طرق الأحكام والعلوم
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 44،
45:
7 - القول في أن العقل لا ينفك عن سمع وأن
التكليف لا يصح إلا بالرسل عليهم السلام
واتفقت الإمامية على أن العقل محتاج في
علمه ونتائجه إلى السمع وأنه غير منفك عن سمع ينبه العاقل على كيفية الاستدلال،
وأنه لا بد في أول التكليف وابتدائه في العالم من رسول.
ووافقهم في ذلك أصحاب الحديث. وأجمعت
المعتزلة والخوارج والزيدية على خلاف ذلك، وزعموا أن العقول تعمل بمجردها من السمع
والتوقيف إلا أن البغداديين من المعتزلة خاصة يوجبون الرسالة في أول التكليف
ويخالفون الإمامية في علتهم لذلك ويثبتون عللا يصححها الإمامية ويضيفونها إلى علتهم
فيما وصفناه.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 61:
30- القول في المعرفة
وأقول: إن المعرفة بالله تعالى اكتساب،
وكذلك المعرفة بأنبيائه عليهم السلام وكل غائب، وإنه لا يجوز الاضطرار إلى معرفة
شيء مما ذكرناه، وهو مذهب كثير من الإمامية.
والبغداديين من المعتزلة خاصة، ويخالف فيه
البصريون من المعتزلة والمجبرة والحشوية من أصحاب الحديث.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 84:
65 - القول في
العموم والخصوص
وأقول: إن لأخص
الخصوص صورة في اللسان وليس لأخص العموم ولا لأعمه صيغة في اللغة، وإنما يعرف
المراد منه بما يقترن إليه من الأمارات، وهذا مذهب جمهور الراجية وكافة متكلمي
الإمامية إلا من شذ عنها ووافق الراجية أهل الاعتزال.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 88:
72 - باب القول
في بيان العلم بالغائبات وما يجري مجراها من الأمور المستنبطات، وهل يصح أن يكون
اضطرارا أم جميعه من جهة الاكتساب؟
وأقول: إن العلم
بالله عز وجل وأنبيائه عليهم السلام بصحة دينه الذي ارتضاه وكل شيء لا يدرك حقيقته
بالحواس ولا يكون المعرفة به قائمة في البداية وإنما يحصل بضرب من القياس لا يصح أن
يكون من جهة الاضطرار، ولا يحصل على الأحوال كلها إلا من جهة الاكتساب كما لا يصح
وقوع العلم بما طريقه الحواس من جهة القياس ولا يحصل العلم في حال من الأحوال بما
في البداية من جهة القياس. وهذا قد تقدم زدنا فيه شرحا هيهنا للبيان.
وإليه يذهب جماعة
البغداديين ويخالف فيه البصريون من المعتزلة والمشبهة وأهل القدر والإرجاء.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 89:
73 - القول في
العلم بصحة الأخبار وهل يكون فيه اضطرار أم جميعه اكتساب؟
وأقول: إن العلم
بصحة جميع الأخبار طريقه الاستدلال وهو حاصل من جهة الاكتساب، ولا يصح وقوع شيء منه
بالاضطرار، والقول فيه كالقول في جملة الغائبات.
وإلى هذا القول
يذهب جمهور البغداديين ويخالف فيه البصريون والمشبهة وأهل الإجبار.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 89:
74 - القول في حد
التواتر من الأخبار
وأقول: إن
التواتر المقطوع بصحته في الأخبار هو نقل الجماعة التي يستحيل في العادة أن تتواطأ
على افتعال خبر فينطوي ذلك ولا يظهر على البيان، وهذا أمر يرجع إلى أحوال الناس
واختلاف دواعيهم وأسبابهم، والعلم بذلك راجع إلى المشاهدة والوجود، وليس يتصور
للغائب عن ذلك بالعبارة والكلام.
وهذا مذهب أصحاب
التواتر من البغداديين ويخالف فيه البصريون ويحدونه بما أوجب علما على الاضطرار.
- أوائل المقالات
- الشيخ المفيد ص 90:
75 - القول فيما
يدرك بالحواس، وهل العلم به من فعل الله تعالى أو فعل العباد؟
وأقول: إن العلم
بالحواس على ثلاثة أضرب: فضرب هو من فعل الله تعالى، وضرب من فعل الحاس، وضرب من
فعل غيره من العباد.
فأما فعل الله
تعالى فهو ما حصل للعالم به عن سبب من الله تعالى كعلمه بصوت الرعد ولون البرق
ووجود الحر والبرد وأصوات الرياح وما أشبه ذلك مما يبدو للحاس من غير أن يتعمل
لإحساسه ويكون بسبب من الله سبحانه ليس للعباد فيه اختيار.
فما فعل الحاس
فهو ما حصل له عقيب فتح بصره أو الإصغاء بأذنه أو التعمل لإحساسه بشيء من حواسه أو
بفعله السبب الموجب لإحساس المحسوس وحصول العلم به.
وأما فعل غير
الحاس من العباد فهو ما حصل للحاس بسبب من بعض العباد كالصائح بغيره وهو غير متعمل
لسماعه أو المولم له فلا يمتنع من العلم بالألم عند إيلامه وما أشبه ذلك.
وهذا مذهب جمهور المتكلمين من أهل بغداد ويخالف فيه من سميناه.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 121:
129 - القول في الإجماع
وأقول: إن إجماع الأمة حجة لتضمنه قول الحجة، وكذلك إجماع الشيعة حجة لمثل
ذلك دون الإجماع. والأصل في هذا الباب ثبوت الحق من جهته بقول الإمام القائم مقام
النبي صلى الله عليه وآله، فلو قال وحده قولا لم يوافقه عليه أحد من الأنام لكان
كافيا في الحجة والبرهان. وإنما جعلنا الإجماع حجة به وذكرناه لاستحالة حصوله إلا
وهو فيه إذ هو أعظم الأمة قدرا وهو المقدم على سائرها في الخيرات ومحاسن الأقوال
والأعمال. وهذا مذهب أهل الإمامة خاصة. ويخالفهم فيه المعتزلة والمرجئة والخوارج
وأصحاب الحديث من القدرية وأهل الإجبار.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 122:
130 - القول في أخبار الآحاد
وأقول: إنه لا يجب العلم ولا العمل بشيء من أخبار الآحاد، ولا يجوز لأحد أن
يقطع بخبر الواحد في الدين إلا أن يقترن به ما يدل على صدق راويه على البيان. وهذا
مذهب جمهور الشيعة. وكثير من المعتزلة والمحكمة وطائفة من المرجئة وهو خلاف لما
عليه متفقهة العامة وأصحاب الرأي.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 123، 124:
133 - القول في نسخ القرآن بالسنة
وأقول: إن القرآن ينسخ بعضه بعضا ولا ينسخ شيئا منه السنة بل تنسخ السنة به
كما تنسخ السنة بمثلها من السنة قال الله عز وجل: {مَا
نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وليس يصح أن يماثل كتاب
الله تعالى غيره، ولا يكون في كلام أحد من خلقه خير منه، ولا معنى لقول أهل الخلاف،
نأت بخير منها في المصلحة، لأن الشيء لا يكون خيرا من صاحبه بكونه أصلح منه لغيره،
ولا يطلق ذلك في الشرع ولا تحقيق اللغة ولو كان ذلك كذلك لكان العقاب خيرا من
الثواب، وإبليس خيرا من الملائكة والأنبياء، وهذا فاسد محال.
والقول بأن السنة لا تنسخ القرآن مذهب أكثر الشيعة وجماعة من المتفقهة
وأصحاب الحديث ويخالفه كثير من المتفقهة والمتكلمين.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 126:
138 - القول في كلام المجنون والطفل وهل يكون فيه كذب أو صدق أم لا؟
وأقول: إنه قد يكون ذلك فيما يتخصص في اللفظ باسم معين إذ هو معنى مخصوص
كقول القائل: رب العالمين واحد، وخالق الخلق بأسرهم اثنان، أو محمد بن عبد الله بن
عبد المطلب صادق، أو موسى بن عمران المبعوث على بني إسرائيل كاذب، وما أشبه ذلك.
فأما المبهم من الأخبار في الألفاظ والمعاني فإنه لا يحكم عليه بالصدق والكذب حتى
يعلم القصد من قائله والنية فيه...
وهذا مذهب جماعة من أهل العدل منهم أبو القاسم البلخي، ويذهب إليه قوم من
الشيعة العدلية وطائفة من المرجئة، وقد خالف فيه بعض المعتزلة وجماعة من الخوارج
وأصحاب الحديث.
- أوائل المقالات - الشيخ المفيد ص 139:
156 - القول في الاجتهاد والقياس
أقول: إن الاجتهاد والقياس في الحوادث لا يسوغان للمجتهد ولا للقائس، وإن كل
حادثة ترد فعليها نص من الصادقين عليهم السلام يحكم به فيها ولا يتعدى إلى غيرها،
بذلك جاءت الأخبار الصحيحة والآثار الواضحة عنهم صلوات الله عليهم وهذا مذهب
الإمامية خاصة. ويخالف فيه جمهور المتكلمين وفقهاء الأمصار.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 68، 73:
فصل: في النهي عن الجدال قال أبو جعفر [في الجدال]: الجدال في الله منهي
عنه، لأنه يؤدي إلى ما لا يليق به. وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: يهلك أهل
الكلام وينجو المسلمون.
قال أبو عبد الله الشيخ المفيد رحمه الله: الجدال على ضربين: أحدهما بالحق،
والآخر بالباطل، فالحق منه مأمور به ومرغب فيه، والباطل منه منهي عنه ومزجور عن
استعماله.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله: {وَجَادِلْهُم
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فأمر بجدال المخالفين وهو الحجاج لهم، إذ كان
جدال النبي صلى الله عليه وآله حقا، وقال تعالى لكافة المسلمين: {وَلا
تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فأطلق لهم جدال أهل الكتاب
بالحسن، ونهاهم عن جدالهم بالقبيح.
وحكى سبحانه عن قوم نوح عليه السلام ما قالوه في جدالهم فقال سبحانه: {قَالُواْ
يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} فلو كان الجدال كله باطلا
لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله به، ولا استعمله الأنبياء عليهم السلام
من قبله، ولا أذن للمسلمين فيه.
فأما الجدال بالباطل فقد بين الله تبارك وتعالى عنه في قوله:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} فذم المجادلين في [آيات
الله] لدفعها أو قدحها وإيقاع الشبهة في حقها.
وقد ذكر الله تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه حاج كافرا في الله
تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ}. وقال مخبرا عن حجاجه قومه: {وَتِلْكَ
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن
نَّشَاء}.
وقال سبحانه آمرا لنبيه صلى الله عليه وآله بمحاجة مخالفيه: {قُلْ
هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا}.
وقال عز اسمه: {كُلُّ الطَّعَامِ
كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} الآية. وقال لنبيه صلى الله عليه وآله: {فَمَنْ
حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} الآية.
وما زالت الأئمة عليهم السلام يناظرون في دين الله سبحانه ويحتجون على أعداء
الله تعالى. وكان شيوخ أصحابهم في كل عصر يستعملون النظر، ويعتمدون الحجاج ويجادلون
بالحق، ويدمغون الباطل بالحجج والبراهين، وكان الأئمة عليهم السلام يحمدونهم على
ذلك ويمدحونهم ويثنون عليهم بفضل.
وقد ذكر الكليني رحمه الله في كتاب الكافي وهو من أجل كتب الشيعة وأكثرها
فائدة حديث يونس بن يعقوب مع أبي عبد الله عليه السلام حين ورد عليه الشامي
لمناظرته، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: "وددت أنك يا يونس كنت تحسن الكلام".
فقال له يونس: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأهل الكلام،
يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا
نعقله.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: "إنما قلت ويل لهم إذا تركوا قولي وصاروا
إلى خلافه" ثم دعا حمران بن أعين ومحمد بن الطيار، وهشام بن سالم وقيس الماصر
فتكلموا بحضرته، وتكلم هشام بعدهم فأثنى عليه ومدحه وقال له: "مثلك من يكلم الناس"،
وقال عليه السلام وقد بلغه موت الطيار: "رحم الله الطيار ولقاه نضرة وسرورا، فلقد
كان شديد الخصومة عنا أهل البيت".
وقال أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام لمحمد بن حكيم: "كلم الناس وبين
لهم الحق الذي أنت عليه، وبين لهم الضلالة التي هم عليها".
وقال أبو عبد الله عليه السلام لبعض أصحابنا: "حاجوا الناس بكلامي، فإن
حجوكم فأنا المحجوج" وقال لهشام بن الحكم وقد سأله عن أسماء الله تعالى واشتقاقها
فأجابه عن ذلك، ثم قال له بعد الجواب: "أفهمت يا هشام فهما تدفع به أعداءنا
الملحدين في دين الله وتبطل شبهاتهم"؟ فقال هشام: نعم، فقال له: "وفقك الله".
وقال عليه السلام لطائفة من أصحابه: "بينوا للناس الهدى الذي أنتم عليه،
وبينوا لهم [ضلالهم الذي هم عليه] وباهلوهم في علي بن أبي طالب عليه السلام" فأمر
بالكلام ودعا إليه وحث عليه.
وروي عنه عليه السلام أنه نهى رجلا عن الكلام وأمر آخر به، فقال له بعض
أصحابه: جعلت فداك، نهيت فلانا عن الكلام وأمرت هذا به؟ فقال: "هذا أبصر بالحجج،
وأرفق منه" فثبت أن نهي الصادقين عليهم السلام عن الكلام إنما كان لطائفة بعينها لا
تحسنه ولا تهتدي إلى طرقه وكان الكلام يفسدها، والأمر لطائفة أخرى به، لأنها تحسنه
وتعرف طرقه وسبله.
فأما النهي عن الكلام في الله عز وجل فإنما يختص بالنهي عن الكلام في تشبيهه
بخلقه وتجويره في حكمه.
وأما الكلام في توحيده ونفي التشبيه عنه والتنزيه له والتقديس، فمأمور به
ومرغب فيه، وقد جاءت بذلك آثار كثيرة وأخبار متظافرة، وأثبت في كتابي (الأركان في
دعائم الدين) منها جملة كافية، وفي كتابي (الكامل في علوم الدين) منها بابا استوفيت
القول في معانيه وفي (عقود الدين) جملة منها، من اعتمدها أغنت عما سواها، والمتعاطي
لإبطال النظر شاهد على نفسه بضعف الرأي، وموضح عن قصوره عن المعرفة ونزوله عن مراتب
المستبصرين، والنظر غير المناظرة، وقد يصح النهي عن المناظرة للتقية وغير ذلك، ولا
يصح النهي عن النظر لأن في العدول عنه المصير إلى التقليد والتقليد مذموم باتفاق
العلماء ونص القرآن والسنة.
قال الله تعالى ذاكرا لمقلدة من الكفار وذاما لهم على تقليدهم: {إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ *
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ}.
وقال الصادق عليه السلام: "من أخذ دينه من أفواه الرجال أزالته الرجال، ومن
أخذ دينه من الكتاب والسنة زالت الجبال ولم يزل".
وقال عليه السلام: "إياكم والتقليد، فإنه من قلد في دينه هلك" إن الله تعالى
يقول:
{اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} فلا والله ما صلوا لهم ولا
صاموا، ولكنهم أحلوا لهم حراما، وحرموا عليهم حلالا، فقلدوهم في ذلك، فعبدوهم وهم
لا يشعرون".
وقال عليه السلام: "من أجاب ناطقا فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله تعالى
فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان".
فصل:
ولو كان التقليد صحيحا والنظر باطلا لم يكن التقليد لطائفه أولى من التقليد
لأخرى، وكان كل ضال بالتقليد معذورا، وكل مقلد لمبدع غير موزور، وهذا ما لا يقوله
أحد، فعلم بما ذكرناه أن النظر هو الحق والمناظرة بالحق صحيحة، وأن الأخبار التي
رواها أبو جعفر عليهم السلام وجوهها ما ذكرناه، وليس الأمر في معانيها على ما تخيله
فيها، والله ولي التوفيق.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 143:
في الحظر والإباحة قال أبو جعفر في الحظر والإباحة:
الأشياء كلها مطلقة... إلخ.
قال الشيخ المفيد: الأشياء في أحكام العقول على ضربين: أحدهما: معلوم حظره
بالعقل، وهو ما قبحه العقل وزجر عنه وبعد منه كالظلم والسفه والعبث.
والضرب الآخر: موقوف في العقل لا يقضي على حظر ولا إباحة إلا بالسمع، وهو ما
جاز أن يكون للخلق بفعله مفسدة تارة ومصلحة أخرى، وهذا الضرب مختص بالعادات من
الشرائع التي يتطرق إليها النسخ والتبديل، فأما بعد استقرار الشرائع، فالحكم أن كل
شيء لا نص في حظره فإنه على الإطلاق، لأن الشرائع ثبتت الحدود وميزت المحظور على
حظره، فوجب أن يكون ما عداه بخلاف حكمه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 144، 145:
في الطب
قال أبو جعفر: اعتقادنا في الأخبار الواردة في الطب.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: الطب صحيح، والعلم به ثابت، وطريقه الوحي،
وإنما أخذه العلماء به عن الأنبياء عليهم السلام وذلك أنه لا طريق إلى علم حقيقة
الداء إلا بالسمع، ولا سبيل إلى معرفة الدواء إلا بالتوقيف، فثبت أن طريق ذلك هو
السمع عن العالم بالخفيات تعالى.
والأخبار الواردة عن الصادقين عليهم السلام مفسرة بقول أمير المؤمنين عليه
السلام: "المعدة بيت الأدواء، والحمية رأس الدواء" و "عود كل بدن ما اعتاد" وقد
ينجع في بعض أهل البلاد من الدواء من مرض يعرض لهم ما يهلك من استعمله لذلك المرض
من غير أهل تلك البلاد، ويصلح لقوم ذوي عادة ما لا يصلح لمن خالفهم في العادة.
وكان الصادقون عليهم السلام يأمرون بعض أصحاب الأمراض باستعمال ما يضر بمن
كان به المرض فلا يضرهم، وذلك لعلمهم عليهم السلام بانقطاع سبب المرض، فإذا استعمل
الإنسان ما يستعمله كان مستعملا له مع الصحة من حيث لا يشعر بذلك، وكان علمهم بذلك
من قبل الله تعالى على سبيل المعجز لهم والبرهان لتخصيصهم به وخرق العادة بمعناه،
فظن قوم أن ذلك الاستعمال إذا حصل مع مادة المرض نفع فغلطوا فيه واستضروا به.
وهذا قسم لم يورده أبو جعفر، وهو معتمد في هذا الباب، والوجوه التي ذكرها من
بعد فهي على ما ذكره، والأحاديث محتملة لما وصفه حسب ما ذكرناه.
- تصحيح اعتقادات الإمامية - الشيخ المفيد
ص 146، 150:
فصل: في الأحاديث المختلفة
قال أبو جعفر في الحديثين المختلفين... إلى آخره.
قال الشيخ المفيد رحمه الله: لم يوضح أبو جعفر رحمه الله عن الطريق التي
توصل إلى علم ما يجب العمل عليه مما لا يجب، بل أجمل القول في ذلك إجمالا مع صدق
الحاجة إلى التفصيل والتفرقة بين ما يلزم مما لا يلزم بما يتميز به كل واحد منهما
ويعرف بذلك حق الحديث من باطله. والذي أثبته أبو جعفر رحمه الله من مجمل القول فيه
لم يجد نفعا.
وقد تكلمنا على اختلاف الأحاديث وبينا فرق ما بين صحيحها من سقيمها، وحقها
من باطلها، وما عليه العمل منها مما لا يعمل عليه، وما تتفق معانيه مع اختلاف
ألفاظه، وما خرج مخرج التقية في الفتيا، وما الظاهر منه كالباطن في مواضع من كتبنا
وأمالينا، وبينا ذلك بيانا يرفع الإشكال فيه لمن تأمل، والمنة لله تعالى، فمن أراد
معرفة هذا الباب فليرجع إلى كتابنا المعروف ب
(التمهيد) وإلى كتاب (مصابيح النور) وأجوبة مسائل أصحابنا من الآفاق، يجد
ذلك على ما ذكرناه.
فصل: وجملة الأمر أنه ليس كل حديث عزي إلى الصادقين عليهم السلام حقا عليهم،
وقد أضيف إليهم ما ليس بحق عنهم ومن لا معرفة له لا يفرق بين الحق والباطل.
وقد جاء عنهم عليهم السلام ألفاظ مختلفة في معان مخصوصة، فمنها ما تتلازم
معانيه وإن اختلفت ألفاظه، لدخول الخصوص فيه والعموم والندب والإيجاب، ولكون بعضه
على أسباب لا يتعداها الحكم إلى غيرها، والتعريض في بعضها بمجاز الكلام لموضع
التقية والمداراة، وكل من ذلك مقترن بدليله، غير خال من برهانه، والمنة لله سبحانه.
وتفصيل هذه الجملة يصح ويظهر عند إثبات الأحاديث المختلفة، والكلام عليها ما
قدمناه، والحكم في معانيها ما وصفناه، إلا أن المكذوب منها لا ينتشر بكثرة الأسانيد
انتشار الصحيح المصدوق على الأئمة عليهم السلام فيه، وما خرج للتقية لا تكثر روايته
عنهم كما تكثر رواية المعمول به، بل لا بد من الرجحان في أحد الطرفين على الآخر من
جهة الرواة حسب ما ذكرناه، ولم تجمع العصابة على شيء كان الحكم فيه تقية، ولا شيء
دلس فيه ووضع متخرصا عليهم وكذب في إضافته إليهم.
فإذا وجدنا أحد الحديثين متفقا على العمل به دون الآخر علمنا أن الذي اتفق
على العمل به هو الحق في ظاهره وباطنه، وأن الآخر غير معمول به، إما للقول فيه على
وجه التقية، أو لوقوع الكذب فيه.
وإذا وجدنا حديثا يرويه عشرة من أصحاب الأئمة عليهم السلام يخالفه حديث آخر
في لفظه ومعناه ولا يصح الجمع بينهما على حال رواه اثنان أو ثلاثة، قضينا بما رواه
العشرة ونحوهم على الحديث الذي رواه
الاثنان أو الثلاثة، وحملنا ما رواه القليل على وجه التقية أو توهم ناقله.
وإذا وجدنا حديثا قد تكرر العمل به من خاصة أصحاب الأئمة عليهم السلام في
زمان بعد زمان وعصر إمام بعد إمام قضينا به على ما رواه غيرهم من خلافه ما لم تتكرر
الرواية به والعمل بمقتضاه حسب ما ذكرناه.
فإذا وجدنا حديثا رواه شيوخ العصابة ولم يرووا على أنفسهم خلافه علمنا أنه
ثابت، وإن روى غيرهم ممن ليس في العدد وفي التخصيص بالأئمة عليهم السلام مثلهم إذ
ذاك علامة الحق فيه، وفرق ما بين الباطل وبين الحق في معناه، وأنه لا يجوز أن يفتي
الإمام عليه السلام على وجه التقية في حادثة فيسمع ذلك المختصون بعلم الدين من
أصحابهم ولا يعلمون مخرجه على أي وجه كان القول فيه، ولو ذهب عن واحد منهم لم يذهب
عن الجماعة، لاسيما وهم المعروفون بالفتيا والحلال والحرام، ونقل الفرائض والسنن
والأحكام.
ومتى وجدنا حديثا يخالفه الكتاب ولا يصح وفاقه له على حال أطرحناه، لقضاء
الكتاب بذلك وإجماع الأئمة عليهم السلام عليه.
وكذلك إن وجدنا حديثا يخالف أحكام العقول أطرحناه لقضية العقل بفساده، ثم
الحكم بذلك على أنه صحيح خرج مخرج التقية أو باطل أضيف إليهم موقوف على لفظه، وما
تجوز الشريعة فيه القول بالتقية وتحظره وتقضي العادات بذلك أو تنكره.
فهذه جملة ما انطوت عليه من التفصيل تدل على الحق في الأخبار المختلفة،
والصريح فيها لا يتم إلا بعد إيراد الأحاديث، والقول في كل واحد منها ما بينا
طريقه.
وأما ما تعلق به أبو جعفر رحمه الله من حديث سليم الذي رجع فيه إلى الكتاب
المضاف إليه برواية أبان بن أبي عياش، فالمعنى فيه صحيح، غير أن هذا الكتاب غير
موثوق به، ولا يجوز العمل على أكثره، وقد حصل فيه تخليط وتدليس، فينبغي للمتدين أن
يجتنب العمل بكل ما فيه، ولا يعول على جملته والتقليد لرواته وليفزع إلى العلماء
فيما تضمنه من الأحاديث ليوقفوه على الصحيح منها والفاسد، والله الموفق للصواب.
-
رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1
ص13، 14:
فإن قال: إذا كان الإمام عندكم غائبا،
ومكانه مجهولا، فكيف يصنع المسترشد؟ وعلى ماذا يعتمد الممتحن فيما ينزل به من حادث
لا يعرف له حكما؟ وإلى من يرجع المتنازعون، لاسيما والإمام إنما نصب لما وصفناه؟.
قيل له: هذا السؤال مستأنف لا نسبة له بما
تقدم، ولا وصلة بينه وبينه، وقد مضى السؤال الأول في معنى الخبر وفرض المعرفة
وجوابه على انتظام، ونحن نجيب عن هذا المستأنف بموجز لا يخل بمعنى التمام منقول
وبالله التوفيق:
إنما الإمام نصب لأشياء كثيرة: أحدها:
الفصل بين المختلفين. الثاني: بيان الحكم للمسترشدين. ولم ينصب لهذين دون غيرهما من
مصالح الدنيا والدين، غير أنه إنما يجب عليه القيام فيما نصب له مع التمكن من ذلك
والاختيار، وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه، ولا يلزمه فعل الإيثار مع الاضطرار، ولم
يؤت الإمام في التقية من قبل الله عز وجل ولا من جهة نفسه وأوليائه المؤمنين، وإنما
أتي ذاك من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ودفعوا نسبه، وأنكروا حقه، وحملوا
الجمهور على عداوته ومناصبة القائلين بإمامته. وكانت البلية فيما يضيع من الأحكام،
ويتعطل من الحدود، ويفوت من الصلاح، متعلقة بالظالمين، وإمام الأنام بريء منها
وجميع المؤمنين.
-
رسائل في الغيبة - الشيخ المفيد ج 1
ص14، 15:
فأما الممتحن بحادث يحتاج إلى علم الحكم
فيه فقد وجب عليه إن يرجع في ذلك إلى العلماء من شيعة الإمام وليعلم ذلك من جهتهم
بما استودعوه من أئمة الهدى المتقدمين، وإن عدم ذلك والعياذ بالله ولم يكن فيه حكم
منصوص على حال فيعلم انه على حكم العقل، لأنه
لو أراد الله أن يتعبد فيه بحكم سمعي لفعل ذلك، ولو فعله لسهل السبيل إليه.
وكذلك القول في المتنازعين، يجب عليهم رد
ما اختلفوا فيه إلى الكتاب والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله من جهة خلفائه
الراشدين من عترته الطاهرين، ويستعينوا في معرفة ذلك بعلماء الشيعة وفقهائهم، وان
كان والعياذ بالله لم يوجد فيما اختلفوا فيه نص على حكم سمعي فليعلم أن ذلك مما كان
في العقول، ومفهوم أحكام العقول، مثل: أن من غصب إنسانا شيئا فعليه رده بعينه إن
كانت عينه قائمة، فإن لم تكن عينه قائمة كان عليه تعويضه منه بمثله، فان لم يوجد له
مثل كان أن يرضي خصمه بما تزول معه ظلامته، فإن لم يستطع ذلك أو لم يفعله مختارا
كان في ذمته إلى يوم القيامة. وإن كان جان جنى على غيره جناية لا يمكن تلافيها كانت
في ذمته، وكان المجني عليه ممتحنا بالصبر. إلى أن ينصفه الله تعالى يوم الحساب. فان
كان الحادث مما لا يعلم بالسمع إباحته من خطره، فانه على الإباحة إلا أن يقوم دليل
سمعي على خطره.
وهذا الذي وصفناه إنما جاز للمكلف
الاعتماد عليه والرجوع إليه عند الضرورة بفقد الإمام المرشد، ولو كان الإمام ظاهرا
ما وسعه غير الرد إليه، والعمل على قوله، وهذا كقول خصومنا كافة: إن على الناس في
نوازلهم بعد النبي صلى الله عليه وآله أن يجتهدوا فيها عند فقدهم النص عليها، ولا
يجوز لهم الاجتهاد واستعمال الرأي بحضرة النبي صلى الله عليه وآله.
- عدم سهو النبي صلى الله عليه وآله -
الشيخ المفيد ص 20، 21:
الحديث الذي روته الناصبة، والمقلدة من
الشيعة أن النبي’ سها في صلاته، فسلم في ركعتين ناسيا، فلما نبه على غلطه فيما صنع،
أضاف إليها ركعتين، ثم سجد سجدتي السهو، من أخبار الآحاد التي لا تثمر علما، ولا
توجب عملا، ومن عمل على شيء منها فعلى الظن يعتمد في عمله بها دون اليقين، وقد نهى
الله تعالى عن العمل على الظن في الدين، وحذر من القول فيه بغير علم ويقين.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 19، 20:
فقال: وهل يجوز
أن يظهر النبي صلى الله عليه وآله شيئا في زمانه فيخفى على من ينشأ بعد وفاته حتى
لا يعلمه إلا بنظر ثاقب واستدلال عليه؟
قال له الشيخ
أيده الله تعالى: نعم يجوز ذلك، بل لابد لمن غاب عن المقام في علم ما كان فيه من
النظر والاستدلال. وليس يجوز أن يقع له به علم الاضطرار لأنه من جملة الغائبات غير
أن الاستدلال في هذا الباب يختلف في الغموض والظهور والصعوبة والسهولة على حسب
الأسباب المعترضات في طرقه وربما عرى طريق ذلك من سبب فيعلم بيسير من الاستدلال على
وجه يشبه الاضطرار إلا أن طريق النص حصل فيه من الشبهات للأسباب التي اعترضته ما
تعذر معها العلم به إلا بعد نظر ثاقب وطول زمان في الاستدلال.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 81، 86 :
فصل: ومن كلام
الشيخ أدام الله عزه أيضا في إبطال القياس: سئل الشيخ أيده الله في مجلس لبعض
القضاة وكان فيه جمع كثير من الفقهاء والمتكلمين، فقيل له: ما الدليل على إبطال
القياس في الأحكام الشرعية؟ فقال الشيخ أدام الله عزه: الدليل على ذلك أنني وجدت
الحكم الذي تزعم خصومي أنه أصل يقاس عليه ويستخرج منه الفرع، قد كان جائزا من الله
سبحانه التعبد في الحادثة التي هو حكمها بخلافه مع كون الحادثة على حقيقتها وبجميع
صفاتها، فلو كان القياس صحيحا لما جاز في العقول التعبد في الحادثة بخلاف حكمها إلا
مع اختلاف حالها وتغير الوصف عليها، وفي جواز ذلك على ما وصفناه دليل على إبطال
القياس في الشرعيات. فلم يفهم السائل معنى هذا الكلام ولا عرفه، والتبس على الجماعة
كلها طريقه ولم يلح لأحد منهم ولا فطن به، وخلط السائل وعارض على غير ما سلف،
فوافقه الشيخ أدام الله عزه على عدم فهمه للكلام وكرره عليه فلم يحصل له معناه.
قال الشيخ أيده
الله : فاضطررت إلى كشفه على وجه لا يخفى على الجماعة، فقلت : إن النبي صلى الله
عليه وآله نص على تحريم التفاضل في البر فكان النص في ذلك أصلا زعمتم أيها القايسون
أن الحكم بتحريم التفاضل في الأرز مقيس عليه وأنه الفرع له، وقد علمنا أن في العقل
يجوز أن يتعبد القديم سبحانه وتعالى بإباحة التفاضل في البر وهو على جميع صفاته
بدلا من تعبده بحظره فيه، فلو كان الحكم بالحظر لعلة في البر أو صفة هو عليها
لاستحال ارتفاع الحظر إلا بعد ارتفاع العلة أو الوصف، وفي تقديرنا وجوده على جميع
الصفات والمعاني التي يكون عليها مع الحظر عند الإباحة وهذا دليل على بطلان القياس
فيه.
ألا ترى أنه لما
كان وصف المتحرك إنما لزمه لوجود الحركة، أو لقطعه المكانين، استحال توهم حصول
السكون له في الحقيقة مع وجود الحركة أو قطعه للمكانين، وهذا بين لمن تدبره. فلم
يأت القوم بشيء يجب حكايته.
حكاية مجلس آخر
في هذا الاستدلال: قال الشيخ أدام الله عزه: ثم جرى هذا الاستدلال في مجلس آخر
فاعترض بعض المعتزلة فقال: ما أنكرت على من قال لك إن هذا الدليل إنما هو على من
زعم أن للشرعيات عللا موجبة كعلل العقليات. وليس في الفقهاء من يذهب إلى ذلك، وإنما
يذهبون إلى أنها سمات وعلامات غير موجبة لكنها دالة على الحكم، ومنبئة عنه، وإذا
كانت سمات وعلامات لم يمتنع من تقدير خلاف الحكم على الحادثة مع كونها على صفاتها،
وذلك مسقط لما اعتمدت عليه.
قال الشيخ أيده
الله: فقلت له: ليس مناقضة الفقهاء الذين أو مات إليهم حجة علي فيما اعتمدته، وقد
ثبت أن حقيقة القياس هو حمل الشيء على نظيره في الحكم بالعلة الموجبة له في صاحبه،
فإذا وضع هؤلاء القوم هذه السمة على غير الحقيقة فأخطئوا لم يخل خطأهم بموضع
الاعتماد، مع أن الذي قدمته يفسد هذا الاعتراض أيضا وذلك أن السمة والعلامة إذا
كانت تدل على حكم من الأحكام فمحال وجودها وهي لا تدل لان الدليل لا يصح أن يخرج عن
حقيقته، فيكون تارة دليلا وتارة ليس بدليل، وإذا كنتم تزعمون أن العلامة هي صفة من
صفات المحكوم عليه بالحكم الذي ورد به النص فقد جرت مجرى العلة في استحالة وجودها
مع عدم مدلولها كما يستحيل وجود العلة مع عدم معلولها، وليس بين الأمرين فصل. فخلط
هذا الرجل تخليطا بينا ثم ثاب إليه فكره، فقال: هذه السمات عندنا سمعية طارئة على
الحوادث ولسنا نعلمها عقلا ولا اضطرارا وإنما نعلمها سمعا وبدليل السمع، وعندنا مع
ذلك أن العلل السمعية والأدلة السمعية قد تخرج أحيانا عن مدلولها ومعلولها وهي
كالأخبار العامة التي تدل على استيعاب الجنس بإطلاقها ثم تكون خاصة عند قرائنها،
وهذا فرق بين الأمور العقلية والسمعية.
قال الشيخ أيده
الله: فقلت له: إن كانت هذه السمات سمعية طارئة على الحوادث وليست من صفاتها
اللازمة لها وإنما هي معان متجددة، فيجب أن يكون الطريق إليها السمع خاصة دون العقل
والاستنباط لأنها حينئذ تجري مجرى الأسماء التي هي الألقاب فلا يصل عاقل إلى
حقايقها إلا بالسمع الوارد بها، ولو كان ورد بها سمع لبطل القياس لأنه كان حينئذ
يكون نصا على الحمل كقول القائل: اقطعوا زيدا فقد سرق من حرز وإثما استحق القطع
لأنه سرق من حرز لا لغير ذلك من شيء يضام هذا الفعل أو يقاربه، وهذا نص على قطع كل
سارق من حرز إذا كان التقييد فيه على ما بيناه.
فإن كنتم تذهبون
في القياس إلى ما ذكرناه فالخلاف بيننا وبينكم في الاسم دون المعنى والمطالبة لكم
بعده بالنصوص الواردة في سائر ما استعملتم فيه القياس، فان ثبت لكم زال المراء
بيننا وبينكم، وإن لم يثبت علمتم أنكم إنما تدفعون عن مذاهبكم بغير أصل معتمد، ولا
برهان يلجأ إليه. فقال: لسنا نقول إن النص قد ورد في الأصول حسبما ذكرت وإنما ندرك
السمات بضرب من الاستخراج والتامل.
قال الشيخ أيده
الله: فقلت: هذا هو الذي يعجز عنه كل أحد إلا أن يلجا إلى استخراج عقلي وقد أفسدنا
ذلك فيما سلف، والآن فان كنت صادقا فتعاط ذلك، فان قدرت عليه أقررنا لك بالقياس
الذي أنكرناه، وإن عجزت عنه بان ما حكمناه به عليك من دفاعك عن الأصل المعروف.
فقال: لا يلزمني
ذكر طريق الاستخراج، وجعل يضجع في الكلام، وبان عجزه. فقال أبو بكر بن الباقلاني:
لسنا نقول هذه العلامات مقطوع بها، ولا معلومة فنذكر طريق استخراجها، ولكن الذي
أذهب إليه -وهو مذهب هذا الشيخ- وأومأ إلى الأول- القول بغلبة الظن في ذلك، فما غلب
في ظني عملت عليه وجعلته سمة وعلامة، وإن غلب في ظن غيري سواه وعمل عليه أصاب ولم
يخطئ وكل مجتهد مصيب فهل معك شيء على هذا المذهب؟
فقلت: هذا أضعف
من جميع ما سلف وأوهن، وذلك أنه إذا لم يكن لله تعالى دليل على المعنى ولا السمة
وإنما تعبدك على ما زعمت بالعمل على غلبة الظن فلابد أن يجعل لغلبة الظن سببا وإلا
لم يحصل ذلك في الظن ولم يكن لغلبته طريق، وهب أنا سلمنا لك التعبد بغلبة الظن في
الشريعة، ما الدليل على أنه قد يغلب فيما زعمت؟ وما السبب الموجب له أرناه؟ فانا
نطالبك به كما طالبنا هذا الرجل بجهة الاستخراج للسمة. والعلة السمعية كما وصف فان
أوجدتنا ذلك، ساغ لك وإن لم توجدناه بطل ما اعتمدت عليه.
فقال: أسباب غلبة
الظن معروفة وهي كالرجل الذي يغلب في ظنه إن سلك هذا الطريق نجا وإن سلك غيره هلك،
وإن اتجر في ضرب من المتاجر ربح، وإن اتجر في غيره خسر، وإن ركب إلى ضيعة والسماء
متغيمة مطر، وإن ركب وهي مصحية سلم، وإن شرب هذا الدواء انتفع، وإن عدل إلى غيره
استضر وما أشبه ذلك. ومن خالفني في أسباب غلبة الظن قبح كلامه.
فقلت له: إن هذا
الذي أوردته لا نسبة بينه وبين الشريعة وأحكامها، وذلك أنه ليس شيء منه إلا وللخلق
فيه عادة وبه معرفة فإنما يغلب ظنونهم حسب عاداتهم، وإمارات ذلك ظاهرة لهم،
والعقلاء يشتركون في أكثرها وما اختلفوا فيه فلاختلاف عاداتهم خاصة، وأما الشريعة
فلا عادة فيها ولا أمارة من دربة ومشاهدة لان النصوص قد جاءت فيها باختلاف المتفق
في صورته، وظاهر معناه واتفاق المختلف في الحكم وليس للعقول في رفع حكم منها
وإيجابه مجال، وإذا لم يك فيها عادة بطل غلبة الظن فيها.
ألا ترى أنه من
لا عادة له بالتجارة ولا سمع بعادة الناس فيها لا يصح أن يغلب ظنه في نوع منها بربح
ولا خسران، ومن لا معرفة له بالطرقات ولا باغيارها ولا له عادة في ذلك ولا سمع
بعادة أفلها فليس يغلب ظنه بالسلامة في طريق دون طريق.
ولو قدرنا وجود
من لا عادة له بالمطر ولا سمع بالعادة فيه، لم يصح أن يغلب في ظنه مجيء المطر عند
الغيم دون الصحو، وإذا كان الأمر كما بيناه وكان الاتفاق حاصلا على أنه لا عادة في
الشريعة للخلق بطل ما ادعيت من غلبة الظن وقمت مقام الأول في الاقتصار على الدعوى.
فقال: هذا الآن
رد على الفقهاء كلهم وتكذيب لهم فيما يدعونه من غلبة الظن ومن صار إلى تكذيب
الفقهاء كلهم قبحت مناظرته.
فقلت له: ليس كل
الفقهاء يذهب مذهبك في الاعتماد في المعاني والعلل على غلبة الظن، بل أكثرهم يزعم
أنه يصل إلى ذلك بالاستدلال والنظر فليس كلامنا ردا على الجماعة وإنما هو رد عليك
وعلى فرقتك خاصة. فان كنت تقشعر من ذلك فما ناظرناك إلا له، ولا خالفناك إلا من
أجله، مع أن الدليل إذا أكذب الجماعة فلا حرج علينا في ذلك ولا لوم، بل اللوم لهم
إذا صاروا إلى ما تدل الدلائل على بطلانه وتشهد بفساده. وليس قولي: إنكم معشر
المتفقهة تدعون غلبة الظن وليس الأمر كذلك بأعجب من قولك وفرقتك: إن الشيعة
والمعتزلة وأكثر المرجئة، وجمهور الخوارج فيما يدعون العلم به من مذهبهم في التوحيد
والعدل مبطلون كاذبون مغرورون، وإنهم في دعواهم العلم بذلك جاهلون، فأي شناعة تلزم
فيما وصفت به أصحابك مع الدليل الكاشف عن ذلك؟ فلم يأت بشيء.
- الفصول
المختارة- الشيخ المفيد ص 106، 107:
قال الشيخ أدام
الله عزه: وقد تعلق قوم من ضعفة متفقهة العامة ومن جهال المعتزلة في صحة الاجتهاد
والقياس بقول أمير المؤمنين عليه السلام "علمني رسول الله صلى الله عليه وآله ألف
باب فتح لي كل باب ألف باب".
فيقال لهم: وهل
أصول الشريعة كلها ألف أصل وفروعها ألف ألف وذلك نهايتها وهي محصورة بهذا العدد لا
أقل منه ولا أكثر؟ فإن زعموا ذلك قالوا قولا مرغوبا عنه وقيل لهم: أرونا أصلا واحدا
له ألف فرع، وقد ظهرت حجتكم وهذا ما تعجزون عنه، وإن قالوا: ليست الأصول ألفا على
التحرير وليس فيها مائة ألف فرع، أبطلوا استدلالهم، فإن قالوا: فما وجه قول أمير
المؤمنين عليه السلام وما تأويله؟. قيل لهم: يحتمل وجوها: منها أن المعلم له
الأبواب وهو رسول الله صلى الله عليه وآله فتح له بكل باب منها ألف باب ووقفه على
ذلك. ومنها أن علمه بكل باب أوجب فكره فيه فبعثه الفكر على المسالة عن شعبه
ومتعلقاته فاستفاد بالفكر فيه علم ألف باب بالبحث عن كل باب منها ومثل هذا معنى قول
النبي صلى الله عليه وآله: "من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم". ومنها أنه
نص له على علامات تكون عندها حوادث كل حادثة يدل على حادثة إلى أن ينتهى إلى ألف
حادثة فلما عرف الالف علامة عرف بكل علامة منها ألف علامة، والذي يقرب هذا من
الصواب أنه عليه السلام أخبرنا بأمور تكون قبل كونها ثم قال عليه السلام عقيب
إخباره بذلك. "علمني رسول الله ألف باب فتح لي كل باب ألف باب".
وقال بعض الشيعة:
إن معنى هذا القول أن النبي نص له على صفة ما فيه الحكم على الجملة دون التفصيل
كقوله: "يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب" وكان هذا بابا استفيد منه تحريم الأخت من
الرضاعة والأم والخالة والعمة وبنت الأخ وبنت الأخت، وكقول الصادق عليه السلام:
"الربا في كل مكيل وموزون"، فاستفيد بذلك الحكم في أصناف المكيلات والموزونات كلها.
وكقوله عليه السلام "يحل من الطير ما يدف، ويحرم منه ما يصف، ويحل من البيض ما
اختلف طرفاه ، ويحرم منه ما اتفق طرفاه ، ويحل من السمك ما كان له فلوس، ويحرم منه
ما ليس له فلوس"، وما أشبه ذلك. والأجوبة الأولة هي لي خاصة وأنا اعتمدتها.
- المسائل
السروية- الشيخ المفيد ص 71 :
المسألة الثامنة:
الاختلاف في ظواهر الروايات:
ما قوله أدام
الله تعالى نعماءه فيمن تندس طرفا من العلم، ورفعت إليه الكتب المصنفة في الفقه عن
الأئمة الهادية عليهم السلام فيها اختلاف ظاهر في المسائل الفقهية، كما وقع
الاختلاف بين ما أثبته الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله في كتبه من الأخبار
المسندة عن الأئمة عليهم السلام، وبين ما أثبته الشيخ أبو علي بن الجنيد رحمه الله
في كتبه من المسائل الفقهية المجردة عن الأسانيد؟ هل يجوز أن يجتهد رأيه، ويعول على
ما هو الحق عنده والأصوب لديه، أم يعتمد على المسندات دون المراسيل؟
الجواب: إنه لا
يجوز لأحد من الخلق أن يحكم على الخلق فيما وقع فيه الاختلاف من معنى كتاب، أو سنة،
أو مدلول دليل عقلي، إلا بعد إحاطة العلم بذلك، والتمكن من النظر المؤدي إلى
المعرفة. فمتى كان مقصرا عن علم طريق ذلك فليرجع إلى من يعلمه، ولا يقود برأيه
وظنه. فإن عول على ذلك فأصاب الاتفاق لم يكن مأجورا، وإن أخطأ الحق فيه كان مأزورا.
والذي رواه أبو
جعفر رحمه الله فليس يجب العمل بجميعه إذا لم يكن ثابتا من الطرق التي تعلق بها قول
الأئمة عليهم السلام، إذ هي أخبار آحاد، لا توجب علما ولا عملا، وروايتها عمن يجوز
عليه السهو والغلط. وإنما روى أبو جعفر رحمه الله ما سمع، ونقل ما حفظ، ولم يضمن
العهدة في ذلك.
وأصحاب الحديث
ينقلون الغث والسمين، ولا يقتصرون في النقل على المعلوم، وليسوا بأصحاب نظر وتفتيش،
ولا فكر فيما يروونه وتمييز، فأخبارهم مختلطة لا يتميز منها الصحيح من السقيم إلا
بنظر في الأصول، واعتماد على النظر الذي يوصل إلى العلم بصحة المنقول.
فأما كتب أبي علي
بن الجنيد، فقد حشاها بأحكام عمل فيها على الظن، واستعمل فيها مذهب المخالفين في
القياس الرذل، فخلط بين المنقول عن الأئمة عليهم السلام وبين ما قال برأيه، ولم
يفرد أحد الصنفين من الآخر. ولو أفرد المنقول من الرأي لم يكن فيه حجة، لأنه لم
يعتمد في النقل المتواتر من الأخبار، وإنما عول على الآحاد. وإن كان في جملة ما نقل
غيره من أصحاب الحديث ما هو معلوم، وإن لم يتميز لهم ذلك لعدولهم عن طريق النظر
فيه، وتعويلهم على النقل خاصة، والسماع من الرجال، والتقليد دون النظر والاعتبار.
فهذا ما عندي في الذي تضمنته الكتب للشيخين المذكورين في الحلال والحرام من
الأحكام.
فصل: الموقف من
الروايات المختلفة الظواهر:
وللشيعة أخبار في
شرائع مجمع عليها بين عصابة الحق، وأخبار مختلف فيها، فينبغي للعاقل المتدبر أن
يأخذ بالمجمع عليه -كما أمر بذلك الإمام الصادق عليه السلام- ويقف في المختلف فيه
ما لم يعلم حجة في أحد الشيئين منه، ويرده إلى من هو أعلم منه، ولا يقنع منه
بالقياس فيه دون البيان على ذلك والبرهان
فإنه يسلم بذلك من الخطأ في الدين، والضلال، إن شاء الله.
وقد أجبت عن كثير
من الأخبار المختلفة في مسائل وردت علي: بعضها من نيسابور، وبعضها من الموصل،
وبعضها من فارس، وبعضها من ناحية تعرف بمازندران، تضمنت مسائل القوم المذكورين
أخبارا تختلف ظواهرها في أنواع شتى من الأحكام.
وأودعت كتاب
(التمهيد) أجوبة عن مسائل مختلفة جاءت فيها الأخبار عن الصادقين عليهم السلام،
وبينت ما يجب العمل عليه من ذلك بدلائل لا يطعن فيها، وجمعت بين معان كثيرة؟ من
أقاويل الأئمة عليهم السلام يظن كثير من الناس أن معانيها تتضاد، وكذا، وبينت
اتفاقها في المعنى، وأزالت شبهات المستضعفين في اختلافها.
وذكرت مثل ذلك في
كتاب (مصابيح النور في علامات أوائل الشهور) وشرعت طرقا يوصل بها إلى معرفة الحق
فيما وقع فيه الاختلاف بين أصحابنا من جهة الأخبار. وأجبت عن المسائل التي كان ابن
الجنيد جمعها وكتبها إلى أهل مصر، ولقبها ب (المسائل المصرية) وجعل الأخبار فيها
أبوابا، وظن أنها مختلفة في معانيها، ونسب ذلك إلا قول الأئمة عليهم السلام فيها
بالرأي:
وأبطلت ما ظنه في
ذلك وتخيله، وجمعت بين جميع معانيها، حتى لم يحصل فيها اختلاف، فمن ظفر بهذه
الأجوبة وتأملها بإنصاف، وفكر فيها فكرا شافيا، سهل عليه معرفة الحق في جميع ما يظن
أنه مختلف، وتيقن ذلك مما يختص بالأخبار المروية عن أئمتنا عليهم السلام.
فصل: أصناف
أحاديث الأئمة:
وفي الجملة، إن
أقوال الأئمة عليهم السلام كانت تخرج على ظاهر يوافق باطنه الأمن من العواقب في
ذلك. ويخرج منها ما ظاهره خلاف باطنه للتقية والاضطرار. ومنها ما ظاهره الإيجاب
والإلزام، وهو في نفسه ندب ونقل واستحباب. ومنها ما ظاهره نفل وندب، وهو على
الوجوب. ومنها عام يراد به الخصوص، وخاص يراد به العموم، وظاهر مستعار في غير ما
وضع له حقيقة الكلام، وتعريض في القول للاستصلاح والمداراة وحقن الدماء. وليس ذلك
بعجيب منهم ولا ببدع، والقرآن الذي هو كلام الله عز وجل وفيه الشفاء والبيان قد
اختلفت ظواهره، وتباين الناس في اعتقاد معانيه، وكذلك السنة الثابتة عن النبي صلى
الله عليه وآله، فالعلماء على اختلاف في معنى كلامه عليهم السلام فيها، ومع ذلك كله
فالناس ممتحنون في الأخبار وسماعها: فساه في النقل، ومتعمد فيه الزيادة والنقصان،
ومبدع في الشريعة، متصنع لحسن الظاهر يقصد به إضلال العباد. والله موفق للصواب.