عقائد الشيعة الإمامية / شرف الدين الموسوي
الرد على مسائل جار الله
التقية
قال: ولكتب الشيعة في حيلة التقية غرام قد شغفها حبا الخ.
فاقول: ان اخواننا من أهل السنة ـ اصلح الله شؤونهم ـ يستفظعون أمر التقية، وينددون بها، ويعدونها وصمة في الشيعة، مع أن العمل بها عند الخوف على النفس أو العرض أو المال مما حكم بوجوبه الشرع والعقل، واتفقت عليه كلمة اولي الألباب من المسلمين وغيرهم، فالتقية غير خاصة بالشيعة وإن توهم ذلك بعض الجاهلين، وقد هبط بها الروح الأمين، على قلب سيد النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم فتلا عليه (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا آن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله المصير) وتلا عليه مرة أخرى (من كفر بالله من بعد إيمانه إلامن أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب الله ولهم عذاب عظيم) .
والصحاح الحاكمة بالتقية عند الاضطرار اليها متواترة، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة، وحسبك ماصح على شرط الشيخين، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن ابيه قال: أخذ المشركون عماراً فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر يارسول الله ماتُركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تجد قلبك قال: مطمئن بالايمان، قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن عادوا فعد، وصح على شرط الشيخين ايضاً عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (إلا أن تتقوا منهم تقاة) قال: التقاة التكلم باللسان، والقلب مطمئن بالايمان، فلا يبسط يده فيقتل الحديث . قلت هذا حكم الشرع كتابا وسنة، والعقل بمجرده حاكم بهذا لو كانوا ينصفون.
وقد مني الشيعة بملوك الجور، وولاة الظلم، فكانوا يسومونهم سوء العذاب يقطعون ايديهم وارجلهم، ويصلبونهم على جذوع النخل، ويسملون أعينهم، ويصطفون أموالهم، كانت سياستهم الزمنية تقتضي هذه الجرائم، وكانوا يعولون في ارتكابها على الظن والتهمة، وكان قضاتهم من علماء السوء والتزلف، يتقربون اليهم بما يبيح لهم ما كانوا يرتكبون، فاضطرت الشيعة وأئمة الشيعة عندها إلى التقية مخافة الاستئصال جريا على قاعدة العقلاء والحكماء والأتقياء في مثل تلك الشدائد، وكان عملهم هذا دليلا على عقلهم وحكمتهم وفقههم، وماكان الله عز وجل ليمنعهم ـ والحال هذه ـ من التقية وهو القائل تبارك اسمه (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بعثت بالحنيفية السمحة السهلة. ولكن أهل البطر يعدّون التقية من مساوي الشيعة ـ فويل للشجي من الخلي ـ ولو ابتلوا بما ابتلي به الشيعة لأخلدوا إلى التقية، وقبعوا فيها قبوع القنفذ، كما فعل أهل السنة إذ اتقوا شر جنكيز خان وهلاكو حقناً لدمائهم، وما يصنع الضعيف العاقل إذا ابتلي بالشديد الغاشم، ولما دعا المأمون إلى القول بخلق القرآن أجابه كثير من أبرار أهل السنة الى ذلك بألسنتهم، وقلوبهم منعقدة على القول بقدمه، فأظهروا له خلاف مايدينون به تقية منه، كما يفعله المسلمون اليوم في الحجاز؛ حيث لايتظاهرون بالأقوال والأعمال التي لاتجوز شرعاً في مذهب الوهابية، كزيارة قبور الأولياء، وتقبيل الضريح النبوي الأقدس، والتبرك به وكالاستغاثة بسيد الأنبياء، والتوسل به الى الله عز وجل في غفران الذنوب، وكشف الكروب، فإن الحجاج وغيرهم من سنيين وشيعيين لا يتظاهرون بشيء منها تقية من الفتنة وخوفاً من الأذى، بل لا يتظاهرون بالأدعية المستحبة عندهم في تلك المواقف الكريمة والمشاهد العظيمة، عملا بالتقية. وذكر ابن خلدون في الفصل الذي عقده لعلم الفقه من مقدمته الشهيرة مذاهب أهل السنة، وانتشار مذهب أبي حنيفة في العراق، ومذهب مالك في الحجاز، ومذهب احمد في الشام وفي بغداد، ومذهب الشافعي في مصر، وهنا قال ما هذا لفظه: ثم انقرض فقه أهل السنة من مصر بظهور دولة الرافضة وتداول بها فقه أهل البيت، وتلاشى من سواهم، الى أن ذهبت دولة العبيديين من الرافضين على يد صلاح الدين يوسف بن أيوب ورجع اليهم فقه الشافعي ا هـ.
قلت: من تأمل بهذا علم ان أهل السنة في مصر أخذوا بالتقية أيام الفاطميين أكثر مما أخذبها الشيعة أيام معاوية ويزيد وبني مروان والعباسيين والسلجوقيين والأيوبيين والعثمانيين وغيرهم، وشتان بين خوف اهل مصر من الفاطميين، وخوف الشيعة من تلك الدول، ولا سيما الدولة الاموية، فقد كان ملوكها وعمالها وعلماؤها ورؤساؤها والعامة بأجمعها لا يتحملون ولا يطيقون ذكر الشيعة، وكانت الكلمة متفقة على سحقهم ومحقهم فلولا خلودهم إلى التقية مابقيت منهم هذه البقية، فأي مسلم أو غير مسلم يرتاب في جوازها لهم؟ ولا سيما بعد أن صدع القرآن بها، ونص في آيتين محكمتين على اباحتها، ومن يشك في ذلك بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمار: ان عادوا فعد، واذا جاز لعمار ان يعود الى سب النبي تقية فأي شيء بعد هذا لا تبيحه التقية؟. على أن النفوس بفطرتها مجبولة عليها في مقام الخوف، كما لا يخفى على كل ذي نفس ناطقة وموسى جارالله ندد أولا بها ثم اعترف، فقال ما هذا لفظه: نعم التقية في سبيل حفظ حياته وشرفه، وفي حفظ ماله وفي حماية حق من حقوقه واجبة على كل احد إماما كان أو غيره.
قلت: تعالوا وانظروا بمن ابتلاني، كأن الشيعة وأئمتهم يأخذون بالتقية حيث لا خوف على حياتهم، ولا على شيء من حقوقهم، الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به هذا الرجل من الحمق، ولو شاء لفعل.
وأحمق من كلمته هذه تسوره على مقام الأئمة من آل محمد اذ يقول: أما التقية بالعبادة بأن يعمل الامام عملا لم يقصد به وجه الله، وانما أتاه وهما خوفا من سلطان جائر، والتقية بالتبليغ بأن يسند الامام الى الشارع حكما لم يكن من الشارع، فإن مثل هذه التقية لا تقع أبداً أصلا من امام له دين، ويمتنع صدورها من امام معصوم، وحمل رواية الامام وعبادة الامام على التقية طعن على عصمته، وطعن على دينه، الى آخر هذيانه في طغيانه، وكأنه وجد مما تؤآخذ عليه أئمة العترة في عملهم بالتقية أمرين.
احدهما انهم كانوا يعملون أعمالا لايقصدون بها وجه الله وانما يعملونها خوفاً من الجائر.
والجواب: أن هذا خطأ واضح، فانهم عليهم السلام كانوا يقصدون وجه الله في كل ما يعملون، واخذهم بالتقية كان من افضل اعمالهم التي قصدوا بها وجه الله، لأنها السبب الوحيد في حياتهم وحياة شيعتهم، وبها كان إحياء امرهم، وانتشار دعوتهم، ولو قلنا لحضرة هذا ـ الفيلسوف ـ دلنا على مورد من اعمالهم التي لم يقصد بها وجه الله لأحرجنا موقفه.
الثاني انهم كانوا يسندون إلى الشارع على سبيل التقية احكاماً لم تكن صادرة منه على مذهبهم ومعتقدهم، وهذا مما لاتبيحه التقية لامام له دين.
والجواب: ان هذا كسابقه خطأ واضح، فإن أئمة أهل البيت أعدال الكتاب، وبهم يعرف الصواب، وكانوا ذوي مذهب تلقوه عن جدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وكان من مذهبهم ان التقية تبيح بالمسأئل الخلافية أن يفتوا اهل الخلاف لهم بما جاء عن أئمتهم، ويفتوا شيعتهم بمايرونه الحق في مذهبهم، فتعارض النقل عنهم بسبب ذلك، لكن العلماء من أوليائهم، العارفين بأسرارهم، محصوا تلك الأحكام المأثورة عنهم في الأخبار المتعارضة، فعرفوا ما كان منها لمخالفيهم فصرحوا بحمله على التقية، وما كان منها لأوليائهم فتعبدوا به.
أما ما اقترحه موسى جارالله على أئمة أهل البيت من السكوت عن الفتوى في مقام التقية ففي غير محله، لأن الله عز وجل أخذ على امثالهم ان يصدعوا بأحكامه، ويبينوا للناس ما اختلفوا فيه من شرائعه، وقد فعلوا ذلك ببيانها لأوليائهم على مايقتضيه مذهبهم، واضطروا الى بيانها لمن سألهم عنها من مخالفيهم على ما تقتضيه مذاهب المخالفين لهم، ولو لم يؤثر عنهم الثاني لحلت بهم اللأواء، ونزل بهم البلاء، وإذا أباحت التقية لعمار ما أباحته من سب رسول الله وذكر الأوثان بخير كما سمعت، فبالأحرى أن تبيح للامام افتاء مخالفيه بما تقتصيه مذاهبهم، وأي مانع من هذا يامسلمون؟.
قال موسى جارالله: وعلي امير المؤمنين عليه وعلى اولاده السلام كان يحافظ على الصلوات، ويراعي الأوقات، ويحضر الجماعات، ويصلي المكتوبات، ويصلي صلاة الجمعة مققتديا خلف الأول والثاني والثالث كان يقصد بها وجه الله فقط؛ ولم يكن يصلي صلاة إلا تقربا وتقوى واداء الخ.
قلت: حاشا امير المؤمنين ان يصلي الا تقربا لله واداء لما امره الله به، وصلاته خلفهم ماكانت الا لله خالصة لوجهه الكريم، وقد اقتدينا به عليه السلام فتقربنا الى الله عز وجل بالصلاة خلف كثير من ائمة جماعة اهل السنة، مخلصين في تلك الصلوات لله تعالى، وهذا جائز في مذهب اهل البيت، ويثاب المصلي منا خلف الامام السني كما يثاب بالصلاة خلف الشيعي، والخبير بمذهبنا يعلم انا نشترط العدالة في امام الجماعة اذا كان شيعياً، فلا يجوز الائتمام بالفاسق من الشيعة ولا بمجهول الحال، اما السني فقد يجوز الائتمام به مطلقا.