عقائد الشيعة الإمامية /  الشهيد محمد باقر الصدر / نشأة الشيعة والتشيع

 

كيف وُجِدَت الشيعة؟

تمهيد

عرفنا كيف ولد (التشيع)، وأما كيف ولد (الشيعة) ونشأ الانقسام على أساس ذلك في الأمة الإسلامية، فهذا ما سنجيب عنه الآن:

إننا إذا تتبعنا المرحلة الأولى من حياة الأمة الإسلامية، في عصر النبي صلى الله عليه وآله نجد أن اتجاهين رئيسين ومختلفين قد رافقا نشوء الأمة وبداية التجربة الإسلامية منذ السنوات الأولى وكانا يعيشان معا داخل إطار الأمة الوليدة التي أنشأها الرسول القائد صلى الله عليه وآله.

وقد أدى هذا الاختلاف بين الاتجاهين إلى انقسام عقائدي عقيب وفاة الرسول مباشرة، شطر الأمة الإسلامية إلى شطرين، قدر لأحدهما أن يحكم فاستطاع أن يمتد ويستوعب أكثرية المسلمين، بينما أقصي الشطر الآخر عن الحكم، وقدر له أن يمارس وجوده، كأقلية معارضة، ضمن الإطار الإسلامي العام، وكانت هذه الأقلية هي (الشيعة).

المبحث الأول: نشوء اتجاهين رئيسين في حياة النبي صلى الله عليه وآله

إن الاتجاهين الرئيسين اللذين رافقا نشوء الأمة الإسلامية في حياة النبي صلى الله عليه وآله منذ البدء هما:

أولا: الاتجاه الذي يؤمن بالتعبد بالدين وتحكيمه والتسليم المطلق للنص الديني في كل جوانب الحياة.

وثانيا: الاتجاه الذي لا يرى أن بالدين يتطلب منه التعبد إلا في نطاق خاص من العبادات والغيبيات، ويؤمن بإمكانية الاجتهاد وجواز التصرف على أساسه بالتغيير والتعديل في النص الديني وفقا للمصالح في غير ذلك النطاق من مجالات الحياة.

وبالرغم من أن الصحابة، بوصفهم الطليعة المؤمنة والمستنيرة، كانوا أفضل وأصلح بذرة لنشوء أمة رسالية، حتى أن تاريخ الإنسان لم يشهد جيلا عقائديا أروع وأنبل وأطهر من الجيل الذي أنشأه الرسول القائد. وبالرغم من ذلك نجد من الضروري التسليم بوجود اتجاه واسع، منذ كان النبي حيا، يميل إلى تقديم الاجتهاد في تقدير المصلحة، واستنتاجها من الظروف، على التعبد بحرفية النص الديني، وقد تحمل الرسول صلى الله عليه وآله المرارة في كثير من الحالات بسبب هذا الاتجاه حتى وهو على فراش الموت في ساعاته الأخيرة على ما يأتي، كما كان هناك اتجاه آخر يؤمن بتحكيم الدين والتسليم له والتعبد بكل نصوصه في جميع جوانب الحياة.

وقد يكون من عوامل انتشار الاتجاه الاجتهادي في صفوف المسلمين انه يتفق مع ميل الإنسان بطبيعته إلى التصرف وفقا لمصلحة يدركها ويقدرها، بدلا عن التصرف وفقا لقرار لا يفهم مغزاه.

وقد قدر لهذا الاتجاه ممثلون جريئون من كبار الصحابة من قبيل عمر بن الخطاب الذي ناقش الرسول صلى الله عليه وآله، واجتهد في مواضع عديدة، خلافا للنص إيمانا منه بأن له مثل هذا الحق.

وبهذا الصدد يمكننا إن نلاحظ، موقفه من صلح الحديبية واحتجاجه على هذا الصلح، وموقفه من الأذان وتصرفه فيه بإسقاط (حي على خير العمل) وموقفه من النبي حين شرع متعة الحج إلى غير ذلك من مواقفه الاجتهادية.

وقد انعكس كلا الاتجاهين في مجلس الرسول صلى الله عليه وآله في آخر يوم من أيام حياته فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وآله هلم اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وآله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول، قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم: قوموا.

وهذه الواقعة وحدها كافية للتدليل على عمق الاتجاهين، ومدى التناقض والصراع بينهما.

ويمكن أن نضيف إليها -لتصوير عمق الاتجاه الاجتهادي ورسوخه- ما حصل من نزاع وخلاف بين الصحابة حول تأمير أسامة ابن زيد على الجيش بالرغم من النص النبوي الصريح على ذلك، حتى خرج الرسول صلى الله عليه وآله وهو مريض فخطب الناس وقال: "يا أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأمير أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من لخليق بها".

وهذان الاتجاهان اللذان بدا الصراع بينهما في حياة النبي صلى الله عليه وآله، قد انعكسا على موقف المسلمين من إطروحة زعامة الإمام للدعوة بعد النبي صلى الله عليه وآله.

فالممثلون للاتجاه التعبدي وجدوا في النص النبوي على هذه الأطروحة سببا بقبولها، دون توقف أو تعديل. وأما الاتجاه الاجتهادي فقد رأى أنه بإمكانه أن يتحرر من الصيغة المطروحة من قبل النبي صلى الله عليه وآله، إذا أدى اجتهاده إلى صيغة أخرى أكثر انسجاما -في تصوره- مع الظروف.

وهكذا نرى أن الشيعة ولدوا منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وآله مباشرة متمثلين في المسلمين الذين خضعوا عمليا لأطروحة زعامة الامام وقيادته التي فرض النبي الابتداء بتنفيذها من حين وفاته مباشرة.

وقد تجسد الاتجاه الشيعي، منذ اللحظة الأولى في إنكار ما اتجهت إليه السقيفة من تجميد لأطروحة زعامة الإمام علي، واسناد السلطة إلى غيره.

ذكر الطبرسي في الاحتجاج عن أبان بن تغلب قال: "قلت لجعفر بن محمد الصادق: جعلت فداك، هل كان أحد في أصحاب رسول الله أنكر على أبي بكر فعله؟ قال: نعم كان الذي أنكر عليه اثنا عشر رجلا، فمن المهاجرين: خالد بن سعيد ابن أبي العاص وكان من بني أمية، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر، وبريدة الأسلمي، ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وسهل وعثمان ابنا حنيف، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبي بن كعب، وأبو أيوب الأنصاري".

وقد تقول: إذا كان الاتجاه الشيعي يمثل التعبد بالنص، والاتجاه الآخر المقابل له يمثل الاجتهاد، فهذا يعني أن الشيعة يرفضون الاجتهاد ولا يسمحون لأنفسهم به، مع انا نجد أن الشيعة يمارسون عملية الاجتهاد في الشريعة دائما!

والجواب: إن الاجتهاد الذي يمارسه الشيعة ويرونه جائزا بل واجبا، وجوبا كفائيا، هو الاجتهاد في استنباط الحكم الشرعي من النص الشرعي، لا الاجتهاد في النص الشرعي لرأي يراه المجتهد أو لمصلحة يخمنها، فإن هذا غير جائز، والاتجاه الشيعي يرفض أي ممارسة للاجتهاد بهذا المعنى، ونحن حينما نتحدث عن قيام اتجاهين منذ صدر الإسلام:

أحدهما: اتجاه التعبد بالنص.

والآخر: اتجاه الاجتهاد.

ونعني بالاجتهاد هنا، الاجتهاد في رفض النص أو قبوله.

وقيام هذين الاتجاهين شيء طبيعي في ظل كل رسالة تغييرية شاملة تحاول تغيير الواقع الفاسد من الجذور فإنها تتخذ درجات مختلفة من التأثير حسب حجم الرواسب المسبقة ومدى انصهار الفرد بقيم الرسالة الجديدة ودرجة ولائه لها.

وهكذا نعرف أن الاتجاه الذي يمثل التعبد بالنص يمثل الدرجة العليا من الانصهار بالرسالة والتسليم الكامل لها، وهو لا يرفض الاجتهاد ضمن إطار النص، وبذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي منه.

من المهم أن نشير -في هذا الصدد أيضا- إلى أن التعبد بالنص لا يعني الجمود والتصلب الذي يتعارض مع متطلبات التطور وعوامل التجديد المختلفة في حياة الإنسان، فإن التعبد بالنص معناه -كما عرفنا- التعبد بالدين، والأخذ به كاملا، دون تبعيض، وهذا الدين نفسه يحمل في أحشائه كل عناصر المرونة والقدرة علي مسايرة الزمن واستيعابه، بكل ما يحمل من ألوان التجديد والتطور، فالتعبد به وبنصه تعبد بكل تلك العناصر، وبكل ما فيها من قدرة على الخلق والإبداع والتجديد.

هذه خطوط عامة في تفسير التشيع، بوصفه ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية، وتفسير ظهور الشيعة كاستجابة لتلك الظاهرة الطبيعية.

المبحث الثاني: المرجعية الفكرية والمرجعية القيادية

إن إمامة أهل البيت والإمام علي التي تمثلها تلك الظاهرة الطبيعية تعبر عن مرجعيتين:

إحداهما المرجعية الفكرية.

والأخرى المرجعية في العمل القيادي والاجتماعي.

وكلتا المرجعيتين كانتا تتمثلان في شخص النبي صلى الله عليه وآله، وكان لابد في ضوء ما درسنا من ظروف أن يصمم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله الامتداد الصالح له لتحمل كلتا المرجعيتين، لكي تقوم المرجعية الفكرية بملء الفراغات التي قد تواجهها ذهنية المسلمين، وتقديم المفهوم المناسب، ووجهة النظر الإسلامية فيما يستجد من قضايا الفكر والحياة وتفسير ما يشكل ويغمض من معطيات الكتاب الكريم الذي يشكل المصدر الأول للمرجعية الفكرية في الإسلام ولكي تقوم المرجعية القيادية الاجتماعية بمواصلة المسيرة، وقيادة المسيرة الإسلامية في خطها الاجتماعي.

وقد جمعت كلتا المرجعيتين لأهل البيت (عليهم السلام)، بحكم الظروف التي درسناها، وجاءت النصوص النبوية الشريفة تؤكد ذلك باستمرار والمثال الرئيسي للنص النبوي على المرجعية الفكرية حديث الثقلين إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

"إني أوشك أن ادعى فأجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما..."

والمثال الرئيسي للنص النبوي على المرجعية في العمل القيادي الاجتماعي حديث الغدير حيث أخرج الطبراني بسند مجمع على صحته عن زيد بن أرقم قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير تحت شجرات فقال:

"أيها الناس يوشك أن ادعى فأجيب واني مسؤول وأنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وجاهدت، ونصحت فجزاك الله خيرا، فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإن جنته حق، وأن ناره حق وأن الموت حق، وأن البعث حق بعد الموت وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ فقالوا: بلي نشهد بذلك قال: اللهم اشهد. ثم قال: يا أيها الناس، إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم نم أنفسهم، فمن كنت مولاه، فهذا مولاه -يعني عليا- اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه".

وهكذا جسد هذان النصان النبويان الشريفان، في عدد كبير من أمثالهما، كلتا المرجعيتين في أهل البيت عليهم السلام وقد اخذ الاتجاه الإسلامي القائم على التعبد بنصوص النبي صلى الله عليه وآله بكلا النصين وآمن بكلتا المرجعيتين وهو اتجاه المسلمين الموالين لأهل البيت.

ولئن كانت المرجعية القيادية الاجتماعية لكل إمام تعني ممارسته للسلطة خلال حياته، فإن المرجعية الفكرية حقيقة ثابتة مطلقة لا تتقيد بزمان حياة الإمام. ومن هنا كان لها مدلولها العملي الحي في كل وقت، فما دام المسلمون بحاجة إلى فهم محدد للإسلام وتعرف على أحكامه وحلاله وحرامه ومفاهيمه وقيمه، فهم بحاجة إلى المرجعية الفكرية المحددة ربانيا المتمثلة أولا: في كتاب الله تعالى وثانيا: في سنة رسوله صلى الله عليه وآله والعترة المعصومة من أهل البيت التي لا تفترق ولن تفترق عن الكتاب كما نص الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.

وأما الاتجاه الآخر في المسلمين الذي قام على الاجتهاد بدلا عن التعبد بالنص فقد قرر في البدء عند وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله تسليم المرجعية القيادية التي تمارس السلطة إلى رجالات من المهاجرين وفقا لاعتبارات متغيرة ومتحركة ومرنة. وعلى هذا الأساس تسلم أبو بكر السلطة بعد وفاة النبي مباشرة على أساس ما تم من تشاور محدود في مجلس السقيفة ثم تولى الخلافة عمر بنص محدد من أبي بكر وخلفهما عثمان بنص غير محدد من عمر، وأدت المرونة بعد ثلث قرن من وفاة الرسول القائد إلى تسلل أبناه الطلقاء الذين حاربوا الإسلام بالأمس إلى مراكز السلطة.

هذا فيما يتصل بالمرجعية القيادية التي تمارس السلطة، وأما بالنسبة إلى المرجعية الفكرية فقد كان من الصعب إقرارها في أهل البيت، بعد أن أدى الاجتهاد إلى انتزاع المرجعية القيادية منهم، لان إقرارها كان يعني خلق الظروف الموضوعية التي تمكنهم من تسلم السلطة والجمع بين المرجعيتين، كما أنه كان من الصعب أيضا من الناحية الأخرى، الاعتراف بالمرجعية الفكرية لشخص الخليفة الذي يمارس السلطة لأن متطلبات المرجعية الفكرية تختلف عن متطلبات ممارسة السلطة فالإحساس بجدارة الشخص لممارسة السلطة والتطبيق لا يعني بحال الشعور بإمكانية نصبه إماما فكريا ومرجعا أعلى بعد القرآن والسنة النبوية لفهم النظرية لان هذه الإمامة الفكرية تتطلب درجة عالية من الثقافة، والإحاطة واستيعاب النظرية وكان من الواضح إن هذا لم يكن متوفرا في أي صحابي بمفرده إذا قطع النظر عن أهل البيتعليهم السلام.

ولهذا ظل ميزان المرجعية الفكرية يتأرجح فترة من الزمن، وظل الخلفاء في كثير من الحالات، يتعاملون مع الإمام علي على أساس إمامته الفكرية، أو على أساس قريب من ذلك حتى قال الخليفة الثاني مرات عديدة: "لولا علي لهلك عمر، ولا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو حسن".

ولكن بمرور الزمن، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وتعود المسلمين تدريجيا على النظر إلى أهل البيت، والإمام علي بوصفهم أشخاصا اعتياديين ومحكومين أمكن الاستغناء عن مرجعيتهم الفكرية أساسا، وإسنادها إلى بديل معقول، وهذا البديل ليس هو شخص الخليفة بل الصحابة، وهكذا وضع بالتدريج مبدأ مرجعية الصحابة، ككل، بدلا عن مرجعية أهل البيت، وهو بديل يستسيغه النظر بعد تجاوز المرجعية المنصوصة لان هؤلاء هم الجيل الذي رافق النبي صلى الله عليه وآله وعاش حياته وتجربته، ووعى حديثه وسنته.

وبهذا فقد أهل البيت عمليا امتيازهم الرباني، وأصبحوا يشكلون جزءا من المرجعية الفكرية بوصفهم صحابة وبحكم ما قدر أن عاشه الصحابة أنفسهم من اختلافات حادة، وتناقضات شديدة، بلغت، في كثير من الأحيان إلى مستوى القتال وهدر كل فريق دم الفريق الآخر وكرامته، واتهامه بالانحراف والخيانة.

وبحكم هذه الاختلافات والاتهامات بين صفوف الإمامة الفكرية، والمرجعية العقائدية نفسها، نشأت ألوان من التناقض العقائدي والفكري في جسم الأمة الإسلامية كانعكاسات لأوجه التناقض في داخل تلك الإمامة الفكرية التي قررها الاجتهاد...

 العودة لصفحة الشهيد محمد باقر الصدر | نشأة الشيعة والتشيع