وقال الآخر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا | بسبع رمين الجمر أم بثمان |
وأنشدوا قول الهذلي:
وقوني وقالوا يا خويلد لم ترع | فقلت وأنكرت الوجوه هم هم |
يعني أهم هم؟
وقال ابن أبي ربيعة:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا | عدد الرمل والحصى والتراب |
فإن قيل: حذف حرف الاستفهام إنما يحسن إذا كان في الكلام دلالة عليه وعوض عنه، وليس تستعمل مع فقد العوض. وما أنشدتموه فيه عوض عن حرف الاستفهام المتقدم. والآية ليس فيها ذلك.
قلنا قد يحذف حرف الاستفهام مع إثبات العوض عنه ومع فقده إذا زال اللبس في معنى الاستفهام، وبيت ابن أبي ربيعة خال من حرف الاستفهام ومن العوض عنه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى:
(فلا اقتحم العقبة) (1) قال هو أفلا اقتحم العقبة. فألقيت ألف الاستفهام.
وبعد فإذا جاز أن يلقوا ألف الاستفهام لدلالة الخطاب عليها. فهلا جاز أن يلقوها لدلالة العقول عليها، لأن دلالة العقل أقوى من دلالة غيره.
تنـزيه إبراهيم (ع) عن الكذب:
(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام لما قال له قومه (أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) (2) وإنما عنى بالكبير الصنم الكبير. وهذا
____________
(1) البلد الآية 11.
(2) الأنبياء الآية 62 - 63.
|
(الجواب): قيل له الخبر مشروط غير مطلق، لأنه قال إن كانوا ينطقون ومعلوم أن الأصنام لا تنطق، وأن النطق مستحيل عليها. فما علق بهذا المستحيل من الفعل أيضا مستحيل، وإنما أراد إبراهيم بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يقدر أن يخبر عن نفسه بشئ. فقال إن كانت هذه الأصنام تنطق فهي الفاعلة للتكسير، لأن من يجوز أن ينطق يجوز أن يفعل. وإذا علم استحالة النطق عليها علم استحالة الفعل عليها، وعلم باستحالة الأمرين أنها لا يجوز أن تكون آلهة معبودة، وأن من عبدها ضال مضل، ولا فرق بين قوله إنهم فعلوا ذلك إن كانوا ينطقون، وبين قوله إنهم ما فعلوا ذلك ولا غيره لأنهم لا ينطقون ولا يقدرون.
وأما قوله (ع) فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فإنما هو أمر بسؤالهم أيضا على شرط، والنطق منهم شرط في الأمرين، فكأنه قال: إن كانوا ينطقون فاسألوهم، فإنه لا يمتنع أن يكونوا فعلوه. وهذا يجري مجرى قول أحدنا لغيره: من فعل هذا الفعل؟ فيقول زيد. إن كان فعل كذا وكذا. ويشير إلى فعل يضيفه السائل إلى زيد، وليس في الحقيقة من فعله. ويكون غرض المسؤول نفي الأمرين جميعا عن زيد، وتنبيه السائل على خطئه في إضافة ما أضافه إلى زيد، وقد قرأ بعض القراء وهو محمد بن علي السهيفع اليماني: فعله كبيرهم بتشديد اللام، والمعنى فلعله، أي فلعل فاعل ذلك كبيرهم. وقد جرت عادة العرب بحذف اللام الأولى من لعل فيقولون عل، قال الشاعر:
عل صروف الدهر أو دولاتها | تديلنا اللمة من لماتها |
|
وقال الآخر:
يا أبتا علك أو عساكا | يسقيني الماء الذي سقاكا |
فإن قيل:
فأي فايدة في أن يستفهم عن أمر يعلم استحالته، وأي فرق في المعنى بين القراءتين؟.
قلنا: لم يستفهم ولا شك في الحقيقة، وإنما نبههم بهذا القول على خطيئتهم في عبادة الأصنام. فكأنه قال لهم إن كانت هذه الأصنام تضر وتنفع وتعطي وتمنع، فلعلها هي الفاعلة لذلك التكسير، لأن من جاز منه ضرب من الأفعال جاز منه ضرب آخر، وإذا كان ذلك الفعل الذي هو التكسير لا يجوز على الأصنام عند القوم، فما هو أعظم منه أولى بأن لا يجوز عليها وأن لا يضاف إليها، والفرق بين القراءتين ظاهر، لأن القراءة الأولى لها ظاهر الخبر، فاحتجنا إلى تعليقه بالشرط ليخرج من أن يكون كذبا. والقراءة الثانية تتضمن حرف الشك والاستفهام، فهما مختلفان على ما ترى.
فإن قيل: أليس قد روى بشر بن مفضل عن عوف عن الحسن قال:
" بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال إن إبراهيم عليه السلام ما كذب متعمدا قط إلا ثلاث مرات كلهن يجادل بهن عن دينه قوله إني سقيم، وإنما تمارض عليهم لأن القوم خرجوا من قريتهم لعيدهم وتخلف هو ليفعل بآلهتهم ما فعل. وقوله بل فعله كبيرهم، وقوله لسارة إنها أختي لجبار من الجبابرة لما أراد أخذها ".
قلنا: قد بينا بالأدلة العقلية التي لا يجوز فيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر، أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم الكذب. فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه، ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلا
|
فأما قوله (ع) إني سقيم، فسنبين بعد هذه المسألة بلا فصل وجه ذلك، وأنه ليس بكذب. وقوله بل فعله كبيرهم قد بينا معناه وأوضحنا عنه.
وأما قوله (ع) لسارة أنها أختي، فإن صح فمعناه أنها أختي في الدين، ولم يرد أخوة النسب. وأما ادعائهم على النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ما كذب إبراهيم (ع) إلا ثلاث مرات، فالأولى أن يكون كذبا عليه (ع) لأنه صلى الله عليه وآله كان أعرف بما يجوز على الأنبياء (ع) وما لا يجوز عليهم، ويحتمل إن كان صحيحا أن يريد ما أخبر بما ظاهره الكذب إلا ثلاث دفعات، فأطلق عليه اسم الكذب لأجل الظاهر، وإن لم يكن على الحقيقة كذلك.
تنزيه إبراهيم عن الشك في الله:
(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم عليه السلام: (فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) (1) والسؤال عليكم في هذه الآية من وجهين: أحدهما أنه حكي عن نبيه النظر في النجوم، وعندكم أن الذي يفعله المنجمون من ذلك ضلال، والآخر قوله (ع) إني سقيم.
وذلك كذب.
(الجواب): قيل له في هذه الآية وجوه (منها): أن إبراهيم (ع) كانت به علة تأتيه في أوقات مخصوصة، فلما دعوه إلى الخروج معهم نظر إلى
____________
(1) الصافات الآية 88 - 89.
|
قلنا ليس يمتنع أن يريد بقوله في النجوم، أنه نظر إليها لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، قال الله تعالى: (ولأصلبنكم في جذوع النخل) (2) وإنما أراد على جذوعها، وقال الشاعر:
إسهري ما سهرت أم حكيم | واقعدي مرة لذاك وقومي |
وافتحي الباب وانظري في النجوم | كم علينا من قطع ليل بهيم |
وإنما أراد انظري إليها لتعرفي الوقت.
(ومنها): أنه يجوز أن يكون الله تعالى أعلمه بالوحي أنه سيمتحنه بالمرض في وقت مستقبل، وإن لم يكن قد جرت بذلك المرض عادته، وجعل تعالى العلامة على ذلك ظاهرة له من قبل النجوم، إما بطلوع نجم على وجه مخصوص أو أفول نجم على وجه مخصوص أو اقترانه بآخر على وجه مخصوص. فلما نظر إبراهيم في الأمارة التي نصبت له من النجوم قال إني سقيم، تصديقا بما أخبره الله تعالى.
(ومنها): ما قال قوم في ذلك من أن كان آخر أمره الموت فهو سقيم، وهذا حسن، لأن تشبيه الحياة المفضية إلى الموت بالسقم من أحسن التشبيه.
____________
(1) الزمر الآية 30.
(2) طه الآية 71.
|
ويجوز أيضا أن يكون قوله تعالى: فنظر نظرة في النجوم، معناه أنه شخص ببصره إلى السماء كما يفعل المفكر المتأمل، فإنه ربما أطرق إلى الأرض وربما نظر إلى السماء استعانة في فكره. وقد قيل إن النجوم هاهنا هي نجوم النبت، لأنه يقال لكل ما خرج من الأرض وغيرها وطلع، انه نجم ناجم، وقد نجم، ويقال للجميع نجوم، ويقولون نجم قرن الظبي، ونجم ثدي المرأة، وعلى هذا الوجه يكون إنما نظر في حال الفكر والاطراق إلى الأرض، فرأى ما نجم منها، وقيل أيضا إنه أراد بالنجوم ما نجم له من رأيه وظهر له بعد أن لم يكن ظاهرا. وهذا وإن كان يحتمله الكلام، فالظاهر بخلافه، لأن الإطلاق من قول القائل: نجوم. لا يفهم من ظاهره إلا نجوم السماء دون نجوم الأرض، ونجوم الرأي، وليس كلما قيل فيه إنه نجم، وهو ناجم على الحقيقة، يصلح أن يقال فيه نجوم بالاطلاق والمرجع في هذا إلى تعارف أهل اللسان. وقد قال أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني:
إن معنى قوله تعالى: فنظر نظرة في النجوم. أراد في القمر والشمس، لما ظن أنهما آلهة في حال مهلة النظر على ما قصه الله تعالى في قصته في سورة الأنعام. ولما استدل بأفولهما وغروبهما على أنهما محدثان غير قديمين، ولا إلهين. وأراد بقوله إني سقيم. إني لست على يقين من الأمر ولا شفاء من العلم، وقد يسمى الشك بأنه سقيم كما يسمى العلم بأنه شفاء. قال وإنما زال عنه هذا السقم عند زوال الشك وكمال المعرفة. وهذا الوجه يضعف من جهة أن القصة التي حكاها عن إبراهيم فيها هذا الكلام يشهد ظاهره بأنها غير
|
(وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون. فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) (1) فبين تعالى كما ترى أنه جاء ربه بقلب سليم، وإنما أراد أنه كان سليما من الشك وخالصا للمعرفة واليقين. ثم ذكر أنه عاتب قومه على عبادة الأصنام، فقال ماذا تعبدون؟ وسمى عبادتهم بأنها إفك وباطل. ثم قال فما ظنكم برب العالمين؟ وهذا قول عارف بالله تعالى مثبت له على صفاته غير ناظر ممثل ولا شاك، فكيف يجوز أن يكون قوله من بعد ذلك. فنظر نظرة في النجوم، أنه ظنها أربابا وآلهة وكيف يكون قوله إني سقيم؟ أي لست على يقين ولا شفاء، والمعتمد في تأويل ذلك ما قدمناه.
تنـزيه إبراهيم (ع) عن العجز:
(مسألة): فإن قال قائل فما قولكم في قوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) (2) وهذا يدل على انقطاع إبراهيم (ع) وعجزه عن نصرة دليله الأول ولهذا انتقل إلى حجة أخرى، وليس ينتقل المحتج من شئ إلى غيره إلا على وجه القصور عن نصرته.
(الجواب): قلنا ليس هذا بانقطاع من إبراهيم عليه السلام ولا عجز عن نصرة حجته الأولى، وقد كان إبراهيم (ع) قادرا لما قال له الجبار الكافر أنا أحيي وأميت في جواب قوله ربي الذي يحيي ويميت، ويقال إنه دعا رجلين فقتل أحدهما واستحيى الآخر، فقال عند ذلك أنا أحيي وأميت. وموه
____________
(1) الصافات الآيات 83 - 89.
(2) البقرة الآية 258.
|
ومن كان قصده البيان والايضاح فله أن يعدل من طريق إلى آخر لوضوحه وبعده عن الشبهة، وإن كان كلا الطريقين يفضي إلى الحق. على أنه بالكلام الثاني ناصر للحجة الأولى وغير خارج عن سنن نصرتها، لأنه لما قال ربي الذي يحيي ويميت، فقال له في الجواب أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم: من شأن هذا الذي يحيي ويميت أن يقدر على أن يأتي بالشمس من المشرق ويصرفها كيف يشاء. فإن ادعيت أنت القادر على ما يقدر الرب عليه فائت بالشمس من المغرب كما يأتي هو بها من المشرق، فإذا عجزت عن ذلك علمنا أنك عاجز عن الحياة والموت ومدع فيهما ما لا أصل له، فإن قيل: فلو قال له في جواب هذا الكلام: وربك لا يقدر أن يأتي بالشمس من المغرب، فكيف تلزمني أن آتي بها من المغرب؟
قلنا: لو قال له ذلك لكان إبراهيم (ع) يدعو الله أن يأتي بالشمس من المغرب فيجيبه إلى ذلك، وإن كان معجزا خارقا للعادة. ولعل الخصم إنما عدل عن أن يقول له ذلك علما بأنه إذا سأل الله تعالى فيه أجابه إليه.
تنـزيه إبراهيم عن الشك في قدرة الله:
(مسألة): فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم:
(رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن (1)
____________
(1) البقرة الآية 260.
أنظر قصص الأنبياء ص 96 و 97 الطبعة الثالثة - دار إحياء التراث العربي - بيروت.
|
أوليس قد روى المفسرون أن إبراهيم (ع) مر بحوت نصفه في البر ونصفه في البحر، ودواب البر والبحر تأكل منه، فأخطر الشيطان بباله استبعاد رجوع ذلك حيا مؤلفا، مع تفرق أجزائه وانقسام أعضائه في بطون حيوان البر والبحر؟ فشك فسأل الله تعالى ما تضمنته الآية، وروى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم (ع).
(الجواب): قيل له ليس في الآية دلالة على شك إبراهيم في إحياء الموتى، وقد يجوز أن يكون (ع) إنما سأل الله تعالى ذلك ليعلمه على وجه يبعد عن الشبهة، ولا يعترض فيه شك ولا ارتياب. وإن كان من قبل قد علمه على وجه للشبهة فيه مجال، ونحن نعلم أن في مشاهدة ما شاهده إبراهيم من كون الطير حيا ثم تفرقه وتقطعه وتباين أجزائه ثم رجوعه حيا كما كان في الحال الأولى، من الوضوح وقوة العلم ونفي الشبهة ما ليس لغيره من وجوه الاستدلالات، وللنبي (ع) أن يسأل ربه تخفيف محنته وتسهيل تكليفه.
والذي يبين صحة ما ذكرناه قوله تعالى: (أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). فقد أجاب إبراهيم بمعنى جوابنا بعينه، لأنه بين أنه لم يسأل ذلك لشك فيه وفقد إيمان به، وإنما أراد الطمأنينة، وهي ما أشرنا إليه من سكون النفس وانتفاء الخواطر والوساوس والبعد عن اعتراض الشبهة.
ووجه آخر: وهو أنه قد قيل إن الله تعالى لما بشر إبراهيم عليه السلام بخلته واصطفائه واجتبائه، سأل الله تعالى أن يريه إحياء الموتى ليطمئن قلبه بالخلة، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون صحة ما تضمنه الوحي إلا بالاستدلال. فسأل إحياء الموتى لهذا الوجه لا للشك في قدرة الله تعالى على ذلك.
|
إنك تزعم أن ربك يحيي الموتى، وأنه قد قال: أرسلك إلي لتدعوني إلى عبادته، فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا، فإن لم يفعل قتلتك. قال إبراهيم (ع): (رب أرني كيف تحيي الموتى) فيكون معنى قوله: (ولكن ليطمئن قلبي) على هذا الوجه، أي لآمن من القتل ويطمئن قلبي بزوال الروع والخوف. وهذا الوجه الذي ذكرناه وإن لم يكن مرويا على هذا الوجه فهو مجوز، وإن أجاز صلح أن يكون وجها في تأويل الآية مستأنفا متابعا.
ووجه آخر: وهو أنه يجوز أن يكون إبراهيم إنما سأل إحياء الموتى لقومه ليزول شكهم في ذلك وشبهتهم. ويجري مجرى سؤال موسى (ع) الرؤية لقومه، ليصدر منه تعالى الجواب على وجه يزيل منه شبهتهم في جواز الرؤية عليه تعالى. ويكون قوله ليطمئن قلبي على هذا الوجه، معناه أن نفسي تسكن إلى زوال شكهم وشبهتهم، أو ليطمئن قلبي إلى إجابتك إياي فيما أسألك فيه. وكل هذا جائز، وليس في الظاهر ما يمنع منه، لأن قوله:
(ولكن ليطمئن قلبي) ما تعلق في ظاهر الآية بأمر لا يسوغ العدول عنه مع التمسك بالظاهر، وما تعلقت هذه الطمأنينة به غير مصرح بذكره، قلنا إن تعلقه بكل أمر يجوز أن يتعلق به.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى أولم تؤمن؟ وهذا اللفظ استقبال.
وعندكم أنه كان مؤمنا فيما مضى. قلنا معنى ذلك أو لم تكن قد آمنت؟
والعرب تأتي بهذا اللفظ، وإن كان في ظاهره الاستقبال، وتريد به الماضي.
فيقول أحدهم لصاحبه: أولم تعاهدني على كذا وكذا، وتعاقدني على أن لا تفعل كذا وكذا؟ وإنما يريد الماضي دون المستقبل.
____________
(1) هو ابن كوش بن حام ضرب به المثل بالجبروت.
|
قال الشاعر في وصف الإبل:
تظل معقلات السوق خرصا | تصور أنوفها ريح الجنوب |
أراد أن ريح الجنوب تميل أنوفها وتعطفها.
وقال الطرماح (2):
عفايف أذيال أوان يصرها | هوى والهوى للعاشقين صؤر |
ويقول القائل لغيره: صر وجهك إلي، أي أقبل به علي.
ومن حمل الآية على هذا الوجه لا بد أن يقدر محذوفا في الكلام يدل عليه سياق اللفظ، ويكون تقدير الكلام: خذ أربعة من الطير فأملهن إليك ثم قطعهن ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا.
وقال قوم إن معنى صرهن أي قطعهن وفرقهن، واستشهدوا بقول توبة بن الحمير (3):
فلما جذبت الحبل لطت نسوعه | بأطراف عيدان شديد أسورها |
فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها | بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها |
وقال الآخر:
يقولون أن الشام يقتل أهله | فمن لي أن لم آته بخلود |
تغرب آبائي فهلا صراهم | من الموت أن لم يذهبوا وجدودي |
____________
(1) البقرة الآية 260.
(2) الطرماح بن حكيم الطائي: من شعراء صدر الاسلام، اعتنق مذهب الخوارج وصار من كبار شعرائهم.
(3) من عشاق العرب المشهورين، اشتهر بحبه لليلى الأخيلية وقوله الشعر فيها.
|
هذا قول الكوفيين، وأما البصريون فإنهم يقولون إن صار يصير، ويصور بمعنى واحد، أي قطع. ويستشهدون بالأبيات التي تقدمت، وبقول الخنساء: " فظلت الشم منها وهي تنصار " وعلى هذا الوجه لا بد في الكلام من تقديم وتأخير، ويكون التقدير: فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن أي قطعهن. فإليك من صلة خذلان التقطيع لا يعدى بإلى.
فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (ثم أدعهن يأتينك سعيا) وهل أمره بدعائهن وهن أحياء أو أموات؟ وعلى كل حال فدعاؤهن قبيح، لأن أمر البهائم التي لا تعقل ولا تفهم قبيح. وكذلك أمرهن وهن أعضاء متفرقة أظهر في القبح.
قلنا لم يرد ذلك إلا حال الحياة دون التفرق والتمزق. فأراد بالدعاء الإشارة إلى تلك الطيور. فإن الانسان قد يشير إلى البهيمة بالمجئ أو الذهاب فتفهم عنه. ويجوز أن يسمي ذلك دعاء. إما على الحقيقة أو على المجاز. وقد قال أبو جعفر الطبري أن ذلك ليس بأمر ولا دعاء، ولكنه عبارة عن تكوين الشئ ووجوده، كما قال تعالى في الذين مسخهم: (كونوا قردة خاسئين) (1) وإنما أخبر عن تكوينهم كذلك من غير أمر ولاء دعاء، فيكون المعنى على هذا التأويل. ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، فإن الله تعالى يؤلف تلك الأجزاء ويعيد الحياة فيها، فيأتينك سعيا، وهذا وجه قريب فإن قيل على الوجه الأول: كيف يصح أن يدعوها وهي أحياء؟ وظاهر الآية يشهد بخلاف ذلك، لأنه تعالى قال: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا). وقال عقيب هذا الكلام من غير فصل: (ثم أدعهن يأتينك
____________
(1) البقرة الآية 65 والأعراف الآية 166.
|
فأما أبو مسلم الأصفهاني فإنه فرارا من هذا السؤال حمل الكلام على وجه ظاهر الفساد. لأنه قال إن الله تعالى أمر إبراهيم (ع) بأن يأخذ أربعة من الطيور، ويجعل على كل جبل طيرا، وعبر بالجزء عن الواحد من الأربعة، ثم أمره بأن يدعوهن وهن أحياء من غير إماتة تقدمت ولا تفرق من الأعضاء، ويمرنهن على الاستجابة لدعائه، والمجئ إليه في كل وقت يدعوها فيه.
ونبه ذلك على أنه تعالى إذا أراد إحياء الموتى وحشرهم أتوه من الجهات كلها مستجيبين غير ممتنعين كما تأتي هذه الطيور بالتمرين والتعويد. وهذا الجواب ليس بشئ لأن إبراهيم عليه السلام إنما سأل الله أن يريه كيف يحيي الموتى، وليس في مجئ الطيور وهن أحياء بالعادة والتمرين، دلالة على ما سئل عنه ولا حجة فيه. وإنما يكون في ذلك بيانا لمسألته إذا كان على الوجه الذي ذكرناه.
فإن قيل إذا كان إنما أمره بدعائهن بعد حال التأليف والحياة، فأي فايدة في الدعاء وهو قد علم لما رآها تتألف أعضاءها من بعد وتتركب أنها قد عادت إلى حال الحياة؟ فلا معنى في الدعاء إلا أن يكون متناولا لها وهي متفرقة.
قلنا للدعاء فائدة بينة، لأنه لا يتحقق من بعد رجوع الحياة إلى الطيور وإن شاهدها متألفة، وإنما يتحقق ذلك بأن تسعى إليه وتقرب منه.
|
تنـزيه إبراهيم عن الاستغفار للكفار:
(مسألة): فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) (1) وكيف يجوز أن يستغفر لكافر أو أن يعده بالاستغفار؟.
(الجواب): قلنا: معنى هذه الآية إن أباه كان وعده بأن يؤمن وأظهر له الإيمان على سبيل النفاق، حتى ظن أنه الخير، فاستغفر له الله تعالى على هذا الظن. فلما تبين له أنه مقيم على كفره رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه (2) على ما نطق به القرآن. فكيف يجوز أن يجعل ذلك ذنبا لإبراهيم (ع) وقد عذره الله تعالى في أن استغفاره إنما كان لأجل موعده، وبأنه تبرأ منه لما تبين له منه المقام على عداوة الله تعالى.
فإن قيل: فإن لم تكن هذه الآية دالة على إضافة الذنب إليه، فالآية التي في صورة الممتحنة تدل على ذلك لأنه تعالى قال: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لاستغفرن لك) (3) فأمر بالتأسي والاقتداء به، إلا في هذا الفعل. وهذا يقتضي أنه قبيح.
قلنا: ليس يجب ما ذكر في السؤال، بل وجه استثناء إبراهيم عليه السلام لأبيه عن جملة ما أمر الله تعالى بالتأسي به فيه، أنه لو أطلق الكلام لأوهم الأمر بالتأسي به في ظاهر الاستغفار من غير علم بوجهه، والموعدة السابقة من أبيه له بالإيمان، وأدى ذلك إلى حسن الاستغفار للكفار. فاستثنى الاستغفار من جملة الكلام لهذا الوجه، ولأنه لم يكن ما أظهره أبوه من الإيمان ووعده به
____________
(1) التوبة الآية 114.
(2) قصص الأنبياء ص 83 - الطبعة الثالثة - دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(3) سورة الممتحنة الآية 4.
|
ويمكن أيضا أن يكون قوله تعالى: (إلا قول إبراهيم لأبيه) استثناء من غير التأسي، بل من الجملة الثانية التي تعقبها. هذا القول بلا فصل وهي قوله (إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم) إلى قوله (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء) أبدا، لأنه لما كان استغفار إبراهيم (ع) لأبيه مخالفا لما تضمنته هذه الجملة، وجب استثناءه. ولا نوهم بظاهر الكلام أنه عامل أباه من العداوة والبراءة بما عامل به غيره من الناس.
فأما قوله تعالى: (إلا عن موعدة وعدها إياه) فقد قيل إن الموعدة إنما كانت من الأب بالإيمان للابن، وهو الذي قدمناه. وقيل إنها كانت من الابن بالاستغفار للأب في قوله: لاستغفرن لك. والأولى أن تكون الموعدة هي من الأب بالإيمان للابن، لأنا إن حملناه على الوجه الثاني كانت المسألة قائمة. ولقائل أن يقول: ولم أراد أن يعده بالاستغفار وهو كافر؟ وعند ذلك لا بد أن يقال إنه أظهر له الإيمان حتى ظنه به. فيعود إلى معنى الجواب الأول.
فإن قيل: فما تنكرون من ذلك، ولعل الوعد كان من الابن للأب بالاستغفار، وإنما وعده به لأنه أظهر له الإيمان؟
قلنا ظاهر الآية منع من ذلك، لأنه تعالى قال: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) فعلل حسن الاستغفار بالموعدة، ولا يكون الموعدة مؤثرة في حسن الاستغفار إلا بأن يكون من الأب للابن بالإيمان، لأنها إذا كانت من الابن لم يحسن له لها الاستغفار، لأنه إن قيل إنما وعده الاستغفار لإظهاره له الإيمان، فالمؤثر في حسن الاستغفار هو إظهار الإيمان لا الموعدة.
فإن قيل: أفليس إسقاط عقاب الكفر والغفران لمرتكبه كانا جائزين من طريق العقل، وإنما منع منه السمع، وإلا جاز أن يكون إبراهيم عليه السلام
|
قلنا: هذا الوجه كان جائزا لولا ما نطق به القرآن من خلافه، لأنه تعالى لما قال: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) (1) قال عاطفا على ذلك: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) فصرح بعلة حسن استغفاره، وأنها الموعدة.
وكان الوجه في حسن الاستغفار على ما تضمنه السؤال، لوجب أن يعلل استغفاره لأبيه بأنه لم يعلم أنه من أهل النار لا محالة، ولم يقطع في شرعه على عقاب الكفار. والكلام يقتضي خلاف هذا، ويوجب أنه ليس لإبراهيم (ع) من ذلك ما ليس لنا، وأن عذره فيه هو الموعدة دون غيرها.
وقد قال أبو علي بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي في تأويل الآية التي في التوبة، ما نحن ذاكروه ومنبهون على خلافه. قال بعد أن ذكر أن الاستغفار إنما كان لأجل الموعدة من الأب بالإيمان: إن الله تعالى إنما ذكر قصة إبراهيم (ع) بعد قوله (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين) لئلا يتوهم أحد أن الله عز وجل كان جعل لإبراهيم عليه السلام من ذلك ما لم يجعله للنبي صلى الله عليه وآله، لأن هذا الذي لم يجعله للنبي صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يجعله لأحد، لأنه ترك الرضا بأفعال الله تعالى وأحكامه.
وهذا الذي ذكره غير صحيح على ظاهره، لأنه يجوز أن يجعل لغير نبينا صلى الله عليه وآله ممن لم يقطع له، على أن الكفار معاقبون لا محالة، أن يستغفر
____________
(1) التوبة الآية 113.