الكلام، ويكون التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بضربها، وتقدم جواب (لولا) قبيح، أو يقتضي أن يكون (لولا) بغير جواب.
قلنا: أما جواب (لولا) فجائز مستعمل، وسنذكر ذلك فيما نستأنفه من الكلام عند الجواب المختص بذلك، ونحن غير مفتقرين إليه في جوابنا هذا، لأن العزم على الضرب والهم به قد وقع، إلا أنه انصرف عنه بالبرهان الذي رآه، ويكون تقدير الكلام وتلخيصه: " ولقد همت به وهم بدفعها لولا أن رأى برهان ربه لفعل ذلك ". فالجواب المتعلق بلولا محذوف في الكلام، كما يحذف الجواب في قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم)، معناها: ولولا فضل الله عليكم ورحمته، وأن الله رؤوف رحيم لهلكتم، ومثله (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم) (1) معناها لو تعلمون علم اليقين لم تتنافسوا في الدنيا ولم تحرصوا على حطامها.
وقال امرؤ القيس:
فلو أنها نفس تموت سوية | ولكنها نفس تساقط أنفسا |
أراد فلو أنها نفس تموت سوية لتقضت وفنيت، فحذف الجواب تعويلا على أن الكلام يقتضيه ويتعلق به.
على أن من حمل هذه الآية على الوجه الذي لا يليق بنبي الله، وأضاف العزم على المعصية إليه، لا بد له من تقدير جواب محذوف.
ويكون التقدير على تأويله: ولقد همت بالزنى وهم بمثله، لولا أن رأى برهان ربه لفعله.
فإن قيل: متى علقتم العزم في الآية والهم بالضرب أو الدفع كان ذلك مخالفا للظاهر.
____________
(1) التكاثر 5 - 6.
|
(ولقد همت به وهم بها) فتعلق الهم في ظاهر الكلام بذواتهما، والذات الموجودة الباقية لا يصح أن تراد ويعزم عليها، فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به مما يرجع إليهما ويختصان به ورجوع الضرب والدفع إليهما كرجوع ركوب الفاحشة فلا ظاهر للكلام يقتضي خلاف ما ذكرناه، ألا ترى أن القائل إذا قال: قد هممت بفلان فظاهر الكلام يقتضي تعلق عزمه وهمه إلى أمر يرجع إلى فلان، وليس بعض الأفعال بذلك أولى من بعض، فقد يجوز أن يريد أنه هم بقصده أو بإكرامه أو بإهانته أو غير ذلك من ضروب الأفعال، على أنه لو كان للكلام ظاهر يقتضي خلاف ما ذكرناه، وإن كنا قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك لجاز أن نعدل عنه ونحمله على خلاف الظاهر، للدليل العقلي الدال على تنزيه الأنبياء عليهم السلام عن القبائح.
فإن قيل: الكلام في قوله تعالى: (ولقد همت به وهم بها) خرج مخرجا واحدا. فلم جعلتم همها به متعلقا بالقبح؟ وهمه بها متعلقا بالضرب والدفع على ما ذكرتم؟
قلنا: أما الظاهر، فلا يدل الأمر الذي تعلق به الهم والعزم منهما جميعا، وإنما أثبتنا همها به متعلقا بالقبيح لشهادة الكتاب، والآثار بذلك.
وهى ممن يجوز عليها فعل القبيح، ولم يؤمن دليل ذلك من جوازه عليها كما أمن ذلك فيه (ع)، والموضع إلى يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى:
(وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين) (1) وقوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) (1) وقوله تعالى حاكيا عنها (الآن حصحص الحق أنا راودته عن
____________
(1) يوسف الآية 30.
(2) يوسف الآية 23.
|
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) (3) وقوله تعالى (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) (4) ولو كان الأمر كما قال الجهال من جلوسه منها مجلس الخائن وانتهائه إلى حل السراويل وحوشي من ذلك، لم يكن السوء والفحشاء منصرفين عنه، ولكان خائنا بالغيب، وقوله تعالى حاكيا عنها:
(ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) (5) وفي موضع آخر: (أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وقول العزيز لما رأى القميص قد من دبر (إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) (6) فنسب الكيد إلى المرأة دونه، وقوله تعالى حاكيا عن زوجها لما وقف على أن الذنب منها وبراءة يوسف (ع) منه: (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) (7) وعلى مذهبهم الفاسد أن كل واحد منهما مخطئ فيجب أن يستغفر فلم اختصت بالاستغفار دونه، وقوله تعالى حاكيا عنه: (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين فاستجاب له ربه
____________
(1) يوسف الآية 51.
(2) يوسف الآية 32.
(3) يوسف 24.
(4) يوسف 52.
(5) يوسف 32.
(6) يوسف 28.
(7) يوسف 29.
|
قلنا: إنما أراد الدعاء والمنازعة والشهوة ولم يرد العزم على المعصية، وهو لا يبرئ نفسه مما لا تعرى منه طباع البشر. وفي ذلك جواب آخر اعتمده أبو علي الجبائي واختاره، وإن كان قد سبق إليه جماعة من أهل التأويل وذكروه، وهو أن هذا الكلام الذي هو " وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء " إنما هو من كلام المرأة لا من كلام يوسف عليه السلام.
واستشهدوا على صحة هذا التأويل بأنه منسوق على الكلام المحكي عن المرأة بلا شك. ألا ترى أنه تعالى قال: (قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق (5) أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) (6) فنسق الكلام على كلام المرأة وعلى هذا التأويل يكون التبرؤ من الخيانة الذي هو ذلك " ليعلم إني لم أخنه بالغيب " من كلام المرأة لا من كلام يوسف (ع) ويكون المكنى عنه في قولها (إني لم أخنه بالغيب) هو
____________
(1) يوسف 33 - 34.
(2) يوسف 51.
(3) يوسف 54.
(4) يوسف 53.
(5) حصحص الحق: بأن بعد كتمانه.
(6) يوسف الآية 51 - 53.
|
فإن قيل: فأي معنى لسجنه إذا كان عند القوم متبرئا من المعصية متنزها عن الخيانة قلنا: قد قيل إن العلة في ذلك الستر على المرأة والتمويه والكتمان لأمرها حتى لا تفتضح وينكشف أمرها لكل أحد، والذي يشهد بذلك قوله تعالى:
(ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين) (1) وجواب آخر في الآية على أن الهم فيها هو العزم، وهو أن يحمل الكلام على التقديم والتأخير، ويكون تلخيصه " ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها " ويجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لولا أن تداركتك، وقتلت لولا أني قد خلصتك. والمعنى لولا تداركي لهلكت ولولا تخليصي لقتلت، وإن لم يكن وقع في هلاك ولا قتل. قال الشاعر:
ولا يدعني قومي صريخا لحرة | لئن كنت مقتولا ويسلم عامر |
وقال الآخر:
فلا يدعني قومي ليوم كريهة | لئن لم اعجل طعنه أو اعجل |
فقدم جواب لئن في البيتين جميعا. وقد استبعد قوم تقديم جواب لولا عليها، وقالوا لو جاز ذلك لجاز قولهم، قام زيد لولا عمرو، وقصدتك لولا بكر. وقد بينا بما أوردناه من الأمثلة والشواهد جواز تقديم جواب لولا، وأن القائل قد يقول قد كنت قمت لولا كذا وكذا، وقد كنت قصدتك لولا أن
____________
(1) يوسف الآية 35.
|
وبعد، فإن في الكلام شرطا وهو قوله تعالى: (لولا أن رأى برهان ربه)، فكيف يحمل على الإطلاق مع حصول الشرط؟ فليس لهم أن يجعلوا جواب لولا محذوفا، لأن جعل جوابها موجودا أولى. وليس تقديم جواب لولا بأبعد من حذفه جملة من الكلام. وإذا جاز عندهم الحذف لئلا يلزم تقديم الجواب جاز لغيرهم تقديم الجواب حتى لئن لا يلزم الحذف.
فإن قيل: فما البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام حتى انصرف لأجله عن المعصية، وهل يصح أن يكون البرهان ما روي من أن الله تعالى أراه صورة أبيه يعقوب (ع) عاضا على إصبعه متوعدا له على مقاربة المعصية، أو يكون ما روي من أن الملائكة نادته بالنهي والزجر في الحال فانزجر.
قلنا: ليس يجوز أن يكون البرهان الذي رآه فانزجر به عن المعصية ما ظنه العامة من الأمرين اللذين ذكرناهما، لأن ذلك يفضي إلى الالجاء وينافي التكليف ويضاد المحنة، ولو كان الأمر على ما ظنوه لما كان يوسف عليه السلام يستحق بتنزيهه عما دعته إليه المرأة من المعصية مدحا ولا ثوابا، وهذا من أقبح القول فيه (ع)، لأن الله تعالى قد مدحه بالامتناع عن المعصية وأثنى عليه بذلك فقال تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)، فأما البرهان، فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزه عنها، وهو الذي يقتضي كونه معصوما لأن العصمة هي ما اختير (ما اختار) عنده من الألطاف، التنزه عن القيح والامتناع من فعله. ويجوز أن يكون معنى الرؤية ههنا بمعنى العلم، كما يجوز أن يكون بمعنى الادراك، لأن كلا الوجهين يحتمله القول.
|
تنـزيه يوسف عن محبة المعصية:
(مسألة): فإن قيل: كيف يجوز أن يقول يوسف (ع): (رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه)، ونحن نعلم أن سجنهم له معصية ومحنة، كما أن ما دعوه إليه معصية، ومحبة المعصية عند كم لا تكون إلا قبيحة.
(الجواب): قلنا: في تأويل هذه الآية جوابان:
أحدهما: إنه أراد بقوله (أحب إلي) أخف علي وأسهل، ولم يرد المحبة التي هي الإرادة على الحقيقة. وهذا يجري مجرى أن يخير أحدنا بين الفعلين ينزلان به ويكرههما ويشقان (1) عليه، فيقول في الجواب كذا أحب إلي، وإنما يريد ما ذكرناه من السهولة والخفة.
والوجه الآخر: إنه أراد أن توطيني نفسي وتصبيري لها على السجن أحب إلي من مواقعة المعصية.
فإن قيل: هذا خلاف الظاهر لأنه مطلق وقد أضمرتم فيه.
قلنا: لا بد من مخالفة الظاهر، لأن السجن نفسه لا يجوز أن يكون مرادا ليوسف (ع)، وكيف يريده وإنما السجن البنيان المخصوص، وإنما يكون الكلام ظاهره يخالف ما قلناه، إذا قرأ: رب السجن (بفتح السين) وإن كانت هذه القراءة أيضا محتملة للمعنى الذي ذكرناه، فكأنه أراد أن سجني نفسي عن المعصية أحب إلي من مواقعتها. فرجع معنى السجن إلى
____________
(1) ويشقان: بمعنى يثقلان.
|
فإن قيل: كيف يقول السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وهو لا يحب ما دعوه إليه على وجه من الوجوه، ومن شأن هذه اللفظة أن تستعمل بين شيئين مشتركين في معناها.
قلنا: قد تستعمل هذه اللفظة فيما لا اشتراك فيه، ألا ترى أن من خير بين ما يكرهه وما يحبه ساغ له أن يقول: هذا أحب إلي من هذا، وإن يخير هذا أحب إلي من هذا، إذا كان في محبته، وإنما سوغ ذلك على أحد الوجهين دون الآخر، لأن المخير بين الشيئين في الأصل لا يخير بينهما إلا وهما مرادان له أو مما يصح أن يريدهما. فموضوع التخيير يقتضي ذلك، وإن حصل فيما يخالف أصل موضوعه. ومن قال وقد خير بين شيئين لا يحب أحدهما: هذا أحب إلي، إنما يكون مجيبا بما يقتضيه أصل الموضوع في التخيير، ويقارب ذلك قوله تعالى (قل أذلك خير أم جنة الخلد) (1) ونحن نعلم أنه لا خير في العقاب، وإنما حسن القول لوقوعه التقريع والتوبيخ على اختيار المعاصي على الطاعات. وأنهم ما أثروها إلا لاعتقادهم أن فيها خيرا ونفعا. فقيل أذلك خير على ما تظنوه وتعتقدونه أم كذا وكذا، وقد قال قوم في قوله تعالى: (أذلك خير): أنه إنما حسن لاشتراك الحالتين في باب المنزلة، وإن لم يشتركا في الخير والنفع كما قال تعالى: (خير مستقرا وأحسن مقيلا) (2) ومثل هذا المعنى يتأتى في قوله:
رب السجن أحب إلي، لأن الأمرين يعني: المعصية ودخول السجن،
____________
(1) الفرقان الآية 15.
(2) الفرقان 24.
|
فإن قيل: كيف يقول وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن واكن من الجاهلين؟ وعندكم أن امتناع القبيح منه (ع) ليس مشروط بارتفاع الكيد عنه بل هو ممتنع منه وإن وقع الكيد.
قلنا أنما أراد يوسف (ع) إنك متى لم تلطف بي لما تدعوني إلى مجانبة الفاحشة وتثبتني على تركها صبوت، وهذا منه انقطاع إلى الله تعالى وتسليم لأمره، وأنه لولا معونته ولطفه ما نجي من الكيد، والكلام وإن تعلق في الظاهر بالكيد نفسه فقال (ع) (وإلا تصرف عني كيدهن) فالمراد به إلا تصرف عني ضرر كيدهن لأنهن إنما أجرين بالكيد إلى مساعدته لهن على المعصية، فإذا عصم منها ولطف له في الانصراف عنها كان الكيد مصروفا عنه من حيث لم يقع ضرره، وما أجري به إليه، ولهذا يقال لمن أجرى بكلامه إلى غرض لم يقع ما قلت شيئا. ولمن فعل ما لا تأثير له: ما فعلت شيئا. وهذا بين والحمد الله تعالى.
تنـزيه يوسف (ع) عن التعويل على غير الله:
(مسألة): فإن قيل: كيف يجوز على يوسف عليه السلام وهو نبي مرسل أن يعول في إخراجه من السجن على غير الله تعالى ويتخذ سواه وكيلا في ذلك، في قوله للذي كان معه: (أذكرني عند ربك) حتى وردت الروايات إن سبب طول حبسه (ع) إنما كان لأنه عول على غير الله تعالى؟.
(الجواب): قلنا: إن سجنه (ع) إذا كان قبيحا ومنكرا فعليه أن يتوصل إلى إزالته بكل وجه وسبب، ويتشبث إليه بكل ما يظن أنه يزيله عنه، ويجمع فيه بين الأسباب المختلفة، فلا يمتنع على هذا أن يضم إلى دعائه
|
تنـزيه يوسف عن إلحاق الأذى بأبيه:
(مسألة): فإن قيل: فما الوجه في طلب يوسف (ع) أخاه من إخوته ثم حبسه له عن الرجوع إلى أبيه مع علمه بما يلحقه عليه من الحزن، وهل هذا إلا إضرارا به وبأبيه؟.
(الجواب): قلنا: الوجه في ذلك ظاهر لأن يوسف (ع) لم يفعل ذلك إلا بوحي من الله إليه، وذلك امتحان منه لنبيه يعقوب عليه السلام وابتلاء لصبره، وتعريض للعالي من منزلة الثواب، ونظير لك امتحانه له (ع) بأن صرف عنه خبر يوسف (ع) طول تلك المدة حتى ذهب بالبكاء عليه، وإنما أمرهم يوسف (ع) بأن يلطفوا بأبيهم في إرساله من غير أن يكذبوه ويخدعوه.
فإن قيل: أليس قد قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون، والمراودة هي الخداع والمكر.
قلنا: ليس المراودة ما ظننتم، بل هي التلطف والتسبب والاحتيال، وقد يكون ذلك من جهة الصدق والكذب جميعا، فإنما أمرهم بفعله على أحسن الوجوه فإن خالفوه فلا لوم إلا عليهم.
تنـزيه يوسف عن الكذب وتهمة إخوته:
(مسألة): فإن قيل: فما معنى جعل السقاية في رحل أخيه وذلك
|
(الجواب): قلنا: أما جعله السقاية في رحل أخيه، فالغرض فيه التسبب إلى احتباس أخيه عنده، ويجوز أن يكون ذلك بأمر الله تعالى، وقد روي أنه (ع) أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسك به، فقد خرج على هذا القول من أن يكون مدخلا على أخيه غما وترويعا بما جعله من السقاية في رحله، وليس بمعرض له للتهمة بالسرقة، لأن وجود السقاية في رحله يحتمل وجوها كثيرة غير السرقة، وليس يجب صرفه إليها إلا بدليل.
وعلى من صرف ذلك إلى السرقة من غير طريق اللوم في تقصيره وتسرعه، ولا ظاهر أيضا لوجود السقاية في الرحل يقتضي السرقة، لأن الاشتراك في ذلك قائم، وقرب هذا الفعل من سائر الوجوه التي يحتملها على حد واحد.
فأما نداء المنادي بأنهم سارقون فلم يكن بأمره (ع)، وكيف يأمر بالكذب وإنما نادى بذلك أحد القوم لما فقدوا الصواع، وسبق إلى قلوبهم أنهم سرقوه، وقد قيل إن المراد بأنهم سارقون أنهم سرقوا يوسف (ع) من أبيه وأوهموه أنهم يحفظونه فضيعوه، فالمنادي صادق على هذا الوجه، ولا يمتنع أن يكون النداء بإذنه (ع). غير أن ظاهر القصة واتصال الكلام بعضه ببعض يقتضي أن يكون المراد بالسرقة سرقة الصواع الذي تقدم ذكره وأحسوا فقده، وقد قيل إن الكلام خارج مخرج الاستفهام، وإن كان ظاهره الخبر كأنه قال: (إنكم لسارقون) فاسقط ألف الاستفهام كما سقطت في مواضع قد تقدم ذكرها في قصة إبراهيم (ع). وهذا الوجه فيه بعض الضعف لأن ألف الاستفهام لا تكاد تسقط إلا في موضع يكون على سقوطها دلالة في الكلام، مثل قول الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط | غلس الظلام من الرباب خيالا |
|
تنـزيه يوسف (ع) عن تعمده بعدم تسكين نفس أبيه:
(مسألة): فإن قيل: فما بال يوسف (ع) لم يعلم أباه بخبره لتسكن نفسه ويزول وجده وهمه مع علمه بشدة تحرقه وعظم قلقه؟.
(الجواب): قلنا في ذلك وجهان:
أحدهما: إن ذلك كان له ممكنا وكان عليه قادرا، فأوحى الله تعالى إليه بأن يعدل عن اطلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه وتعريضا للمنزلة الرفيعة في البلوى وله تعالى أن يصعب التكليف وأن يسهله.
والوجه الآخر: إنه جائز أن يكون (ع) لم يتمكن من ذلك ولا قدر عليه فلذلك عدل عنه.
تنـزيه يوسف (ع) عن الرضا بالسجود له:
(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) (1) وكيف يرضى بأن يسجدوا له والسجود لا يكون إلا لله تعالى؟.
(الجواب): قلنا في ذلك وجوه:
منها: أن يكون تعالى لم يرد بقوله إنهم سجدوا له إلى جهته، بل سجدوا لله تعالى من أجله، لأنه تعالى جمع بينهم وبينه، كما يقول القائل:
إنما صليت لوصولي إلى أهلي، وصمت لشفائي من مرضي. وإنما يريد من أجل ذلك.
فإن قيل: هذا التأويل يفسده قوله تعالى: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا) (2)
____________
(1) يوسف الآية 100.
(2) يوسف الآية 100.
|
ومنها: أن يكون السجود لله تعالى، غير أنه كان إلى جهة يوسف (ع) ونحوه، كما يقال: صلى فلان إلى القبلة وللقبلة. وهذا لا يخرج يوسف (ع) من التعظيم، ألا ترى أن القبلة معظمة وإن كان السجود لله تعالى نحوها.
ومنها: أن السجود ليس يكون بمجرده عبادة حتى يضاف إليه من الأفعال ما يكون عبادة، فلا يمتنع أن يكون سجدوا له على سبيل التحية والاعظام والاكرام، ولا يكون ذلك منكرا لأنه لم يقع على وجه العبادة التي يختص بها القديم تعالى وكل هذا واضح.
تنـزيه يوسف (ع) عن طاعة الشيطان:
(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله تعالى حكاية عنه (ع) من بعد أن نزغ الشيطان (1) بيني وبين أخوتي، وهذا يقتضي أن يكون قد أطاع الشيطان ونفذ فيه كيده ونزغه؟.
____________
(1) نزع الشيطان بينهم: أغرى بعضهم على بعض.
|
(مسألة): فإن قيل: فما معنى قوله عليه السلام للعزيز (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) (1) وكيف يجوز أن يطلب الولاية من قبل الظالمين.
(الجواب): قلنا إنما التمس تمكينه من خزائن الأرض ليحكم فيها بالعدل وليصرفها إلى مستحقها، وكان ذلك له من غير ولاية. وإنما سئل الولاية للتمكن من الحق الذي له أن يفعله. ولمن لا يتمكن من إقامة الحق أو الأمر بالمعروف أن يتسبب إليه ويتصل إلى فعله، فلا لوم في ذلك على يوسف عليه السلام ولا حرج.
____________
(1) يوسف الآية 55.
|
أيوب عليه السلام
في أن أيوب عذب امتحانا ولم يعاقب:
(مسألة): فإن قيل: فما قولكم في الأمراض والمحن التي لحقت أيوب (ع) أوليس قد نطق القرآن بأنها كانت جزاء على ذنب في قوله:
(إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) والعذاب لا يكون إلا جزاء كالعقاب والآلام الواقعة على سبيل الامتحان لا تسمى عذابا ولا عقابا، أوليس قد روى جميع المفسرين أن الله تعالى إنما عاقبه بذلك البلاء لتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصته مشهورة يطول شرحها؟.
(الجواب): قلنا: أما ظاهر القرآن فليس يدل على أن أيوب عليه السلام عوقب بما نزل به من المضار، وليس في ظاهره شئ مما ظنه السائل، لأنه تعالى قال: (واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب) (1) والنصب هو التعب، وفيه لغتان بفتح النون والصاد، وضم النون وتسكين الصاد. والتعب هو المضرة التي لا تختص بالعقاب، وقد تكون على سبيل الامتحان والاختبار. وأما العذاب فهو أيضا يجري مجرى المضار التي يختص إطلاق ذكرها بجهة دون جهة. ولهذا يقال للظالم والمبتدئ بالظلم أنه معذب ومضر ومؤلم، وربما قيل معاقب على
____________
(1) ص الآية 41.
|
(وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين) (1) فلا ظاهر لها أيضا يقتضي ما ذكروه، لأن الضر هو الضرر الذي قد يكون محنة كما يكون عقوبة.
فأما ما روي في هذا الباب عن جملة (جهلة) المفسرين فمما لا يلتفت إلى مثله، لأن هؤلاء لا يزالون يضيفون إلى ربهم تعالى وإلى رسله عليهم السلام كل قبيح ومنكر، ويقذفونهم بكل عظيم. وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمله المتأمل علم أنه موضوع الباطل مصنوع، لأنهم رووا أن الله تعالى سلط إبليس على مال أيوب عليه السلام وغنمه وأهله، فلما أهلكهم ودمر عليهم ورأى من صبره (ع) وتماسكه، قال إبليس لربه يا رب إن أيوب قد علم أنك ستخلف عليه ماله وولده فسلطني على جسده، فقال تعالى قد
____________
(1) الآية (83 - 84) من سورة الأنبياء.
|
فأما هذه الأمراض العظيمة النازلة بأيوب عليه السلام فلم تكن إلا اختبارا وامتحانا وتعريضا للثواب بالصبر عليها والعوض العظيم النفيس في مقابلتها، وهذه سنة الله تعالى في أصفيائه وأوليائه عليهم السلام. فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وآله أنه قال وقد سئل أي الناس أشد بلاء فقال:
" الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس " فنظهر من صبره (ع) على محنته وتماسكه ما صار به إلى الآن مثلا، حتى روي أنه كان في خلال ذلك كله صابرا شاكرا محتسبا ناطقا بما له فيه المنفعة والفايدة، وأنه ما سمعت له شكوى ولا تفوه بتضجر ولا تبرم، فعوضه الله تعالى مع نعيم الآخرة العظيم الدائم أن رد عليه ماله وأهله وضاعف عددهم في قوله تعالى:
(وآتيناه أهله ومثلهم معهم) وفي سورة ص (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم) (1)، ثم مسح ما به من العلل وشفاه وعافاه وأمره على ما وردت به الرواية، بأن أركض برجلك الأرض فظهرت له عين فاغتسل منها فتساقط ما كان على جسده من الداء. قال الله تعالى: (أركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) (2) والركض هو التحريك ومنه ركضت الدابة.
فإن قيل، أفتصححون ما روي أن الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟.
____________
(1) ص الآية 43.
(2) ص الآية 42.
|
فإن قيل: أفتقولون أن الغرض مما ابتلي به أيوب عليه السلام كان الثواب أو العوض أو هما على الاجتماع؟.
وهل يجوز أن يكون ما في هذه الآلام من المصلحة واللطف حاصلا في غيرها مما ليس بألم أم تمنعون من ذلك؟.
قلنا: أما الآلام التي يفعلها الله تعالى لا على سبيل العقوبة فليس يجوز أن يكون
غرضه عز وجل فيها العوض من حيث كان قادرا على أن يبتدي بمثل العوض، بل الغرض فيها
المصلحة وما يؤدي إلى استحقاق الثواب. فالعوض تابع والمصلحة أصل، وإنما يخرج بالعوض
من أن يكون ظلما وبالغرض من أن يكون عبثا، فأما الألم، إذا كان فيه مصلحة ولطف،
وهناك في المعلوم ما يقوم مقامه فيهما، إلا أنه ليس بألم. إما بأن يكون لذة أوليس
بألم ولا لذة، ففي الناس من ذهب إلى أن الألم لا يحسن في هذا الموضع، وإنما يحسن
بحيث لا يقوم مقامه ما ليس بألم في المصلحة، والصحيح أنه حسن. والله تعالى مخير في
فعل أيهما شاء، والدليل على صحة ما ذكرناه أنه لو قبح والحال هذه، لم يخل من أن
يكون إنما قبح من حيث كان ظلما أو من حيث كان عبثا. ومعلوم أنه ليس بظلم، لأن العوض
الزايد العظيم الذي يحصل عليه يخرجه من كونه ظلما. وليس أيضا بعبث لأن العبث هو ما
لا غرض فيه، أو ما ليس فيه غرض مثله. وهذا الألم فيه