اتباع سبيلهم في الحظر (1)، ولا يجب أن يكون واجبا من حيث كان الأول محظورا، وكانت معرفته لا تتم إلا بمعرفته، وقد أصاب في قوله: " لا فرق بين ذلك وبين أن يقول: " ولا يتبع غير سبيل المؤمنين " غير أنه ظن أنه لو استعمل هذا اللفظ لفهمنا منه ما ادعاه من اتباع سبيلهم، وليس الأمر كما ظن، بل التأويل الذي تأولناه، ودللنا على احتمال اللفظ الأول له قائم في الثاني، وحكم المثل الذي ضربه أيضا هذا الحكم، فإن من قال: لا تأكل غير طعامي، أو من أكل غير طعامي عاقبته، لا يفهم من ظاهر لفظه ومجرده إيجاب أكل طعامه، بل المفهوم حظر أكل ما هو غير لطعامه وحال طعامه في الحظر الإباحة أو الإيجاب موقوفة على الدليل، وأقل أحوال هذا اللفظ عند من ذهب إلى أن لفظة " غير " مشتركة بين الاستثناء وغيره وأن ظاهرها لا يفيد أحد الأمرين أن يكون محتملا لما ذكرناه من حظر أكل غير طعامه ومحتملا لإيجاب أكل طعامه، ووضع لفظة " غير " مكان لفظة " إلا " وإنما يفهم في بعض المواضع عن مستعمل هذا اللفظ إيجاب، أكل طعامه لا بمجرد اللفظ، بل بأن يعرف قصده إلى الإيجاب، أو لغير ذلك من الدلائل المقترنة (2) إلى اللفظ، ولولا أن الأمر على ما ذكرناه لما حسن أن يقول القائل: من أكل غير طعامي عاقبته، ومن أكل طعامي - أيضا - عاقبته، وكان يجب أن يكون نقضا وجاريا مجرى قوله: من أكل إلا طعامي عاقبته، ومن أكل طعامي عاقبته، فلما حسن ذلك مع استعمال لفظة " غير " ولم يحسن مع استعمال لفظة " إلا " دل على صحة قولنا.
____________
(1) الحظر: الحجر، وهو ضد الإباحة، وحظره فهو محظور أي محرم وبابه نصر.
(2) المضمومة خ ل.
|
____________
(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(2) المغني 17 / 162.
(3) ما بين المعقوفين من تلخيص الشافي للشيخ الطوسي.
(4) السائمة الماشية التي ترسل للمرعى ولا تحتاج إلى العلف وجمعها سوائم.
(5) يعلم، خ ل.
(6) المتعلق، خ ل.
|
ولا يزال هؤلاء القوم على سنن (1) من نصرة مذاهبهم، والذب عنها حتى إذا وقعوا (2) إلى كلام في الإمامة وما يتصل بها نسوا كل ذلك وأعرضوا عنه، وقدحوا فيها (3) بما يقدح في أصولهم، ويعترض على مذاهبهم، وليس يزين هذا إلا الهوى، وقوة العصبية.
فأما قوله: " على أن ما خرج من أن يكون سبيلا للمؤمنين إذا حرم اتباعه، فإنما وجب ذلك فيه لكونه " غيرا " لسبيلهم على ما يقتضيه اللفظ، وكونه " غيرا " لسبيلهم بمنزلة كونه تركا لسبيلهم، وخارجا عن سبيلهم. فلا بد من أن يدل على أن اتباع سبيلهم هو الواجب ليخرج به من أن يكون متبعا غير سبيلهم وهذا كقول أحدنا لغيره: لا تتبع خلاف طريقة الصالحين، وغير سبيلهم، في أنه بعث (4) له على اتباع سبيل الصالحين، وأن لا يخرج عن ذلك (5) " فلم يزد فيه على الدعوى، ولو سلمنا له ما دعاه من التعليل لم يجب أن يكون اتباع غير سبيلهم بمنزلة الخروج عن سبيلهم، لأن اتباع غير سبيلهم لا بد أن يكون اتباعا لسبيل ما ليس سبيلا لهم، والخروج عن اتباع سبيلهم ليس كذلك، لأنه قد يخرج عن اتباع سبيلهم وغير سبيلهم بأن لا يكون متبعا لسبيل أحد، لأن الاتباع الذي أريد هاهنا أن يفعل الفعل لأجل فعل المتبع على جهة التأسي
____________
(1) السنن: الطريق.
(2) إذا دفعوا، خ ل.
(3) الضمير الأول للكلام والثاني للإمامة.
(4) أي حث.
(5) المغني 17 / 162.
|
فإذا؟ صح ما ذكرناه فسد قوله " فلا بد من أن يدل على اتباع سبيلهم. هو الواجب، ليخرج عن أن يكون متبعا غير يكون متبعا سبيلهم، فأما قول أحدنا لغيره: لا تتبع خلاف طريقة الصالحين فالقول فيه كالقول فيما تقدم، وظاهر اللفظ وإطلاقه لا يدل على وجوب اتباع طريقة الصالحين، وإنما يعقل بالدلالة، ولأن المخاطب بهذا القول إذا كان حكيما علم من حاله أنه لا بد أن يوجب اتباع طريقة الصالحين، ويحث عليها، وما يعلم إلا من حيث ظاهر اللفظ " خارج عما نحن فيه، ولو أن أحدا قال بدلا من ذكر الصالحين: لا تتبع خلاف طريقة زيد، لم يجب أن يفهم من إطلاق لفظه إيجاب اتباع طريقته، ولولا أن الأمر فيما تقدم على ما قلناه دون ما ادعاه صاحب الكتاب من أن غير سبيل المؤمنين بمنزلة الخروج عنها، لوجب فيمن قال لغيره: لا تضرب غير زيد، ثم قال: ولا زيدا، أن يكون مناقضا في كلامه من حيث كان قوله: لا تضرب غير زيد إيجابا لضربه، وقوله: ولا زيدا حظرا لذلك وفي العلم بصحة هذا القول من مستعمله (2)، وأنه غير جار مجرى قوله:
اضرب زيدا ولا تضربه دلالة على استقامة تأويلنا للآية.
فأما قوله: " فالاستدلال على أن في جملة الأمة مؤمنين في كل عصر، أن نفس الظاهر يقتضي إثبات مؤمنين يصح أن يتبع سبيلهم، لأنه لا يصح (3) أن يتوعد الله تعالى توعدا مطلقا على العدول عن اتباع
____________
(1) التأسي: " الاقتداء، وفلان أسوة بالضم والكسر أي قدوة.
(2) خ " يستعمله ".
(3) غ " لا يجوز ".
|
ولسنا نعلم من أي وجه ظن أن التوعد على الفعل يقتضي إمكانه في كل حال!
وليس هذا مما تدخل فيه عندنا شبهة على متكلم، ونحن نعلم أن البشارة بنينا صلى الله عليه وآله قد تقدمت على لسان من سلفت نبوته كموسى وعيسى عليهما السلام وغيرهما، وقد أمر الله تعالى أممهم باتباعه وتصديقه، وأشار لهم إليه بصفاته وعلاماته، وتوعدهم على مخالفته وتكذيبه، ولم يلزم أن يكون ما توعد عليه من مخالفته، وأوجبه من تصديقه واتباعه ممكنا من كل وقت ولا مانعا من إطلاق الوعيد، فقد قال شيخ أصحابه أبو هاشم (4) وتبعه على هذه المقالة جميع أصحابه: إن قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله،
____________
(1) المشاقة: الخلاف.
(2) المغني 17 / 168.
(3) المؤمنين، خ ل.
(4) أبو هاشم: محمد بن عبد السلام الجبائي وقد تكرر ذكره في الكتاب.
|
فأما قوله: " والوجه الثاني، أن الآية دالة على وجوب اتباع سبيل المؤمنين، ونعلم أن في كل حال مؤمنين بدليل آخر، وهو ما ثبت بالقرآن وغيره أن في كل حال طائفة من أمة النبي (4) ظاهرين على الحق (5)، وأن في كل عصر شهداء يشهدون على الحق " (6) فما تراه أحال إلا على غيب، لأنه ادعى أن القرآن وغيره دال على أن في كل عصر مؤمنين وشهداء، وما نعلم في القرآن شيئا يدل على ذلك، ولا في غيره، ولو تعلق فيما ادعاه بشئ لبينا فساده، ولكنه اقتصر على محض الدعوى.
____________
(1) المائدة 38.
(2) خ " التمكين ".
(3) أي المقرين على أنفسهم بالسرقة.
(4) غ " الرسول صلى الله عليه ".
(5) يشير إلى الحديث (لا تزل طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) وانظر فيض القدير 3 / 51.
(6) المغني 17 / 168 وفيه " يشهدون بالحق ".
|
(والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم (2)) وقوله تعالى: (وجئ بالنبيين والشهداء) (3) وقوله جل اسمه: (ويقول الإشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) (4) دلالة على موضع الخلاف، وهو: في أن في كل عصر مؤمنين يشهدون على غيرهم، وأكثر ما تدل عليه الآيات التي تلوناها أن يكون في الأمة شهداء، وأن من جملة المؤمنين من يستشهد فيشهد فأما أن يقتضي ذلك وجود الشهداء في كل عصر فبعيد...
فأما استدلاله من الآية " على أن إجماع كل عصر حجة (5) بأنها تقتضي التحذير من ترك اتباع سبيل المؤمنين، وليس فيها تخصيص وقت من وقت (6) " فباطل، لأنه ليس يلزم إذا لم يكن في الآية تخصيص وقت من وقت أن يحمل على كل الأوقات، وذلك أنها كما لم تخص وقتا دون وقت فلم تعم أيضا جمع الأوقات، وفقد دلالة أحد الأمرين كفقد دلالة الآخر، ولا فرق بين من ذهب إلى عمومها في الأوقات من حيث لم يكن فيها اختصاص وقت وبين من خصها بوقت معين، أما وقت نزول الآية أو
____________
(1) الحج 77.
(2) الحديد 19.
(3) الزمر 69.
(4) هود 18.
(5) في المغني " فإن قال: أتدل الآية على أن إجماع كل عصر حجة؟ قيل له نعم لأنها تقتضي " وجملة " التحذير من ترك " مكانها بياض في المغني.
(6) المغني 17 / 169 وفيه " وليس يخصص وقت من وقت ".
|
فإذا قيل (1): حكم الوقت الذي عينته كحكم غيره في أن الآية لا تقتضي تخصيصه فليس تعيين وقت أولى من تعيين غيره.
قلنا نحن: وحكم سائر الأوقات وجميعها حكم بعضها في أن الآية لا تقتضي تناوله، فليس من ادعى عموم الأوقات بأولى ممن ادعى وقتا مخصوصا.
ومما اعتمد عليه في الاستدلال على صحة الاجماع وإن كان قد ضعفه بعض التضعيف قوله (واتبع سبيل من أناب) (2) إلى أن قال: لأن من أناب إلى الله تعالى هم المؤمنون، لأنهم هم المختصون بهذه الطريقة (3)، وسلك في ترتيب الاستدلال بها المسلك في الآية المتقدمة.
وهذه الآية لا دلالة فيها على ما يذهبون إليه في صحة الاجماع، وأكثر الوجوه التي ذكرناها في الآية المتقدمة يبطل الاحتجاج بهذه الآية.
وأنت إذا تصفحتها وقفت على الفصل بين ما يختص إحدى الآيتين من الوجوه وما يمكن أن يكون كلاما على الجميع، فلهذا لم نتشاغل بإعادة شئ مما مضى.
ومما يخص هذه الآية أن الإنابة حقيقتها في اللغة هي الرجوع، وإنما تستعمل في التائب من حيث رجع عن المعصية إلى الطاعة، وليس يصح إجراؤها على التمسك بطريقة واحدة لم يرجع إليها عن غيرها على سبيل
____________
(1) في الأصل " وإذا قيل له " ولا شك أن " له " زائدة باعتبار الجواب.
(2) لقمان 15.
(3) كلام القاضي هنا نقله المرتضى بتصرف لم يخرجه عن معناه.
|
ومما تعلق به أيضا قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) (3) قال: " الوسط هو العدل ولا يكون هذا حالهم إلا وهم خيار، لأن الوسط من كل شئ هو المعتدل منه، وقوله تعالى: (قال أوسطهم ألم أقل لكم) (4) المراد بذلك خيرهم، وعلى هذا الوجه يقال له: إنه عليه السلام من أوسط العرب (5) يعني بذلك من خيرهم، وبين أنه تعالى جعلهم كذلك ليكونوا شهداء على الناس كما أنه عليه السلام شهيد عليهم، فكما أنه لا يكون شهيدا إلا وقوله حق وحجة فكذلك القول فيهم " (6).
وهذه الآية لا تدل أيضا على ما يدعونه، لأن لا يخلو أن يكون المراد بها جميع الأمة المصدقة بالرسول صلى الله عليه وآله أو بعضها (7)، وقد.
____________
(1) إلى جميع، خ ل.
(2) أي حقيقة الإنابة.
(3) البقرة 143.
(4) القلم 28.
(5) " من أوسط قريش نسبا يعني خيرهم ".
(6) المغني 17 / 171.
(7) أو بعضهم، خ ل.
|
فإن قيل: إطلاق القول يقتضي دخول كل الأمة فيه لولا الدلالة التي دلت من حيث الوصف المخصوص على تخصيص من استحق المدح منهم، والثواب، فإذا خرج من لا يستحقهما بدليل وجب عمومها في كل المستحقين الثواب والمدح، لأنه ليس هي بأن تتناول بعضا أولى من بعض.
قيل: إن إطلاق القول لا يقتضي كل الأمة - على أصلنا - حتى يلزم إذا أخرجنا من لا يستحق الثواب منه أن لا يخرج غيره، ولو اقتضى ذلك ووجب تعليق الأمة من عدا الخارجين عن استحقاق الثواب لوجب
____________
(1) في " عليه وعليهم السلام ".
(2) أي عدلنا بالآية إلى الإمام المعصوم.
|
وليس لأحد أن يقول: كيف يكون اجتماع جميع أهل الأعصار على الشهادة حجة وصوابا على ما ألزمتموناه ولا يكون إجماع جميع أهل كل عصر كذلك؟ لأن هذا مما لم ينكر كما لم يكن منكرا عند خصومنا أن يكون إجماع أهل العصر حجة وصوابا، وإن لم يكن اجتماع كل فرقة من فرقهم كذلك.
فإن قيل: بأي شئ يشهد جميعهم، وهم لا يصح أن يشاهدوا كلهم شيئا واحدا فيشهدوا به؟
قيل: قد تصح الشهادة بما لا يشاهد من المعلومات كشهادتنا بتوحيد الله عز وجل، وعدله، ونبوة الأنبياء عليهم السلام إلى غير ذلك مما يكثر تعداده.
ولو قيل أيضا: فعلى من تكون الشهادة إذا كان المؤمنون جميعا في الأعصار (1) هم الشهداء؟
قلنا: تكون شهادتهم على من لا يستحق الثواب، ولا يدخل تحت القول من الأمة، ويصح أيضا أن يشهدوا على باقي الأمم الخارجين عن الملة، وكل هذا غير مستبعد.
ومما يمكن أن يقال في أصل تأويل الآية: أن قوله تعالى (جعلناكم
____________
(1) خ " إذا كان جميع المؤمنين في الأعصار ".
|
فأما حمل الأمة (1) على النبي صلى الله عليه وآله في باب الشهادة، وكونه حجة فيها، فلم يكن قول النبي صلى الله عليه وآله حجة من حيث كان شهيدا، بل من حيث كان نبيا معصوما فتشبيه أحد الأمرين بالآخر من البعيد.
ومما يسقط التعلق بالآية أيضا أن قوله تعالى: (لتكونوا شهداء) يقتضي حصول كل واحد منهم بهذه الصفة، لأن ما جرى هذا المجرى من الأوصاف لا بد أن يكون حال الواحد فيه كحال الجماعة، ألا ترى أنه لا يسوغ أن يقال في جماعة: إنهم مؤمنون إلا وكل واحد منهم مؤمن؟، فكذلك لا يسوغ أن يقال: أنهم شهداء إلا وكل واحد منهم شهيد، لأن شهداء جمع شهيد، كما أن مؤمنين جمع مؤمن، وهذا يوجب أن يكون كل واحد منهم - أعني من الأمة - حجة مقطوعا على صواب فعله وقوله، وإذا لم يكن هذا مذهبا لأحد، وكان استدلال الخصوم بالآية يوجبه فسد قولهم، ووجب صرف الآية إلى جماعة يكون كل واحد منهم شهيدا وحجة، وهم الأئمة عليهم السلام الذين ثبتت عصمتهم وطهارتهم.
____________
(1) خ " الآية ".
|
فأما قوله في نصرة هذه الطريقة: " أن كونهم عدولا كالعلة والسبب في كونهم شهداء، وأنه قد صح في التعبد أنه لا يجوز أن ينصب للشهادة إلا من تعلم عدالته، أو تعرف (3) بالأمارات التي يقتضي غالب الظن، وصح أن من ينصبه بغالب (4) الظن إذا تولى الله تعالى نصبه يجب أن يعلم من حاله ما نظنه، فإذا ثبت ذلك لم يخل من أن يكونوا حجة فيما يشهدون أو لا يكونوا، فإن لم يكونوا حجة بطلت شهادتهم، لأن من حق الشاهد إذا أخبر عما يشهد به أن يكون خبره حقا وإن لم يجر مجرى الشهادة، فلا بد
____________
(1) صغيرة منهم خ ل.
(2) العدالة - لغة - مأخوذة من العدل وهو الاستقامة، وعرفها الفقهاء بأنها ملكة اجتناب الكبائر وعدم الاصرار على الصغائر، أو إتيان الواجب وترك المحرم، أو مجرد ترك المعاصي عن ملكة، أو خصوص الكبائر منها، وغير ذلك من التعريفات التي تختلف لفظا وتتقارب معنى، وقد أخذها الفقهاء شرطا في المفتي والقاضي وإمام الجماعة، والشاهد، وتعرف بالعلم الوجداني من أي أسبابه حصل، بالبينة العادلة، والشياع المفيد للعلم، وحسن الظاهر، وبالوثوق والاطمئنان الحاصل عن علم ومعرفة لا كتسرع بعض الجهال الذين سرعان ما يثقون ثم يرجعون لأتفه الأسباب وبأدنى عارض من الشبه.
(3) خ " ويعرف ".
(4) خ " لغالب ".
|
وإذا كانت الصغائر على مذهب صاحب الكتاب غير مخرجة (2) عن العدالة لم يجب بمقتضى الآية نفيها عنهم، وبطل قوله " أنه ليس بعض أقوالهم وأفعالهم أولى من بعض " لأنا قد بينا فرق ما بين الأفعال المسقطة للعدالة والأفعال التي لا تسقطها.
فأما قوله: " ويخالف حالهم حال الرسول عليه السلام لأن ما يجوز (3) عليه من الصغائر لا يخرج ما يؤديه عن الله تعالى مما هو الحجة فيه من أن يكون متميزا فيصح كونه حجة، وليس كذلك لو جوزنا على الأمة الخطأ في بعض ما تقوله وتفعله، لأن ذلك يوجب خروج كل ما تجتمع (4) عليه من أن يكون حجة لأن الطريقة في الجميع واحدة " (5) فيسقط بما ذكرناه لأنه إذا كان تجويز الصغائر على الرسول لا يخرجه فيما يؤديه من أن يكون حجة، ويتميز ذلك للمكلف فكذلك إذا كانت الآية إنما تقتضي
____________
(1) المغني 17 / 178 علما بأن اختلافا يسيرا في هذا الفصل بين المغني والشافي في بعض الحروف والكلمات وليس هناك اختلاف في المعنى.
(2) خ " غير مقتضية الخروج ".
(3) في المغني " لأن ما نجوزه " وهذا تصريح من القاضي بتجويز الصغائر على النبي صلى الله عليه وآله، وقد نقل عن أبي هاشم اشتراط أن تكون غير منفرة.
(4) غ " تجمع ".
(5) المغني 17 / 178.
|
فأما قوله: " وقد قيل (4): إن المراد بالآية ليس هو الشهادة في الآخرة، وإنما هو القول بالحق، والإخبار بالصدق، لقوله تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) (5) وكل من قال حقا فهو شاهد به، وليس هذا من باب الشهادة التي تؤدى أو تتحمل بسبيل، وإن كانوا مع شهادتهم بالحق يشهدون في الآخرة بأعمال العباد فيجب في كل ما أجمعوا عليه قولا واحدا أن يكون حقا، وفعلهم يقوم
____________
(1) أي إذا كانت الصغائر جائزة على النبي - كما يقول - فعدم منافاتها لعدالة غيره أولى.
(2) خ " من المعاصي ".
(3) خ " وأقوالهم ".
(4) في المغني: " وقد قيل: إن قوله عز وجل (لتكونوا شهداء على الناس) ليس المراد بذلك أداء الشهادة " الخ.
(5) آل عمران 18.
|
ومما تعلق به في نصرة الاجماع ما روي من قوله عليه السلام: (لا تجتمع أمتي على خطأ) (4) وهذا الخبر لا شبهة في فساد التعلق به، لأنه من أخبار الآحاد التي توجب الظن، ولا توجب علما ولا عملا، فلا يسوغ القطع بمثلها، ولا خلاف في أن نقله إلينا من طريق الآحاد، وأكثر ما
____________
(1) المغني 17 / 179.
(2) أي لم نجد عوضا، يقال: لا بد من كذا: لا فراق منه، وقيل لا عوض.
(3) المغني 17 / 180.
(4) رواه ابن ماجة في كتاب الفتن باب السواد الأعظم بلفظ " أن أمتي لا تجتمع على ضلالة " ح 3950 علق عليه محقق الكتاب بقوله: " في الزوائد: في إسناده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف وقد جاء الحديث بطريق في كلها نظر، قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي ". كما رواه أحمد في المسند 5 / 145 بلفظ : (لم تجتمع أمتي إلا على هدى) ".
|
وبعد، فليس يخلو قوله: (لا تجتمع أمتي) من أن يكون عنى به جميع المصدقين، أو بعضا منهم، وهم المؤمنون المستحقون للثواب، فإن كان الأول وجب بظاهر الكلام أن لا يختص أهل كل عصر، بل يشيع في جميع المصدقين إلى قيام الساعة حتى لا يخرج عنه أحد منهم. لأن مذهب خصومنا في حمل القول المطلق على عمومه يقتضي ذلك، وإن جاز لهم حمل الكلام على المصدقين في كل عصر كان هذا تخصيصا بغير حجة، ولم يجدوا فرقا بينهم وبين من حمله على فرقة من أهل كل عصر، وإذا وجب حمله على جميع المصدقين في سائر الأعصار لم يكن دليلا على ما يذهبون إليه من كون إجماع أهل كل عصر حجة، وإن كان على ما ذكرناه ثانيا بطل بمثل ما أبطلنا الأول من وجوب حمله على كل المؤمنين المستحقين الثواب في
____________
(1) وهناك توجيه آخر للحديث - لو صح - أنهم لا يجتمعون على خطأ لو اجتمعوا، والاجماع الذي يدعيه القاضي على ما يدعيه له لم يحصل للقطع بوجود الخلاف في الأمر المدعى.
|
فأما ما رواه من قوله " لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق " (1) فما قدمناه يبطل الاستدلال به على أن الظهور على الأمر في اللغة هو الاطلاع عليه، والعلم به، وليس يفيد التمسك به، ونفي فعل ما يخالفه، لأنه قد يظهر على الحق ويعلمه من لا يعمل به، فكان الخبر يفيد أن طائفة من الأمة لا بد من أن تكون ظاهرة على الحق، بمعنى مطلعة عليه، عالمة به، وهذا لا يمنع من اجتماع الأمة على فعل الخطأ.
____________
(1) المغني 17 / 180 ورواه كثير من المحدثين كالبخاري في صحيحة 8 / 149 كتاب الاعتصام والتوحيد و 8 / 189 المناقب. ومسلم في كتاب الإيمان ح 156 وعقد له بابا في كتاب الأمارة. وانظر المغني 17 / 180 و 181.