وقوله صلى الله عليه وآله: " أقضاكم علي ". (1) وقوله صلى الله عليه وآله: " علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار " (2).
وقول أمير المؤمنين عليه السلام: " بعثني رسول الله إلى اليمن، فقلت أتبعثني وأنا شاب لا علم لي بكثير من الأحكام؟ فضرب بيده على صدري وقال: اللهم اهد قلبه، وثبت لسانه، فما شككت في قضاء بين اثنين " (3) وليس يجوز أن يكون أقضى الأمة، ومن الحق معه في كل حال، ومن هو باب العلم والحكمة (4) يرجع إلى غيره في الأحكام، وليس يرجع
____________
(1) أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب 3 / 38، والقاضي الإيجي في المواقف 3 / 276 ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، / 235، وأخرجه المحب في الرياض 2 / 298 والخوارزمي في المناقب ص 50 وفي فتح الباري 8 / 136 بلفظ (أقضى أمتي علي).
(2) هذا الحديث أخرجه جمع من الحفاظ والأعلام منهم الخطيب في تاريخ بغداد 14 / 321، والهيثمي في مجمع الزوائد 7 / 236، والرازي في تفسيره 1 / 111 عند كلامه على الجهر بالبسملة، والكنجي في الكفاية ص 135 وانظر الغدير للأميني ج 3 من ص 177 فما بعدها، والعجب من ابن تيمية يقول في هذا الحديث: " حديث إن رسول الله قال (علي مع الحق، والحق يدور معه حيث دار... الحديث " فإن هذا الحديث من أعظم الكلام كذبا وجهلا، ولم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وآله لا بإسناد صحيح ولا ضعيف " إلى أن قال " ولو قيل رواه بعضهم وكان يمكن صحته لكان ممكنا وهو كذب قطعا على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كلام ينزه عنه رسول الله، منهاج السنة ج 2 / 167!.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند ج 2 ح 636 و 666 و 690 و 882 و 1145 و 1281 و 1282 و 1341 وأبو داود في السنن 3 / 301، والشهرستاني في الملل والنحل 1 / 202.
(4) روى أبو نعيم في الحلية 1 / 65 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءا واحدا).
|
والظاهر المعلوم خلاف ما ادعاه صاحب الكتاب أنه لا اختلاف بين أهل النقل في رجوع من تولى الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله في معضلات الأحكام، ومشتبهات الأمور إليه وأنهم كانوا يستضيئون برأيه، ويستمدون من علمه.
وقول عمر: " لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو حسن ".
وقوله: " لولا علي لهلك عمر " معروف (3).
فكيف يسوغ لصاحب الكتاب أن يعكس الأمر ويقلبه، ويجعل ما هو ظاهر من الافتقار إليه - صلوات الله عليه - والرجوع إلى فتاويه وأحكامه رجوعا منه إلى غيره؟ وهذه مكابرة لا تخفى على أحد.
____________
(1) يعني في الحاجة إلى غيره.
(2) يغرب: يبعد، وفي نسخة يعزب والمعنى واحد.
(3) رواه بهذا اللفظ جماعة من العلماء منهم ابن عبد البر في الاستيعاب 3 / 39 والمحب في الرياض 2 / 325 والخوارزمي في المناقب ص 48 والسبط في التذكرة ص 67 والشافعي في مطالب السؤول ص 30 طبعة إيران على الحجر، ورواه القسطلاني في إرشاد الساري ج 3 / 162 في كتاب الحج باب ما ذكر في الحجر الأسود بهذا اللفظ (لا أبقاني الله بأرض لست فيها يا أبا الحسن) ورواها السبط في التذكرة 67 (اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب) ورواها ابن كثير في التاريخ 7 / 359 بلفظ: (أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها) وأخرجها المحب في الرياض 2 / 194 عن ابن البختري هكذا (اللهم لا تنزل بي شديدة إلا وأبو حسن إلى جنبي) وغيرهم وغيرهم ولا شك أنه قالها غير مرة وفي أكثر من موطن.
|
ولو ذكر صاحب الكتاب شيئا يمكن أن يكون شبهة في الرجوع عن المذهب، والتنقل في الآراء لبينا كيف القول فيه.
وأما تركه عليه السلام الإنكار على من لا يتبع قوله فقد بينا أن النكير على ضروب، وأنه عليه السلام كان يستعمل مع مخالفيه في الأحكام ما يجب استعماله في مثلها من المناظرة والدعاء (1).
وليس يجب أن يجري كل خلاف مجرى الخلاف في اتباع قول الرسول صلى الله عليه وآله، إن أريد بالخلاف - أيضا - الواقع على طريق الشك في نبوته، وإن أريد ما يقع من الخلاف على طريق دخول الشبهة في مراده أو في ثبوت أمره بالشئ أو نهيه عنه فقد يجوز أن يستعمل في هذا الضرب من الخلاف - يعني الثاني - المناظرة والدعاء الجميل دون غيره.
بل عندنا أن كل من خالفه عليه السلام في الأحكام هذه صورته في أنه راد لقول النبي صلى الله عليه وآله من حيث لا يعلم.
قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، قالوا: قد ثبت أنه لا بد من إمام يقوم بإقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وقسمة الفئ، وحفظ البيضة، إلى غير ذلك، وأن قيامة بذلك لا بد منه، وإن لم نقل أنه يحفظ الشرع، ومعلوم من هذه الأمور أنها لا يجوز أن توكل إلى من يجوز عليه فيها الغلط، لأنها من باب الدين، فتجويز الغلط فيها كتجويز الغلط في سائر الشرائع، وذلك لا يصح إلا بأن يكون معصوما يؤمن سهوه وغلطه، وليس بعض الأئمة بذلك أولى من بعض، لأن العلة واحدة.
____________
(1) أي الدعوة إلى الله تعالى.
|
ونحن نبين عنه، ويمكن أن يتعلق بمعنى هذه الطريقة على ضرب من الترتيب في الدلالة على وجوب عصمة الإمام.
فيقال: قد ثبت عندنا وعند مخالفينا أنه لا بد من إمام في الشريعة يقوم بالحدود وتنفيذ الأحكام، وإن اختلفنا في علة وجوب الإمامة، واعتمدنا في وجوبها على طريقة، واعتمدوا على أخرى، وإذا ثبت ذلك وجبت عصمته، لأنه لو لم يكن معصوما وهو إمام فيما قام به من الدين الذي من جملته إقامة الحدود وغيرها وواجب علينا الاقتداء به من حيث قال وفعل لجاز وقوع الخطأ منه في الدين، ولكنا إذا وقع منه ذلك مأمورين باتباعه فيه، والاقتداء به في فعله، وهذا يؤدي إلى أن نكون مأمورين بالقبيح على وجه من الوجوه، وإذا فسد أن نكون مأمورين بالقبيح وجب
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 74.
(2) أي أن الخطاب موجه إلى الأمة بإقامة الحدود كما هو موجه إليهم في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
|
وليس لأحد أن يقول: إنما أمرنا باتباع الإمام والاقتداء به فيما علمنا صوابه من جهة غيره فنحن نتبعه في الذي نعلمه صوابا، وإذا أخطأ في بعض الدين لم نتبعه، لأن هذا لو كان صحيحا لوجب أن لا يكون بين الإمام وبين رعيته مزية في معنى الاقتداء به والائتمام، بل اليهود والنصارى والزنادقة (1)، لأن رعية الإمام قد يوافق بعضهم بعضا في المذاهب، لأن من حيث ذهب إليه ذلك البعض الموافق، بل من حيث علم بالدليل صحته، وكذلك قد يوافق المسلمون اليهود والنصارى في القول بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، وتعظيمهما، وتفضيلهما لا من حيث ذهبت اليهود والنصارى إلى ذلك، ونحن نعلم أنه لا إمامة لكل هؤلاء من حيث الموافقة وإنما تكون لهم إقامة لو اتبعت أقوالهم ولزمت موافقتها من حيث قالوها، وذهبوا إليها، وإذا ثبت أن للإمام مزية في معنى الاقتداء به والائتمام على كل من ليس بإمام ثبت أن الاقتداء به واجب من حيث قال وفعل، حتى يكون قوله أو فعله حجة في صواب ذلك الفعل.
قال صاحب الكتاب: " يقال لهم: إن هذه الحدود والأحكام انما تجب إقامتها إذا كان إمام، فإذا لم يكن فلا تجب إقامة ذلك، بل لا بد من سقوط الحدود كما تسقط بالشبهات، ومن العدول في باب الأحكام إلى صلح وتراض وغير ذلك، فمن أين أنه لا بد من إمام مع إمكان ذلك؟.
فإن قالوا: نقول في ذلك كما تقولون.
____________
(1) زنادقة وزناديق جمع زنديق - بكسر الزاي - من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة. أو من لا يؤمن بالآخرة، أو منكر الربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو هو معرب زن دين أي دين المرأة، والتفسير الأخير طريف باعتبار التركيب.
|
يقال له: ما ذكرته في هذا الفصل ينقص ما كنت اعتمدته في الاستدلال على وجوب الإمامة من طريق السمع، لأنك تعلقت بأمر الله تعالى بإقامة الحدود، وقلت: إنها إذا كانت من فروض الإمام وجب علينا إقامته، لأن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا به، وأنت الآن قد الزمت على الطريقة التي حكيتها ما هو لازم لك، لأنك ألزمت أن تكون الحدود والأحكام يجب إقامتها عند حصول الإمام، ولا يجب إقامته ليقوم بها، وهذا بعينه لازم لك، وليس يفترق الأمران من حيث كان خصومك يوجبون إقامة الإمام على الله تعالى، وتوجبها أنت على العباد، لأن لقائل أن يقول لك: إذا كان الله تعالى قد أمر بإقامة الحدود والأحكام، وعلمنا أنه لا يقوم بهما إلا الإمام، وجب عليه تعالى إقامته، لأن ما أمر به من إقامة الحدود لا يتم إلا بإقامة الإمام من جهته، لأن اختياره وهو معصوم على ما رتبته في الطريقة التي ناقضتها لا يمكن، فإن جاز أن يأمر بإقامة الحدود جاز أيضا أن يأمر بإقامة الحدود ويكون الأمر متوجها إلى الأئمة متى أقامهم، ولا يجب عليه إقامتهم وإن كانت إقامة الحدود لا تتم إلا بذلك جاز أن يأمر بإقامة الحدود الأئمة في حال إمامتهم ولا يكون الخطاب متوجها إليهم قبل أن يكونوا أئمة فيلزمهم مع غيرهم التوصل إلى إقامة
____________
(1) " واجب " خبر إن ونصبها محقق المغني، وأشار إلى أنها في الأصل " واجب " ولعله نصبها على التمييز، وإلا فكونها خبرا لكون بعيد!
(2) المغني 20 ق 1 / 74.
|
قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: خبرونا عن هذه الحدود وإلا؟ كأن في هذا الزمان ما حالهما؟ ولسنا نجد إماما ظاهرا يقوم بذلك، أو يمكن الرجوع إليه.
فإن قالوا: إنهما يسقطان، ويرجع فيهما إلى ما ذكرنا.
قيل لهم: جوزوا مثله في سائر الأزمان،... (1) ".
يقال له: ليس تسقط الحدود في الزمان الذي لا يتمكن الإمام فيه من الظهور وإقامتها، بل هي ثابتة في جنوب (2) مستحقيها، فإن أدركهم ظهور الإمام أقامها عليهم، وإن لم يدركهم ظهوره كان الله تعالى المتولي في القيامة الجزاء بها أو العفو عنها، والإثم في تأخير إقامتها والمنع من استعمال الواجب فيها لازم لمن أخاف الإمام وألجأه إلى الغيبة والاستتار.
وليس يلزم قياسا على هذا أن لا يقيم الله تعالى إماما، لأنه إذا لم يقمه وسقطت الحدود التي تقتضيها المصلحة كان تعالى هو المانع للعباد ما فيه المصلحة.
ثم يقال له: خبرنا عن الحدود في هذه الأحوال التي لا يتمكنون فيها - معشر أهل الاختيار - من الاختيار، ما القول فيها؟ أتسقط أم هي ثابتة؟، فإن قال: هي ثابتة على مستحقيها والإثم في تأخير إقامتها على من منع أهل الاختيار من إقامة الإمام، فمتى تمكنوا من إقامته وقامت
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 74.
(2) جمع جانب وكأنه مأخوذ من القول المعروف (كل ذنبه في جنبه).
|
قيل له: بمثل هذا الاختيار أجبنا.
وإن قال: إن الحدود تسقط إذا لم يكن إمام يقيمها كما تسقط بالشبهات.
قيل له: أفيلزم على ذلك سقوطها في كل حال ومع التمكن؟.
فإن قال: لا، لأنها إنما سقطت في الأحوال التي لا يتمكن العاقدون فيهما من العقد.
قيل له: فما المانع لنا من جوابك هذا؟ وأن نقول: إن الحدود تسقط في غيبة الإمام كما تسقط بالشبهات، لأن حال الغيبة حال ضرورة، ولا يجب أن تسقط في كل حال حتى يلزمنا تجويز خلو الزمان من إمام يقيم الحدود جملة قياسا على ما فات من إقامتها في حال غيبته، فكل شئ يفصل فيه خصومنا بين أحوال التمكن من عقد الإمامة واختيار الإمام وأحوال التعذر في معنى سقوط الحدود وثبوتها هو ما فصلناه بعينه بين حال غيبة الإمام وحال فقده.
قال صاحب الكتاب: " ثم يقال لهم: إن وقوع الشئ على وجه يجوز أن يكون خطأ وفاسدا فيما يتعلق بالدين ليس بأكثر من عدمه، فإذا جوزتم أن لا تقام الحدود في هذا الزمان وفي غيره من الأزمنة التي لم يظهر فيها الإمام لو كان معلوما ولا يوجب [ ذلك ] فسادا في الدين، فما الذي يمنع من إثبات إمام غير معصوم جميل الظاهر، يجوز عليه الخطأ فيما
|
يقال له: قد بينا أن عدم إقامة الحدود في هذا الزمان اللوم فيه على الظالمين المخيفين للإمام، وليس يلزم قياسا على عدمها من قبل الظلمة أن تعدم أو تقع على وجه يوجب فسادا في الدين من قبل الله تعالى، والفصل بين الأمرين ظاهر، لأن الحجة في أحدهما لله تعالى لا عليه، وفي الآخر عليه لا له، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
قال صاحب الكتاب: " ثم يقال: خبرونا عن الحدود والأحكام أيتولى الإمام جميعها في العالم؟ أو يتولى بعض ذلك، وما عداه يتولاه حكامه وأمراؤه، فلا بد [ له من أعوان له؟ ] * (3) ولا بد من أن يقولوا بالوجه الثاني * (4)، لأنه لا بد في بعض ذلك من أن يتولاه الأمراء والحكام.
قيل لهم: فيجب أن يكونوا معصومين للعلة التي ذكرتموها لأنها موجودة في كل من يقوم بالحدود والأحكام، (5)... ".
يقال له: قد علمنا أنك إنما رتبت ما حكيته عنا من الطريقة التي كلامك الآن عليها على الوجه الذي رتبته لنلزم هذا الالزام، ونورد هذا النقض، ولو أوردتها على الوجه الذي ذكرناه لم يسغ لك إيراد هذا الالزام، لأن من ذكرته من الأمراء والحكام وسائر من يتولى الأعمال من قبل الإمام لا يلزم الاقتداء بهم من حيث قالوا وفعلوا، بل الاقتداء بالإمام واجب عليهم في جملة الخلق فكيف يلزم عصمتهم وما أوجبنا به
____________
(1) الزيادة في الموضعين من المغني.
(2) المغني 20 ق 1 / 75.
(3) الزيادة من المغني.
(4) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(5) المغني 20 ق 1 / 75.
|
قال صاحب الكتاب - بعد فصل لا طائل فيه -: " ومتى قالوا: إن الأمير إذا أخطأ في ذلك فالإمام يأخذ على يده، كان هذا القول منهم فصلا مع وجود العلة، لأنا إنما ألزمناهم عصمة الأمراء على علتهم، فالفصل الذي قالوه لا ينجيهم، على أن من قولنا أن الإمام إذا أخطأ فعلماء الأمة تأخذ على يده، لأنا لا نجوز على جميعهم الخطأ (1)،... ".
يقال له: لا شك في أن الفصل بما ذكرته مع إطلاق القول في أصل الاستدلال على الوجه الذي حكيته نقض ظاهر، غير أن من يفصل بين أصحابنا وبين الإمام وخلفائه لا يرتضي ما أطلقته في الاستدلال، بل يقول: في الأصل لا يجوز أن توكل هذه الأحكام إلى من يخطئ فيها خطأ يثمر فسادا في الدين، وليس وراءه من يتلافى خطأه ويستدرك غلطه فلا يلزم عصمة الأمراء والحكام.
وأما قولك: إن الإمام إذا أخطأ أخذ على يده علماء الأمة، فتصريح بأن الأمة أئمة للإمام، وإيجاب لفرض طاعتها عليه، وهذا مع ما فيه من الخروج عن أقوال الأمة تناقض ظاهر، لأنه يستحيل أن يقول قائل لا بد لزيد على عمرو طاعة وإمرة فيما له فيه بعينه عليه طاعة وإمرة فيكون ذلك صحيحا، والإمام إمام في جميع الدين فليس يجوز أن يكون لبعض رعيته عليه في بعض الدين طاعة ولا إمامة.
قال صاحب الكتاب: " ولا يمكنهم أن يقولوا: إن الإمام يعلم كل ذلك، لأن الإمام لا يزيد على الرسول، فإذا كان قد يخفى عليه خطأ عماله وأمرائه وإنما كان يعرف ما ينتهي خبره إليه فكذلك القول في
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 76.
|
يقال له: من فصل من أصحابنا بين الإمام وحكامه في العصمة بالفصل الذي ذكرناه يذهب إلى أنه لا يجوز أن يقع من أمرائه وخلفائه، وإن بعدت داره من دارهم خطأ يقتضي فسادا في الدين فيخفى عليه، بل لا بد من أن يتصل به ذلك حتى يستدركه ويتلافاه.
وأما قولك: " إن الإمام لا يزيد على الرسول وقد خفي عليه خطأ عماله وأمرائه " فلا إشكال في أن الإمام لا يزيد على الرسول، ولكن من أين لك أنه قد خفي على الرسول خطأ عماله وأمرائه، ولم يتعلق بذلك في شبهة فنحلها؟ بل عولت على الدعوى وإرسالها حتى كأنه لا مخالف فيما حكمت به، والقول في أمير المؤمنين عليه السلام كالقول في الرسول صلى الله عليه وآله في أنه لا يجوز أن يخفى عليه من خطأ عماله وخلفائه ما يقتضي الفساد في الدين، وليس يجب أن يستبعد ذلك ونحن نجد حزمة (3) الملوك وذوي القدرة والسلطان منهم يراعون من أحوال خلفائهم وعمالهم في البلاد وإن بعدت ما ينتهون فيه إلى حد لا يخفى عليهم معه شئ من أحوالهم المتعلقة بسلطانهم وتدبيرهم وما يحتاجون إلى معرفته، وقد عرفنا هذا من أحوال كثير من الملوك المتقدمين، وشاهدناه أيضا ممن عاصرناه، وكان بالصفة التي قدمناها، وإذا تم مثل ما ذكرناه لمن ليس بحجة لله تعالى على خلقه، ولا حافظ لشريعته ودينه، ولا مادة بينه وبينه
____________
(1) غ " يستدل بذلك " وله وجه لولا ما يظهر من كلام علم الهدى أنها على ما في المتن.
(2) المغني 20 ق 1 / 76.
(3) جمع حازم، والحزم: ضبط الأمور.
|
ثم أورد صاحب الكتاب فصولا لا حاجة بنا إلى نقضها لأنه سأل نفسه في بعضها عما لا نسأله عنه، وبنى بعضها على مذاهب قد تقدم إفسادها - إلى أن قال -:
" على أنه يلزمهم أن يكون الشاهد الذي يشهد على الزنا والسرقة معصوما وإلا أدى إلى الفساد في الدين بأن يقيم الحد على من لا يستحقه [ إذا غلط في الشهادة أو زور فيها، وهذا يوجب عصمة الشهود ] (1)... " (2).
فيقال له: أما الفصل بين الشاهد والإمام على الطريقة التي رتبناها فواضح، لأن غلط الشاهد لا يتعدى إلى غيره، من حيث لا يجب الاقتداء به، والاتباع لقوله وفعله، والإمام مقتدى به، متبع في أقواله وأفعاله، فجواز الغلط على أحدهما يخالف جوازه على الآخر.
على أن في أصحابنا من يذهب إلى أن للإمام إمارة نصبها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله يفرق بين الصادق من الشهود والكاذب، فمتى شهد عنده الكاذب رد شهادته ولم يمضها وإن كان في الظاهر عدلا، ومن سلك هذه الطريقة لم يلزمه ما ألزمته أيضا من هذا الوجه.
قال صاحب الكتاب: " شبهة أخرى لهم، قالوا: لا بد من إمام
____________
(1) الزيادة بين المعقوفين من المغني.
(2) المغني 20 ق 1 / 77.
|
" واعلم أنا قد بينا في باب الاجماع من هذا الكتاب (1) إنه لا يمتنع جواز الخطأ على كل واحد من الجماعة ويؤمن ذلك في جميعهم لأن انفراد كل واحد من الجماعة بقول * لا يؤمن ذلك فيه * (2)، ويؤمن في جميعهم، وكما لا يمتنع أن يؤمن على زيد الخطأ في شئ دون شئ بحسب الدليل، أو في حال دون حال، ولا يتناقض ذلك فكذلك ما ذكرناه وبينا أن النبي صلى الله عليه وآله لو قال في عشرة من المكلفين: إن كل واحد منهم يجوز أن يرتد (3) ولا يجوز اجتماعهم على ذلك، لم يمتنع، وبينا أن التجويز مفارق للاثبات والصحة، ولا يجوز أن يصح من كل واحد منهم الخطأ في معنى القدرة، ولا يصح من سائرهم لأن ذلك يتناقض [ وكذلك فلا يجوز أن يثبت لكل واحد منهم صفة ولا نثبت لجميعهم، لأن ذلك يتناقض ] (4).
وأما التجويز فهو بمعنى الشك، وغير ممتنع أن يشك فيما يأتيه كل
____________
(1) باب الاجماع في الجزء السابع من المغني.
(2) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(3) غ " يجوز أن يريد القبيح ".
(4) ما بين المعقوفين ساقط عن الشافي فأثبتناه عن المغني.
|
" وإنما الغرض بما أوردناه إبطال التوصل إلى القدح في الاجماع من جهة العقل على ما يسلكه القوم، فأما الكلام في إثباته فموقوف على السمع، وقد دللنا من قبل على صحة الاجماع وإنه لا معدل عنه، فإذا صح كونه حجة فمن أين إنه لا لا بد من إمام معصوم؟... (1) ".
يقال له: من عجيب الأمور إنك تناقض في الاجماع من لا تعرف مذهبه فيه، لأن كلامك يدل على مخالفين في الاجماع منا يذهبون إلى أن الأمة يجب أن تجتمع على الخطأ من طريق العقول، وأنه يستحيل عندهم أن تقوم دلالة سمعية على أنهم لا يختارون الخطأ في حال الاجماع، وليس يتوهم علينا مثل هذا من أنعم (2) النظر في مذهبنا، وإنما نورد الحجاج الذي حكيت بعضه في الاجماع، مثل قولنا: إن جميعهم هم آحادهم فما يجوز على الآحاد يجب جوازه على الجميع إلى نظائر ذلك على من يذهب إلى أن الأمة لا يجوز أن تجتمع على خطأ من طريق العقول ولا يعتبر فيه السمع ويجري اجتماعها على الخطأ بالشبهة في امتناعه عليها مجرى اجتماعها على السهو عن شئ واحد في وقت واحد، ولا نعرف محصلا من أصحابنا ولا من غيرهم يذهب إلى أن السمع يستحيل أن يرد على سبيل التقدير بأن الأمة أو جماعة منها لا تختار الخطأ في حال دون حال وعلى وجه دون وجه، والذي يجب أن نتشاغل به بعد هذا الكلام في صحة ما يدعى من السمع الوارد بأن الأمة لا تجتمع على الخطأ، ولم نجده ذكر هاهنا شيئا من الاستدلال بالسمع، وإنما أخال على ما ذكره هناك، ونبين فساده على
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 79.
(2) أنعم النظر: زاد في الامعان فيه.
|
أحد ما اعتمده في الدلالة على أن الأمة لا تجتمع على خطأ وأكد عنده قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) (1) وأنه لما توعد تعالى على العدول عن اتباع سبيل المؤمنين كما توعد على مشاقة الرسول بعد البيان وجب أن يدل على أن اتباع سبيلهم صواب، ولا يكون سبيلهم بهذه الصفة إلا وهم حجة فيما يتفقون عليه.
وهذه الآية لا يمكن التعلق بها من وجوه:
منها، أن لفظ المؤمنين لا يجب عمومه لكل مؤمن، بل الحق فيه تناوله لثلاثة فصاعدا، فتناوله لثلاثة مقطوع عليه، وما عدا الثلاثة مجوزا وقد بينا في مواضع أن هذا اللفظ ليس من ألفاظ العموم المستغرقة للجنس، بل لا لفظ في اللغة يستغرق الجنس بصيغته ووضعه، وإذا لم يعقل من ظاهر لفظ المؤمنين الاستغراق لجميعهم، لم يسغ التعلق بها في الاجماع على الوجه الذي يدعيه الخصوم، وجرت الآية مجرى المجمل الذي يحتاج في تفسير وتفصيله إلى بيان، وإذا لم يسغ للقوم حملها على الكل لم يسغ أيضا لهم حملها على البعض، لأنه لا شئ يقتضي حملها على بعض معين دون بعض، ولو ساغ ذلك لكنا نحن أحق به إذا حملناها على الأئمة من آل محمد صلوات الله عليهم من حيث ثبتت عصمتهم وطهارتهم، وأمنا وقوع شئ من الخطأ منهم، وكانوا من هذا الوجه أحق بأن تتناولهم الآية.
ومنها، أن لفظة (سبيل) تقتضي الوحدة، ولا يجب حملها على كل
____________
(1) سورة النساء 115.
|
ومنها، أنه توعد على اتباع غير سبيلهم، وليس في ذلك على وجوب اتباع سبيلهم، فيجب أن يكون اتباع سبيلهم موقوفا على الدليل.
ومنها، على تسليم عموم المؤمنين والسبيل أن الآية لا تدل على وجوب اتباعهم في كل عصر، بل هو كالمجمل المفتقر إلى بيان فلا يصح التعلق بظاهره، وليس لأحد أن يقول: إنني أحمله على كل عصر من حيث لم يكن اللفظ مختصا بعصر دون غيره، لأن هذه الدعوى نظيرة للدعوى التي قدمناها وبينا فسادها، وليس له أن يقول: إنني أعلم عموم وجوب اتباعهم في الأعصار كلها بما علمت به وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وآله في كل عصر، فما قدح في عموم أحد الأمرين قدح في عموم الآخر. لأنا نعلم وجوب اتباع الرسول في كل عصر بظاهر الخطاب، بل بدلالة لا يمكن دفعها، فمن ادعى في عموم وجوب اتباع المؤمنين دلالة فليحضرها.
ومنها، أنه تعالى حذر من مخالفة سبيل المؤمنين وعلق الكلام بصفة من كان مؤمنا، فمن أين لخصومنا أنهم لا يخرجون عن كونهم مؤمنين.
|
ومنها، أن قوله تعالى (المؤمنين) لا يخلو، إما أن يريد به المصدقين بالرسول عليه السلام، أو المستحقين للثواب على الحقيقة، فإن كان الأول بطل، لأن الآية تقتضي التعظيم والمدح لمن تعلقت به من حيث أوجبت اتباعه، وترك خلافه، ولا يجوز أن يتوجه إلى من لا يستحق التعظيم والمدح، وفي الأمة من يقطع على كفره، وأنه لا يستحق شيئا منهما، ولأنه كان يجب لو كان المراد بالقول المصدقين دون المستحقين للثواب أن يعتبر الاجماع دخول كل مصدق فيه في شرق وغرب، وهذا مما يعلم تعذره وعموم القول يقتضيه وليس يذهب صاحب الكتاب وأهل نحلته إلى هذا الوجه فنطنب فيه، وإن أراد بالمؤمنين مستحقي الثواب والمدح والتعظيم فمن أين ثبوت مؤمن بهذه الصفة في كل عصر يجب اتباعهم؟.
ويجب أيضا أن لا يثبت الاجماع إلا بعد القطع على أن كل مستحق للثواب في بحر وبر وسهل وجبل قد دخل فيه لأن عموم القول يقتضيه، وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الاجماع أبدا، وإن حمل على بعض المؤمنين دون بعض،! وعلى من عرفناه دون من لم نعرفه خرجنا عن موجب العموم وجاز حمله على طائفة من المؤمنين وهم أئمتنا عليهم السلام.
وإن قيل: إن المراد بالمؤمنين من كان في الظاهر يستحق التعظيم والمدح، وإن لم يكن في الحقيقة كذلك، فذلك باطل لأنه خروج في هذا الاسم عن اللغة، وعما يدعي أنه نقل إليه في الشرع جميعا، ولأن الآية تقتضي المدح والتعظيم، من حيث أوجب علينا اتباع من تعلقت به، ومن أظهر الإيمان ولم يبطنه لا يستحق التعظيم في الحقيقة، ولهذا تعبدنا
|
ومنها، إنا تجاوزنا عن جميع ما ذكرناه لم يكن في هذه الآية دلالة تتناول الخلاف في الحقيقة، لأنه جائز أن يكون تعالى إنما أمرنا باتباع المؤمنين من حيث ثبت بالعقول أن في جملة المؤمنين في كل عصر إماما معصوما لا يجوز عليه الخطأ، وإذا جاز ما ذكرناه سقط غرضهم في الاستدلال على صحة الاجماع، لأنهم إنما أجروا بذلك إلى أن يصح الاجماع فيحفظ الشرع به، ويستغنى عن الإمام، وإذا كان ما استدلوا به على صحة الاجماع يحتمل ما ذكرناه فسد التعلق به.
وأما قوله في نصرة هذه الطريقة جوابا لما سأل عنه نفسه من أن الآية " تقتضي الوعيد على اتباع غير سبيل المؤمنين " ولم يذكر ما حال سبيلهم قيل له: إن الوعيد لما علقه تعالى بغير سبيل المؤمنين حل محل أن يعلقه بالعدول عن سبيل المؤمنين، وترك اتباعهم في أنه يقتضي لا محالة أن اتباع سبيل المؤمنين صواب، وأن الوعيد واجب لتركه ومفارقته " (1) فتحكم (2) ظاهر، ودعوى محضة، لأنه غير ممتنع أن يكون اتباع غير سبيلهم محرما، واتباع سبيلهم مباحا أو محرما أيضا، وليس هذا مما يتنافى ويبين ذلك أنه لو صرح بما تأولناه (3) حتى يقول: اتباع غير سبيل المؤمنين محظور عليكم، وقبيح منك، واتباع سبيلهم يجوز أن يكون قبيحا وغير قبيح فاعملوا فيه بحسب الدلالة، أو يقول: واتباع سبيلهم
____________
(1) المغني ج 17 ص 161 في فصل " أن الاجماع حجة ".
(2) يريد بالتحكم هنا فرض الرأي بلا دليل.
(3) في الأصل " ناولناه " والتصحيح عن خ.
|
فأما قولك: " إنه علق الوعيد بما يجري مجرى الاستثناء من سبيل المؤمنين حتى لا تتم معرفته إلا بمعرفة سبيل المؤمنين (1) فكأنه تعالى أراد ما يجري مجرى النفي وإن كان بصورة الإثبات، لأنه لا فرق بين ذلك وبين أن يقول ولا يتبع غير سبيل المؤمنين، وهذا بين في التعارف لأن أحدنا لو قال لغيره: من أكل غير طعامي فله العقوبة، فالمتعارف من ذلك أن أكل طعامه مخالف لذلك، وأن العقوبة إنما تتعلق بخروجه عن أن يكون آكلا لطعامه " (2) فغير صحيح، لأن " غير " - هاهنا - ليس بواجب أن يكون بمعنى " إلا " الموضوعة للاستثناء، بل جائز أن تكون بمعنى: خلاف، فكأنه تعالى قال: لا يتبع خلاف سبيل المؤمنين (3) وما هو غير لسبيلهم، ولم يرد لا يتبع إلا سبيلهم، ومعرفة الغير المحظور واتباعه وإن كانت لا تتم إلا بمعرفة سبيلهم على ما ذكر فغير ممتنع أن يكون حكمه موافقا لحكم
____________
(1) في المغني " وإذا عرف سبيلهم عرف ذلك الغير الذي يحرم اتباعه، وما حل هذا المحل فلا بد من أن يدل على أن سبيل المؤمنين بخلافه وكأنه تعالى " الخ ولا يختلف المعنى غير أن ما في المتن أقل أو أدل.
(2) المغني 17 / 162.
(3) أو، خ ل.