الله جل اسمه،
على ما نطق به القرآن، يمنع مما ادعاه أهل الخلاف من تخصيص أربعة منهم دون الجميع،
لتناقض اجتماع معاني العموم على الاستيعاب والخصوص، ووجوب دفع أحدهما صاحبه بمقتضى
العقول. وإذا ثبت عموم الوعد، وجب صحة ما ذكرناه في معنى الاستخلاف من توريث الديار
والأموال، وظهور عموم ذلك لجميعهم في حياة النبي صلى الله عليه وآله وبعده بلا
اختلاف، بطل ما ظنه الخصوم في ذلك وتأولوه على المجازفة، والعدول عن النظر الصحيح.
فصل: فإن قال منهم قائل: إن الآية وإن كان
ظاهرها العموم، فالمراد بها الخصوص، بدليل وجود الخلافة فيمن عددناه دون الجميع.
وعلى هذا يعتمد متكلموهم.
قيل له: أحلت في ذلك من قبيل أنك إنما
أوجبت لأصحابك الإمامة، وقضيت لهم بصحة الخلافة بالآية، وجعلتها ملجأ لك في حجاج
خصومك، ودفعهم عما وصفوا به من فساد عقلك، فلما لم يتم لك مرادك من الآية، بما
أوجبه عليك عمومها بظاهرها، ودليل متضمنها، عدلت إلى تصحيح تأويلك منها، بادعاء ما
تورعت فيه من خلافة القوم، وثبوت إمامتهم، الذي أفقرك عدم البرهان عليه إلى تصحيحه
عندك بالآية، فصرت دالا على وجوده معنى تنازع فيه بوجود شيء تتعلق صحة وجوده بوجود
ما دفعت عن وجوده، وهذا تناقض من القول، وخبط أوجبه لك الضلال، وأوقعك فيه التقليد
والعصبية للرجال، نعوذ بالله من الخذلان.
ثم يقال له: خبرنا عما تدعيه من استخلاف
الله تعالى لأئمتك على الأنام، وصحة إمامتهم على ما زعمت فيما سلف لك من الكلام،
أبظاهر أمرهم ونهيهم وتملكهم علمت ذلك، وحكمت به على القطع والثبات، أم بظاهر الآية
ودليلها على ما قدمت من الاعتبار، أم بغير ذلك من ضروب الاستدلال؟.
فإن قال: بظاهر أمرهم ونهيهم في الأمة،
ورئاستهم الجماعة، ونفوذ أمرهم وأحكامهم في البلاد، علمت ذلك وقطعت به على أنهم
خلفاء الله تعالى: والأئمة بعد رسوله عليه السلام. وجب على وفور هذه العلة القطع
بصحة إمامة كل من ادعى خلافة الرسول صلى الله عليه وآله، ونفذت إحكامه وقضاياه في
البلاد، وهذا ما لا يذهب إليه أحد من أهل الإيمان.
وإن قال: إنما علمت صحة خلافتهم بالآية
ودلائلها على الاعتبار.
قيل له: ما وجه دلالة الآية على ذلك، وأنت
دافع لعمومها في جميع أهل الإيمان، وموجب خصوصها بغير معنى في ظاهرها، ولا في
باطنها، ولا مقتضاها على الأحوال؟ فلا يجد شيئا يتعلق به فيما ادعاه.
وإن قال: إن دلالتي على ما ادعيت من صحة
خلافتهم معنى غير الآية نفسها، بل من الظاهر من أمر القوم ونهيهم، وتأمرهم على
الأنام. خرجت الآية عن يده، وبانت فضيحته فيما قدره منها وظنه في تأويلها وتمناه،
وهذا ظاهر بحمد الله.
فصل: مع أنا لو سلمنا لهم في معنى
الاستخلاف أن المراد في الآية ما ذكروه من إمامة الأنام، لما وجب به ما ذهبوا إليه
من صحة خلافة المتقدمين على أمير المؤمنين عليه السلام بل كانت الآية نفسها شاهدة
بفساد أمرهم وانتقاضه على البيان، وذلك أن الله جل اسمه وعد المؤمنين من أصحاب نبيه
صلى الله عليه وآله بالاستخلاف، ثوابا لهم على الصبر والإيمان، والاستخلاف من الله
تعالى للأئمة لا يكون استخلاف من العباد، ولما ثبت أن أبا بكر كان منصوبا باختيار
عمر وأبي عبيدة بن الجراح، وعمر باستخلاف أبي بكر دون النبي صلى الله عليه وآله،
وعثمان باختيار عبد الرحمن، فسد أن يكونوا داخلين تحت الوعد بالاستخلاف، لتعريهم من
النص بالخلافة من الله تعالى، وإقرار مخالفينا إلا من شذ منهم أن إمامتهم كانت
باختيار، وثبت أن الآية كانت مختصة بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام
دونهم، لإجماع شيعته على أن إمامته باستخلاف الله تعالى له، ونصه عليه، وأقامه عليه
السلام نبيه صلى الله عليه وآله علما للأمة وإماما لها بصريح المقال.
فصل آخر: ويقال لهم: ما تنكرون أن يكون
خروج أبي بكر وعمر وعثمان من الخوف في أيام النبي صلى الله عليه وآله يخرجهم عن
الوعد بالاستخلاف، لأنه إنما توجه إلى من كان يلحقه الخوف من أذى المشركين، وليس له
مانع منهم، كأمير المؤمنين عليه السلام وما مني به النبي صلى الله عليه وآله وعمار
وأمه وأبيه، والمعذبين بمكة، ومن أخرجهم النبي صلى الله عليه وآله، مع جعفر بن أبي
طالب إلى بلاد الحبشة لما كان ينالهم من الفتنة والأذى في الدين.
فأما أبو بكر فإن الشيعة تذكر أنه لم يكن
خائفا في حياة النبي صلى الله عليه وآله لأسباب نحن أغنياء عن شرحها، وأنتم تزعمون
أن الخوف مرتفع عنه لعزته في قريش ومكانه منهم وكثرة ماله واتساع جاهه، وإعظام القوم له لسنه وتقدمه، حتى
أنه كان يجير ولا يجار عليه، ويؤمن ولا يحتاج إلى أمان، وزعمتم إنه اشترى تسعة نفر
من العذاب.
وأن عمر بن الخطاب لم يخف قط، ولا هاب
أحدا من الأعداء، وأنه جرد سيفه عند إسلامه، وقال: لا يعبد الله اليوم سرا. ثقة
بنفسه، وطمأنينة إلى سلامته، وأمنا من الغوائل، وأنه لن يقدم عليه أحد بسوء، لعظم
رهبة الناس منه وإجلالهم لمكانه.
وأن عثمان بن عفان كان آمنا ببني أمية،
وهم ملاك الأمر إذ ذاك. فكيف يصح لكم مع هذا القول أن تستدلوا بالآية على صحة
خلافتهم ودخولهم تحت الوعد بالاستخلاف، وهم من الوصف المنافي لصفات الموعودين
بالاستخلاف على ما ذكرناه، لولا أنكم تخبطون فيما تذهبون إليه خبط عشواء؟!.
فصل: ويقال لهم: أليس يمكنكم إضافة ما
تلوتموه من هذه الآية في أئمتكم إلى صادق عن الله تعالى فيجب العمل به، وإنما
أسندتم قولكم فيه إلى ضرب من الرأي والاعتبار الفاسد بما أوضحناه.
وقد ورد عن تراجمة القرآن من آل محمد صلى
الله عليه وآله في تأويلها ما هو أشبه من تأويلكم وأولى بالصواب، فقالوا: إنها نزلت
في عترة النبي صلى الله عليه وآله وذريته الأئمة الأطهار عليهم السلام وتضمنت
البشارة لهم بالاستخلاف، والتمكن في البلاد، وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي
منهم، فكانوا عليهم السلام هم المؤمنين العاملين الصالحات، بعصمتهم من الزلات.
وهم أحق بالاستخلاف على الأنام ممن عداهم،
لفضلهم على سائر الناس، وهم المدالون على أعدائهم في آخر الزمان، حتى يتمكنوا في
البلاد، ويظهر دين الله تعالى بهم ظهورا لا يستخفي على أحد من العباد، ويأمنون بعد
طول خوفهم من الظالمين المرتكبين في أذاهم الفساد، وقد دل القرآن على ذلك وجاءت به
الأخبار: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ
كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ}. وقال تعالى: {وَلَهُ
أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ}. وقال تعالى: {وَإِن
مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}.
وكل هذه أمور منتظرة، غير ماضية ولا موجودة في الحال. ومثلهم فيما بشرهم الله تعالى
به من ذلك ما تضمنه قوله تعالى: { وَنُرِيدُ أَن
نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً
وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ *
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا
مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ} وقوله تعالى في بني إسرائيل: {ثُمَّ
رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}. ومما أنزله فيهم
سوى المثل لهم عليه السلام قوله تعالى: {الَّذِينَ
إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الأُمُورِ}.
فصار معاني جميع ما تلوناه راجعا إلى
الإشارة إليهم عليهم السلام بما ذكرناه. ويحقق ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه
وآله على الاتفاق من قوله: "لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل
بيتي يواطئ اسمه اسمي، يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا".
وأما ما تعلقوا به من كاف المواجهة، فإنه
لا يخل بما شرحناه في التأويل من آل محمد عليهم السلام لأن القائم من آل محمد
والموجود من أهل بيته في حياته هم من المواجهين في الحقيقة والنسب والحسب، وإن لم
يكن من أعيانهم، فإذا كان منهم بما وصفناه، فقد دخل تحت الخاطب، وبطل ما توهم أهل
الخلاف.
فصل: على أنه يقال لهم: ما الفصل بينكم
فيما تأولتم به هذه الآية وبين من تأولها خلاف تأويلكم، فأوجب حكمها في غير من
سميتم، ولجأ في صحة مقاله إلى مثل عيوبكم، فقال: إن الله جل اسمه بشر في هذه الآية
بالاستخلاف أبا سفيان صخر بن حرب، ومعاوية ويزيد ابني أبي سفيان، وذلك أني قد
وجدتهم انتظموا صفات الموعودين بالاستخلاف، وكانوا من الخائفين عند قوة الإسلام
لخلافهم على النبي صلى الله عليه وآله، فتوجه إليهم الوعد من الله سبحانه بالأمن من
الخوف، بشرط الانتقال إلى الإيمان، واستئناف الأعمال الصالحات، والاستخلاف بعد ذلك،
والتمكين لهم في البلاد، ثوابا لهم على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله،
وترغيبا لهم في الإيمان، فأجابوا الله تعالى إلى ما دعاهم إليه، وأذعنوا بالإسلام،
وعملوا الصالحات، فأمنوا من المخوفات. واستخلفهم النبي صلى الله عليه وآله في
حياته، كانوا من بعده خلفاء لخلفائه الراشدين، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه
وآله استخلف أبا سفيان على سبي الطائف، وهم يومئذ ستة آلاف إنسان، واستعمله من بعد
ذلك على نجران فلم يزل عامله عليها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو
خليفته فيها من غير عزل له ولا استبدال. واستعمل أيضا صلوات الله عليه يزيد بن أبي
سفيان على صدقات أخواله بني فراس بن غنم، فجباها وقدم بها إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله، فلقيه أبوه أبو سفيان فطلب منه مال الصدقات، فأبى أن يعطيه، فقال: إذا
صرت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، فأخبره فقال له: "خذ المال فعد
به إلى أبيك". فسوغه مال الصدقات كله، صلة لرحمه، وإكراما له، وتمييزا له من كافة
أهل الإسلام.
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وآله على
كتابته معاوية، وكان والي خليفتيه من بعده عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وولى أبو
بكر يزيد ابن أبي سفيان ربع أجناد الشام، وتوفي وهو خليفته على ذلك، فأقره عمر بن
الخطاب إلى أن مات خلافته.
وإذا كان أبو سفيان ومعاوية ويزيد ابناه
على ظاهر الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وكان لهم من الخلافة في الإسلام ما
وصفناه، ثم الذي حصل لمعاوية من الإمرة بعد أمير المؤمنين عليه السلام، وبيعة الحسن
بن علي عليه السلام، وتسليم الأمر إليه، حتى سمي عامه (عام الجماعة) للاتفاق، ولم
يسم عام أحد من الخلفاء قبله بذلك، ثبت أنهم المعنيون في الآية ببشارة الاستخلاف،
دون من ادعيتم له ذلك بمعنى الاستدلال على ما انتظمتموه من الاعتبار. وهذا أشبه من
تأويل المعتزلة للآية في أبي بكر وعمر وعثمان، وهو ناقض لمذاهبهم، ومضاد
لاعتقاداتهم، ولا فضل لأحد منهم فيه إلا أن يرجع في العبرة إلى ما شرحناه، أو يعتمد
في التفسير على الأثر حسبما قدمناه، فيبطل حينئذ توهمه فيما تأوله على ما بيناه،
والحمد لله.
فصل: ثم يقال لهم أيضا: ألستم تعلمون أن
الوليد بن عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أبي سرح قد كانا واليين على المسلمين من
قبل عثمان بن عفان، وهو إمام عدل عندكم مرضي الفعال، وقد كان مروان ابن الحكم كذلك،
ثم خطب له على المنابر في الإسلام بإمرة المؤمنين، كما خطب لعمر بن الخطاب وعثمان
بن عفان، وكذلك أيضا ابنه عبد الملك، ومن بعده من بني أمية، قد حكموا في العباد
وتمكنوا في البلاد، فبأي شيء تدفعون صرف معنى الآية إليهم، والوعد بالاستخلاف لهم،
وإدخالهم في جملة من سميتموه، وزعمتم أنهم أئمة عدل خلفاء، واعتمدتم في صحة ذلك على
ما ذكرناه في أمر أبي سفيان ومعاوية ويزيد ابنيه حسبما شرحناه؟!. فلا يجدون مهربا
من ذلك بما قدمناه على الترتيب الذي رسمناه، وكذلك السؤال عليهم في عمرو بن العاص
وأبي موسى الأشعري، فإنهما ممن كان على ظاهر الإسلام، والعمل الصالح عند الجمهور من
الناس، وكانا من المواجهين بالخطاب، وممن خاف في صدر الإسلام، وحصلت لهما ولآيات في
حياة رسول الله صلى الله عليه وآله، وخلافة له، ولخلفائه على أصولهم بغير إشكال،
وليس يمكن لخصومنا دفع التأويل فيهما بما يتعلقون به في أمية وبني مروان من الخروج
عن الخوف في صدر الإسلام، وهذا كله تخليط ورطهم الجهل فيه بدين الله تعالى،
والعداوة لأوليائه عليهم السلام.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 107، 114:
فصل: فإن قال: قد وضح لي ما ذكرتموه في
أمر هذه الآية، وأثبتموه في معناها، كما ظهر الحق لي فيما تقدمها، وانكشف بترادف
الحجج التي أوردتموها ما كان مستورا عني من ضعف تأول مخالفيكم لها، غير أني واصف
استدلالا لهم من آي آخر على ما يدعونه من إمامة أبي بكر وعمر، لأسمع ما عندكم فيه،
فإن أمره قد اشتبه علي ولست أجد محيصا عنه، وذلك أنهم قالوا: وجدنا الله تعالى يقول
في سورة الفتح: {سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ
كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً}. ثم قال : {قُل
لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ
أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا}. قالوا: فحظر الله على نبيه صلى الله
عليه وآله إخراج المخلفين معه بقوله: {قُل لَّن
تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ}.
ثم أوجب عليهم الخروج مع الداعي لهم من بعده إلى قتال القوم الذين وصفهم بالبأس
الشديد من الكفار، وألزمهم طاعته في قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام ووجدنا الداعي
لهم إلى ذلك من بعده أبا بكر وعمر، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال المرتدين، وكانوا
أولي بأس شديد على الحال المعروفة، ثم دعاهم عمر بن الخطاب من بعده إلى قتال أهل
فارس، وكانوا كفارا أشداء، فدل ذلك على إمامتهما بما فرض الله تعالى في كتابه من
طاعتهما، فهذا دليل للقوم على نظامه الذي حكيناه، فما قولكم فيه؟.
قيل له: ما نرى في هذا الكلام على إعجاب
أهل الخلاف به حجة تؤنس، ولا شبهة تلتبس، وليس فيه أكثر من الدعوى العرية عن
البرهان، ومن لجأ إلى مثله فيما يجب بالحجة والبيان، فقد كشف عن عجزه وشهد على نفسه
بالخذلان، وذلك أن متضمن الآي ينبئ عن منع المخلفين من اتباع رسول الله صلى الله
عليه وآله عند الانطلاق إلى المغانم التي سأله القوم اتباعه ليأخذوها، وليس فيه حظر
عليه صلوات الله عليه وآله إخراجهم معه في غير ذلك الوجه، ولا منع له من إيجاب
الجهاد عليهم معه في مغاز أخر.
وبعد تلك الحال، فمن أين يجب، إذا كان
الله تعالى قد أمره بإيذانهم عند الرد لهم عن وجه الغنيمة بالدعوة فيما بعد إلى
قتال الكافرين، أن يكون ذلك بدعاء من بعده دون أن يكون بدعائه هو بنفسه صلوات الله
عليه وآله، إذا كان صلى الله عليه وآله قد دعا أمته إلى قتال طوائف من الكفار أولي
بأس شديد بعد هذه الغزاة التي غنم المسلمون، وحظر الله تعالى فيها على المخلفين
الخروج، وهل فيما ذكروه من ذلك أكثر من الدعوى على ما وصفناه؟.
فصل: ثم يقال
لهم: أليس الوجه الذي منع الله تعالى المخلفين من اتباع النبي صلى الله عليه وآله
فيه الوصول إلى الغنائم منه بالخروج معه، هو فتح خيبر، الذي بشر الله تعالى به أهل
بيعة الرضوان على ما اتفق عليه أهل التفسير، وتواتر به أهل السير والآثار؟! فلا بد
من أن يقولوا: بلى. وإلا سقط الكلام معهم فيما يتعلق بتأويل القرآن، ويرجع فيه إلى
علماء التفسير ورواة الأخبار، إذا ما وصفناه إجماع ممن سميناه.
فيقال لهم: أو
لستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله قد غزا بعد غزوة خيبر غزوات عديدة،
وسار بنفسه وأصحابه إلى مواطن كثيرة، واستنفر الأعراب وغيرهم فيها إلى جهاد الكفار،
ولقي المسلمون في تلك المقامات من أعدائهم ما انتظم وصف الله تعالى له بالبأس
الشديد، لا سيما بمؤتة وحنين وتبوك سوى ما قبلها وبينها وبعدها من الغزوات؟! ولا بد
أيضا من أن يقولوا: بلى. وإلا وضح من جهلهم ما يحظر مناظرتهم في هذا الباب.
فيقال لهم: فمن
أين يخرج لكم مع ما وصفناه -أيها الضعفاء الأوغاد- وجوب طاعة المخلفين من الأعراب
بعد النبي صلى الله عليه وآله دون أن يكون هو الداعي لهم بنفسه على ما بيناه؟ فلا
يجدون حيلة في إثبات ما ادعوه مع ما شرحناه.
فصل: ثم يقال
لهم: ينبغي أن تنتبهوا من رقدتكم، وتعلموا أن الله تعالى لو أراد منع المخلفين من
اتباع النبي صلى الله عليه وآله في جميع غزواته -على ما ظننتموه- لما خص ذلك بوقت
معين دون ما سواه، ولكان الحظر له واردا على الإطلاق، وبما يوجب عمومه في كل حال،
ولما لم يكن الأمر كذلك، بل كان مختصا بزمان الغنائم التي تضمن البشارة فيها
القرآن، وبوصف مسألتهم له بالاتباع دون حال الامتناع منه أو الإعراض عن السؤال، دل
على بطلان ما توهمتموه، ووضح لكم بذلك الصواب.
فصل آخر: وقد ظن
بعض أهل الخلاف بجهله وقلة علمه أن هؤلاء المخلفين من الأعراب هم الطائفة الذين
تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة تبوك، وكانت مظاهرة له بالنفاق،
فتعلق فيما ادعاه من حظر النبي صلى الله عليه وآله عليهم الاتباع له على كل حال،
بقوله جل اسمه في سورة التوبة: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ
فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن
تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ}. فقال: هذا هو المراد بقوله في سورة الفتح: {كَذَلِكُمْ
قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} وإذا كان قد منعه من إخراجهم معه أبدا، ثبت أن الداعي لهم إلى قتال القوم
الذين وصفهم بالبأس الشديد هو غيره وذلك مصحح عند نفسه ما ادعاه من وجوب طاعة أبي
بكر وعمر وعثمان على ما قدمنا القول فيه وبيناه آنفا.
فيقال له: أيها
الغافل الغبي الناقص، أين يذهب بك وهذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ
الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} نزلت في غزوة تبوك بإجماع علماء الأمة، ولتفصيل ما
قبلها من التأول قصص طويلة قد ذكرها المفسرون، وسطرها مصنفو السير والمحدثون؟!.
ولا خلاف أن
الآيات التي نزلت في سورة الفتح نزلت في المخلفين عن الحديبية، وبين هاتين الغزوتين
من تفاوت الزمان ما لا يختلف فيه اثنان من أهل العلم، وبين الفريقين أيضا في النعت
والصفات اختلاف في ظاهر القرآن. فكيف يكون ما نزل بتبوك وهي في سنة تسع من الهجرة
متقدما على النازل في عام الحديبية وهي سنة ست لولا أنك في حيرة تصدك عن الرشاد؟!.
ثم يقال له: فهب
أن جهلك بالأخبار، وقلة معرفتك بالسير والآثار، سهل عليك القول في تأويل القرآن بما
قضى على بطلانه التأريخ المتفق عليه بواضح البيان، أما سمعت الله جل اسمه يقول في
المخلفين من الأعراب: { سَتُدْعَوْنَ إِلَى
قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن
قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}. فأخبر عن وقوع الدعوة لهم إلى القتال على الاستقبال، وإرجاء أمرهم في
الثواب والعقاب بشرطه في الطاعة منهم والعصيان، ولم يقطع بوقوع أحد الأمرين منهم
على البيان.
وقال جل اسمه في
المخلفين الآخرين من المنافقين المذكورين في سورة براءة: {فَإِن
رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل
لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ
رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ
إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}. فقطع على استحقاقهم العقاب وأخبر نبيه صلى الله عليه
وآله بخروجهم من الدنيا على الضلال، ونهاه عن الصلاة عليهم إذا فارقوا الحياة،
ليكشف بذلك عن نفاقهم لسائر الناس، وشهد عليهم بالكفر بالله عز اسمه وبرسوله صلى
الله عليه وآله بصريح الكلام، ولم يجعل لهم في الثواب شرطا على حال، وأكد ذلك بقوله
تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ
وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا
وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}. وهذا جزم من الله تعالى على كفرهم في الحال، وموتهم
على الشرك به، وسوء عاقبتهم وخلودهم في النار، وقد ثبت في العقول فرق ما بين المرجأ
أمره فيما يوجب الثواب والعقاب، وبين المقطوع له بأحدها على الوجوه كلها. وإن
الإرجاء لما ذكرناه، والشرط الذي ضمنه كلام الله تعالى فيما تلوناه، لا يصح اجتماعه
مع القطع، بما شرحناه من متضمن الآي الأخر على ما بيناه، لشخص واحد ولا لأشخاص
متعددة على جميع الأحوال، وإن من جوز ذلك وارتاب في معناه فليس بمحل من يناظر في
الديانات، لأنه لا يصير إلى ذلك إلا بآفة تخرجه عن حد العقلاء أو مكابرة ظاهرة
وعناد، وهذا كاف في فضيحة هؤلاء الضلال الذين حملهم الجهل بدين الله، والنصب لآل
محمد نبيه صلى الله عليه وآله على القول في القرآن بغير هدى ولا بيان، نسأل الله
التوفيق، ونعوذ به من الخذلان.
- الإفصاح -
الشيخ المفيد ص 114، 117:
فصل: على أنا لو
سلمنا لهم تسليم نظر ما توهموه من تضمن الآية لوجوب طاعة داع للمخلفين من الأعراب
إلى القتال بعد النبي صلى الله عليه وآله على ما اقترحوه، واعتبرنا فيما ادعوه من
ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان بمثل ما اعتبروه، لكان بأن يكون دلالة على إمامة أمير
المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام أولى من أن يكون دلالة على إمامة من ذكروه،
وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام قد دعا بعد النبي صلى الله عليه وآله إلى قتال
الناكثين بالبصرة والقاسطين بالشام والمارقين بالنهروان، واستنفر الكافة إلى قتالهم
وحربهم وجهادهم، حتى ينقادوا بذلك إلى دين الله تعالى الذي فارقوه، ويخرجوا به عن
الضلال الذي اكتسبوه، وقد علم كل من سمع الأخبار ما كان من شدة أصحاب الجمل وصبرهم
عند اللقاء، حتى قتل بين الفريقين على قول المقل عشرة آلاف إنسان. وتقرر عند أهل
العلم أنه لم تر حرب في جاهلية ولا إسلام أصعب ولا أشد من حرب صفين، ولا سيما ما
جرى من ذلك ليلة الهرير، حتى فات أهل الشام فيها الصلاة، وصلى أهل العراق بالتكبير
والتهليل والتسبيح، بدلا من الركوع والسجود والقراءة، لما كانوا عليه من الاضطرار
بتواصل اللقاء في القتال، حتى كلت السيوف بينهم لكثرة الضراب، وفنى النبل، وتكسرت
الرماح بالطعان، ولجأ كل امرئ منهم عند عدم سلاحه إلى قتال صاحبه بيده وفمه، حتى
هلك جمهورهم بما وصفناه، وانكشفت الحرب بينهم عن قتل نيف وعشرين ألف إنسان على قول
المقل أيضا، وضعف هذا العدد أو قريب من الضعف على قول آخرين بحسب اختلافهم في
الروايات. فأما أهل النهروان، فقد بلغ وظهر من شدتهم وبأسهم وصبرهم على القتال مع
أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة والشام، ما لم يرتب فيه من أهل العلم اثنان،
وظهر من إقدامهم بعد التحكيم على قتل النفوس والاستسلام للموت والبأس والنجدة ما
يغني أهل العلم به عن الاستدلال عليه، والاستخراج لمعناه، ولو لم يدل على عظم بأسهم
وشدتهم في القتال إلا أنهم كانوا بالاتفاق أربعة آلاف إنسان، فصبروا على اللقاء حتى
قتل سائرهم سوى أربعة أنفس شذوا منهم على ما جاءت به الأخبار. ولم يجر أمر أبي بكر
وعمر في الدعوة مجرى أمير المؤمنين عليه السلام لأنهما كانا مكتفيين بطاعة الجمهور
لهما، وانقياد الجماعات إلى طاعتهما، وعصبية الرجال لهما، فلم يظهر من دعائهما إلى
قتال من سير إليه الجيوش ما ظهر من أمر أمير المؤمنين عليه السلام في الاستنفار
والترغيب في الجهاد والترهيب من تركه والاجتهاد في ذلك والتكرير له حالا بعد حال،
لتقاعد الجمهور عن نصرته، وخذلان من خذله من أعداء الله الشاكين في أمره والمعاندين
له، وما مني به من تمويه خصومه وتعلقهم في استحلال قتاله بالشبهات.
ثم لم يبن من شدة
أهل الردة وفارس مثل ما ذكرناه من أهل البصرة والشام والنهروان على ما شرحناه، بل
ظهر منهم خلاف ذلك، لسرعة انفضاضهم عمن لقيهم من أهل الإسلام، وتفرقهم وهلاكهم
بأهون سعي، وأوحى مدة، وأقرب مؤنة، على ما تواترت به الآثار، وعلمه كافة من سمع
الأخبار، فبان بما وصفناه أننا مع التسليم للخصوم بما ادعوه في معنى الآية،
وباعتبارهم الذي اعتمدوه، أولى بالحجة منهم في صرف تأويلها إلى إمامة أمير المؤمنين
عليه السلام، دون من سموه على ما قدمناه.
ولو تكافأ
القولان، ولم يكن لأحدهما رجحان على صاحبه في البرهان، لكانت المكافأة مسقطه لما
حكموا به من تخصيص أبي بكر وعمر ، بدلالة الآية على الترتيب الذي أصلوا الكلام عليه
في الاستدلال، وهذا ظاهر جلي ولله الحمد.
- الإفصاح -
الشيخ المفيد ص 131، 137:
فصل: فإن قال :
قد قطعتم عذري في الجواب عما تعلق به خصماؤكم من تأويل هذه الآية، وأزلتم بحمد الله
ما اشتبه علي من مقالهم فيها، ولكن كيف يمكنكم تأويل قوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ
لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ}.
وقد علمتم أنه لم
يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا أبو بكر، فوجب أن يكون إماما وليا
لله تعالى بما ضمنه التنزيل، وهذا ما لا نرى لكم عنه محيصا؟!.
قيل له: قد بينا
فيما سلف وجه التأويل لهذه الآية، وذكرنا عن خيار الصحابة أنها نزلت في أهل البصرة،
بما رويناه عن حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، وقد جاءت الأخبار بمثل ذلك عن أمير
المؤمنين عليه السلام، ووردت بمعناه عن عبد الله بن مسعود، ودللنا أيضا على كفر
محاربي أمير المؤمنين عليه السلام بما لا يخفى الصواب فيه على ذوي الإنصاف، وذلك
موجب لردتهم عن الدين الذي دعا الله تعالى إليه العباد، فبطل صرف تأويلها عن هذا
الوجه إلى ما سواه.
فصل: مع أن متضمن
الآية وفوائدها وما يتصل بها مما بعدها يقضي بتوجهها إلى أمير المؤمنين عليه
السلام، فإنه المعني بالمدحة فيها، والمشار إليه في جهاد المرتدين دون من ظنوه بغير
بصيرة وتوهموه. وذلك أن الله سبحانه توعد المرتدين عن دينه بالانتقام منهم بذي صفات
مخصوصة بينها في كتابه، وعرفها كافة عباده، بما يوجب لهم العلم بحقائقها، وكانت
بالاعتبار الصحيح خاصة لأمير المؤمنين عليه السلام دون المدعى له ذلك بما لا يمكن
دفعه إلا بالعناد:
فأولها: وصفهم
بأنهم يحبون الله تعالى ويحبهم الله. وقد علم كل من سمع الأخبار اختصاص أمير
المؤمنين عليه السلام بهذا الوصف من الرسول صلى الله عليه وآله، وشهادته له به يوم
خيبر حيث يقول: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا
غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه" فأعطاها عليا عليه السلام، ولم يرد خبر ولا
جاء أثر بأنه صلى الله عليه وآله وصف أبا بكر ولا عمر ولا عثمان بمثل ذلك في حال من
الأحوال، بل مجيء هذا الخبر بوصف أمير المؤمنين عليه السلام بذلك عقيب ما كان من
أبي بكر وعمر في ذلك اليوم من الانهزام، وإتباعه بوصف الكرار دون الفرار، موجب لسلب
الرجلين معنى هذه المدحة كما سلبهما مدحة الكر، وألزمهما ذم الفرار.
وثانيها: وصف
المشار إليه في الآية باللين على المؤمنين والشدة على الكافرين، حيث يقول جل اسمه:
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ}. وهذا وصف لا يمكن أحدا دفع أمير المؤمنين عليه السلام
عن استحقاقه بظاهر ما كان عليه من شدته على الكافرين، ونكايته في المشركين، وغلظته
على الفاسقين، ومقاماته المشهورة في تشييد الملة ونصرة الدين، ورأفته بالمؤمنين،
ورحمته للصالحين. ولا يمكن أحدا ادعاؤه لأبي بكر إلا بالعصبية، أو الظن دون اليقين،
لأنه لم يعرف له قتيل في الإسلام، ولا بارز قرنا، ولم ير له موقف عني فيه بين يدي
النبي صلى الله عليه وآله، ولا نازل بطلا، ولا سفك بيده لأحد المشركين دما، ولا كان
له فيهم جريح، ولم يزل من قتالهم هاربا، ومن حربهم ناكلا، وكان على المؤمنين غليظا،
ولم يكن بهم رحيما. ألا ترى ما فعله بفاطمة سيدة نساء العالمين عليه السلام وما
أدخله من الذل على ولدها، وما صنع بشيعتها، وما كان من شدته على صاحب رسول الله صلى
الله عليه وآله وعامله على الصدقات، ومن كان في حيزه من المسلمين حتى سفك دماءهم
بيد المنافق الرجيم، واستباح حريمهم بما لا يوجب ذلك في الشرع والدين. فثبت أنه كان
من الأوصاف على ضد ما أوجبه الله تعالى في حكمه لمن أخبر عن الانتقام به من
المرتدين.
ثم صرح تعالى
فيما أوصله بالآية من الذكر الحكيم ينعت أمير المؤمنين عليه السلام، وأقام البرهان
الجلي على أنه عناه بذلك وأراده خاصة، بما أشار به من صفاته التي تحقق بالإنفراد
بها من العالمين. فقال جل اسمه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}. فصارت الآية متوجهة إلى أمير المؤمنين عليه السلام
بدلالة متضمنها، وما اتصل بها على حسب ما شرحناه، وسقط توهم المخالف فيما ادعاه
لأبي بكر على ما بيناه.
فصل: ويؤيد ذلك
إنذار رسول الله صلى الله عليه وآله قريشا بقتال أمير المؤمنين عليه السلام لهم من
بعده، حيث جاءه سهيل بن عمرو في جماعة منهم، فقالوا: يا محمد، إن أرقاءنا لحقوا بك
فأرددهم علينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لتنتهن -يا معشر قريش- أو
ليبعثن الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن كما ضربتكم على تنزيله". فقال له
بعض أصحابه: من هو -يا رسول الله- أبو بكر؟! فقال: "لا" فقال: فعمر؟! فقال: "لا،
ولكنه خاصف النعل في الحجرة" وكان علي عليه السلام يخصف نعل رسول الله صلى الله
عليه وآله في الحجرة. وقوله صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السلام: "تقاتل
بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين". وقول الله عز وجل: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا
مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ}. وهي في قراءة عبد الله بن مسعود: "منهم بعلي منتقمون" وبذلك جاء التفسير
عن علماء التأويل. وإذا كان الأمر على ما وصفناه، ولم يجر لأبي بكر وعمر في حياة
النبي صلى الله عليه وآله ما ذكرناه، فقد صح أن المراد بمن ذكرناه أمير المؤمنين
عليه السلام خاصة على ما بيناه.
وقد صح أنه
المراد بقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} على ما فصلنا القول به من انتظام الكلام ودلالة معانيه،
وما في السنة مما بينا الغرض فيه وشرحناه.
فصل: على أنا متى حققنا النظر في متضمن
هذه الآية، ولم نتجاوز المستفاد من ظاهرها، وتأويله على مقتضى اللسان إلى القرائن
من الأخبار على نحو ما ذكرناه آنفا، لم نجد في ذلك أكثر من الأخبار بوجود بدل من
المرتدين في جهاد من فرض الله جهاده من الكافرين، على غير تعيين لطائفة من مستحقي
القتال، ولا عموم الجماعة بما يوجب استغراق الجنس في المقال.
ألا ترى لو أن حكيما أقبل على عبيد له،
وقال لهم: يا هؤلاء، من يعصني منكم ويخرج عن طاعتي فسيغنيني الله عنه بغيره ممن
يطيعني، ويجاهد معي على الإخلاص في النصحية لي، ولا يخالف أمري. لكان كلامه هذا
مفهوما مفيدا لحث عبيده على طاعته، وإخباره بغناه عنهم عند مخالفتهم، ووجود من يقوم
مقامهم في طاعته على أحسن من طريقتهم، ولم يفد بظاهره ولا مقتضاه الأخبار بوجود من
يجاهدهم أنفسهم على القطع، وإن كان محتملا لوعيدهم بالجهاد على الجواز له دون
الوجوب لموضع الإشارة بذكر الجهاد إلى مستحقه. وهذا هو نظير الآية فيما انطوت عليه،
ومماثل ألفاظها فيما تفضي إليه، ومن ادعى فيه خلاف ما ذكرناه لم يجد إليه سبيلا،
وإن رام فيه فصلا عجز عن ذلك، ورجع بالخيبة حسيرا، ومن الله نسأل التوفيق.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 139، 149:
فصل: فإن قال: أفليس الله تعالى يقول في
سورة الفتح: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ
شَطْأَهُ}. وقد علمت الكافة أن أبا بكر وعمر وعثمان من وجوه أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله، ورؤساء من كان معه، وإذا كانوا كذلك فهم أحق الخلق بما تضمنه
القرآن من وصف أهل الإيمان، ومدحهم بالظاهر من البيان، وذلك مانع من الحكم عليهم
بالخطأ والعصيان؟!.
قيل لهم: إن أول ما نقول في هذا الباب أن
أبا بكر وعمر وعثمان ومن تضيفه الناصبة إليهم في الفضل كطلحة والزبير وسعد وسعيد
وأبي عبيدة وعبد الرحمن لا يتخصصون من هده المدحة بما خرج عنه أبو هريرة وأبو
الدرداء، بل لا يتخصصون بشيء لا يعم عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري والمغيرة بن
شعبة وأبا الأعور السلمي ويزيد ومعاوية بن أبي سفيان، بل لا يختصون منه بشيء دون
أبي سفيان صخر بن حرب وعبد الله بن أبي سرح والوليد بن عقبة بن أبي معيط والحكم بن
أبي العاص ومروان بن الحكم وأشباههم من الناس، لأن كل شيء أوجب دخول من سميتهم في
مدحة اقرآن، فهو موجب دخول من سميناه، وعبد الله بن أبي سلول ومالك بن نويرة وفلان
وفلان. إذ أن جميع هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن كان معه، ولأكثرهم
من النصرة للإسلام والجهاد بين يدي النبي صلى الله عليه وآله والآثار الجميلة
والمقامات المحمودة ما ليس لأبي بكر وعمر وعثمان، فأين موضع الحجة لخصومنا في فضل
من ذكره على غيره من جملة من سميناه، وما وجه دلالتهم منه على إمامتهم، فإنا لا
نتوهمه، بل لا يصح أن يدعيه أحد من العقلاء؟!.
فصل: ثم يقال لهم: خبرونا عما وصف الله
تعالى به من كان مع نبيه صلى الله عليه وآله بما تضمنه القرآن، أهو شامل لكل من كان
معه عليه الصلاة والسلام في الزمان، أم في الصقع والمكان، أم في ظاهر الإسلام، أم
في ظاهره وباطنه على كل حال، أم الوصف به علامة تخصيص مستحقه بالمدح دون من عداه،
أم لقسم آخر غير ما ذكرناه؟ فإن قالوا: هو شامل لكل من كان مع النبي صلى الله عليه
وآله في الزمان أو المكان أو ظاهر الإسلام، ظهر سقوطهم وبان جهلهم وصرحوا بمدح
الكفار وأهل النفاق، وهذا ما لا يرتكبه عاقل. وإن قالوا: إنه يشمل كل من كان معه
على ظاهر الديانة وباطنها معا دون من عددتموه من الأقسام.
قيل لهم: فدلوا على أئمتكم وأصحابكم، ومن
تسمون من أوليائكم، أنهم كانوا في باطنهم على مثل ما أظهروه من الإيمان، ثم ابنوا
حينئذ على هذا الكلام، وإلا فأنتم مدعون ومتحكمون بما لا تثبت معه حجة، ولا لكم
عليه دليل، وهيهات أن تجدوا دليلا يقطع به على سلامة بواطن القوم من الضلال، إذ ليس
به قرآن ولا خبر عن النبي صلى الله عليه وآله، ومن اعتمد فيه على غير هذين فإنما
اعتمد على الظن والحسبان.
وإن قالوا: إن متضمن القرآن من الصفات
المخصوصة إنما هي علامة على مستحقي المدحة من جماعة مظهري الإسلام دون أن تكون
منتظمة لسائرهم على ما ظنه الجهال.
قيل لهم: فدلوا الآن على من سميتموه كان
مستحقا لتلك الصفات، لتتوجه إليه المدحة ويتم لكم فيه المراد، وهذا ما لا سبيل إليه
حتى يلج الجميل في سم الخياط.
فصل: ثم يقال لهم: تأملوا معنى الآية،
وحصلوا فائدة لفظها، وعلى أي وجه تخصص متضمنها من المدح، وكيف مخرج القول فيها؟
تجدوا أئمتكم أصفارا مما ادعيتموه لهم منها، وتعلموا أنهم باستحقاق الذم وسلب الفضل
بدلالتها منهم بالتعظيم والتبجيل من مفهومها، وذلك أن الله تعالى ميز مثل قوم من
أصحاب نبيه صلى الله عليه وآله في كتبه الأولى، وثبوت صفاتهم بالخير والتقى في صحف
إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ثم كشف عنهم بما ميزهم به من الصفات التي تفردوا
بها من جملة المسلمين، وبانوا بحقيقتها عن سائر المقربين. فقال سبحانه: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا
سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي
وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ}. وكأن تقدير الكلام:
إن الذين بينت أمثالهم في التوراة والإنجيل من جملة أصحابك ومن معك -يا محمد- هم
أشداء على الكفار، والرحماء بينهم الذين تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله
ورضوانا.
وجرى هذا في الكلام مجرى من قال: زيد بن
عبد الله إمام عدل، والذين معه يطيعون الله، ويجاهدون في سبيل الله، ولا يرتكبون
شيئا مما حرم الله وهم المؤمنون حقا دون من سواهم، إذ هم أولياء الله الذين تجب
مودتهم دون من معه ممن عداهم، وإذا كان الأمر على ما وصفناه، فالواجب أن تستقرئ
الجماعة في طلب هذه الصفات، فمن كان عليها منهم فقد توجه إليه المدح وحصل له
التعظيم، ومن كان على خلافها فالقرآن إذن منبه على ذمه، وكاشف عن نقصه، ودال على
موجب لومه، ومخرج له عن منازل التعظيم. فنظرنا في ذلك واعتبرناه، فوجدنا أمير
المؤمنين عليه السلام وجعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث
وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود وأبا دجانة -وهو سماك بن خرشة الأنصاري- وأمثالهم
من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، قد انتظموا صفات الممدوحين من الصحابة في
متضمن القرآن. وذلك أنهم بارزوا من أعداء الملة الأقران، وكافحوا منهما الشجعان،
وقتلوا منهم الأبطال، وسفكوا في طاعة الله سبحانه دماء الكفار، وبنوا بسيوفهم قواعد
الإيمان، وجلوا عن نبيهم صلى الله عليه وآله الكرب والأحزان، وظهر بذلك شدتهم على
الكفار، كما وصفهم الله تعالى في محكم القرآن، وكانوا من التواصل على أهل الإسلام
والرحمة بينهم على ما ندبوا إليه، فاستحقوا الوصف في الذكر والبيان. فأما إقامتهم
الصلاة وابتغاؤهم من فضل الله تعالى القربات، فلم يدفعهم عن علو الرتبة في ذلك أحد
من الناس، فثبت لهم حقيقة المدح لحصول مثلهم فيما أخير الله تعالى عنهم في متقدم
الكتب، واستغنينا بما عرفنا لهم مما شرحناه في استقراء غيرهم، ممن قد ارتفع في حاله
الخلاف، وسقط الغرض بطلبه على الاتفاق.
ثم نظرنا فيما ادعاه الخصوم لأجل أئمتهم
وأعظمهم قدرا عندهم من مشاركة من سميناه فيما ذكرنا من الصفات وبيناه، فوجدنا هم
على ما قدمناه من الخروج عنها واستحقاق أضدادها على ما رسمناه. وذلك أنه لم يكن
لأحد منهم مقام في الجهاد، ولا عرف لهم قتيل من الكفار، ولا كلم كلاما في نصرة
الإسلام، بل ظهر منه الجزع في مواطن القتال، وفر في يوم خيبر واحد وحنين، وقد نهاهم
الله تعالى عن الفرار، وولوا الأدبار مع الوعيد لهم على ذلك في جلي البيان، وأسلموا
النبي صلى الله عليه وآله للحتوف
في مقام بعد مقام، فخرجوا بذلك عن الشدة على الكفار، وهان أمرهم على أهل
الشرك والضلال، وبطل أن يكونوا من جملة المعنين بالمدحة في القرآن ولو كانوا على
سائر ما عدا ما ذكرناه من باقي الصفات، وكيف وأنى يثبت لهم شيء منها بضرورة ولا
استدلال، لأن المدح إنما توجه إلى من حصل له مجموع الخصال في الآية دون بعضها، وفي
خروج القوم من البعض بما ذكرناه مما لا يمكن دفعه إلا بالعناد وجوب الحكم عليهم
بالذم بما وصفناه؟! وهذا بين جلي والحمد لله.
فصل: ثم يقال لهم: قد روى مخالفوكم عن
علماء التفسير من آل محمد عليهم السلام أن هذه الآية إنما نزلت في أمير المؤمنين
والحسن والحسين والأئمة عليهم السلام من بعدهم خاصة دون سائر الناس، وروايتهم لما
ذكرنا عمن سمينا أولى بالحق والصواب مما ادعيتموه بالتأويل والظن الحسبان والرأي،
لإسنادهم مقالتهم في ذلك إلى من ندب النبي صلى الله عليه وآله إلى الرجوع إليه عند
الاختلاف، وأمر باتباعه في الدين، وأمن متبعه من الضلال. ثم إن دليل القرآن يعضده
البيان، وذلك إن الله تعالى أخبر عمن ذكره بالشدة على الكفار، والرحمة لأهل
الإيمان، والصلاة له، والاجتهاد في الطاعات، بثبوت صفته في التوراة والإنجيل،
وبالسجود لله تعالى وخلع الأنداد، ومحال وجود صفة ذلك لمن سجوده للأوثان، وتقربه
للات والعزى دون الله الواحد القهار، لأنه يوجب الكذب في المقال، أو المدحة بما
يوجب الذم من الكفر والعصيان.
وقد اتفقت الكافة على أن أبا بكر وعمر
وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وأبا عبيدة وعبد الرحمن قد عبدوا قبل بعثة النبي
صلى الله عليه وآله الأصنام، وكانوا دهرا طويلا يسجدون للأوثان من دون الله تعالى،
ويشركون به الأنداد، فبطل أن تكون أسماؤهم ثابتة في التوراة والإنجيل بذكر السجود
على ما نطق به القرآن. وثبت لأمير المؤمنين والأئمة من ذريته عليهم السلام ذلك،
للاتفاق على أنهم لم يعبدوا قط غير الله تعالى، ولا سجدوا لأحد سواه، وكان مثلهم في
التوراة والإنجيل واقعا موقعه على ما وصفناه، مستحقا به المدحة قبل كونه لما فيه من
الإخلاص لله سبحانه على ما بيناه. ووافق دليل ذلك برهان الخبر عمن ذكرناه من علماء
آل محمد صلوات الله عليهم، بما دل به النبي صلى الله عليه وآله من مقاله الذي اتفق
العلماء عليه، وهذا أيضا مما لا يمكن التخلص منه مع الإنصاف.
فصل على أنه يقال لهم : خبرونا عن طلحة
والزبير، أهما داخلان في جملة الممدوحين بقوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ
رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}
إلى آخره، أم غير داخلين في ذلك؟ فإن قالوا: لم يدخل طلحة والزبير ونحوهما في جملة
القوم. خرجوا من مذاهبهم، وقيل لهم: ما الذي أخرجهم من ذلك وأدخل أبا بكر وعمر
وعثمان، فكل شيء تدعونه في استحقاق الصفات، فطلحة والزبير أشبه أن يكونا عليها
منهم، لما ظهر من مقاماتهم في الجهاد الذي لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان فيه ذكر على
جميع الأحوال؟! فلا يجدون شيئا يعتمدون عليه في الفرق بين القوم أكثر من الدعوى
الظاهرة الفساد.
وإن قالوا: إن طلحة والزبير في جملة القوم
الممدوحين بما في الآي. قيل لهم: فهلا عصمهما المدح الذي ادعيتموه لهم من دفع أمير
المؤمنين عليه السلام عن حقه، وإنكار إمامته، واستحلال حربه، وسفك دمه، والتدين
بعداوته على أي جهة شئتم: كان ذلك من تعمد، أو خطأ، أو شبهة، أو عناد، أو نظر، أو
اجتهاد!.
فإن قالوا: إن مدح القرآن -على ما يزعمون-
لم يعصمهما من ذلك، ولا بد من الاعتراف بما ذكرناه، لأن منع دفعه جحد الاضطرار.
قيل لهم: فبما تدفعون أن أبا بكر وعمر
وعثمان قد دفعوا أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وتقدموا عليه وكان أولى بالتقدم
عليهم، وأنكروا إمامته وقد كانت ثابتة، و دفعوا النصوص عليه وهي له واجبة، ولم
يعصمهم ذلك، ثم توجه المدح لهم من الآية، كما لم يعصم طلحة والزبير مما وصفناه ووقع
منهم في إنكار حق أمير المؤمنين عليه السلام، كما وقع من الرجلين المشاركين لهم
فيما ادعيتموه من مدح القرآن وعلى الوجه الذي كان منهما ذلك من تعمد أو خطأ أو شبهة
أو اجتهاد أو عناد؟ وهذا ما لا سبيل لهم إلى دفعه، وهو مبطل لتعلقهم بالآية ودفع
أئمتهم عن الضلالة، وإن سلم لهم منها ما تمنوه تسليم جدل للاستظهار.
فصل: ويؤكد ذلك أن الله تعالى مدح من وصف
بالآية بما كان عليه في الحال، ولم يقض بمدحه له على صلاح العواقب، ولا أوجب العصمة
له من الضلال، ولا استدامة لما استحق به المدحة في الاستقبال. ألا ترى أنه سبحانه
قد اشترط في المغفرة لهم والرضوان الإيمان في الخاتمة، ودل بالتخصيص لمن اشترط له
ذلك، على أن في جملتهم من يتغير حاله فيخرج عن المدح إلى الذم واستحقاق العقاب،
فقال تعالى فيما اتصل به من وصفهم ومدحهم بما ذكرناه من مستحقهم في الحال: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم
مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فبعضهم في الوعد ولم
يعمهم به، وجعل الأجر مشترطا لهم بالأعمال الصالحة، ولم يقطع على الثبات، ولو كان
الوصف لهم بما تقدم موجبا لهم الثواب، ومبينا لهم المغفرة والرضوان، لاستحال الشرط
فيهم بعده وتناقض الكلام، وكان التخصيص لهم موجبا بعد العموم ظاهر التضاد، وهذا ما
لا يذهب إليه ناظر، فبطل ما تعلق به الخصم من جميع الجهات، وبان تهافته على اختلاف
المذاهب في الأجوبة والاسقاطات، والمنة لله.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 151، 159:
مسألة أخرى: وقد تعلق هؤلاء القوم أيضا
بعد الذي ذكرناه عنهم فيما تقدم من الآي بقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن
قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ
أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. فزعموا بجهلهم أن
هذه الآية دالة على أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا و عبد
الرحمن وأبا عبيدة بن الجراح من أهل الجنة على القطع والثبات، إذ كانوا ممن أسلم
قبل الفتح، وأنفقوا وقاتلوا الكفار، وقد وعدهم الله الحسنى -وهي الجنة وما فيها من
الثواب- وذلك مانع من وقوع معصية منهم يجب عليه بها العقاب، وموجب لولايتهم في
الدين وحجيتهم على كل حال...
فصل: فيقال لهم: إنكم بنيتم كلامكم في
تأويل هذه الآية وصرف الوعد فيها إلى أئمتكم على دعويين: إحداهما: مقصورة عليكم لا
يعضدها برهان، ولا تثبت بصحيح الاعتبار.
والأخرى: متفق على بطلانها، لا تنازع في
فسادها ولا اختلاف، ومن كان أصله فيما يعتمده ما ذكرناه، فقد وضح جهله لذوي
الألباب.
فأما الدعوى الأولى: فهي قولكم أن أبا بكر
وعمر قد أنفقا قبل الفتح، وهذا ما لا حجة فيه بخبر صادق ولا كتاب، ولا عليه من
الأمة إجماع، بل الاختلاف فيه موجود، والبرهان على كذبه لائح مشهود.
وأما الدعوى الأخيرة: وهي قولكم أنهما
قاتلا الكفار فهذه مجمع على بطلانها غير مختلف في فسادها، إذ ليس يمكن لأحد من
العقلاء أن يضيف إليهما قتل كافر معروف، ولا جراحة مشرك موصوف، ولا مبارزة قرن ولا
منازلة كفؤ، ولا مقام مجاهد.
وأما هزيمتهما من الزحف فهي أشهر وأظهر من
أن يحتاج فيه إلى الاستشهاد، وإذا خرج الرجلان من الصفات التي تعلق الوعد بمستحقها
من جملة الناس، فقد بطل ما بنيتم على ذلك من الكلام، وثبت بفحوى القرآن ودلائله استحقاقهما
الوعيد بضد ما استحقه أهل الطاعة.
فصل: على أن اعتلالكم يوجب عموم الصحابة
كلها بالوعد، ويقضي لهم بالعصمة من كل ذنب، لأنهم بأسرهم بين رجلين: أحدهما أسلم
قبل الفتح وأنفق وقاتل، والآخر كان ذلك منه بعد الفتح، ومن دفع منهم عن ذلك كانت
حاله حال أبي بكر وعمر وعثمان في دفع الشيعة لهم عما أضافه إليهم أشياعهم من
الإنفاق لوجه الله تعالى، وإذا كان الأمر على ما وصفناه، وكان القرآن ناطقا بأن
الله تعالى قد وعد جماعتهم الحسنى، فكيف يختص بذلك من سميتموه، لو لا العصبية
والعناد؟!
فصل: ثم يقال لهم: إن كان لأبي بكر وعمر
وعثمان الوعد بالثواب، لما ادعيتموه لهم من الإنفاق والقتال، وأوجب ذلك عصمتهم من
الآثام، لأوجب ذلك لأبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان ومعاوية وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص أيضا، بل
هو لهؤلاء أوجب، وهم به أحق من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ممن سميتموه، لما نحن
مثبتوه في المقال.
وذلك أنه لا خلاف بين الأمة أن أبا سفيان
أسلم قبل الفتح بأيام، وجعل رسول الله صلى الله عليه وآله الأمان لمن دخل داره
تكرمة له وتمييزا عمن سواه، وأسلم معاوية قبله في عام القضية وكذلك كان إسلام يزيد
بن أبي سفيان. وقد كان لهؤلاء الثلاثة من الجهاد بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وآله ما لم يكن لأبي بكر وعمر وعثمان، لأن أبا سفيان أبلى يوم حنين بلاء حسنا،
وقاتل يوم الطائف قتالا لم يسمع بمثله في ذلك اليوم لغيره، وفيه ذهبت عينه، وكانت
راية رسول الله صلى الله عليه وآله مع ابنه يزيد بن أبي سفيان، وهو يقدم بها بين
يدي المهاجرين والأنصار.
وقد كان أيضا لأبي سفيان بعد النبي صلى
الله عليه وآله مقامات ومعروفة في الجهاد، وهو صاحب يوم اليرموك، وفيه ذهبت عينه
الأخرى، وجاءت الأخبار أن الأصوات خفيت فلم يسمع إلا صوت أبي سفيان، وهو يقول: يا
نصر الله اقترب. والراية مع ابنه يزيد، وقد كان له بالشام وقائع مشهورات. ولمعاوية
من الفتوح بالبحر وبلاد الروم والمغرب والشام في أيام عمر وعثمان وأيام إمارته وفي
أيام أمير المؤمنين عليه السلام وبعده ما لم يكن لعمر ابن الخطاب. وأما خالد بن
الوليد وعمرو بن العاص فشهرة قتالهما مع النبي صلى الله عليه وآله وبعده تغني
الإطالة بذكرها في هذا الكتاب، وحسب عمرو بن العاص في فضله على أبي بكر وعمر تأمير
رسول الله صلى الله عليه وآله إياه عليهما في حياته ولم يتأخر إسلامه عن الفتح
فيكون لهما فضل عليه بذلك، كما يدعى في غيره. وأما خالد بن الوليد فقد أمره رسول
الله صلى الله عليه وآله في حياته، وأنفذه في سرايا كثيرة. ولم ير لأبي بكر وعمر ما
يوجب تقديمهما على أحد في أيامه صلى الله عليه وآله، فإن أنصف الخصوم جعلوا ما
عددناه لهؤلاء القوم فضلا على من سموه في متضمن الآي، وإلا فالتسوية واجبة بينهم في
ذلك على كل حال، وهذا يسقط تعلقهم بالتخصيص فيما سلمناه لهم تسليم جدل من التفضيل
على ما أدعوه في التأويل، وإن القول فيه ما قدمناه.
فصل: ثم يقال لهم: أليست الآية قاضية
بالتفضيل ودالة على الثواب والأجر لمن جمع بين الإنفاق والقتال معا، ولم يفرد
أحدهما عن الآخر، فيكون مختصا به على الانفراد؟! فلا بد من أن يقولوا: بلى. وإلا
خالفوا ظاهر القرآن.
فيقال لهم: هب أنا سلمنا لكم أن لأبي بكر
وعمر وعثمان إنفاقا، ولم يصح ذلك بحجة من خبر صادق ولا إجماع ولا دليل قرآن، وإنما
هي دعوة عرية عن البرهان، فأي قتال لهم قبل الفتح أو بعده مع النبي صلى الله عليه
وآله حتى يكونوا بمجموع الأمرين مستحقين للتفضيل على غيرهم من الناس؟! فإن راموا
ذكر قتال بين يدي النبي صلى الله عليه وآله لم يجدوا إليه سبيلا على الوجوه كلها
والأسباب، اللهم إلا أن يقولوا ذلك على التخرص والبهت بخلاف ما عليه الإجماع، وذلك
باطل بالاتفاق.
ثم يقال لهم: قد كان للرسول صلى الله عليه
وآله مقامات في الجهاد، وغزوات معروفات، ففي أيها قاتل أبو بكر وعمر وعثمان، أفي
بدر، فليس لعثمان فيها ذكر واجتماع، ولم يحضرها باتفاق، وأبو بكر وعمر كانا في
العريش محبوسين عن القتال، لأسباب تذكرها الشيعة، وتدعون أنتم خلافا لما تختصون به
من الاعتقاد؟! أم بأحد فالقوم بأسرهم ولوا الأدبار، ولم يثبت مع النبي صلى الله
عليه وآله سوى أمير المؤمنين عليه السلام، وانضاف إليه نفر من الأنصار؟! أم بخيبر
وقد عرف العلماء ومن خالطهم من العامة ما كان من أمر أبي بكر وعمر فيها من الفساد
والرجوع من الحرب والانهزام، حتى غضب النبي صلى الله عليه وآله، وقال: "لأعطين
الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار، لا يرجع حتى
يفتح الله على يديه" فأعطاها أمير المؤمنين عليه السلام، وكان الفتح على يديه، كما
أخبر النبي صلى الله عليه وآله؟! أم في يوم الأحزاب فلم يكن لفرسان الصحابة
وشجعانها ومتقدميها في الحرب إقدام في ذلك اليوم سوى أمير المؤمنين صلوات الله
وسلامه عليه خاصة، وقتله عمرو بن عبد ود، ففتح الله بذلك على أهل الإسلام؟! أم في
يوم حنين فأصل هزيمة المسلمين كانت فيه بمقال من أبي بكر، واغتراره بالجمع،
واعتماده على كثرة القوم دون نصر الله ولطفه وتوفيقه، ثم انهزم هو وصاحبه أول
الناس، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا تسعة نفر من بني هاشم، أحدهم أمير
المؤمنين عليه السلام، وثبتوا به في ذلك المقام؟! ثم ما بين هذه الغزوات وبعدها،
فحال القوم فيها في التأخر عن الجهاد ما وصفناه لغيره من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم
ومسلمة الفتح، وأضرابهم من الناس وطبقات الأعراب في القتال والإنفاق، وما هو مشهور
عند نقلة الآثار، وقد نقلنا لأبي سفيان وولديه في هذا الباب ما لا يمكن دعوى مثله
لأبي بكر وعمر وعثمان على ما قدمناه وشرحناه. وإذا لم يكن للقوم من معاني الفضل ما
يوجب لهم الوعد بالحسنى على ما نطق به القرآن، ولا اتفق لهم الجمع بين الإنفاق
والقتال بالإجماع وبالدليل الذي ذكرناه، فقد ثبت أن الآية كاشفة عن نقصهم، دالة على
تعريتهم مما يوجب الفضل، ومنبهة على أحوالهم المخالفة لأحوال مستحقي التعظيم
والثواب.
فصل: ثم يقال لهم أيضا: أخبرونا عن عمر بن
الخطاب، بما ذا قرنتموه بأبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن، فيما
ادعيتموه لهم من الفضل في تأويل الآية، ولم يكن له قتال قبل الفتح ولا بعده، ولا
ادعى له أحد إنفاقا على كل حال!.
وهب أن الشبهة دخلت عليكم في أمر أبي بكر
بما تدعونه من الإنفاق، وفي عثمان ما كان منه من النفقة في تبوك، وفي طلحة والزبير
وسعيد بالقتال، أي شبهة دخلت عليكم في عمر بن الخطاب، ولا إنفاق له ولا قتال؟! وهل
ذكركم إياه في القوم إلا عصبية وعنادا وحمية في الباطل، وإقداما على التخرص في
الدعاوى والبهتان.
فصل آخر: ثم يقال لهم: خبرونا عن طلحة
والزبير ما توجه إليهما من الوعد بالحسنى في الآية على ما ادعيتموه للجماعة، وهل
عصمهما ذلك من خلاف أمير المؤمنين عليه السلام وحربه، وسفك دماء أنصاره وشيعته،
وإنكار حقوقه التي أوجبها الله تعالى له ودفع إمامته؟! فإن قالوا: لم يقع من
الرجلين شيء من ذلك، وكانا معصومين عن جميعه. كابروا وقبحت المناظرة لهم، لأنهم
اعتمدوا العناد في ذلك ودفعوا علم الاضطرار. وإن قالوا: إن الوعد من الله سبحانه
لطلحة والزبير بالحسنى لم يمنعهما من سائر ما عددناه، للاتفاق منهم على وقوعه من
جهتهما والإجماع.
قيل لهم: ما أنكرتم أن يكون ذلك أيضا غير
عاصم لأبي بكر وعمر وعثمان مع دفع أمير المؤمنين عليه السلام عن حقه، وإنكار فضله،
وجحد إمامته والنصوص عليه، ولا يمنع التسليم لكم ما ادعيتموه من دخولهم في الآية،
وتوجه المدحة إليهم منها، والوعد بالحسنى والنعيم على غاية منيتكم، فيما ذكرته
الشيعة في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وحال المتقدمين عليه، كما رتبنا ذلك
فيما تقدم من السؤال، فلا يجدون منه مهربا.
فصل: وقد زعم بعض الناصبة أن الآية قاضية
بفضل أبي بكر على أمير المؤمنين عليه السلام، فإن زعم أن أبا بكر له إنفاق بالإجماع
وقتال مع النبي صلى الله عليه وآله، وأن عليا لم يكن له إنفاق على ما زعم وكان له
قتال، ومن جمع الأمرين كان أفضل من المنفرد بأحدهما على النظر الصحيح والاعتبار.
فيقال له: أما قتال أمير المؤمنين عليه
السلام وظهور جهاده مع النبي صلى الله عليه وآله واشتهاره فمعلوم بالاضطرار، وحاصل
عليه من الآية بالإجماع والاتفاق، وليس لصاحبك قتال بين يدي النبي صلى الله عليه
وآلهباتفاق العلماء، ولا يثبت له جهاد بخبر ولا قرآن، ولا يمكن لأحد ادعاء ذلك له
على الوجوه كلها والأسباب، إلا أن يتخرص باطلا على الظن والعناد.
وأما الإنفاق فقد نطق به القرآن لأمير
المؤمنين عليه السلام في آية النجوى بإجماع علماء القرآن، وفي آية المنفقين بالليل
والنهار، وجاء التفسير بتخصيصها فيه عليه السلام، ونزل الذكر بزكاته عليه السلام في
الصلاة، وصدقته على المسكين واليتيم والأسير في: {هَلْ
أَتَى عَلَى الإِنسَانِ}. وليس يثبت لأبي بكر
إنفاق يدل عليه القرآن بظاهره، ولا قطع العذر به من قول إمام صادق في الخبر عن
معناه، ولا يدل عليه تواتر ولا إجماع، مع حصول العلم الضروري بفقر أبي بكر، وما كان
عليه من الاضطرار المانع لصحة دعوى الناصبة له ذلك، حسب ما تخرصوه في المقال، ولا
فرق بين من ادعى لأبي بكر القتال مع ما بيناه ومن ادعى مثل ذلك لحسان، وبين من ادعى
له الإنفاق مع ما بيناه ومن ادعى مثله لأبي هريرة وبلال.
وإذا كانت الدعوى لهذين الرجلين على ما
ذكرناه ظاهرة البطلان، فكذلك ما شاركهما في دلالة الفساد من الدعوى لأبي بكر على ما
وصفناه، فبطل مقال من ادعى له الفضل في الجملة، فضلا عمن ادعاه له على أمير
المؤمنين عليه السلام على ما بنى عليه الناصب الكلام، وبان جهله، والله الموفق
للصواب.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 163، 170:
مسألة: فإن قالوا: وجدنا الله تعالى قد
مدح أبا بكر في مسارعته إلى تصديق النبي صلى الله عليه وآله، وشهد له بالتقوى على
القطع والثبات، فقال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاء
بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءونَ
عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا
يَعْمَلُونَ}. وإذا ثبت أن هذه الآية نزلت في أبي بكر
على ما جاء به الأثر، استحال أن يجحد فرض الله تعالى، وينكر واجبا، ويظلم في
أفعاله، ويتغير عن حسن أحواله، وهذا ضد ما دعونه عليه وتضيفونه إليه من جحد النص
على أمير المؤمنين عليه السلام فقولوا في ذلك كيف شئتم لنقف عليه جواب.
قيل لهم: قد أعلمناكم فيما سلف أن تأويل
كتاب الله تعالى لا يجوز بأدلة الرأي، ولا تحمل معانيه على الأهواء، ومن قال فيه
بغير علم فقد غوى، والذي ادعيتموه من نزول هذه الآية في أبي بكر على الخصوص فهذا
راجع إلى الظن، والعمل عليه غير صادر عن اليقين، وما اعتمدتموه من الخبر فهو مخلوق،
وقد سبرنا الأخبار ونخلنا الآثار فلم نجده في شيء منها معروف، ولا له ثبوت من عالم
بالتفسير موصوف، ولا يتجاسر أحد من الأمة على إضافته إلى النبي صلى الله عليه وآله
فإن عزاه إلى غيره فهو كداود ومقاتل بن سليمان وأشباههما من المشبهة الضلال،
والمجبرة الاغفال الذين أدخلوا في تأويل كلام الله تعالى الأباطيل، وحملوا معانيه
على ضد الحق والدين، وضمنوا تفسيرهم الكفر بالله العظيم، والشناعة للنبيين
والملائكة المقربين عليهم السلام أجمعين، ومن اعتمد في معتقده على دعاوى ما وصفناه
فقد خسر الدنيا والآخرة بما بيناه، وبالله العصمة وإياه نسأل التوفيق.
فصل: على أن أكثر العامة وجماعة الشيعة
يروون عن علماء التأويل وأئمة القول في معاني التنزيل أن هذه الآية نزلت في علي بن
أبي طالب عليه السلام على الخصوص، وإن جرى حكمها في حمزة وجعفر وأمثالهما من
المؤمنين السابقين، وهذا يدفع حكم ما ادعيتموه لأبي بكر ويضاده، ويمنع من صحته
ويشهد بفساده، ويقضي بوجوب القول به دون ما سواه، إذا كان واردا من طريقين، ومصطلحا
عليه من طائفتين مختلفين، ومتفقا عليه من الخصمين المتباينين، فحكمه بذلك حكم
الإجماع، وما عداه فهو من طريق -كما وصفناه- مقصور على دعوى الخصم خاصة بما بيناه،
وهذا ما لا يحيل الحق فيه على أحد من العقلاء، فممن روى ذلك على ما شرحناه: إبراهيم
بن الحكم، عن أبيه، عن السدي، عن ابن عباس، في قوله تعالى: {وَالَّذِي
جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ}. قال: هو أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ورواه عبيدة بن حميد، عن منصور، عن مجاهد،
مثل ذلك سواء. وروى سعيد، عن الضحاك، مثل ذلك أيضا. وروى أبو بكر الحضرمي، عن أبي
جعفر الباقر عليه السلام، في قوله تعالى: {وَالَّذِي
جَاء بِالصِّدْقِ} "هو رسول الله صلى الله عليه وآله، صدق
به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام". وروى علي بن أبي حمزة، عن أبي
بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، مثل ذلك سواء...
مسألة: فإن قال قائل منهم: كيف يتم لكم
تأويل هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له
ذنوب كفرت عنه بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يقول الله تعالى: {لِيُكَفِّرَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ
الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومن قولكم أن أمير
المؤمنين عليه السلام لم يذنب ذنبا، ولا قارف معصية، صغيرة ولا كبيرة ، على خطأ ولا
عمد، فكيف يصح أن الآية -مع ما وصفنا- فيه؟!
جواب: قيل لهم: لسنا نقول في عصمة أمير
المؤمنين عليه السلام بأكثر من قولنا في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، ولا نزيد
على قول أهل العدل في عصمة الرسل عليهم السلام من كبائر الآثام، وقد قال الله تعالى
في نبيه صلى الله عليه وآله {لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.
وقال تعالى: {لَقَد
تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}.
وقال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي
أَنقَضَ ظَهْرَكَ}. فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف
الكبائر، وقد ثبت أنه مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان، فكذلك القول فيما تضمنته
الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.
وجه آخر: أن المراد بذكر التكفير إنما هو
ليؤكد التطهير له صلوات الله عليه من الذنوب، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على
الإطلاق، فإنه مشترط بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا
للعصمة، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.
وجه آخر: وهو أن التكفير المذكور بالآية
إنما تعلق بالمحسنين الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل، وجعله جزاء للمعني
بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور، وهذا يسقط ما توهمه الخصوم.
فصل: وقد روى أصحاب الحديث من العامة عن
طرقهم خاصة أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وحده دون غيره من سائر الناس.
فروى علي بن الحكم، عن أبي هريرة، قال: بينا هو يطوف بالبيت إذ لقيه معاوية بن أبي
سفيان، فقال له أبو هريرة: يا معاوية، حدثني الصادق المصدق والذي جاء بالصدق وصدق
به: أنه يكون أمرا يود أحدكم لو علق بلسانه منذ خلق الله السماوات والأرض، وأنه لم
يل ما ولي. ورووا عن السدي وغيره من السلف، عن قوله تعالى: {وَالَّذِي
جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قال: جاء بالصدق
عليه السلام، وصدق به نفسه عليه السلام. وفي حديث لهم آخر، قالوا: جاء محمد صلى
الله عليه وآله بالصدق، وصدق به يوم القيامة إذا جاء به شهيدا.
فصل: وقد رووا أيضا في ذلك ما اختصوا
بروايته دون غيرهم، عن مجاهد في قوله تعالى: {وَالَّذِي
جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أنه رسول الله صلى
الله عليه وآله، والذي صدق به أهل القرآن، يجيئون به يوم القيامة، فيقولون: هذا
الذي دعوتمونا إليه قد اتبعنا ما فيه.
فصل: وقد زعم جمهور متكلمي العامة
وفقهائهم أن الآية عامة في جميع المصدقين برسول الله صلى الله عليه وآله، وتعلقوا
في ذلك بالظاهر أو العموم، وبما تقدمه من قول الله تعالى: {فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ
فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ
بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. وإذا كان
الاختلاف بين روايات العامة وأقاويلهم في تأويل هذه الآية على ما شرحناه، وإذا
تناقضت أقوالهم فيه بما بيناه سقط جميعها بالمقابلة والمكافأة، وثبت تأويل الشيعة
للاتفاق الذي ذكرناه، ودلالته على الصواب حسب ما وصفناه، والله الموفق للصواب.
مسألة: فإن قال قائل منهم: كيف يتم لكم
تأويل هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام، وهي تدل على أن الذي فيه قد كانت له
ذنوب كفرت عنه بتصديقه رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث يقول الله تعالى: {لِيُكَفِّرَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ
الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}. ومن قولكم أن أمير
المؤمنين عليه السلام لم يذنب ذنبا، ولا قارف معصية، صغيرة ولا كبيرة، على خطأ ولا
عمد، فكيف يصح ان الآية -مع ما وصفنا- فيه؟!
جواب: قيل لهم: لسنا نقول في عصمة أمير
المؤمنين عليه السلام بأكثر من قولنا في عصمة النبي صلى الله عليه وآله، ولا نزيد
على قول أهل العدل في عصمة الرسل عليهم السلام من كبائر الآثام، وقد قال الله تعالى
في نبيه صلى الله عليه وآله {لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.
وقال تعالى: {لَقَد
تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ}.
وقال تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي
أَنقَضَ ظَهْرَكَ}.
فظاهر هذا الكلام يدل على أنه قد قارف
الكبائر، وقد ثبت أنه مصروف عن ظاهره بضروب من البرهان، فكذلك القول فيما تضمنته
الآية في أمير المؤمنين عليه السلام.
وجه آخر: أن المراد بذكر التكفير إنما هو
ليؤكد التطهير له صلوات الله عليه من الذنوب، وهو وإن كان لفظه لفظ الخبر على
الإطلاق، فإنه مشترط بوقوع الفعل لو وقع، وإن كان المعلوم أنه غير واقع أبدا
للعصمة، بدليل العقل الذي لا يقع فيه اشتراط.
وجه آخر: وهو أن التكفير المذكور بالآية
إنما تعلق بالمحسنين الذين أخبر الله تعالى بجزائهم من التنزيل، وجعله جزاء للمعني
بالمدح للتصديق دون أن يكون متوجها إلى المصدق المذكور، وهذا يسقط ما توهمه الخصوم.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 171، 173:
مسألة أخرى: فإن قالوا: فما عندكم في قوله
تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى
*
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
*
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
مع ما جاء في الحديث أنها نزلت في أبي بكر على التخصيص، وهذا ظاهر عند الفقهاء وأهل
التفسير؟.
الجواب: قيل لهم في ذلك كالذي قبله، وهو
من دعاوى العامة بغير بينة ولا حجة تعتمد ولا شبهة، وليس يمكن إضافته إلى صادق عن
الله سبحانه، ولا فرق بين من ادعاه لأبي بكر وبين من ادعاه لأبي هريرة، أو المغيرة
بن شعبة، أو عمرو بن العاص، أو معاوية بن أبي سفيان، في تعري دعواه عن البرهان،
وحصولها في جملة الهذيان، مع أن ظاهر الكلام يقتضي عمومه في كل معط من أهل التقوى
والإيمان، وكل من خلا من الكفر والطغيان، ومن حمله على الخصوص فقد صرفه عن الحقيقة
إلى المجاز، ولم يقنع منه فيه إلا بالجلي من البرهان...
فصل: على أن أصحاب الحديث من العامة قد
رووا ضد ذلك عن عبد الله بن عباس وأنس بن مالك وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله، قد ذكروا أنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وسمرة بن جندب، وأخبروا عن
سبب نزولها فيهما بما يطول شرحه، وأبو الدحداح الأنصاري هو الذي أعطى واتقى، وسمرة
بن جندب هو الذي بخل واستغنى، وفي روايتهم لذلك إسقاط لما رواه بعضهم من خلافه في
أبي بكر، ولم يسنده إلى صحابي معروف، ولا إمام من أهل العلم موصوف، وهذا بين لمن
تدبره.
فصل: مع أنه لو كانت الآية نازلة في أبي
بكر على ما ادعاه الخصوم، لوجب ظهورها فيه على حد يدفع الشبهة والشكوك، ويحصل معه
اليقين بسبب ذلك، والمعنى الذي لأجله نزل التنزيل وأسباب ذلك متوفرة من الرغبة في
نشره، والأمان من الضرر في ذكره، ولما لم يكن ظهوره على ما وصفناه دل على بطلانه
بما بيناه، والحمد لله.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 175، 183:
مسألة أخرى: فإن قالوا: أفليس قد وردت
الأخبار بأن أبا بكر كان يعول على مسطح ويتبرع عليه، فلما قذف عائشة في جملة أهل
الإفك امتنع من بره، وقطع عنه معروفه، وآلى في الامتناع من صلته، فأنزل الله تعالى:
{وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ
وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وأخبر أن أبا بكر من أهل الفضل والدين والسعة في الدنيا، وبشره بالمغفرة والأجر
العظيم، وهذا أيضا يضاد معتقدكم فيه.
جواب: قيل لهم: لسنا ندفع أن الحشوية قد
روت ذلك، إلا أنها لم تسنده إلى الرسول صلى الله عليه وآله، ولا روته عن حجة في
الدين، وإنما أخبرت به عن مقاتل والضحاك وداود الحواري والكلبي وأمثالهم ممن فسر
القرآن بالتوهم، وأقدم على القول فيه بالظن والتخرص حسب ما قدمناه. وهؤلاء بالإجماع
ليسوا من أولياء الله المعصومين ولا أصفيائه المنتجبين، ولا ممن يلزم المكلفين
قولهم والاقتداء بهم على كل حال في الدين، بل هم ممن يجوز عليه الخطأ وارتكاب
الأباطيل.
وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يضرنا ما
ادعوه في التفسير، ولا ينفع خصومنا على ما بيناه ممن يوجب اليقين، على أن الآثار
الصحيحة والروايات المشهورة والدلائل المتواترة قد كشفت عن فقر أبي بكر ومسكنته،
ورقة حاله وضعف معيشته، فلم يختلف أهل العلم أنه كان في الجاهلية معلما، وفي
الإسلام خياطا، وكان أبوه صيادا، فلما كف بذهاب بصره وصار مسكينا محتاجا، قبضه عبد
الله بن جدعان لندي الأضياف إلى طعامه، وجعل له في كل يوم على ذلك أجرا درهما، ومن
كانت حاله في معيشته على ما وصفناه، وحال أبيه على ما ذكرناه، خرج عن جملة أهل
السعة في الدنيا، ودخل في الفقراء فما أحوجهم إلى المسألة والاجتداء، وهذا يبطل ما
توهموه...
فصل: على أن ظاهر الآية معناها موجب
لتوجهها إلى الجماعة دون الواحد، والخطاب بها يدل على تصريحه على ذلك، فمن تأول
القرآن بما يزيله عن حقيقته، وادعى المجاز فيه والاستعارة بغير حجة قاطعة، فقد أبطل
بذلك وأقدم على المحظور وارتكب الضلال.
فصل: على أنا لو سلمنا لهم أن سبب نزول
هذه الآية امتناع أبي بكر من بر مسطح، والإيلاء منه بالله تعالى لا يبره ويصله، لما
أوجب من فضل أبي بكر ما ادعوه، ولو أوجبه لمنعه من خطأه في الدين، وإنكاره النص على
أمير المؤمنين عليه السلام، وجحده ما لزمه والإقرار به على اليقين، للإجماع على أن
ذلك غير عاصم من الضلال، ولا مانع من مقارفة الآثام، فأين موضع التعلق بهذا التأويل
في دفع ما وصفناه آنفا لو لا الحيرة والصد عن السبيل؟.
فصل: وبعد: فليس يخلو امتناع أبي بكر
عيلولة مسطح والإنفاق عليه من أن يكون مرضيا لله تعالى، وطاعة له ورضوانا، أو أن
يكون سخطا لله ومعصية وخطأ ، فلو كان مرضيا لله سبحانه وقربة إليه لما زجر عنه
وعاتب عليه، وأمر بالانتقال عنه وحض على تركه وإذا لم يك لله تعالى طاعة، فقد ثبت
أنه معصية مسخوطة وفساد في الدين، وهذا دال على نقص الرجل وذمه، وهو بالضد مما
توهموه.
فصل: ويؤكد ذلك أن الله عز وجل رغب للنهي
عن قطيعة من سماه في صلته في المغفرة إذا انتهى عما نهاه عنه، وصار إلى مثل ما أمره
به، حيث يقول: {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ
لَكُمْ}. فلولا أنه كان مستحقا للعقاب لما جعل المغفرة
له بشرط الانتقال، وإذا لم تتضمن الآية انتقاله مع ما دلت عليه، قبحت حاله وصارت
وبالا عليه ، حسب ما ذكرناه.
فصل: فأما ادعاؤهم أن الله تعالى شهد لأبي
بكر بأنه من أهل الفضل والسعة ، فليس الأمر كما ظنوه، وذلك لقوله تعالى: {وَلا
يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ}
إنما هو نهي يختص بذكر أهل الفضل والسعة، يعم في المعنى كل قادر عليه، وليس بخبر في
الحقيقة ولا المجاز. وإنما يختص بذكر ما سميناه على حسب اختصاص الأمر بالطاعات بأهل
الإيمان حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}. وإن كان المعني من
الأمر بذلك عاما لجميع المكلفين، والمراد في الاختصاص من اللفظ ما ذكرناه ملاءمة
الوصف لما دعا إليه من الأعمال، وهو يجري مجرى قول القائل لمن يريد تأديبه ووعظه:
لا ينبغي لأهل العقل والمروءة والسداد أن يرتكبوا الفساد، ولا يجوز لأهل الدين
والعفاف أن يأتوا قبائح الأفعال، وإن كان المخاطب بذلك ليس من أهل المروءة والسداد،
ولا أهل الديانة والعفاف، وإنما خص بالمنكر ما وصفناه لما قدمناه وبيناه. فيعلم أن
ما تعلق به المخالف فيما ادعاه من فعل أبي بكر من لفظ القرآن على خلاف ما توهمه
وظنه، وأنه ليس من الخبر في شيء على ما بيناه.
وأما قولهم: أن أبا بكر كان من أهل السعة
في الدنيا بظاهر القرآن، فالقول فيه كالمتقدم سواء، ومن بعد ذلك فإن الفضل والسعة
والنقص والفقر من باب التضايف، فقد يكون الإنسان من ذوي الفضل بالإضافة إلى من دونه
من أهل الضائقة والفقر، ويكون مع ذلك مسكينا بالإضافة إلى من هو أوسع حالا منه،
وفقيرا إلى من هو محتاج إليه. وإذا كان الأمر على ما وصفناه، لم ينكر وصف أبي بكر
بالسعة عند إضافة حاله إلى مسطح وأنظاره من المضطرين بالفقر ومن لا معيشة له ولا
عائدة عليه، كما يكون السقف سماء لمن هو تحته، وتحتا لمن هو فوقه ويكون الخفيف
ثقيلا عندما هو أخف منه وزنا، والقصير طويلا بالإضافة إلى من هو أقصر منه، وهذا ما
لا يقدح في قول الشيعة، ودفعها الناصبة عما ادعته لأبي بكر من الإحسان والإنفاق على
النبي صلى الله عليه وآله، حسب ما تخرصوه من الكذب في ذلك، وكابروا به العباد،
وأنكروا به ظاهر الحال، وما جاء به التواتر من الأخبار، ودل عليه صحيح النظر
والاعتبار، وهذا بين لمن تدبره.
فصل: وقد روت الشيعة سبب نزول هذه الآية
من كلام جرى بين بعض المهاجرين والأنصار، فتظاهر المهاجرون عليهم وعلوا في الكلام،
فغضبت الأنصار من ذلك، وآلت بينها أن لا تبر ذوي الحاجة من المهاجرين، وأن تقطع
معروفها عنهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، فاتعظت الأنصار بها، وعادت إلى بر
القوم وتفقدهم، وذكروا في ذلك حديثا طويلا وشرح جوابه أمرا بينا.
فإذا ثبت مذهبهم في ذلك سقط السؤال من
أصله، ولم يكن لأبي بكر فيه ذكر، واستغني بذلك عن تكلف ما قدمناه، إلا أنا قد
تطوعنا على القوم بتسليم ما ادعوه، وأوضحنا لهم عن بطلان ما تعلقوا به فيه،
استظهارا للحجة وإصدارا عن البيان، والله الموفق للصواب.
فصل آخر: ثم يقال لهم: خبرونا عما
ادعيتموه لأبي بكر من الفضل في الدنيا، لو انضاف إلى التقوى، ونزول القرآن أن تصريح
الشهادة له به عودا بعد سدى، هل كان موجبا لعصمته من الضلال في مستقبل الأحوال،
ودالا على صوابه في كل فعل وقول، وأنه لا يجوز عليه الخطأ والنسيان، وارتكاب الخلاف
لله تعالى والعصيان؟ فإن ادعوا له بالعصمة من الآثام، وأحالوا من أجله عليه الضلال
في لاستقبال، خرجوا عن الإجماع، وتفردوا بالمقال، بما لم يقبله أحد من أهل الأديان،
وكابروا دلائل العقول وبرهان السمع، ودفعوا الأخبار.
وقيل لهم: دلوا على صحة ما ادعيتموه من
ذلك. فلا يجدون شيئا يعتمدونه على كل حال.
وإن قالوا: ليس يجب له بالفضل والسعة
وسائر ما عددناه وانضاف إليه ونطق به القرآن العصمة من الضلال، بل جائز عليه الخطأ
مع استحقاقه لجميعه ومقارفة الذنوب في الاستقبال.
قيل لهم: فهب أنا سلمنا لكم الآن من تأويل
الآية على ما اقترحتموه، ما أنكرتم في ضلال الرجل فيما بعد من إنكاره النص على أمير
المؤمنين عليه السلام، ودفعه عما أوجب الله تعالى عليه الإقرار به من الفرض، وتغيير
حاله من الفضل بالنقص، إذ كانت العصمة مرتفعة عنه، والخطأ جائز عليه، والضلال عن
الحق موهوم منه ومظنون به، فلا يجدون حيلة، في دفع ذلك، ولا معتمدا في إنكاره، وهذا
مما تقدم معناه، إنما ذكرته للتأكيد والبيان، وهو مما لا محيص لهم عنه، والحمد لله.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 185، 192:
مسألة أخرى: فإن قالوا: أفليس قد آنس الله
تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بأبي بكر في خروجه إلى المدينة للهجرة، وسماه صاحبا
له في محكم كتابه، وثانيا لنبيه صلى الله عليه وآله في سفره، ومستقرا معه في الغار
لنجاته، فقال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ} وهذه فضيلة جليلة يشهد بها القرآن، فهل تجدون
من الحجة مخرجا؟
جواب: قيل لهم: أما خروج أبي بكر مع النبي
صلى الله عليه وآله فغير مدفوع، وكونه في الغار معه غير مجحود، واستحقاق اسم الصحبة
معروف، إلا أنه ليس في واحدة منها ولا في جميعها ما يظنون له من الفضل، فلا تثبت له
منقبة في حجة سمع ولا عقل، بل قد شهدت الآية التي تلوتموها في ذلك بزلل الرجل، ودلت
على نقصه وأنبأت عن سوء أفعاله بما نحن موضحون عن وجهه، إن شاء الله تعالى.
وأما ما ادعيتموه من أنس الله تعالى نبيه
صلى الله عليه وآله، فهو توهم منكم وظن يكشف عن بطلانه الاعتبار، وذلك أن رسول الله
صلى الله عليه وآله مؤيد بالملائكة المقربين الكرام، والوحي ينزل عليه من الله
تعالى حالا بحال، والسكينة معه في كل مكان، وجبرئيل عليه السلام آتيه بالقرآن
وعصمته والتوفيق من الله تعالى والثقة بما وعهده من النصر والظفر يرفع عنه
الاستيحاش، فلا حاجة إلى أنيس سوى من ذكرنا، لا سيما وبمنقوص عن منزلة الكمال، خائف
وجل، يحتاج إلى التسكين والرفق والمداراة. وقد نطق بصفته هذه صريح القرآن، وأنبأ
بمحنة النبي صلى الله عليه وآله، وما عالجه من تدبيره له بالتسكين والتشجيع وتلافي
ما فرط منه لشدة جزعه وخوفه وقلقه، كي لا يظهر منه ما يكون به عظيم الفساد، حيث
يقول سبحانه فيما أخبر به عن نبيه صلى الله عليه وآله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
وبعد: فلو كان لرسول الله صلى الله عليه
وآله مؤنس على ما ادعاه الجاهل، لم يكن له بذلك فضل في الدين، لأن الأنس قد يكون
لأهل التقوى والإيمان بأمثالهم من أهل الإيمان، وبأغيارهم من أهل الضلال والبهائم
والشجر والجمادات، بل ربما أنس العاقل بمن يخالفه في دينه، واستوحش ممن يوافقه،
وكان أنسه بعبده -وإن كان ذميا- أكثر من أنسه بعالم وفقيه -وإن كان مهذبا- ويأنس
بوكيله أحيانا ولا يأنس برئيسه، كما يأنس بزوجته أكثر من أنسه بوالدته، ويأنس إلى
الأجنبي فيما لا يأنس فيه إلى الأقرب منه، وتأتي عليه الأحوال يرى أن التأنس ببعيره
وفرسه أولى من التأنس بأخيه وابن عمه، كما يختار المسافر استصحاب من يخبره بأيام
الناس، ويضرب له الأمثال، وينشده الأشعار، ويلهيه بالحديث عن الذكر وما يبهج
الخواطر بالبال، ولا يختار استصحاب أعبد الناس ولا أعرفهم بالأحكام ولا أقرأهم
للقرآن، وإذا كان الأمر على ما وصفناه لم يثبت لأبي بكر فضل بالإنس به، ولو سلمناه
ولم نعترض في بطلانه بما قدمناه، وهذا بين لا إشكال فيه عند ذوي الألباب. وأما كونه
للنبي صلى الله عليه وآله ثانيا، فليس فيه أكثر من الأخبار بالعدد في الحال، وقد
يكون المؤمن في سفره ثاني كافر، أو فاسق، أو جاهل، أو صبي، أو ناقص، كما يكون ثاني
مؤمن وصالح وعالم وبالغ وكامل، وهذا ما ليس فيه اشتباه، فمن ظن به فضلا فليس من
العقلاء.
وأما الصحبة فقد تكون بين المؤمن والكافر
كما تكون بينه وبين المؤمن، وقد يكون الصاحب فاسقا كما يكون برا تقيا، ويكون أيضا
بهيمة وطفلا، فلا معتبر باستحقاقها فيما يوجب المدح أو الذم، الفضل أو النقص.
قال الله تعالى فيما خبر به عن مؤمن
وكافر: { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ
أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ
رَجُلاً *
لَّكِنَّا هُوَ
اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا}
فوصف أحدهما بالإيمان، والآخر بالكفر والطغيان، وحكم لكل واحد منهما بصحبة الآخر
على الحقيقة وظاهر البيان، ولم يناف الصحبة اختلاف ما بينهما في الأديان.
وقال الله سبحانه مخاطبا الكفار الذين
بهتوا نبيه صلى الله عليه وآله، وادعوا عليه الجنون والنقصان: {وَمَا
صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ}
فأضافه عليه السلام إلى قومه بذكر الصحبة، ولم يوجب ذلك لهم فضلا، ولا بإقامتهم
كفرا وذما، فلا ينكر أن يضيف إليه عليه السلام رجلا بذكر الصحبة، وإن كان المضاف
إليه كافرا ومنافقا وفاسقا، كما أضافه إلى الكافرين بذكر الصحبة، وهو رسول الله صلى
الله عليه وآله وسيد الأولين والآخرين، ولم يوجب لهم فضلا ولا وفاقا في الدين، ولا
نفي عنهم بذلك نقصا ولا ضلالا عن الدين. وقد ثبت أن إضافته إليهم بذكر الصحبة أوكد
في معناها من إضافة أبي بكر بها، لأن المضاف إليه أقوى في السبب من المضاف، وهذا
ظاهر البرهان.
فأما استحقاق الصبي اسم الصحبة من الكامل
العاقل، وإن لم يوجب ذلك له كمالا، فهو أظهر من أن يحتاج فيه إلى الاشتهار بإفاضته
على ألسن الناس العام والخاص، ولسقوطه بكل لسان. وقد تكون البهائم صاحبا، وذلك
معروف في اللغة، قال عبيد بن الأبرص:
بل رب ماء أردت آجن *
سبيله خائف جديب
قطعته غدوة مسيحا * وصاحبي بادن خبوب
يريد بصاحبه بعيره بلا اختلاف. وقال أمية
بن أبي الصلت:
إن الحمار مع الحمار مطية
* فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وقال آخر:
زرت هندا وذاك بعد اجتناب
* ومعي صاحب كتوم اللسان
يعني به السيف، فسمى سيفه صاحبا. وإذا كان
الأمر على ما وصفناه لم يثبت لأبي بكر بذكر الصحبة فضيلة، ولا كانت له منقبة على ما
بيناه وشرحناه. وأما حلوله مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار، فهو كالمتقدم غير
موجب له فضلا، ولا رافع عنه نقصا وذما، وقد يحوي المكان البر والفاجر، والمؤمن
والكافر، والكامل والناقص، والحيوان والجماد، والبهيمة والإنسان، وقد ضم مسجد النبي
صلى الله عليه وآله الذي هو أشرف من الغار المؤمنين وأهل النفاق، وحملت السفينة
البهائم وأهل الإيمان من الناس، ولا معتبر حينئذ بالمكان، ومن اعتقد به فضلا لم
يرجع في اعتقاده ذلك إلى حجة عقلية ولا عبارة ولا سمع ولا قياس، ولم يحصل بذلك إلا
على ارتكاب الجهالات.
فإن تعلقوا بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
فقد تكون {مَعَنَا}
للواحد كما تكون للجماعة، وتكون للموعظة والتخويف كما تكون للتسكين والتبشير، وإذا
احتملت هذه الأقسام لم تقتض فضلا، إلا أن ينضم إليها دليل من غيرها وبرهان، وليس به
مع التعلق بها أكثر من ظاهر الإسلام...
فصل: فأما الحجج منها على ما يوجب نقص أبي
بكر وذمه، فهو قوله تعالى فيما أخبر به من نهي نبيه صلى الله عليه وآله لأبي بكر عن
الحزن في ذلك المكان، فلا يخلو أن يكون ذلك منه على وجه الطاعة لله سبحانه لما نهاه
النبي صلى الله عليه وآله عنه، ولا لفظ له في تركه، لأنه صلى الله عليه وآله لا
ينهى عن طاعات ربه، ولا يؤخر عن قربه. ومن وصفه بذلك فقد قدح في نبوته، وأخرجه عن
الإيمان بالله تعالى، وأدخله في جملة أعدائه وأهل مخالفيه، وذلك ضلال عظيم. وإذا
خرج أبو بكر بحزنه الذي كان منه في الغار على الاتفاق من طاعة الله تعالى، فقد دخل
به في معصية الله، إذ ليس بين الطاعة والمعصية في أفعال العاقل الذاكر واسطة على
تحقيق النظر، ومن جعل بينهما قسما ثالثا -وهو المباح- لزمه فيه ما لزم في الطاعة،
إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله لا يحظر ما أباحه الله تعالى، ولا يزجر عما
شرعه الله. وإذا صح أن أبا بكر كان عاصيا لله سبحانه يحزنه المجمع على وقوعه منه في
الغار، دل على استحقاقه الذم دون المدح، وكانت الآية كاشفة عن نقصه بما بيناه.
ومنها: أن الله سبحانه أخبر في هذه الآية
أنه خص نبيه صلى الله عليه وآله بالسكينة دون أبي بكر، وهذا دليل على أن حاله غير
مرضية لله تعالى، إذ لو كان من أولياء الله وأهل محبته لعمته السكينة مع النبي صلى
الله عليه وآله في ذلك المقام، كما عمت من كان معه صلى الله عليه وآله ببدر وحنين،
ونزل القرآن، فقال تعالى في هذه السورة: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ
كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ *
ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ
الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ}.
وقال في سورة الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}. وقال فيها أيضا: {إِذْ
جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. فدل عموم السكينة كل من حضر مع النبي
صلى الله عليه وآله من المؤمنين مقاما سوى الغار، بما أنزل به القرآن، على صلاح حال
القوم وإخلاصهم لله تعالى، واستحقاقهم الكرامة منه بالسكينة التي أكرم بها نبيه صلى
الله عليه وآله، وأوضح بخصوص نبيه في الغار بالسكينة دون صاحبه في تلك الحال على ما
ذكرناه عن خروجه من ولاية الله تعالى، وارتكابه لما أوجب في العدل والحكمة الكرامة
بالسكينة من قبائح الأعمال، وهذا بين لم تحجب عنه العباد، وقد استقصيت الكلام في
هذه المسألة في مواضع من كتبي، وخاصة كتاب (العيون والمحاسن) فإنني فرغت فيها
الكلام، واستوفيت ما فيه على التمام، فلذلك خففت القول هاهنا، وتحريت الاختصار،
وفيما أثبته كفاية، إن شاء الله تعالى.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 201، 207:
مسألة: أخرى فإن قالوا: أفليس قدم رسول
الله صلى الله عليه وآله أبا بكر في حياته على جميع أهل بيته وأصحابه، حيث أمره أن
يصلي بالناس في مرضه مع قوله عليه السلام "الصلاة عماد الدين"، وقوله عليه السلام:
"إمامكم خياركم" وهذا أوضح دليل على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله، وفضله
على جميع أمته؟!
جواب: قيل لهم: أما الظاهر المعروف فهو
تأخير رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر عن الصلاة وصرفه عن ذلك المقام، وخروجه
مستعجلا وهو من ضعف الجسم بالمرض على ما لا يتحرك معه العاقل إلا بالاضطرار،
ولتدارك ما يخاف بفوته عظيم الضرر والفساد، حتى كان عزله عما كان تولاه من تلك
الصلاة.
فأما تقدمه على الناس فكان بقول عائشة دون
النبي صلى الله عليه وآله، وبذلك جاءت الأخبار وتواترت الأحاديث والآثار، ومن ادعى
غير ذلك فعليه حجة البرهان والبيان.
فصل: على أننا لو صححنا حديث عائشة عن
النبي صلى الله عليه وآله، وسلمنا لهم صدقها فيه تسليم جدل، وإن كانت الأدلة تبطله
وتقضي بفساده من كل وجه، لما أوجب ما ادعوه من فضله على الجماعة، لأنهم مطبقون على
أن النبي صلى الله عليه وآله صلى خلف عبد الرحمن بن عوف الزهري، ولم يوجب ذلك له
فضلا عليه ولا غيره من المسلمين. ولا يختلفون أنه صلى الله عليه وآله أمر عمرو بن
العاص على أبي بكر وعمر وجماعة من المهاجرين والأنصار، وكان يؤمهم طول زمان إمارته
في الصلاة عليهم، ولم يدل ذلك على فضله عليهم في الظاهر، ولا عند الله تعالى على
حال من الأحوال. وهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأمته: "صلوا خلف
كل بر وفاجر" وأباح لهم الصلاة خلف الفجار، وجوز بذلك إمامة إمام لهم في الصلاة
منقوص مفضول، بل فاسق فاجر مرذول، بما تضمنه لفظ الخبر ومعناه، وإذا كان الأمر على
ما ذكرناه بطل ما اعتمدوه من فضل أبي بكر في الصلاة.
فصل: ثم يقال لهم: قد اختلف المسلمون في
تقديم النبي صلى الله عليه وآله أبا بكر للصلاة. فقال المسمون السنة: إن عائشة أمرت
بتقديمه عن النبي صلى الله عليه وآله. وقالت الشيعة: إنها أمرته بذلك عن نفسها دون
النبي صلى الله عليه وآله، بلا اختلاف بينهم أن النبي صلى الله عليه وآله خرج إلى
المسجد وأبو بكر في الصلاة، فصلى تلك الصلاة، فلا يخلو أن يكون صلاها إماما لأبي
بكر والجماعة، أو مأموما لأبي بكر مع الجماعة، أو مشاركا لأبي بكر في إمامتهم، وليس
قسم رابع يدعى فنذكره على التقسيم.
فإن كان صلى الله عليه وآله صلاها إماما
لأبي بكر والجماعة فقد صرفه بذلك عما أوجب فضله عندكم من إمامة القوم، وحطه عن
الرتبة التي ظننتم حصوله فيها بالصلاة، وبطل ما اعتمدتموه من ذلك، ووجب له خلافه من
النقص والخروج عن الفضل على التأبيد، إذا كان آخر أفعال رسول الله صلى الله عليه
وآله جار حكمها على التأبيد وإقامة الشريعة وعدم نسخها إلى أن تقوم الساعة، وهذا
بين لا ريب فيه.
وإن كان صلى الله عليه وآله مأموما لأبي
بكر فقد صرف إذن عن النبوة، وقدم عليه من أمره الله تعالى بالتأخير عنه، وفرض عليه
غض الطرف عنده، ونسخ بذلك نبوته وما يجب له بها من إمامة الجماعة، والتقدم عليهم في
الدين، وهذا ما لا يطلقه مسلم.
وإن كان النبي صلى الله عليه وآله إماما
للجماعة مع أبي بكر على الاشتراك في إمامتهم، وكان ذلك آخر أعماله في الصلاة، فيجب
أن يكون سنة، وأقل ما فيه جوازه وارتفاع البدعة منه، والإجماع منعقد على ضد ذلك،
وفساد إمامة نفسين في الصلاة معا لجماعة من الناس، وإذا كان الأمر على ما وصفناه
فقد سقط ما تعلق به القوم من صلاة أبي بكر، وما ادعوه له بها من الفضل على تسليم
الخبر دون المنازعة فيه، فكيف وقد بينا سقوطه بما قدمناه.
فصل: على أن الخبر بصلاة أبي بكر وإن كان
أصله من حديث عائشة ابنته خاصة على ما ذكروه، فإنه قد جاء عنها في التناقض
والاختلاف وذلك شاهد بفساده على البيان: فروى أبو وائل، عن مسروق، عن عائشة، قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا.
وروى إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة في
حديث في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وآله صلى عن يسار أبي بكر قاعدا، وكان أبو
بكر يصلي بالناس قائما.
وفي حديث وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن
الأسود، عن عائشة أيضا، قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضه عن يمين
أبي بكر جالسا، وصلى أبو بكر قائما بالناس.
وفي حديث عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت:
صلى رسول الله صلى الله عليه وآله بحذاء أبي بكر جالسا، وكان أبو بكر يصلي بصلاة
رسول الله صلى الله عليه وآله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر
فتارة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وآله
إماما بأبي بكر، وتارة تقول: كان أبو بكر إماما، وتارة تقول: صلى عن يمين أبي بكر،
وتارة تقول: صلى عن يساره، وتارة تقول: صلى بحذائه، وهذه أمور متناقضة تدل بظاهر ما
فيها من الاضطراب والاختلاف على بطلان الحديث، وتشهد بأنه موضوع.
على أن الخبر الثابت عن النبي صلى الله
عليه وآله من قوله: "إنما جعل الإمام إماما ليؤتم به، فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا
أجمعين" يبطل أيضا حديث صلاة أبي بكر، ويدل على اختلافه، لأنه يتضمن مناقضة ما أمر
به، مع ترك المتمكن منه على فاعله، ومتى ثبت أوجب تضليل أبي بكر وتبديعه على
الإقدام على خلاف النبي صلى الله عليه وآله. واستدلوا بمثل ذلك في رسول الله صلى
الله عليه وآله إذ كان هو المؤتم بأبي بكر، وفي كلا الأمرين بيان فساد الحديث مع ما
في الوجه الأول من دليل فساده.
فصل: آخر مع أن الرواية قد جاءت من غير
طريق عن عائشة أنها قالت: جاء بلال فأذن بالصلاة ورسول الله صلى الله عليه وآله
مغمى عليه، فانتظرنا إفاقته وكاد الوقت يفوت، فأرسلنا إلى أبي بكر يصلي بالناس.
وهذا صريح منها بأن صلاته كانت عن أمرها
ورأيها، دون أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وإذنه ورأيه ورسمه.
والذي يؤيد ذلك ويكشف عن صحته، الإجماع
على أن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج مبادرا معجلا بين يدي رجلين من أهل بيته
حتى تلافى الأمر بصلاته وعزل الرجل عن مقامه.
ثم الإجماع أيضا على قول النبي صلى الله
عليه وآله حين أفاق لعائشة وحفصة: "إنكن كصويحبات يوسف عليه السلام"
ذما لهما على ما أفتنا به أمته، وإخبارا عن إرادة كل واحدة منهما المنزلة بصلاة
أبيها بالناس، ولو كان هو صلى الله عليه وآله تقدم بالأمر لأبي بكر بالصلاة لما حال
بينه وبين تمامها، ولا رجع باللوم على غيره فيها، وهذا ما لا خفاء به على ذوي
الأبصار. وفي هذه المسألة كلام كثير، قد سبق أصحابنا رحمهم الله إلى استقصائه، وصنف
أبو عيسى محمد بن هارون الوراق كتاب مفردا في معناه سماه كتاب (السقيفة) يكون نحو
مائتي ورقة، لم يترك لغيره زيادة عليه فيما يوضح عن فساد قول الناصبة وشبههم التي
اعتمدوها من الخبر بالصلاة، وأشار إلى كذبهم فيه، فلذلك عدلت عن الإطالة في ذكر
البراهين على ما قدمت، واقتصرت على الاختصار، وإن كان فيما أثبته كفاية لذوي
الأبصار، والحمد لله.
- الإفصاح - الشيخ المفيد ص 209، 210:
مسألة أخرى: فإن قالوا: إن لأبي بكر من
الإنفاق على رسول الله صلى الله عليه وآله والمواساة بماله ما لم يكن لعلي بن أبي
طالب عليه السلام، ولا لغيره من الصحابة، حتى جاء الخبر عنه صلى الله عليه وآله،
أنه قال: "ما نفعنا مال كمال أبي بكر". وقال عليه السلام في موطن آخر: "ما أحد من
الناس أعظم نفعا علينا حقا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة".
جواب: قيل لهم: قد تقدم لنا من القول فيما
يدعى من إنفاق أبي بكر ما يدل المتأمل له على بطلان مقال أهل الخلاف، وإن كنا لم
نبسط الكلام في معناه بعد، فإن أصل الحديث في ذلك عائشة، وهي التي ذكرته عن رسول
الله صلى الله عليه وآله، وأضافته بغير حجة، وقد عرفت ما كان من خطأها في عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله، وارتكابها معصية الله تعالى في خلافه حتى نزل فيها وفي
صاحبتها حفصة بنت عمر بن الخطاب: {إِن تَتُوبَا
إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ
بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}. ثم الذي كان منها
في أمر عثمان بن عفان حتى صارت أوكد الأسباب في خلعه، وقتله، فلما كان من أمره ما
كان، وبايع الناس لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حسدته على ذلك، وكرهت
أمره، ورجعت عن ذم عثمان بن عفان إلى مدحه، وقذفت أمير المؤمنين عليه السلام بدمه،
وخرجت من بيتها إلى البصرة إقداما على خلاف الله تعالى فيما أمرها به في كتابه،
فألبت عليه ودعت إلى حربه، واجتهدت في سفك دمه واستئصال ذريته وشيعته، وأثارت من
الفتنة ما بقي في الأمة ضررها في الدين إلى هذه الغاية. ومن كانت هذه حالها لم يوثق
بها في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا آمنت على الأدغال في دين الله
تعالى، لا سيما فيما تجربه نفعا إليها وشهادة بفضل متى صح لكان لها فيه الحظ
الأوفر، وهذا ما لا يخفى على ذوي حجا...
فصل: على أنه لو كان لأبي بكر إنفاق على
ما تدعيه الجهال، لوجب أن يكون له وجه معروف، وكان يكون ذلك لوجه ظاهر مشهور، كما
اشتهرت صدقة أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه، وهو في الركوع حتى علم به الخاص،
والعام، وشاعت نفقته بالليل والنهار والسر والإعلان، ونزول بها محكم القرآن، ولم
تخف صدقته التي قدمها بين يدي نجواه، حتى أجمعت عليها أمة الإسلام، وجاء بها صريح
القول في البيان، واستفاض إطعام المسكين واليتيم والأسير، وورد الخبر به مفصلا
في{هل أتى على الإنسان}.
فكان أقل ما يجب في ذلك أن يكون كشهرة
نفقة عثمان بن عفان في جيش العسرة، حتى لم يختلف في ذلك من أهل العمل اثنان، ولما
خالف الخبر في إنفاق أبي بكر ما ذكرناه، وكان مقصورا على ابنته خاصة، ويكفي في ما
شرحناه، ومضافا إلى من في طريقه من أمثال الشعبي وأشباهه المعروفين بالعصبية لأبي
بكر وعمر وعثمان، والتقرب إلى بني أمية بالكذب والتخرص والبهتان، مما يدل على فساده
بلا ارتياب.
فصل: مع أن الله تعالى قد أخبر في ذلك
بأنه المتولي عناء نبيه صلى الله عليه وآله عن سائر الناس، ورفع الحاجة عنه في
الدين والدنيا إلى أحد من العباد، فقال تعالى {أَلَمْ
يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً
فَأَغْنَى}. فلو جاز أن يحتاج مع ذلك إلى نوال أحد
من الناس لجاز أن يحتاج في هداه إلى غير الله تعالى، ولما ثبت أنه غني في الهدى
بالله وحده، ثبت أنه غني في الدنيا بالله تعالى دون الخلق كما بيناه.
فصل: على أنه لو كان فيما عدده الله تعالى
من أشياء يتعدى الفضل إلى أحد من الناس، فالواجب أن تكون مختصة بآبائه عليهم
السلام، وبعمه أبي طالب رحمه الله، وولده عليه السلام، وبزوجته خديجة بنت خويلد رضي
الله عنها، ولم يكن لأبي بكر في ذلك حظ ولا نصيب على كل حال.
وذلك أن الله تعالى آوى يتمه بجده عبد
المطلب، ثم بأبي طالب من بعده، فرباه وكفله صغيرا، ونصره وواساه ووقاه من أعدائه
بنفسه وولده كبيرا، وأغناه بما رزقه الله من أموال آبائه رحمهم الله تعالى وتركاتهم
وهم ملوك العرب، وأهل الثروة منهم واليسار بلا اختلاف، ثم ما أفاده من بعده في
خروجه إلى الشام من الأموال، وما كان انتقل إليه من زوجته خديجة بنت خويلد.
وقد علم جميع أهل العلم ما كانت عليه من
سعة الأحوال، وكان لها من جليل الأموال، وليس لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير
وسعد وسعيد وعبد الرحمن وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم من سائر الناس سوى من سميناه
سبب لشيء من ذلك، يتعدى به فضلهم إليه على ما بيناه، بل كانوا فقراء فأغناهم الله
بنبيه صلى الله عليه وآله، وكانوا ضلالا فدعاهم إلى الهدى، ودلهم على الرشاد،
وكانوا أذلة فتوصلوا بإظهار اتباع نبوته إلى الملك والسلطان.
وهب أن في هؤلاء المذكورين من كان له قبل
الإسلام من المال ما ينسب به إلى اليسار، وفيهم من له شرف بقبيلة يبين به ممن عداه،
هل لأحد من سامعي الأخبار وأهل العلم بالآثار ريب في فقر أبي بكر وسوء حاله في
الجاهلية والإسلام، ورذالة قبيلته من قريش كلها، وظهور المسكنة في جمهورهم على
الاتفاق؟.
ولو كان له من السعة ما يتمكن به من صلة
رسول الله صلى الله عليه وآله والإنفاق عليه ونفعه بالمال، كما ادعاه الجاهلون،
لأغنى أباه ببعضه عن النداء على مائدة عبد الله بن جدعان بأجرة على ذلك بما يقيم به
رمقه، ويستر به عورته بين الناس، ولارتفع هو عن الخياطة وبيع الخلقان بباب بيت الله
الحرام إلى مخالطة وجوه التجار، ولكان غنيا به في الجاهلية عن تعليم الصبيان
ومقاساة الأطفال في ضرورته إلى ذلك لعدم ما يغنيه عنه ما وصفناه.
وهذا دليل على ضلال الناصبة فيما ادعوه له
من الإنفاق للمال، وبرهان يوضح عن كذبهم فيما أضافوه إلى النبي صلى الله عليه وآله
من مدحه على الإنفاق.
فصل آخر: مع أنه لو ثبت لأبي بكر نفقة مال
على ما ظنه الجهال لكان خلو القرآن من مديح له على الإجماع وتواتر الأخبار، مع
نزوله بالمدح على اليسير من ذوي الإنفاق، دليلا على أنه لم يكن لوجه الله تعالى،
وأنه يعتمد بالسمعة والرياء، وكان فيه ضرب من النفاق.
وإذا ثبت أن الله تعالى عدل كريم لا ينوه
بذكر اليسير من طاعاته، ويخفي الكثير، ولا يمدح الصغير، ويهمل الكبير، ففي خلو
القرآن من ذكر إنفاق أبي بكر أو مدحه له بذكر الإنفاق على الشرط الذي وصفناه أوضح
برهان على ما قدمناه.
ثم يقال لهم: قد علمت الكافة أن نفقات
الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إنما كانت في السلاح والكراع ومعونة
الجهاد وصلات فقراء المسلمين، وتزويد المرملين، ومعونة المساكين، ومواساة
المهاجرين، وأن النبي صلى الله عليه وآله لم يسترفد أحدا منهم ولا استوصله، ولا جعل
عليه قسما من مؤنته، ولا التمس منهم شيئا أهله وعشيرته، وقد حرم الله تعالى عليه
وعلى أهل بيته أكل الصدقات، وأسقط عن كافتهم الأجر له على تبليغهم عن الله تعالى
الرسالات، ونصب الحجج لهم وإقامة البينات، في دعائهم إلى الأعمال الصالحات،
واستنقاذهم بلطفه من المهلكات، وإخراجهم بنور الحق عن الظلمات.
وكان صلى الله عليه وآله من أزهد الناس في
الدنيا وزينتها، ولم يزل مخرجا لما في يديه من مواريث آبائه، وما أفاء الله تعالى
من الغنائم والأنفال، وجعله له خالصا دون الناس إلى فقراء أصحابه، وذوي الخلة من
أتباعه حتى استدان من المال ما قضاه أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاته، وكان هو
المنجز لعداته فأي وجه مع ما وصفناه من حاله صلى الله عليه وآله لإنفاق أبي بكر على
ما ادعوه، لولا أن الناصبة لا تأنف من الجهل ولا تستحيي من العناد؟!.
فصل: مع أنا لا نجدهم يحيلون على وجه فيما
يذكرونه من إنفاق أبي بكر، إلا على ما ادعوه من ابتياعه بلال بن حمامة من مواليه،
وكانوا عزموا بعد الإيمان ليردوه عنه إلى الكفر والطغيان.
وهذا أيضا من دعاويهم الباطلة المتعرية من
الحجج والبرهان، وهو راجع في أصله إلى عائشة، وقد تقدم من القول فيما ترويه وتضيفه
إلى النبي صلى الله عليه وآله، ما يغني عن الزيادة فيه والتكرار.
ولو ثبت على غاية أمانيهم في الضلال لما
كان مصححا لروايتهم مدح أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله، وإخباره بانتفاعه
بنفقته عليه ومواساته بالمال، لأن بلالا لم يكن ولدا للنبي صلى الله عليه وآله، ولا
أخا ولا والدا، ولا قريبا ولا نسيبا، فيكون خلاصه من العذاب بمال أبي بكر نافعا
للنبي صلى الله عليه وآله، ولا مختصا به دون سائر أهل الإسلام.
ولو تعدى ما خص بلالا من الانتفاع بمال
أبي بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله، لموضع إيمانه برسالته، وإقراره بنبوته
ولكونه في جملة أصحابه، لتعدى ذلك إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وجميع ملائكة الله
تعالى وأنبيائه وعباده الصالحين، لأن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله يتضمن
الإيمان بجميع النبيين والملائكة والمؤمنين والصديقين والشهداء والصالحي، وقد انكشف
عن جهالات الناصبة وتجرئهم في بدعهم، وضعف بصائرهم، وسخافة عقولهم، ومن الله نسأل
التوفيق.
فصل: على أن الثابت من الحديث في مدح
النبي صلى الله عليه وآله خديجة بنت خويلد رضي الله عنها دون أبي بكر، والظاهر
المشهور من انتفاع النبي صلى الله عليه وآله بمالها، يوضح عن صحته واختصاصها به دون
من ادعى له بالبهتان، وقد اشترك في نقل الحديث الفريقان من الشيعة والحشوية، وجاء
مستفيضا عن عائشة بنت أبي بكر على البيان. فروى عبد الله بن المبارك، عن مجالد، عن
الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله إذا ذكر خديجة
أحسن الثناء عليها، فقلت له يوما: ما تذكر منها وقد أبدلك الله خيرا منها؟! فقال:
"ما أبدلني الله خيرا منها، صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس،
ورزقني الله الولد منها ولم يرزقني من غيرها" وهذا يدل على بطلان حديثها في مدح أبي
بكر بالمواساة، ويوجب تخصيصها بذلك دونه، ويوضح عن بطلان ما تدعيه الناصبة أيضا من
سبق أبي بكر جماعة الأمة إلى الإسلام، إذ فيه شهادة من الرسول صلى الله عليه وآله
بتقدم إيمان خديجة رحمها الله على سائر الناس.
- الجمل - الشيخ المفيد ص 32:
التصديق في الصلاة: مما يدل على إمامته
عليه السلام من نص القرآن قوله تعالى {إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
وهذا الخطاب موجه إلى جماعة جعل الله لهم أولياء أضيفوا إليهم بالذكر والله وليهم
ورسوله ومن عبر عنه بأنه من الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وهم راكعون،
يعني حال ركوعهم بدلالة أنه لو أراد سبحانه بالخطاب جميع المكلفين لكان هو المضاف
ومحال إضافة الشيء إلى نفسه وإنما يصح إضافته إلى غيره; وإذا لم تكن طائفة تختص
بكونها أولياء لغيرها وليس لذلك الغير مثل ما اختصت به في الولاء وتفرد من جملتهم
من عناه الله تعالى بالإيمان والزكاة حال ركوعه لم يبق إلا ما ذهبت إليه الشيعة في
ولاية علي عليه السلام على الأمة من حيث الإمامة له عليها وفرض الطاعة ولم يكن أحد
يدعي له الزكاة في حال ركوعه إلا علي عليه السلام وقد ثبتت إمامته بذلك على الترتيب
الذي رتبناه فصح إنه مصيب في جميع أقواله وأفعاله وتخطئة مخالفيه حسبما شرحناه.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 42، 48:
فصل: ومن حكايات
الشيخ أدام الله عزه وكلامه قال الشيخ أدام الله عزه: قال أبو الحسين الخياط: جاءني
رجل من أصحاب الإمامة عن رئيس لهم زعم أنه أمره أن يسألني عن قول النبي صلى الله
عليه وآله لأبي بكر {لاَ تَحْزَنْ} أطاعة حزن أبي بكر أم معصية؟ قال: فإن كان طاعة فقد نهاه عن الطاعة، وإن
كان معصية فقد عصى أبو بكر قال: فقلت له: دع الجواب اليوم ولكن ارجع إليه فاسأله عن
قول الله عز وجل لموسى عليه السلام: {لا
تَخَفْ} أيخلو خوف موسى عليه
السلام من أن يكون طاعة أو معصية؟ فان يكن طاعة فقد نهاه عن الطاعة، وإن يكن معصية
فقد عصى موسى عليه السلام. قال: فمضى ثم عاد إلي فقلت له: رجعت إليه؟ قال نعم، فقلت
له: ما قال؟ قال: قال لي: لا تجلس إليه.
قال الشيخ أدام
العزه: ولست أدري صحة هذه الحكاية ولا أبعد أن يكون تخرصها الخياط، ولو كان صادقا
في قوله إن رئيسا من الشيعة أنفذ يسأله عن هذا السؤال لما قصر الرئيس عن إسقاط ما
أورده من الاعتراض ويقوى في النفس أن الخياط أراد التقبيح على أهل الإمامة في تخرص
هذه الحكاية، غير أني أقول له ولأصحابه: الفصل بين الأمرين واضح، وذلك أني لو خليت
وظاهر قوله تعالى لموسى عليه السلام {لا تَخَفْ}، وقوله لنبيه صلى الله عليه وآله {وَلاَ
يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} وما أشبه هذا
مما يوجه إلى الأنبياء لقطعت على أنه نهي لهم عن قبيح يستحق فاعله الذم عليه لأن في
ظاهره حقيقة النهي من قوله: لا تفعل، كما أن في ظاهر خلافه ومقابله في الكلام حقيقة
الأمر إذا قال له: افعل لكني عدلت عن الظاهر، في مثل هذا لدلالة عقلية أوجبت علي
العدول عنه كما توجب الدلالة على المرور مع الظاهر عند عدم الدليل الصارف عنه وهي
ما ثبت من عصمة الأنبياء عليهم السلام التي تنبي عن اجتنابهم الآثام.
وإذا كان الاتفاق
حاصلا على أن أبا بكر لم يكن معصوما كعصمة الأنبياء وجب أن يجري كلام الله تعالى
فيما ضمنه من قصته على ظاهر النهي وحقيقته وقبح الحال التي كان عليها، فتوجه النهي
إليه عن استدامتها، إذ لا صارف يصرف عن ذلك من عصمة ولا خبر عن الله تعالى فيه ولا
عن رسوله صلى الله عليه وآله، فقد بطل ما أورده الخياط وهو في الحقيقة رئيس
المعتزلة وبان وهن اعتماده. ويكشف عن صحة ما ذكرناه ما تقدم به مشايخنا رحمهم الله
تعالى وهو أن الله سبحانه لم ينزل السكينة قط على نبيه صلى الله عليه وآله في موطن
كان معه فيه أحد من أهل الإيمان إلا عمهم في نزول السكينة وشملهم بها. بذلك جاء
القران، قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم
مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ} وقال في موضع
آخر: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولما لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار إلا أبو بكر أفرد الله
عزوجل نبيه بالسكينة صلى الله عليه وآله دونه وخصه بها ولم يشركه معه وقال الله عز
وجل: {فَأَنزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فلو كان الرجل مؤمنا لجرى مجرى المؤمنين في عموم
السكينة لهم، ولولا أنه أحدث بحزنه في الغار منكرا لأجله توجه النهي إليه عن
استدامته، لما حرمه الله تعالى من السكينة ما تفضل به على غيره من المؤمنين الذين
كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله في المواطن الأخرى على ما جاء في القران
ونطق به محكم الذكر بالبيان، وهذا بين لمن تأمله.
قال الشيخ أيده
الله: وقد حير هذا الكلام جماعة من الناصبة وضيق عليهم صدورهم فتشعبوا واختلفوا في
الحيلة للتخلص منه فما اعتمد منهم أحد إلا على ما يدل على ضعف عقله وسخف رأيه
وضلاله عن الطريق، فقال قوم منهم: إن السكينة إنما نزلت على أبي بكر واعتلوا في ذلك
بأنه كان خائفا رعبا ورسول الله صلى الله عليه وآله كان آمنا مطمئنا وقالوا: والآمن
غني عن السكينة وإنما يحتاج إليها الخائف الوجل.
فال الشيخ أدام
الله عزه: فيقال لهم: قد جنيتم بجهلكم على أنفسكم وطعنتم على كتاب الله عز وجل بهذا
الضعيف الواهي من استدلالكم، وذلك أنه لو كان ما اعتللتم به صحيحا لوجب أن لا تكون
السكينة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم بدر ولا في يوم حنين لأنه لم
يكن صلى الله عليه وآله في هذين الموطنين خائفا ولا رعبا ولا جزعا بل كان آمنا
مطمئنا متيقنا بكون الفتح له وأن الله عز وجل يظهره على الدين كله ولو كره
المشركون، وفيما نطق به القرآن من نزول السكينة عليه ما يدمر على هذا الاعتلال.
فإن قلتم: إن
النبي صلى الله عليه وآله كان في هذين المقامين خائفا وإن لم يبد خوفه ولذلك نزلت
السكينة عليه فيهما وحملتم أنفسكم على هذه الدعوى. قلنا لكم: وهذه كانت قصته صلى
الله عليه وآله في الغار فبم تدفعون ذلك؟ فإن قلتم: إنه صلى الله عليه وآله قد كان
محتاجا إلى السكينة في كل حال لينتفي عنه الخوف والجزع ولا يتعلقان به في شيء من
الأحوال، نقضتم ما سلف لكم من الاعتلال وشهدتم ببطلان مقالكم الذي قدمناه.
على أن نص
التلاوة يدل على خلاف ما ذكرتموه، وذلك أن الله سبحانه قال: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ
وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فأنبأ الله سبحانه خلقه أن الذي نزلت عليه السكينة هو المؤيد بالملائكة إذ
كانت الهاء التي في التأييد تدل على ما دلت عليه الهاء التي في نزول السكينة وكانت
هاء الكناية في مبتدأ قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} إلى قوله:
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} عن مكنى واحد ولم يجز أن تكون عن اثنين غيرين كما لا
يجوز أن يقول القائل لقيت زيدا فكلمته وأكرمته فيكون الكلام لزيد بهاء الكناية
وتكون الكرامة لعمرو أو خالد أو بكر، وإذا كان المؤيد بالملائكة رسول الله صلى الله
عليه وآله باتفاق الأمة فقد ثبت أن الذي نزلت عليه السكينة هو خاصة دون صاحبه، وهذا
ما لا شبهة فيه.
وقال قوم منهم:
إن السكينة وإن اختص بها النبي صلى الله عليه وآله فليس يدل ذلك على نقص الرجل لان
السكينة إنما يحتاج إليها الرئيس المتبوع دون التابع، فيقال لهم: هذا أيضا رد على
الله تعالى لأنه قد أنزلها على الاتباع المرؤوسين ببدر وحنين وغيرهما من المقامات،
فيجب على ما أضلتموه أن يكون الله سبحانه فعل بهم ما لم تكن بهم الحاجة إليه، ولو
فعل ذلك لكان عابثا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
قال الشيخ:
وهاهنا شبهة يمكن إيرادها هي أقوى مما تقدم غير أن القوم لم يهتدوا إليها ولا أظن
أنها خطرت ببال أحد منهم، وهي أن يقول قائل: قد وجدنا الله سبحانه ذكر شيئين ثم عبر
عن أحدهما بالكناية فكانت الكناية عنهما دون أن تختص بأحدهما وهو مثل قوله سبحانه:
{وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّه} فأورد لفظ الكناية عن الفضة خاصة وإنما أرادهما جميعا
معا وقد قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راض والرأي مختلف
وإنما أراد: نحن
بما عندنا راضون وأنت راض بما عندك، فذكر أحد الأمرين واستغنى عن الآخر، كذلك يقول
سبحانه:
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} ويريدهما جميعا دون أحدهما.
والجواب عن هذا
وبالله التوفيق: أن الاقتصار بالكناية على أحد الأمرين دون عموم الجميع مجاز
واستعارة استعمله أهل اللسان في مواضع مخصوصة وجاء به القرآن في أماكن محصورة، وقد
ثبت أن الاستعارة ليست بأصل يجري في الكلام ولا يصح عليها القياس وليس يجوز لنا أن
نعدل عن ظواهر القرآن وحقيقة الكلام إلا بدليل يلجي إلى ذلك ولا دليل في قوله
تعالى:
{فَأَنزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فيتعدى من أجله المكنى عنه إلى غيره.
وشيء آخر وهو أن
العرب إنما تستعمل ذلك إذا كان المعنى فيه معروفا والالتباس منه مرتفعا فتكتفي بلفظ
الواحد عن الاثنين للاختصار مع الأمن من وقوع الشبهة والارتياب، فأما إذا لم يكن
الشيء معروفا وكان الالتباس عند إفراده متوهما لم يستعمل ذلك ومن استعمله كان عندهم
ملغزا معميا، ألا ترى أن الله سبحانه لما قال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} علم كل سامع للخطاب أنه أرادهما معا بما قدمه من كراهة
كنزهما المانع من انفاقهما فلما عم الشيئين بذكر يتضمنهما في ظاهر المقال بما يدل
على معنى ما أخره من ذكر الإنفاق، اكتفى بذكر أحدهما للاختصار. وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا
انفَضُّوا إِلَيْهَا} إنما اكتفى
بالكناية عن أحدهما في ذكرهما معا لما قدمه في ذكرهما من دليل ما تضمنته الكناية
فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا
انفَضُّوا إِلَيْهَا} فأوقع الرؤية
على الشيئين جميعا وجعلهما سببا للاشتغال بما وقعت عليه منهما عن ذكر الله عز وجل
والصلاة، وليس يجوز أن يقع الالتباس في أنه أراد أحدهما مع ما قدمه من الذكر إذ لو
أراد ذلك لخلا الكلام عن الفائدة المعقولة فكان العلم بذلك يجزي في الإشارة إليه.
وكذلك قوله
تعالى: {وَاللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} لما تقدم ذكر الله على التفصيل وذكر رسوله على البيان دل على أن الحق في
الرضا لهما جميعا وإلا لم يكن ذكرهما جميعا معا يفيد شيئا على الحد الذي قدمناه
وكذلك قول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما * عندك راض والرأي مختلف
لو لم يتقدمه
قوله: نحن بما عندنا، لم يجز الاقتصار على الثاني لأنه لو حمل الأول على إسقاط
المضمر من قوله راضون لخلا الكلام عن الفائدة فلما كان سائر ما ذكرناه معلوما عند
من عقل الخطاب جاز الاقتصار فيه على أحد المذكورين للإيجاز والاختصار وليس كذلك
قوله تعالى:
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} لان الكلام يتم فيها وينتظم في وقوع الكناية عن النبي صلى الله عليه وآله
خاصة دون الكائن معه في الغار، ولا يفتقر إلى رد الهاء عليهما معا مع كونها في
الحقيقة كناية عن واحد في الذكر وظاهر اللسان، ولو أراد بها الجميع لحصل الالتباس
والتعمية والألغاز لأنه كما يكون التلبيس واقعا عند دليل الكلام على انتظامها
للجميع متى أريد بها الواحدة مع عدم الفائدة لو لم يرجع على الجميع، كذلك يكون
التلبيس حاصلا إذا أريد بها الجميع عند عدم الدليل الموجب لذلك وكمال الفائدة مع
الاقتصار على الواحد في المراد. ألا ترى أن قائلا لو قال: لقيت زيدا ومعه عمرو
فخاطبت زيدا وناظرته، وأراد بذلك مناظرة الجميع لكان ملغزا معميا لأنه لم يكن في
كلامه ما يفتقر إلى عموم الكناية عنهما، ولو جعل هذا نظيرا للآيات التي تقدمت لكان
جاهلا بفرق ما بينها وبينه مما شرحناه. فيعلم أنه لا نسبة بين الأمرين.
وشيء آخر وهو أن
الله سبحانه وتعالى كنى بالهاء التالية للهاء التي في السكينة عن النبي صلى الله
عليه وآله خاصة فلم يجز أن يكون أراد بالأولة غير النبي صلى الله عليه وآله خاصة
لأنه لا يعقل في لسان القوم كناية عن مذكورين بلفظ الواحد وكناية تردفها على النسق
عن واحد من الاثنين.
وليس لذلك نظير
في القرآن ولا في الأشعار ولا في شيء من الكلام فلما كانت الهاء في قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} كناية عن النبي صلى الله عليه وآله بالاتفاق، ثبت أن
التي قبلها من قوله:
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} كناية عنه صلى الله عليه وآله خاصة وبأن مفارقة ذلك لجميع ما تقدم ذكره من
الآي والشعر الذي استشهدوا به والله الموفق للصواب بمنه.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 53، 55:
فصل: ومن كلام
الشيخ أدام الله عزه: قال له رجل من أصحاب الحديث ممن يذهب إلى مذهب الكرابيسي: ما
رأيت أجسر من الشيعة فيما يدعونه من المحال وذلك أنهم زعموا أن قول الله سبحانه {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا} نزلت في علي
وفاطمة والحسن والحسين مع ما في ظاهر الآية من أنها نزلت في أزواج رسول الله. وذلك
أنك إذا تأملت الآية من أولها إلى آخرها وجدتها منتظمة لذكر الأزواج خاصة ولم نجد
لمن ادعوها له ذكرا.
فقال له الشيخ
أيده الله: أجسر الناس على ارتكاب الباطل وأبهتهم وأشدهم إنكارا للحق وأجهلهم، من
قام مقامك في هذا الاحتجاج ودفع ما عليه الإجماع والاتفاق، وذلك أنه لا خلاف بين
الأمة أن الآية من القران قد يأتي أولها في شيء وآخرها في غيره ووسطها في معنى
وأولها في سواه وليس طريق الاتفاق في معنى إحاطة وصف الكلام بالآي.
وقد نقل المخالف
والموافق أن هذه الآية نزلت في بيت أم سلمة رضي الله تعالى عنها ورسول الله في
البيت ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقد جللهم بعباءة خيبرية وقال:
اللهم هؤلاء أهل بيتي. فأنزل الله عزوجل: {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيرًا} فتلاها رسول
الله صلى الله عليه وآله فقالت له أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله ألست من أهل
بيتك؟ فقال لها: إنك إلى خير ولم يقل إنك من أهل بيتي. حتى روى أصحاب الحديث أن عمر
سئل عن هذه الآية فقال: سلوا عنها عائشة، فقالت عائشة: إنها نزلت في بيت أختي أم
سلمة فاسألوها عنها فإنها أعلم بها مني.
فلم يختلف أصحاب
الحديث من الناصبة ولا أصحاب الحديث من الشيعة في خصوصها فيمن عددناه، وحمل القران
في التأويل على ما جاء به الأثر أولى من حمله على الظن والترجيم. مع أن الله سبحانه
قد دل على صحة ذلك بمتضمن الآية حيث يقول جل وعلا: {إِنَّمَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} وإذهاب الرجس لا يكون إلا بالعصمة من الذنوب لان الذنوب
من أرجس الرجس والخبر عن الإرادة هنا إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة دون الإرادة
التي يكون بها لفظ الأمر أمرا لاسيما على ما أذهب إليه في وصف القديم بالإرادة،
وأفرق بين الخبر عن الإرادة هاهنا والخبر عن الإرادة في قوله: {يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} إذ لو جرت مجرى واحدا لم يكن لتخصيص أهل البيت بها معنى إذ الإرادة التي
يقتضي الخبر والبيان يعم الخلق كلهم على وجهها في التفسير ومعناها، فلما خص الله
أهل البيت عليهم السلام بإرادة إذهاب الرجس عنهم دل على ما وصفناه من وقوع إذهابه
عنهم وذلك موجب للعصمة على ما ذكرناه، وفى الاتفاق على ارتفاع العصمة عن الأزواج
دليل على بطلان مقال من زعم أنها فيهن.
مع أن من عرف
شيئا من اللسان وأصله، لا يرتكب هذا القول ولا توهم صحته وذلك أنه لا خلاف بين أهل
العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع المؤنث بالنون وأن الفصل بينهما بهاتين
العلامتين، ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر ولا وضع علامة
المذكر على المؤنث ولا استعملوا ذلك في حقيقة ولا مجاز ولما وجدنا الله سبحانه قد
بدأ في هذه الآية بخطاب النساء فأورد علامة جمعهن من النون في خطابهن فقال: {يَا
نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا
تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} إلى قوله {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ثم عدل بالكلام عنهن بعد هذا الفصل إلى جمع المذكر فقال
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} فلما جاء بالميم وأسقط النون علمنا أنه لم يتوجه هذا
القول إلى المذكور الأول بما بيناه من أصل العربية وحقيقتها، ثم رجع بعد ذلك إلى
الأزواج، فقال: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ
مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا}. فدل ذلك على
إفراد من ذكرناه من آل محمد عليهم السلام بما علقه عليهم من حكم الطهارة الموجبة
للعصمة وجليل الفضيلة.
وليس يمكنكم معشر
المخالفين أن تدعوا انه كان في الأزواج مذكورا رجل غير النساء وذكر ليس برجل فيصح
التعلق منكم بتغليب المذكر على المؤنث إذا كان في الجمع ذكر وإذا لم يمكن ادعاء ذلك
وبطل أن يتوجه إلى الأزواج فلا غير لهن توجهت إليه إلا من ذكرناه ممن جاء فيه الأثر
على ما بيناه.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 78، 81:
فصل: ومن حكايات
الشيخ أدام الله عزه وكلامه قال: وقال أبو القاسم الكعبي: سمعت أبا الحسين الخياط
يحتج في إبطال قول المرجئة في الشفاعة بقوله تعالى: {أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ} قال: والشفاعة لا تكون إلا لمن استحق العقاب.
قال: فيقال له:
ما كان أغفل أبا الحسين وأعظم رقدته أترى أن الراجئة إذا قالت إن النبي صلى الله
عليه وآله يشفع فيشفع فيمن يستحق العقاب، قالوا إنه هو الذي ينقذ من في النار أم
يقولون إن الله سبحانه هو الذي أنقذه بتفضله ورحمته وجعل ذلك إكراما لنبيه صلى الله
عليه وآله فأين وجه الحجة فيما تلاه؟ أو ما علم أن من مذهب خصومه القول بالوقف في
الأخبار وأنهم لا يقطعون بالظاهر على العموم والاستيعاب، فلو كان القول يتضمن نفي
خروج أحد من النار لما كان ذلك ظاهرا ولا مقطوعا به عند القوم، وكيف ونفس الكلام
يدل على الخصوص دون العموم بقوله {أَفَمَنْ
حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ}، وإنما يعلم من المراد بذلك بدليل دون نفسه وقد حصل الإجماع على أنه توجه
إلى الكفار وليس أحد من أهل القبلة يدين بجواز الشفاعة للكفار فيكون ما تعلق به
الخياط حجة عليه.
ثم قال أبو
القاسم: وكان أبو الحسين -يعني الخياط- يتلو في ذلك أيضا قوله عز وجل: {تَاللَّهِ
إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *
وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا
صَدِيقٍ حَمِيمٍ}.
قال الشيخ أدام
الله عز: فيقال لهم: ما رأيت أعجب منكم يا معاشر المعتزلة تتكلمون فيما قد شارككم
الناس فيه من العدل والتوحيد أحسن كلام حتى إذا صرتم إلى الكلام في الإمامة
والإرجاء صرتم فيهما عامة حشوية تخبطون خبط عشواء لا تدرون ما تأتون وما تذرون،
ولكن لا أعجب من ذلك وأنتم إنما جودتم فيما عاونكم عليه غيركم واستفدتموه من سواكم
وقصرتم فيما تفردتم به لا سيما في نصرة الباطل الذي لا يقدر على نصرته في الحقيقة
قادر، ولكن العجب منكم في ادعائكم الفضيلة والبينونة بها من سائر الناس، ولو والله
حكى هذا الاستدلال مخالف لكم لارتبنا بحكايته، ولكن لا ريب وشيوخكم يحكونه عن
مشايخهم ثم لا يقنعون حتى يوردوه على سبيل التبجح به والاستحسان له، وأنت أيها
الرجل من غلوك فيه جعلته أحد الغرر فأنت وإن كنت أعجمي الأصل والمنشأ فأنت عربي
اللسان صحيح الحس، وظاهر الآية في الكفار خاصة ولا يخفى ذلك على الأنباط فضلا عن
غيرهم حيث يقول الله تعالى حاكيا عن الفرقة بعينها وهي تعني معبوداتها دون الله
وتخاطبها فتقول: {إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} فيعترفون بالشرك بالله ثم يقولون: {وَمَا
أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} وقبل ذلك يقسمون فيقولون: {تَاللَّهِ إِن
كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.
فهل يا أبا
القاسم -أصلحك الله- تعرف أحدا من خصومك في الإرجاء والشفاعة يذهب إلى جواز الشفاعة
لعباد الأصنام المشركين بالله عز وجل، والكفار برسله عليهم السلام حتى استحسنت
استدلال شيخك بهذه الآية على المشبهة، كما زعمت، والمجبرة ومن ذهب مذهبهم من
العامة، فإن ادعيت علم ذلك تجاهلت، وإن زعمت أنه إذا بطلت الشفاعة للكفار فقد بطلت
للفساق، أتيت بقياس طريف من القياس الذي حكي عن أبي حنيفة أنه قال فيه: "البول في
المسجد أحيانا أحسن من بعض (نقض ن خ) القياس". وكيف تزعم ذلك وأنت إنما حكيت مجرد
القول في الآية، ولم تذكر وجه الاستدلال منها وإن ما توهمت أن الحجة في ظاهرها غفلة
عظيمة حصلت منك على أنه إنما يصح القياس على العلل والمعاني دون الصور والألفاظ،
والكفار إنما بطل قول من ادعى الشفاعة لهم -إن لو ادعاها مدع- بصريح القرآن لا غير
فيجب أن لا تبطل الشفاعة لفساق أهل الملة إلا بنص القرآن أيضا أو قول من الرسول صلى
الله عليه وآله يجري مجرى القران في الحجة، وإذا عدم ذلك بطل القياس فيه. مع أنا قد
بينا أنك لم تقصد القياس وإنما تعلقت بظاهر القرآن وكشفنا عن غفلتك في المتعلق به،
فليتأمل ذلك أصحابك وليستحيوا لك منه. على أنه قد روي عن الباقر محمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنه قال: في هذه الآيات دلالة على وجود
الشفاعة، قال: وذلك أن أهل النار لو لم يروا يوم القيامة شافعين يشفعون لبعض من
استحق العقاب فيشفعون ويخرجون بشفاعتهم من النار أو يعفون منها بعد الاستحقاق، لما
تعاظمت حسراتهم ولا صدر عنهم هذا المقال لكنهم لما رأوا شافعا يشفع فيشفع، وصديقا
حميما يشفع لصديقه فيشفع، عظمت حسراتهم عند ذلك فقالوا: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. ولعمري إن مثل هذا الكلام لا يرد إلا عن إمام هدى، أو
احد من الأئمة أئمة الهدى عليهم السلام، فأما ما حكاه أبو القاسم فيليق بمقام
الخياطين ونتيجة عقول السخفاء والضعفاء في الدين.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 102، 104:
فصل: ومن كلامه
أدام الله عزه أيضا: سئل الشيخ أدام الله حراسته عن معصية داود عليه السلام ما
كانت؟.
فقال: فيها
جوابان: أحدهما أن الله سبحانه لما جعله خليفة في الأرض بقوله: {يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ} أراد سبحانه
وتعالى أن يهذبه ويؤدبه لأمر علمه منه فجعل ذلك بملائكته دون البشر وأهبط عليه
الملكين في صورة بشرين، فقالا له: {خَصْمَانِ
بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ
نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي
الْخِطَابِ} فقال داود عليه السلام للمدعي حاكما على المدعى عليه من
غير أن يسأل المدعى عليه عن صحة دعوى المدعي {قَالَ
لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}.
وقد كان الحكم
يوجب أن لا يعجل بذلك حتى يسأل المدعى عليه فيقول له: ما تقول في هذه الدعوى؟ فلما
عجل بالحكم قبل الاستثبات كان ذلك منه صغيرة ووجب عليه التوبة منها وتبين ذلك في
الحال ففعل ما وجب عليه مما وصفناه، قال الله عز وجل {وَظَنَّ
دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ *
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}.
والجواب الآخر:
حكاه الناصر فأخبر أن داود عليه السلام ذكرت له امرأة أوريا بن حنان فسأله أن ينزل
له عنها ليتزوج بها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك مباحا في شرعه ، فامتنع عليه أوريا
ورغب بامرأته على جزع لحقه من الامتناع عليه ورهبة حصلت له منه. وكانت الخطيئة من
داود عليه السلام أن طلب ذلك من أوريا بن حنان وهو نبي وملك مطاع وأوريا رعية
وتابع، ولو سأل أوريا ذلك مثله من الرعية لما كان بسؤاله مخطئا لأنه لم يكن يحدث له
عند الامتناع من الجزع والخوف والهلع ما حدث له عند الامتناع من نبيه وملكه ورئيسه
داود عليه السلام، وهذا الجواب غير بعيد، والله نسأل التوفيق.
قال الشيخ أدام
الله عزه: فإن قال قائل: أليس قد نطق القرآن بوقوع المعصية من نبي من أنبياء الله
سبحانه في حال نبوته، وهذا خلاف مذهبك في ارتفاع المعاصي عن الأنبياء كلهم والأئمة
عليه السلام لأنهم على أصلك معصومون من الذنوب والخطأ في الدين.
فالجواب: أن الذي
أذهب إليه في هذا الباب أنه لا يقع من الأنبياء عليهم السلام ذنب بترك واجب مفترض،
ولا يجوز عليهم خطأ في ذلك ولا سهو يوقعهم فيه وإن جاز منهم ترك نفل ومندوب إليه
على غير القصد والتعمد، ومتى وقع ذلك منهم عوجلوا بالتنبيه عليه، فيزولون عنه في
أسرع مدة وأقرب زمان.
فأما نبينا صلى
الله عليه وآله خاصة والأئمة من ذريته عليه السلام فلم يقع منهم صغيرة بعد النبوة
والإمامة من ترك واجب ولا مندوب إليه، لفضلهم على من تقدمهم من الحجج عليهم السلام
وقد نطق القرآن بذلك وقامت الدلائل منه ومن غيره على ذلك للائمة من ذريته عليهم
السلام قال الله تعالى وقد ذكر معصية آدم عليه السلام: {وَعَصَى
آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فسمى المعصية غواية وذلك حكم كل معصية، إذ كان فاعلها يخيب بفعلها من ثواب
تركها، وكانت الغواية هي الخيبة في وجه من الوجوه، وعلى مفهوم اللغة، قال الشاعر:
ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن
يغو لا يعدم على الغي لائما
وقال الله سبحانه
في آية الدين عند ذكر الشهود: {وَاسْتَشْهِدُواْ
شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا
فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} يريد لئلا تنسى إحداهما فسمى النسيان ضلالا، وذلك معروف في اللغة، فلما
تقرر أن كل معصية غواية وكل نسيان ضلال دل قوله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ
إِذَا هَوَى *
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} على أنه قد نفى عن نبيه عليه واله السلام المعامي على كل وجه والنسيان من
كل وجه، وهذا بين لمن تأمله.
قال الشيخ أدام
الله عزه: وأقول: إن ترك النفل قد يسمى معصية كما أن فعله قد يسمى طاعة لاسيما إذا
وقع ذلك من نبي أو وصي أو صفي فإنهم لمنزلتهم عند الله سبحانه يؤاخذهم بالقليل من
الفعل ولا يعذرهم فيه ليؤدبهم بذلك ويهذبهم ويزجرهم عن مثله في المستقبل، ولو وقع
من غيرهم، ما كان ليؤاخذهم به ولا يعجل لهم الأدب عليه على ما قدمت ذكره.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 108، 109:
فصل: ومن كلام
الشيخ أدام الله عزه: سئل عن قول الله عز وجل: {وَإِنَّ
يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وقوله في موضع آخر: {تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ
سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً} وقوله تعالى في موضع آخر {يُدَبِّرُ
الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وما الوجه في هذه الآيات مع اختلاف ظواهرها؟.
فقال الشيخ أدام
الله عزه: أما معنى الأولة والثانية فإنه تحمل على التعظيم لأمر الآخرة والإخبار عن
شدته وأهواله، فاليوم الواحد من أيامها على أهل العذاب كألف سنة من سني الدنيا
لشدته وعظم بلائه وما يحل بالكافرين فيه من أنواع العذاب.
واليوم الذي
مقداره خمسون ألف سنة فهو يوم المحشر وإنما طال على الكافرين حتى صار قدره عندهم
ذلك لما يشاهدون فيه من شدة الحساب وعذاب جهنم وصعوبته، والممر على الصراط،
والمعاينة للسعير وإسماعهم زفرات النار وصوت سلاسلها وأغلالها، وصياح خزنتها،
ورؤيتهم لاستطارة شررها.
ألا ترى إلى قوله
تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *
وَنَرَاهُ قَرِيبًا} وقد وصف الله
عز وجل ذلك اليوم وقال: {إِنَّ هَؤُلاء
يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً} وقال تعالى: {يَوْمَ
تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ
حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ
عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} وقال تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ
الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ
امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} وهذا الذي ذكرناه معروف في اللسان يقول القائل (كانت
ليلتي البارحة شهرا) وقال امرؤ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح
وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليل كأن نجومــه بكل
مغار الفتل شدت بيذبــل
والليل لم يطل في
نفسه ولكن طال عليه لما قاسى فيه من الهم والسهر، والعرب تقول ليوم الشر (هذا يوم
أطول من عمر النسر).
وأما قوله عز
وجل: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى
الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
مِّمَّا تَعُدُّونَ} فالمعنى فيه
على ما ذكر أنه يعرج في يوم مقداره لو رام بشر قطعه، لما قطعه إلا في ألف سنة، وإذا
كان الأمر على ما بيناه لم يكن بين المعاني تفاوت على ما وصفناه.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 136 :
فصل: ومن كلام
الشيخ أدام الله عزه في تفسير القران، سئل عن قوله تعالى: {عَلِمَتْ
نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} وعن قوله تعالى:
{يُنَبَّأُ الإِنسَانُ
يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، وقيل له ما هو المقدم هاهنا والمؤخر؟ فقال: أما ما
قدمه الإنسان فهو ما عمله في حياته مما لم يكن له أثر بعد وفاته، وأما الذي أخره
فهو ما سنه في حياته فاقتدي به بعد وفاته. وهذا مبين في قول النبي صلى الله عليه
وآله: "من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سن سنة
سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقد قال سبحانه: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ
وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} يريد به عقاب إضلالهم لمن أضلوه من الناس، والأصل في هذا تعاظم العقاب
عليهم بما يفعل من القبيح في الاقتداء بهم، وتعاظم الثواب لهم بما يصنع من الجميل
بالإتباع لسنتهم الحسنة في الناس.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 163، 164:
فصل: قال الشيخ
أدام الله عزه: وقد كنت استدللت بالآية التي قدمت تلاوتها على تحليل المتعة في مجلس
كان صاحبه رئيس زمانه فاعترضني فيها أبو القاسم الداركي فقال: ما أنكرت أن يكون
المراد بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم
بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} إنما أراد به نكاح الدوام وأشار بالاستمتاع إلى
الالتذاذ دون نكاح المتعة الذي تذهب إليه.
فقلت له: إن
الاستمتاع وإن كان في الأصل هو الالتذاذ فانه إذا علق بذكر النكاح وأطلق بغير تقييد
لم يرد به إلا نكاح المتعة خاصة لكونه علما عليها في الشريعة وتعارف أهلها. ألا ترى
أنه لو قال قائل: نكحت أمس امرأة متعة، أو هذه المرأة نكاحي لها أو عقدي عليها
للمتعة أو أن فلانا يستحل نكاح المتعة لما فهم من قوله إلا النكاح الذي تذهب إليه
الشيعة خاصة، وإن كانت المتعة قد تكون بوطئ الإماء والحرائر على الدوام كما أن
الوطئ في اللغة هو وطئ القدم ومماسة باطنه للشيء على سبيل الاعتماد. ولو قال قائل:
وطئت جاريتي ومن وطف امرأة غيره فهو زان، وفلان يطأ امرأته وهي حائض لم يعقل من ذلك
مطلقا على أصل الشريعة إلا النكاح دون وطئ القدم. وكذلك الغائط هو الشيء المحوط،
وقيل هو الشيء المنهبط. ولو قال قائل: هل يجوز أن آتي الغائط ثم لا أتوضأ واصلي، أو
قال: فلان أتى الغائط ولم يستبرئ ، لم يفهم من قوله إلا الحدث الذي يجب منه الوضوء
وأشباه ذلك مما قد تقرر في الشريعة. وإذا كان الأمر على ما وصفناه فقد ثبت أن إطلاق
لفظ نكاح المتعة لا يقع إلا على النكاح الذي ذكرناه، وإن كان الاستمتاع في أصل
اللغة هو الالتذاذ كما قدمناه.
فاعترض القاضي
أبو محمد بن معروف فقال: هذا الاستدلال يوجب عليك أن لا يكون الله تعالى أحل بهذه
الآية غير نكاح المتعة لأنها لا تتضمن سواه، وفى الإجماع على انتظامها تحليل نكاح
الدوام دليل على بطلان ما اعتمدته.
فقلت له: ليس
يدخل هذا الكلام على أصل الاستدلال ولا يتضمن معتمدي ما ألزمنيه القاضي فيه وذلك أن
قوله سبحانه: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن
تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} يتضمن تحليل المناكح المخالفة للسفاح في الجملة ويدخل
فية نكاح الدوام من الحرائر والإماء ثم يختص نكاح المتعة بقوله تعالى: {فَمَا
اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} ويجري ذلك مجرى قول القائل: (قد حرم الله عليك نساء
بأعيانهن وأحل لك ما عداهن فان استمتعت منهن فالحكم فيه كذا وكذا، وإن نكحت نكاح
الدوام فالحكم فيه كيت وكيت)، فيذكر له المحللات في الجملة، ويبين له حكم نكاح
بعضهن، كما يذكرهن له، ثم يبين له أحكام نكاحهن كلهن، فما أعلمه زاد علي شيئا.
- المسائل السروية- الشيخ المفيد ص 30، 36:
المسألة الأولى: في المتعة والرجعة: ما
قول الشيخ المفيد أطال الله بقاءه، وأدام تأييده وعلاه، وحرس معالم الدين بحياطة
مهجته، وأقر عيون الشيعة بنضارة أيامه فيما يروى عن مولانا جعفر بن محمد الصادق
عليهما السلام في الرجعة؟ وما معنى قوله عليه السلام "ليس منا من لم يقل بمتعتنا،
ويؤمن برجعتنا" أهي حشر في الدنيا مخصوص للمؤمنين، أو لغيرهم من الظلمة الجائرين
قبل يوم القيامة؟
الجواب: وبالله التوفيق. إن المتعة التي
ذكرها الصادق عليه السلام هي النكاح المؤجل الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله
أباحها لامته في حياته، ونزل القرآن بإباحتها أيضا، فتأكد ذلك بإجماع الكتاب والسنة
فيه. حيث يقول الله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ
بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ
مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً}. فلم تزل على الإباحة بين المسلمين،
لا يتنازعون فيها، حتى رأى عمر بن الخطاب النهي عنها، فحظرها وشدد في حظرها، وتوعد
على فعلها فاتبعة الجمهور على ذلك، وخالفهم جماعة من الصحابة والتابعين فأقاموا على
تحليلها إلى أن مضوا لسبيلهم.
واختص بإباحتها جماعة أئمة الهدى من آل
محمد عليهم السلام، فلذلك أضافها الصادق عليه السلام إلى نفسه بقوله: "متعتنا".
وأما قوله عليه السلام: "من لم يقل
برجعتنا فليس منا" فإنما أراد بذلك ما يختصه من القول به في أن الله تعالى يحيي
قوما من أمة محمد صلى الله عليه وآله بعد موتهم، قبل يوم القيامة، وهذا مذهب يختص
به آل محمد صلى الله عليه وآله وعليهم. وقد أخبر الله عز وجل في ذكر الحشر الأكبر
يوم القيامة: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}. وقال سبحانه في
حشر الرجعة قبل يوم القيامة: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن
يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} فأخبر أن الحشر حشران: عام وخاص.
وقال سبحانه مخبرا عمن يحشر من الظالمين
أنه يقول يوم الحشر الأكبر: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا
اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ}.
وللعامة في هذه الآية تأويل مردود، وهو:
أن المعني بقوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ} أنه خلقهم أمواتا ثم أماتهم
بعد الحياة. وهذا باطل لا يجري على لسان العرب، لأن الفعل لا يدخل إلا على ما كان
بغير الصفة التي انطوى اللفظ على
معناها، ومن خلقه الله مواتا لا يقال إنه أماته، وإنما يقال ذلك فيمن طرأ عليه
الموت بعد الحياة. كذلك لا يقال أحيا الله ميتا إلا أن يكون قد كان قبل إحيائه
ميتا. وهذا بين لمن تأمله. وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا
اثْنَتَيْنِ} الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمسألة، فتكون الأولى قبل
الإقبار، والثانية بعده. وهذا أيضا باطل من وجه آخر، وهو أن الحياة للمسألة ليست
للتكليف فيندم الإنسان على ما فاته في حاله، وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم
المرتين يدل على أنه لم يرد حياة المسألة، لكنه أراد حياة الرجعة التي تكون
لتكليفهم والندم على تفريطهم، فلا يفعلون ذلك فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من
ذلك.
- المسائل
السروية- الشيخ المفيد ص 47، 52:
فصل: شبهة في
إنطاق الذر فإن تعلق متعلق بقوله تبارك اسمه: {وَإِذْ
أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ
عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} فظن بظاهر هذا القول تحقق ما رواه أهل التناسخ والحشوية
والعامة في إنطاق الذرية وخطابهم،
وأنهم كانوا أحياء ناطقين.
فالجواب عنه: أن
هذه الآية من المجاز في اللغة، كنظائرها مما هو مجاز واستعارة، والمعنى فيها: أن
الله تبارك وتعالى أخذ من كل مكلف يخرج من ظهر آدم، وظهور ذريته العهد عليه
بربوبيته من حيث أكمل عقله ودله بآثار الصنعة على حدوثه، وأن له محدثا أحدثه لا
يشبهه، يستحق العبادة منه بنعمه عليه. فذلك هو أخذ العهد منهم، وآثار الصنعة فيهم
هو إشهاده لهم على أنفسهم بان الله تعالى ربهم. وقوله تعالى: {قَالُواْ
بَلَى} يريد به أنهم لم
يمتنعوا من لزوم آثار الصنعة فيهم ودلائل حدوثهم اللازمة لهم، وحجة العقل عليهم في
إثبات صانعهم، فكأنه سبحانه لما ألزمهم الحجة بعقولهم على حدوثهم ووجود محدثهم قال
لهم: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ}؟ فلما يقدروا على الامتناع من لزوم دلائل الحدوث لهم
كانوا كالقائلين: {بَلَى شَهِدْنَا}.
وقوله تعالى: {أَن
تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ
تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن
بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ}. ألا ترى أنه احتج عليهم بما لا يقدرون يوم القيامة أن
يتأولوا في إنكاره ولا يستطيعون؟ وقد قال سبحانه: {وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} ولم يرد أن المذكور يسجد كسجود البشر في الصلاة، إنما
أراد أنه غير ممتنع من فعل الله، فهو كالمطيع لله، وهو معبر عنه بالساجد. قال
الشاعر:
بجمع تضل البلق في حجراته * ترى الأكم فيها
سجدا للحوافر
يريد أن الحوافر
تذل الأكم بوطئها عليها.
وقال الآخر:
سجودا له غسان يرجون فضله * وترك ورهط
الأعجمين وكابل
يريد أنهم مطيعون
له، وعبر عن طاعتهم بالسجود.
وقوله تعالى: {ثُمَّ
اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. وهو سبحانه لم يخاطب السماء بكلام، ولا السماء قالت
قولا مسموعا، وإنما أراد أنه عمد إلى
السماء فخلقها ولم يتعذر عليه صنعها، فكأنه سبحانه لما خلقها قال لها وللأرض: {اِئْتِيَا
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} فلما انفعلت
بقدرته كانتا كالقائل: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.
ومثله قوله
تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} والله تعالى يجل عن خطاب النار، وهي مما لا يعقل ولا يتكلم، وإنما عبر عن
سعتها، وإنها لا تضيق بمن يحلها من المعاقبين. وذلك كله على مذهب أهل اللغة وعادتهم
في المجاز، ألا ترى إلى قول الشاعر:
وقالت له العينان سمعا وطاعة * وأسبلتا بالدر
لما يثقب
والعينان لم
تقولا قولا مسموعا، ولكنه أراد منهما البكاء، فكانتا كما أراد من غير تعذر عليه.
ومثله قول عنترة:
فازور من وقع القنا بلبانه
*
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
والفرس لا يشتكي
قولا، لكنه ظهر منه علامة الخوف والجزع فسمى ذلك قولا. ومنه قول الآخر:
شكا إلي جملي طول
السرى
والجمل لا يتكلم،
لكنه لما ظهر منه النصب والوصب لطول السرى عبر عن هذه العلامة بالشكوى التي تكون
بالنطق والكلام. ومنه قولهم أيضا: امتلأ الحوض وقال: قطني حسبك منى قد ملأت بطني.
والحوض لم يقل قطني، لكنه لما امتلأ بالماء عبر عنه بأنه قال: حسبي.
ولذلك أمثال
كثيرة في منثور كلام العرب ومنظومه، وهو من الشواهد على ما ذكرناه في تأويل الآية،
والله تعالى نسأل التوفيق.