للكفار، لأن العقل لا يمنع من ذلك. وإنما يمنع السمع الذي فرضنا ارتفاعه.
فإن قال: أردت أنه ليس لأحد ذلك مع القطع على العقاب، قلنا:
ليس هكذا يقتضي ظاهر كلامك. وقد كان يجب إذا أردت هذا المعنى أن تبينه وتزيل الابهام عنه، وإنما لم يجز أن يستغفر للكفار مع ورود الوعيد القاطع على عقابهم، زايدا على ما ذكره أبو علي من أنه ترك الرضا بأحكام الله، أن فيه سؤالا له تعالى أن يكذب في أخباره، وأن يفعل القبيح من حيث أخبر بأنه لا يغفر للكفار مع الاصرار.
تكريم إبراهيم باستجابة دعائه:
(مسألة): فإن قال: إذا كان من مذهبكم إن دعاء الأنبياء (ع) لا يكون إلا مستجابا، وقد دعا إبراهيم عليه السلام ربه فقال: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام). وقد عبد كثير من بنيه الأصنام وكذلك السؤال عليكم في قوله: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) (1).
(الجواب): قيل له أما المفسرون فإنهم حملوا هذا الدعاء على الخصوص وجعلوه متناولا لمن أعلمه الله تعالى أنه يؤمن ولا يعبد الأصنام حتى يكون الدعاء مستجابا، وبينوا إن العدول عن ظاهره المقتضي للعموم إلى الخصوص بالدلالة واجب، وهذا الجواب صحيح، ويمكن في الآية وجه آخر: وهو أن يريد بقوله: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) أي افعل بي وبهم من الألطاف ما يباعدنا عن عبادة الأصنام ويصرف دواعينا عنها. وقد يقال فيمن حذر من الشئ ورغب في تركه وقويت صوارفه عن فعله: أنه قد جنبه. ألا ترى أن الوالد قد يقول لولده إذا كان قد حذره من بعض الأفعال
____________
(1) إبراهيم الآية 40.
|
إنني قد جنبتك كذا وكذا ومنعتك منه. وإنما يريد ما ذكرناه. وليس لأحد أن يقول كيف يدعو إبراهيم (ع) بذلك وهو يعلم أن الله تعالى لا بد أن يفعل هذا اللطف المقوى لدواعي الإيمان، لأن هذا السؤال أولا يتوجه على الجوابين جميعا، لأنه تعالى لا بد أن يفعل هذا للطف الذي يقع الطاعة عنده لا محالة. كما لا بد أن يفعل ما يقوي الداعي إلى الطاعات.
والجواب عن هذه الشبهة أن النبي صلى الله عليه وآله لا يمتنع أن يدعو بما يعلم أن الله تعالى سيفعله على كل حال، على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والتذلل له والتعبد. فأما قوله (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي) فالشبهة تقل فيه، لأن ظاهر الكلام يقتضي الخصوص في ذريته الكثير ممن أقام الصلاة.
تنـزيه إبراهيم عن المجادلة:
(مسألة): فإن قيل فما معنى قوله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام) (1) فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، وكيف يحضر إبراهيم عليه السلام للملائكة الطعام وهو يعلم أنها لا تطعم؟
ومن أي شئ كانت مخافته منهم لما امتنعوا من تناول الطعام؟ وكيف يجوز أن يجادل ربه فيما قضاه وأمر به؟.
(الجواب): قلنا أما وجه تقديم الطعام فلأنه (ع) لم يعلم في الحال أنهم ملائكة لأنهم كانوا في صورة البشر فظنهم أضيافا، وكان من عادته (ع) أقراء الضيف، فدعاهم إلى الطعام ليستأنسوا به وينبسطوا، فلما امتنعوا أنكر ذلك منهم، وظن أن الامتناع لسوء يريدونه، حتى خبروه بأنهم رسل الله تعالى أنفذهم لإهلاك قوم لوط عليه السلام (2).
____________
(1) هود الآية 69.
(2) قصص الأنبياء ص - 112 - 113 ط 3 - دار إحياء التراث العربي - بيروت.
|
وأنشد أبو العباس:
إذا ما اختبطنا اللحم للطالب القرى | حنذناه حتى يمكن اللحم آكله |
فإن قيل: فكيف صدقهم في دعواهم أنهم ملائكة؟.
قلنا: لا بد من أن يقترن بهذه الدعوى علم يقتضي التصديق. ويقال إنهم دعوا الله بإحياء العجل الذي كان ذبحه وشواه لهم، فصار حيا يرعى.
وأما قوله: يجادلنا، فقيل معناه يجادل رسلنا، وعلق المجادلة به تعالى من حيث كانت لرسله، وإنما جادلهم مستفهما منهم هل العذاب نازل على سبيل الاستيصال أو على سبيل التخويف؟ وهل هو عام للقوم أو خاص؟
وعن طريق نجاة لوط (ع) وأهله المؤمنين بما لحق القوم؟ وسمى ذلك جدالا لما كانت فيه من المراجعة والاستثبات على سبيل المجاز، وقيل إن معنى قوله يجادلنا في قوم لوط (ع): يسائلنا أن تؤخر عذابهم رجاء أن يؤمنوا أو أن يستأنفوا الصلاح. فخبره الله تعالى بأن المصلحة في إهلاكهم، وأن كلمة العذاب قد حقت عليهم، وسمى المسألة جدالا على سبيل المجاز.
فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) (1) فأتى بفعل مستقبل بعد لما، ومن شأن ما يأتي بعدها أن يكون ماضيا.
قلنا عن ذلك جوابان.
أحدهما أن في الكلام محذوفا، والمعنى: أقبل يجادلنا أو جعل يجادلنا، وإنما حذفه لدلالة الكلام عليه واقتضائه له.
____________
(1) هود الآية 74.
|
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا | مني وما سمعوا من صالح دفنوا |
وفي قول الآخر في دخول المستقبل جوابا بالماضي:
وميعاد قوم إن أرادوا لقاءنا | بجمع منى إن كان للناس مجمع |
يروا خارجيا لم ير الناس مثله | تشير لهم عين إليه وإصبع |
ويمكن في هذا جواب آخر، هو أن يجعل (يجادلنا) حالا لا جوابا للفظة لما. ويكون المعنى أن البشرى جاءته في حال الجدال للرسل.
فإن قيل: فأين جواب (لما) على هذا الوجه؟.
قلنا يمكن أن نقدره في أحد موضعين: إما في قوله تعالى: (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) ويكون التقدير: قلنا إن إبراهيم كذلك.
والموضع الآخر أن يكون أراد تعالى (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) ناديناه يا إبراهيم. فجواب (لما) هو ناديناه، وإن كان محذوفا ودل عليه لفظة النداء. وكل هذا جايز.
تنـزيه إبراهيم عن القول بخلق الله للأفعال:
(مسألة): فإن قيل أليس قد حكى الله تعالى عن إبراهيم (ع) قوله إذ قال لقومه: (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون) (1) وظاهر هذا
____________
(1) الصافات الآية 95 - 96.
|
(الجواب): قلنا من تأمل هذه الآية حق التأمل، علم أن معناها بخلاف ما يظنه المجبرة، لأن قوله تعالى خبر عن إبراهيم (ع) بأنه غير قومه بعبادة الأصنام واتخاذها آلهة من دون الله تعالى، بقوله: (أتعبدون ما تنحتون)، وإنما أراد منحوت وما حمله النحت دون عملهم الذي هو النحت، لأن القوم لم يكونوا يعبدون النحت الذي هو فعلهم في الأجسام، وإنما كانوا يعبدون الأجسام أنفسها. ثم قال: (والله خلقكم وما تعملون).
وهذا الكلام لا بد من أن يكون متعلقا بالأول ومتضمنا لما يقتضي المنع من عبادة الأصنام، ولا يكون بهذه الصفة إلا والمراد بقوله: وما تعملون الأصنام التي كانوا ينحتونها. فكأنه تعالى قال: كيف تعبدون ما خلقه الله تعالى كما خلقكم. وليس لهم أن يقولوا إن الكلام الثاني قد يتعلق بالكلام الأول على خلاف ما قدرتموه، لأنه إذا أراد أن الله خلقكم وخلق أعمالكم، فقد تعلق الثاني بالأول، لأن من خلقه الله لا يجوز أن يعبد غيره. وذلك أنه لو أراد ما ظنوه، لكفى أن يقول الله تعالى: والله خلقكم. ويصير ما ضمنه إلى ذلك من قوله: (وما تعملون) لغوا ولا فائدة فيه، ولا تعلق له بالأول ولا تأثير له في المنع من عبادة الأصنام. فصح أنه أراد ما ذكرناه من المعمول فيه، ليطابق قوله: (أتعبدون ما تنحتون).
فإن قالوا هذا عدول عن الظاهر، لقوله تعالى: (وما تعملون) لأن هذه اللفظة لا تستعمل على سبيل الحقيقة إلا في العمل دون المعمول فيه.
ولهذا يقولون: أعجبني ما تعمل وما تفعل، مكان قولهم: أعجبني عملك وفعلك.
قيل لهم: ليس نسلم لكم إن الظاهر ما ادعيتموه، لأن هذه اللفظة قد تستعمل في المعمول فيه، والعمل على حد واحد. بل استعمالها في
|
ومعلوم أنه لم يرد أنها تلقف أعمالهم التي هي الحركات واعتمادات، وإنما أراد أنها تلقف الحبال وغيرها مما حله الإفك. وقد قال الله تعالى:
(يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات) (3) فسمى المعمول فيه عملا.
ويقول القائل في الباب أنه عمل النجار، ومما يعمل النجار، وكذلك في الناسج والصايغ. وههنا مواضع لا يستعمل فيها (ما) مع الفعل إلا والمراد بها الأجسام دون الأعراض التي هي فعلنا. لأن القائل إذا قال:
أعجبني ما تأكل وما تشرب وما تلبس، لم يجز حمله إلا على المأكول والمشروب والملبوس دون الأكل والشرب واللبس. فصح أن لفظة (ما) فيما ذكرناه أشبه بأن تكون حقيقة، وفيما ذكروه أشبه بأن تكون مجازا. ولو لم يثبت فيها إلا أنها مشتركة بين الأمرين، وحقيقة فيهما، لكان كافيا في إخراج الظاهر من أيديهم، وإبطال ما تعلقوا به. وليس لهم أن يقولوا أن كل موضع استعملت فيه لفظة (ما) مع الفعل، وأريد بها المفعول فيه، إنما علم بدليل، والظاهر بخلافه. وذلك أنه لا فرق بينهم في هذه الدعوى وبين من عكسها، فادعى أن لفظة (ما) إذا استعملت مع الفعل وأريد بها المصدر دون المفعول فيه كانت محمولة على ذلك بالدليل، وعلى سبيل المجاز.
والظاهر بخلافه، على أن التعليل وتعلق الكلام الثاني بالأول على ما بيناه أيضا ظاهر، فيجب أن يكون مراعى. وقد بينا أيضا أنه متى حمل الكلام على ما ظنوه لم يكن الثاني متعلقا بالأول ولا تعليلا فيه، والظاهر يقتضي ذلك.
____________
(1) الشعراء الآية 45 والأعراف الآية 117.
(2) طه الآية 69.
(3) سبأ الآية 13.
|
وبعد: فإن قوله: (وما تعملون) لا يستقل بالفائدة بنفسه، ولا بد من أن يقدر محذوف، ويرجع إلى (ما) التي بمعنى (الذي)، وليس لهم أن يقدروا الهاء ليسلم ما ادعوه بأولى منا إذا قدرنا لفظة فيه، لأن كلا الأمرين محذوف، وليس تقدير أحدهما بأولى من الآخر، إلا بدليل هذا.
على أنا قد بينا أن مع تقدير الهاء يكون الكلام محتملا لما ذكرناه، كاحتماله لما ذكروه. ومع تقديرنا الذي بيناه يكون الكلام مختصا غير مشترك، فصرنا بالظاهر أولى منهم، وصار للمعنى الذي ذهبنا إليه الرجحان على معناهم. على أن معنى الآية والمقصود منها يدلان على ما ذكرناه، حتى أنا لو قدرنا ما ظنه المخالف لكان ناقضا للغرض في الآية ومبطلا لفايدتها، لأنه تعالى خبر عن إبراهيم (ع) بأنه قرعهم ووبخهم بعبادة الأصنام، واحتج عليهم بما يقتضي العدول عن عبادته. ولو كان مراده بالآية ما ظنوه من أنه تعالى خلقهم وخلق أعمالهم، وقد علمنا أن عبادتهم للأصنام من جملة أعمالهم، فكأنه قال الله تعالى: والله خلقكم وخلق عبادة أصنامكم. لوجب أن يكون عاذرا لهم ومزيلا للوم عنهم، لأن الانسان لا يذم على ما خلق فيه ولا يعاتب ولا يوبخ.
وبعد فلو حملنا الآية على ما توهموه، لكان الكلام متناقضا من وجه آخر، لأنه قد أضاف العمل إليهم بقوله (وما تعملون). وذلك يمنع من كونه خلقا لله تعالى، لأن العامل للشئ هو من أحدثه وأخرجه من العدم إلى الوجود. والخلق في هذا الوجه لا يفيد إلا هذا المعنى، فكيف يكون خالقا ومحدثا لما أحدثه غيره وعمله؟ على أن الخلق إذا كان هو التقدير في اللغة، فقد يكون الخالق خالقا لفعل غيره إذا كان مقدرا له ومدبرا. ولهذا يقولون
|
|
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم(1) عليهم السلام
تنـزيه يعقوب عن إيقاع التحاسد بين بنيه:
(مسألة) فإن قيل: فما معنى تفضيل يعقوب عليه السلام ليوسف (ع) على إخوته في البر والتقريب والمحبة، حتى أوقع ذلك التحاسد بينهم وبينه وأفضى إلى الحال المكروهة التي نطق بها القرآن، حتى قالوا على ما حكاه الله تعالى عنهم: (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين) (2) فنسبوه إلى الضلال والخطأ. وليس لكم أن تقولوا إن يعقوب (ع) لم يعلم بذلك من حالهم قبل أن يكون منه التفضيل ليوسف (ع). لأن ذلك لا بد من أن يكون معلوما منه من حيث كان في طباع البشر من التنافس والتحاسد.
(الجواب): قيل ليس فيما نطق به القرآن ما يدل على أن يعقوب عليه السلام فضله بشئ من فعله وواقع من جهته، لأن المحبة التي هي ميل الطباع ليست مما يكتسبه الانسان ويختاره، وإنما ذلك موقوف على فعل الله تعالى فيه. ولهذا ربما يكون للرجل عدة أولاد فيحب أحدهم دون غيره، وربما يكون المحبوب دونهم في الجمال والكمال. وقد قال الله تعالى:
____________
(1) قصص الأنبياء ص 119 - 122.
(2) يوسف الآية 8.
|
فإن قيل فكأنكم قد نفيتم عن يعقوب عليه السلام القبيح والاستفساد وأضفتموهما إلى الله تعالى فما الجواب عن المسألة من هذا الوجه؟.
قلنا: عنها جوابان: أحدهما لا يمتنع أن يكون الله تعالى علم أن أخوة يوسف عليه السلام سيكون بينهم ذلك التحاسد والفعل القبيح على كل حال، وإن لم يفضل يوسف (ع) عليهم في محبة أبيه له، وإنما يكون ذلك استفسادا إذا وقع عنده الفساد وارتفع عند ارتفاعه، ولم يكن تمكينا.
والجواب الآخر أن يكون ذلك جاريا مجرى التمكين (الامتحان) والتكليف الشاق، لأن هؤلاء الأخوة متى امتنعوا من حسد أخيهم والبغي عليه والإضرار به وهو غير مفضل عليهم ولا مقدم ولا يستحقونه من الثواب ما يستحقونه إذا امتنعوا من ذلك مع التقديم والتفضيل، فأراد الله تعالى منهم أن يمتنعوا على هذا الوجه الشاق. وإذا كان مكلفا على هذا الوجه فلا استفساد في تمييله بطباع أبيهم إلى محبة يوسف (ع)، لأن بذلك ينتظم هذا التكليف ويجري هذا الباب مجرى خلق إبليس، مع علمه تعالى بضلال من ضل عند خلقه، ممن لو لم يخلقه لم يكن ضالا. ومجرى زيادة الشهوة فيمن يعلم منه تعالى هذه الزيادة أنه يفعل قبيحا لولاها لم يفعله.
ووجه آخر في الجواب عن أصل المسألة: وهو أنه يجوز أن يكون يعقوب كان مفضلا ليوسف (ع) في العطاء والتقريب والترحيب والبر الذي يصل إليه من جهته، وليس ذلك بقبيح لأنه لا يمتنع أن يكون يعقوب (ع) لم يعلم أن ذلك يؤدي إلى ما أدى إليه، ويجوز أن يكون رأى من سيرة أخوته
____________
(1) النساء الآية 129.
|
فأما قولهم: إن أبانا لفي ضلال مبين. فلم يريدوا به الضلال عن الدين. وإنما أرادوا به الذهاب عن التسوية بينهم في العطية، لأنهم رأوا أن ذلك أصوب في تدبيرهم. وأصل الضلال هو العدول. وكل من عدل عن شئ وذهب عنه فقد ضل. ويجوز أيضا أن يريدوا بذلك الضلال عن الدين، لأنهم خبروا عن اعتقادهم. ويجوز أن يعتقدوا في الصواب الخطأ.
فإن قيل: كيف يجوز أن يقع من إخوة يوسف (ع) هذا الخطأ العظيم والفعل القبيح وقد كانوا أنبياء في الحال؟ فإن قلتم لم يكونوا أنبياء في تلك الحال، قيل لكم وأي منفعة في ذلك لكم وأنتم تذهبون إلى أن الأنبياء عليهم السلام لا يوقعون القبائح قبل النبوة ولا بعدها؟.
قلنا: لم تقم الحجة بأن إخوة يوسف (ع) الذين فعلوا به ما فعلوه كانوا أنبياء في حال من الأحوال، وإذا لم تقم بذلك حجة جاز على هؤلاء الأخوة من فعل القبيح ما يجوز على كل مكلف لم تقم حجة بعصمته، وليس لأحد أن يقول كيف تدفعون نبوتهم. والظاهر أن الأسباط من بني يعقوب كانوا أنبياء، لأنه لا يمتنع أن يكون الأسباط الذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الأخوة الذين فعلوا بيوسف (ع) ما قصه الله تعالى عنهم. وليس في ظاهر الكتاب أن جميع إخوة يوسف (ع) وما ساير أسباط يعقوب (ع) كادوا يوسف (ع) بما حكاه الله تعالى من الكيد. وقد قيل إن هؤلاء الأخوة في تلك الأحوال لم يكونوا بلغوا الحلم ولا توجه إليهم التكليف. وقد يقع ممن
|
تنـزيه يعقوب عن التغرير بولده:
(مسألة) فإن قيل: فلم أرسل يعقوب (ع) يوسف مع إخوته، مع خوفه عليه منهم، وقوله: (وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) (1) وهل هذا إلا تغرير به ومخاطرة؟.
(الجواب): قيل له: ليس يمتنع أن يكون يعقوب (ع) لما رأى من بنيه ما رأى من الإيمان والعهود والاجتهاد في الحفظ والرعاية لأخيهم، ظن مع ذلك السلامة وغلبة النجاة، بعد أن كان خائفا مغلبا لغير السلامة. وقوي في نفسه أن يرسله معهم إشفاقا من إيقاع الوحشة والعداوة بينهم، لأنه إذا لم يرسله مع الطلب منهم والحرص، علموا أن سبب ذلك هو التهمة لهم والخوف من ناحيتهم فاستوحشوا منه ومن يوسف (ع)، وانضاف هذا الداعي إلى ما ظنه من السلامة والنجاة، فأرسله.
تنـزيه يعقوب عن تكذيب الصادق:
(مسألة): فإن قالوا: فما معنى قولهم ليعقوب (ع): (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) (1) وكيف يجوز أن ينسبوه إلى أنه لا يصدق الصادق ويكذبه؟.
(الجواب): إنهم لما علموا على مرور الأيام بشدة تهمة أبيهم لهم وخوفه على أخيهم منهم لما كان يظهر منهم من أمارات الحسد والمنافسة، أيقنوا بأنه (ع) يكذبهم فيما أخبروا به من أكل الذئب أخاهم، فقالوا له إنك
____________
(1) يوسف الآية 13.
|
تنـزيه يعقوب عن الحزن المكروه:
(مسألة) فإن قيل: فلم أسرف يعقوب (ع) في الحزن والتهالك وترك التماسك حتى ابيضت عيناه من البكاء والحزن، ومن شأن الأنبياء عليهم السلام التجلد والتصبر وتحمل الأثقال، ولولا هذه الحال ما عظمت منازلهم وارتفعت درجاتهم؟
الجواب: قيل له إن يعقوب عليه السلام بلي وامتحن في ابنه بما لم يمتحن به أحد قبله، لأن الله تعالى رزقه مثل يوسف عليه السلام أحسن الناس وأجملهم وأكملهم عقلا وفضلا وأدبا وعفافا ثم أصيب به أعجب مصيبة وأطرفها، لأنه لم يمرض بين يديه مرضا يؤول إلى الموت فيسليه عنه تمريضه له ثم يأسه منه بالموت، بل فقده فقدا لا يقطع معه على الهلاك فييأس منه، ولا يجد إمارة على حياته وسلامته، فيرجو ويطمع. وكان متردد الفكر بين يأس وطمع، وهذا أغلظ ما يكون على الانسان وأنكأ لقلبه، وقد يرد على الانسان من الحزن ما لا يملك رده ولا يقوى على دفعه. ولهذا لم لا يكون أحدنا منهيا عن مجرد الحزن والبكاء، وإنما نهي عن اللطم والنوح، وأن يطلق لسانه فيما يسخط ربه وقد بكى نبينا صلى الله عليه وآله على ابنه إبراهيم عند وفاته. وقال: العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب، وهو القدرة في جميع الآداب والفضائل على أن يعقوب (ع) إنما أبدى من حزنه يسيرا من كثير، وكان ما يخفيه ويتصبر عليه ويغالبه أكثر وأوسع مما
____________
(1) يوسف الآية 17.
|
وبعد، فإن التجلد على المصائب وكظم الغيظ والحزن من المندوب إليه، وليس بواجب ولا لازم، وقد يعدل الأنبياء عن كثير من المندوبات الشاقة، وأن كانوا يفعلون من ذلك الكثير.
حول الرؤيا التي رآها يوسف (ع):
(مسألة) فإن قيل: كيف لم يتسل يعقوب (ع) ويخفف عنه الحزن ما يحققه من رؤيا ابنه يوسف، ورؤيا الأنبياء (ع) لا تكون إلا صادقة؟.
(الجواب) قيل له في ذلك جوابان: أحدهما أن يوسف (ع) رأى تلك الرؤيا وهو صبي غير نبي ولا موحى إليه، فلا وجه في تلك الحال للقطع على صدقها وصحتها.
والآخر أن أكثر ما في هذا الباب أن يكون يعقوب (ع) قاطعا على بقاء ابنه، وأن الأمر سيؤول فيه إلى ما تضمنته الرؤيا، وهذا لا يوجب نفي الحزن والجزع، لأنا نعلم أن طول المفارقة واستمرار الغيبة يقتضيان الحزن، مع القطع على أن المفارق باق يجوز أن يؤول حال إلى القدوم؟ وقد جزع الأنبياء عليهم السلام ومن جرى مجراهم من المؤمنين المطهرين من مفارقة أولادهم وأحبائهم، مع يقينهم بالالتقاء بهم في الآخرة والحصول معهم في الجنة.
والوجه في ذلك ما ذكرناه.
|
يوسف بن يعقوب عليهما السلام(1)
تنـزيه يوسف عن الصبر على الاستعباد:
مسألة: فإن قيل: كيف صبر يوسف عليه السلام على العبودية، ولم لم ينكرها ويبرأ من الرزق، وكيف يجوز على النبي الصبر على أن يستعبد ويسترق؟
(الجواب) قيل له: إن يوسف عليه السلام في تلك الحال لم يكن نبيا على ما قاله كثير من الناس، ولما خاف على نفسه القتل جاز أن يصبر على الاسترقاق. ومن ذهب إلى هذا الوجه يتناول قوله تعالى: (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) (2). على أن الوحي لم يكن في تلك الحال، بل كان في غيرها. ويصرف ذلك إلى الحال المستقبلة المجمع على أنه كان فيها نبيا.
ووجه آخر: وهو أن الله تعالى لا يمتنع أن يكون أمره بكتمان أمره والصبر على مشقة العبودية امتحانا وتشديدا في التكليف، كما امتحن أبويه إبراهيم وإسحق عليهما السلام، أحدهما بنمرود، والآخر بالذبح.
____________
(1) قصص الأنبياء ص 120 و 138 - 144.
(2) يوسف الآية 15.
|
ووجه آخر: وهو أن قوما قالوا أنه خاف القتل، فكتم أمر نبوته وصبر على العبودية. وهذا جواب فاسد لأن النبي (ع) لا يجوز أن يكتم ما أرسل به خوفا من القتل، لأنه يعلم أن الله تعالى لم يبعثه للأداء إلا وهو عاصم له من القتل حتى يقع الأداء وتسمع الدعوة، وإلا لكان ذلك نقضا للغرض.
(مسألة): فإن قيل: فما تأويل قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز (ولقد همت به وهم بها لولا أن رآى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين) (1).
(الجواب): إن الهم في اللغة ينقسم إلى وجوه: منها العزم على الفعل كقوله تعالى: (إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) (2) أي أرادوا ذلك وعزموا عليه.
قال الشاعر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني | تركت على عثمان تبكي حلائله |
ومثله قول الخنساء:
وفضل مرداسا على الناس حلمه | وإن كل هم همه فهو فاعله |
ومثله قول حاتم الطائي:
ولله صلعوك يساور همه | ويمضي على الأيام والدهر مقدما |
ومن وجوه الهم، خطور الشئ بالبال وإن لم يقع العزم عليه. قال الله
____________
(1) يوسف الآية 24.
(2) المائدة الآية 11.
|
فكم فيهم من سيد متوسع | ومن فاعل للخير إن هم أو عزم |
ففرق كما ترى بين الهم والعزم. وظاهر التفرقة قد يقتضي اختلاف المعنى.
ومن وجوه الهم أن يستعمل بمعنى المقاربة، فيقولون هم بكذا وكذا أي كاد أن يفعله. قال ذو الرمة:
أقول لمسعود بجرعاء مالك | وقد هم دمعي أن يلج أوائله |
والدمع لا يجوز عليه العزم، وإنما أراد أنه كاد وقرب.
وقال أبو الأسود الدؤلي:
وكنت متى تهمم يمينك مرة | لتفعل خيرا تقتفيها شمالكا |
وعلى هذا خرج قوله تعالى جدارا يريد أن ينقض أي يكاد.
قال الحارثي:
يريد الرمح صدر أبي براء | ويرغب عن دماء بني عقيل |
____________
(1) آل عمران 122.
(2) الأنفال الآية 16.
|
فإذا كانت وجوه هذه اللفظة مختلفة متسعة على ما ذكرناه نفينا عن نبي الله ما لا يليق به وهو العزم على القبيح، وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله.
فإن قيل: فهل يسوغ حمل الهم في الآية على العزم والإرادة؟ ويكون مع ذلك لها وجه صحيح يليق بالنبي (ع)؟.
قلنا: نعم، متى حملنا الهم ههنا على العزم، جاز أن نعلقه بغير القبيح ويجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه، كما يقول القائل: قد كنت هممت بفلان، أي بأن أوقع به ضربا أو مكروها.
تنـزيه يوسف عن العزم على المعصية:
فإن قيل: فأي فائدة على هذا التأويل في قوله تعالى: (لولا أن رأى برهان ربه) والدفع لها عن نفسه طاعة لا يصرف البرهان عنها؟.
قلنا: يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها، أراه الله تعالى برهانا على أنه إن أقدم على من هم به أهلكه أهلها وقتلوه، أو أنها تدعي عليه المراودة على القبيح، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر الله تعالى أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء اللذين هما القتل والمكروه، أو ظن القبيح به أو اعتقاده فيه.