لأنه جائز أن تكون هذه الطائفة المطلعة على الحق لا تعمل به، وتفعل الخطأ والباطل على علم بالحق، وهذا مما لا يمتنع عند خصومنا على طائفة من الأمة، ويكون باقي الأمة بفعل الخطأ والباطل للشبهة فيكون الاجتماع على الخطأ من الأمة قد حصل مع سلامة الخبر.
فأما ما رواه من قوله: " من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليكن مع الجماعة " (1) و " يد الله مع الجماعة " (2) إلى غير ذلك من الأقوال المرغبة في لزوم الجماعة، وترك الخروج عنها فهو مما يبعد التعلق به في نصرة الاجماع، لأن لفظ الجماعة محتملة ليس يتناول بظاهرها جميع الأمة، ولا فيها دلالة على تخصيص جماعة معينة منهم، ومن مذاهب خصومنا أن الألف واللام إما أن يدخلا لتعريف أو استغراق، والاستغراق هاهنا محال، لأن في الجماعات (3) من لا شبهة في قبح الحث على اتباعه، والتعريف مفقود في هذا الموضع لأنا ما نعرف جماعة يجب تناول هذا اللفظ لهم على مذاهب مخالفينا، ومن ادعى منهم جماعة معينة يختص بهذه اللفظة كمن ادعى غير تلك الجماعة.
فأما ما ادعاه في نصرة الاستدلال بالخبر الذي ذكرناه وقوع العلم بتداول الصحابة والتابعين لذلك، واعتمادهم على الاجماع، وأنه مما لا
____________
(1) بحبوحة الدار - بضم البائين وسطها - والحديث رواه أحمد في موضعين من المسند ج 1 / 18 و 26 وفي الأول منهما " بحبحة الجنة " كما رواه الترمذي في كتاب الفتن 2 / 27 هكذا: " من أراد بحبوح الجنة فليلزم الجماعة " واستشهد به في تاج العروس مادة " بح " ونقله بحروف ما في المتن ونقل عن أبي عبيد " بحبوحة كل شئ وسطه وخياره " وانظر المغني 17 ص 180 و 181.
(2) رواه الترمذي في كتاب الفتن 2 / 27 والنسائي في كتاب تحريم الدم 7 / 92 في جملة حديث.
(3) كذا في المطبوعة والمخطوطة وفي تلخيص الشافي " في الجماعة ".
|
ثم قوله " والذي ندعيه متعارفا ظاهرا في هذا الباب بين الصحابة إجماع الأمة، وأنه لا يكون خطأ ولا ضلالا فهذا المعنى منقول معمول به، ولا احتجاج به يقع دون اللفظ " (2) فمما لم يزد فيه على الدعوى، لأنا نعلم من حال الصحابة ما ذكره، ولا نقطع على أن جميعهم كان يحتج بالاجماع على الوجه الذي يذهب إليه صاحب الكتاب، وأهل نحلته.
ولو كان ما ادعاه في تمسك الصحابة بالاجماع، واحتجاجهم به جاريا مجرى أصول الصلوات والظاهر من الفرائض لوجب أن يكون المخالف في الاجماع، والمنكر لتمسك الصحابة به، وعملهم عليه كالمخالف في أصول الصلوات وما أشبهها، والدافع لظهور العمل بها في الصدر الأول، وقد علمنا فرق ما بين المخالف في المسألتين، وكيف يدعى في هذا الموضع العلم الشامل للكل، ونحن نعلم كثرة من يخالف في الاجماع كالشيعة على اختلاف مذاهبها، والنظام (3) وأصحابه ممن لا يجوز عليه دفع الضرورات لتدينه بمذهبه، وتقربه إلى الله عز وجل باعتقاده.
____________
(1) أنظر المغني 17 / 181.
(2) المغني نفس الصفحة.
(3) النظام أبو إسحاق إبراهيم بن سيار بن هاني البصري أحد أئمة المعتزلة مات كما في لسان الميزان لابن حجر 1 / 67 في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين ومائتين وإنكاره للاجماع نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلادة 1 / 126 قال: " واعلم أن النظام لما تكلم في كتاب " النكت " وانتصر لكون الاجماع ليس بحجة، اضطر إلى ذكر عيوب الصحابة، فذكر لكل منهم عيبا، ووجه لكل واحد منهم طعنا " ثم نقل عنه أمورا يعرض بها بالإمام علي عليه السلام ثم استغفر ابن أبي الحديد النظام وسأل الله أن يعفو عنه في تعريضه بالإمام سلام الله عليه.
|
وقد بينا فيما سلف أن الرجوع في هذه العبادات وإيجابها إلى ما هو أقوى من نقل الألفاظ المخصوصة، لأن جميع المسلمين وغير المسلمين ينقلون عن أسلافهم أنهم خبروا عن أسلافهم حتى يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وآله أنه أوجب هذه العبادات، وأنهم اضطروا من قصده إلى إيجابها، وعلموا أمر دينه ذلك كما علموا سائر ما هو ظاهر من أحواله، ولا فقربنا في العلم بما ذكرناه إلى نقل لفظ مخصوص بصيغة معينة، كما لا فقر بنا إلى ذلك في (1) نقل وجود النبي صلى الله عليه وآله ودعائه إلى نفسه، وتحديه بالقرآن، إلى غير ما عددناه (2) من الأحوال الظاهرة، وإنما يحتاج إلى تتبع الألفاظ فيما لم يبلغ هذه المنزلة في الظهور، ويشترك الجميع في نقله والعلم به.
وليس يمكن أن يدعى في اعتماد الصحابة على الاجماع وعلمهم به مثل هذه الطريقة لما ذكرناه آنفا من وجود من يخالف فيما ادعي على الصحابة من اعتقاد صحة الاجماع ممن لا يجوز أن يكون حاله حال من خالف في أمر الصلوات، ودفع ظهور العمل بها بين الصحابة.
وبعد، فليس يدفع في بعضهم أنه كان ينكر الخروج عن الجماعة، ومفارقتها في الاعتقاد، وأكثر ما نعلم من حالهم في باب الاجماع هذا
____________
(1) خ " من ".
(2) خ " إلى غير ذلك مما هو من ".
|
فأما قوله: " وليس لأحد أن يقول: إن جاز ما ذكرتموه في أخبار الاجماع فجوزوا في كثير من التواتر الآن أن يصير من بعد آحادا، وتجويز ذلك يؤدي إلى أن لا تأمنوا في أصول الشرائع مثل ذلك (1)، بل في القرآن أن يصير كذلك، لأنا (2) قد أمنا تجويز ذلك لوجوه من الاشتهار نعلمها تتزايد على الأيام ولا تتناقص تفارق حالها في ذلك حال (3) الاجماع في الزمن الأول لأنها لم تبلغ هذا الحد، وهذا لا بد لكل أحد أن يجيب بمثله إذا سئل عن كثير من أخبار الآحاد في الزكوات (4) مما صح أن الحجة قامت به وهو من باب الآحاد في هذا الوقت " (5) فغير مقنع في الفرق بين الأمرين لأنه لم يزد على أن ادعى أن خبر الاجماع لم يبلغ في الأصل في باب الشهرة مبلغ الأخبار التي عورض بها، وهذا من أين له؟ وكيف أن أخبار الاجماع لم تبلغ في الظهور إلى حد أخبار الصلوات؟.
وبعد، فليس يخرجه ما ذكره عن المناقضة، لأنه اعتل في جواز كون أخبار الاجماع من باب الآحاد بعد أن كانت من باب التواتر بأن
____________
(1) في المغني " أن تصير كذلك ".
(2) وفيه: " قيل له: لأنا ".
(3) غ " أخبار الاجماع ".
(4) غ " أخبار الزكوات ".
(5) المغني 17 / 184.
|
فأما قوله: " ولا بد لكل أحد أن يجيب بمثل جوابنا إذا سئل عن كذا وكذا " (4) فقد بينا أن الجواب الصحيح غير جوابه، وأوضحنا القول في جهة حصول العلم بأصول الصلوات والزكوات وما أشبههما من العبادات بما يستغنى عن ذكره.
فأما قوله: " وقد علمنا أن الداعي إلى نقل القرآن إن لم يقو على الأيام لم يضعف، وذلك لشدة الحاجة من جهة الدين إليه، وكذلك القول في أصول الدين [ فلا يجوز أن يضعف نقله (5) ]، ولا يجوز ذلك من
____________
(1) الشريعة، خ ل.
(2) تمادت: بلغت مدى: وهو الغاية.
(3) الفارط: الذي يتجاوز الحد في الأمر وفي المخطوطة " من إطلاق ".
(4) المغني 17 / 185 وفيه: " ولا بد لكل أحد أن يجيب بمثله إذا سئل عن كثير من أخبار الزكوات ".
(5) ما بين المعقوفين من المغني.
|
وبعد، فقد صرح صاحب الكتاب في جميع كلامه الذي حكينا منه بعضا وتركنا آخر (3) بأن أخبار الصلوات والزكوات وكثير من أصول العبادات انتقل نقلا إلى الآحاد بعد أن كان متواترا من حيث أغنى الاجماع، وظهور العمل عن نقل الألفاظ المخصوصة، ثم رأيناه يمنع في هذا الموضع الذي قد انتهينا إليه من أن يتم في أصول الدين مثل ذلك.
____________
(1) في المغني ليعلم به نبوته صلى الله عليه.
(2) المغني 17 / 185.
(3) بعضا، خ ل.
|
فإذا قيل في تلك المعجزات: " إنها وإن لم تستمر فإن نقل كونها ووجودها على الوجه الذي يقتضي خرق العادة بها كاف في إزاحة علة المكلف. قلنا مثل ذلك في القرآن، وإن ادعى وجوب نقله لما يتضمنه من
____________
(1) يقال: أمر مبهم: لا معنى له، واستبهم عليه الكلام استغلق، والمراد أنه جاء بكلام لا وجه له.
(2) أنظر المغني 17 / 185.
|
فأما قوله: " واعلم أنه لا بد من إثبات ثلاثة أمور ليصح ما قدمناه: أحدها، صحة الخبر عنهم أنهم عملوا بموجب هذا الخبر، والثاني، أنهم تمسكوا به لأجله (1) دون غيره، والثالث، أن عملهم به على هذا الحد [ وتمسكهم به (2) ] يدل على صحة الخبر لا من جهة الاجماع، لكن لأن ذلك طريقة في صحة الأخبار الواردة في أحكام الشريعة (3)، فأما نقل تمسكهم بالاجماع وظهور ذلك فيهم مع ذكر هذه الأخبار فطريقه التواتر، وعلمنا بذلك من حال الصحابة كعلمنا بأنهم تمسكوا بالرجوع إلى أخبار الآحاد، بل العلم بذلك أقوى، والأمر ظاهر عنهم أنهم أجروه (4) مجرى القرآن والسنة لأن الاجتهاد ينقطع عنده، (5) " فلا شك في أن ثبوت ما ذكره من الأقسام يثبت الاحتجاج بالخبر ولكن دون ثبوته خرط القتاد (6) وأما القسم الأول الذي ادعى فيه حصول العلم بتمسك الصحابة
____________
(1) أي تمسكوا بالاجماع لأجل الخبر.
(2) التكملة من " المغني ".
(3) غ " في الأحكام الشرعية ".
(4) أي أجروا الاجماع.
(5) المغني 17 / 188.
(6) القتاد شجر له شوك أمثال الأبر ينبت بنجد وتهامة، والخرط نزع الورق اجتذابا بالكف، والمثل يضرب للشئ صعب المنال.
|
فأما قوله في الاستدلال على أنهم تمسكوا بذلك لأجل الخبر: " إن شيخنا أبا هاشم عول في ذلك على أنه كما نقل عنهم التمسك بالاجماع، فقد نقل عنهم الاحتجاج بهذه الأخبار (3) " فقد بينا أنه لا نقل في الأول، ولا علم حاصلا على الوجه الذي ادعى، فإن كان أبو هاشم يدعي نقلا مخصوصا في احتجاج الصحابة بهذه الأخبار فيجب أن يشير لنا إليه (4)، فإنا ما نعرف خبرا عن أحد من الصحابة بأنه كان يحتج في الاجماع بهذه الأخبار المدعاة، بل قد ذكرنا أنه لم يثبت عنهم احتجاج بالاجماع على ما يذهب إليه الخصوم جملة، ومن رجع إلى نفسه، وراعى النقل علم فساد
____________
(1) ولده: صنعه، وعن قرب: أي قريب.
(2) لأنه خروج، خ ل.
(3) المغني 17 / 188.
(4) أن يدلنا عليه، خ ل.
|
وأما قوله: " وقد ذكر شيخنا أبو عبد الله (1) أنه إذا ثبت تمسكهم بذلك وعملهم (2) بموجب هذه الأخبار ولم يظهر بينهم إلا هذه الأخبار فيجب أن يقطع على أن عملهم بذلك لأجلها دون غيرها، كما يجب أن يقطع على أن تمسكهم بالرجم (3) لأجل الخبر المدعى (4) في ذلك، وأن قطعهم (5) للسارق المستحق للقطع، والزاني المستحق للجلد لأجل الآيات التي ذكروها " (6) فشبيه في البطلان بما تقدم، وليس يجب من حيث ظهر عملهم بالاجماع، وظهرت رواية الأخبار التي ادعوها لو سلمنا هذين الأمرين على بطلانهما أن يكون عملهم بالاجماع من أجل الأخبار دون أن يكون لأجل الآيات التي يحتج بها مخالفونا في صحة الاجماع، وقد ذكرها صاحب الكتاب واعتمدها.
فأما عملهم بالرجم والقطع لأجل الآيات دون غيرها، فليس
____________
(1) هو الحسين بن علي البصري من أكابر علماء المعتزلة، وهو من شيوخ قاضي القضاة، توفي سنة 376 أو 79. 3.
(2) غ " وعلمهم " وما في المتن أوجه.
(3) أنظر صحيح مسلم 3 / 1317 كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى.
(4) خ " المروي ".
(5) خ " في قطع ".
(6) المغني 17 / 188.
|
فأما قوله: " والواجب في الصحابة إذا علم أنهم تمسكوا بطريقة في الدين، والمتعالم من حالهم أنهم كانوا يرجعون فيما يتمسكون به من الأحكام إلى الأدلة أن يحمل (1) تمسكهم بذلك على الأمر أن (2) يظهر فيما بينهم دون غيره، لأن الذي وجب له حمل تمسكهم بالحدود والأحكام على أنه لأجل القرآن والسنة أنهم تمسكوا بذلك ولم يظهر فيهم سواه وهذا قائم فيما ذكرناه " (3) فهذا إنما كان يجب لو لم يظهر بينهم إلا ما ادعاه من الأخبار، فأما وظهور الآيات التي أشرنا إليها بينهم معلوم، فما المانع من أن يكون عملهم إنما كان لأجلها دون الأخبار.
وما رأينا أظرف من إقدام صاحب الكتاب على أن يدعي أنه لم يظهر بينهم إلا الأخبار التي ادعيت في الاجماع، وتكراره مرة بعد أخرى قوله " ولم يظهر بينهم غيرها " (4) مع علمه بأن القرآن الذي يتضمن الآيات المتعلق بها في الاجماع قد كان ظهوره فيهم (5) أقوى من ظهور كل خبر.
وبعد، فيلزمه على هذه الطريقة التي سلكها القطع على أن عمل الصحابة بالاجماع إنما كان للآيات دون الأخبار، فضلا عن التجويز
____________
(1) في المغني " نحيل ".
(2) خ " الذي ".
(3) المغني 17 / 189.
(4) أنظر المغني 17 / 189.
(5) معهم، خ ل.
|
وهذا يوجب القطع على أن عملهم بالاجماع إن كانوا عملوا به من أجل (1) الآيات التي قد علم ظهورها بينهم، واتفق وقوفهم عليها، ومعرفتهم بها، دون الخبر الذي يعتقد كثير من الأمة أنه مولد (2) مصنوع لم تعرفه الصحابة، ولا سمعت به.
فأما قوله: " وقد صح من عادة الصحابة ومن بعده في الأخبار أنهم كانوا يتثبتون فيما لا يعظم الوزر والخطأ فيه مثل الذي روي عن عمر في الاستئذان (3) وغيره [ وما روي عن علي عليه السلام أنه كان يحلف من
____________
(1) لأجل، خ ل.
(2) مؤلف، خ ل.
(3) حديث الاستئذان رواه البخاري في كتاب الاستئذان من صحيحه 7 / 130 عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يأذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟
قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع) فقال: والله ليتضمن عليه بينة، أمنكم أحد سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك.
|
وليس يجب إذا ردوا باطلا، أو توقفوا في مشكوك في أن يفعلوا ذلك في كل ما جرى هذا المجرى، لأن المسارعة إلى قبول بعض الباطل قد تقع من العقلاء وأهل الدين لقوة الشبهة، وإن لم يجب أن يسارعوا إلى التصديق بكل باطل وإن ضعفت شبهته.
____________
(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".
(2) غ " لم تبد ".
(3) خ يظهرون الإطباق، خ ل.
(4) المغني 17 / 190.
|
ولو قيل له: من أين لك أن جميع ما ردوه كان باطلا، وكل ما قبلوه كان صحيحا؟ لم يجد متعلقا، وليس تثبت له العادة التي ذكرها إلا بعد ثبوت أنهم لم يقبلوا إلا الصحيح، ولم يدفعوا إلا الباطل.
وهذا غير مسلم في كل شئ ردوه أو قبلوه، ولا فرق بين المعتمد على (2) هذه الطريقة، وبين من قال في نفسه أو غيره: إذا كنت أو كان فلان مصيبا في كل أفعاله واعتقاداته، ومتمسكا بالحق، ودافعا للباطل، وكان هذا معلوما ومسلما وجب أن تكون هذه عادة مستمرة مانعة من أن يخطئ في شئ من الأشياء، أو يعتقده باطلا (3).
فإذا كان هذا القائل عند جميع العقلاء مبطلا واضعا للقول في غير موضعه، وكان جوابهم له: أن فلانا وإن كان مصيبا عندنا في اعتقاداته وأفعاله - كما ذكرت - فليس هذا بعاصم له من اعتقاد باطل تقوى شبهته عليه، وإنما حكمنا بصواب أفعاله من حيث علمنا بالدليل صحتها، فيجب أن يكون هذا حكمنا في جميع ما يعتقده ويفعله، ولا نجعل (4) صوابه في البعض دلالة على صوابه في الكل، وهذه صورة صاحب
____________
(1) وظاهر فساد ذلك، خ ل.
(2) في، خ ل.
(3) أو بعد باطلا قوله واضعا القول خ ل.
(4) ولا يحصل، خ ل.
|
وهذا قد فعلناه، وليس ينتهي حسن الظن بهم إلى أن يوجب علينا القطع على عصمتهم، وأنهم لا يعتقدون إلا الحق، ولا يدفعون إلا الباطل.
على أنا إذا زدنا في حسن الظن، وقلنا: أنهم لم يتلقوا أخبار الاجماع عن الآحاد، بل عن الجماعة لم يثبت ما يريده الخصوم، لأنه جائز عليهم أن يعتقدوا في الجماعة التي أوردت عليهم تلك الأخبار صفة المتواترين فيصدقوهم وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك، لأن العلم بصفة الجماعة المتواترة التي يقطع خبرها العذر ليس يحصل ضرورة، بل الطريق إلى استدراكه الاستدلال الذي يجوز على الصحابة - وإن تدينت، وحسنت طرائقها - الغلط (2) فيه.
وأرجو أن لا تنتهي الضرورة بصاحب الكتاب إلى أن يدعي أن الصحابة لا يجوز عليها الغلط في الاستدلال على كون الخبر متواترا، وإن كان ما ادعاه قريبا من هذا، ومتى طولب حامل نفسه على هذه الطريقة (3) بالدلالة على صحة قوله ظهر عجزه، وبان (4) أمره من قرب.
____________
(1) أن يحكموا، خ ل.
(2) الغلط فاعل " يجوز ".
(3) الأمور، خ ل.
(4) بأن - هنا -: اتضح.
|
فأما قوله: " وأما الطريقة الثانية " فقد ذكرها (2) في البغداديات، وقال: " وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه ثم رحمة الله عليهم، ملازمين له في أكثر الأزمان إلا في الأوقات اليسيرة، والتعبد (3) بما أجمعت عليه الأمة يشمل الخاصة والعامة، فلو قال لهم قائل: إنه عليه السلام (4) قال: " إن أمتي لا تجتمع على ضلال " (5) ولم يكن فيهم من سمع ذلك مع أن هذا القول يجري [ منه صلى الله عليه ] (6) مجرى ما تقوم به (7) الحجة منه على الناس، ولم يخبر بذلك إلا واحدا لا يعرفون صدقه لقد كان الواجب أن يردوه، ويقفوا عند قوله، فلما رأيناهم قد أذعنوا لهذا الخبر، ولم ينكروه، علم (8) أنه صحيح (9) " فلو وجب أن يرد الصحابة من الأخبار ما لم يسمعه جميعهم، أو أكثرهم، لوجب ردهم كل الأخبار المروية، أو أكثرها، لأن الأكثر من الأخبار قد تفرد بنقله جماعة دون
____________
(1) المغني 17 / 190.
(2) يعني أبا عبد الله الحسين بن علي البصري وقد تقدم ذكره.
(3) غ " ثم التعبد ".
(4) غ " صلى الله عليه ".
(5) تقدم تخريج هذا الحديث.
(6) ما بين الحاصرتين من المغني.
(7) غ " ما يقيم به الحجة ".
(8) غ " علم بذلك وحاله ما ذكرناه أنه صحيح ".
(9) المغني ج 17 / 191.
|
وهذا إن قيل عقلا عرفت صورة قائله، وإن قيل سمعا فنحن في الكلام على السمع المدعى، وقبل تصحيحه لا يجب القطع على ذلك.
وقوله في كلامه: " ولم يخبر بذلك إلا واحد لا يعرفون صدقه (2) " مضى الكلام على مثله، لأنهم وإن لم يعرفوا صدقه معتقدون له.
وقوله: " لقد كان الواجب أن يردوه، ويقفوا عند قوله " صحيح، غير أن الواجب يجوز أن لا يفعله من يجب عليه وكلامنا فيما يجوز أن يفعلوه، أو يخلوا به لا فيما يجب عليهم، وليس يكون نتيجة تقديمه أن الواجب أن يردوه، ويقفوا عنده، أنهم إذا أذعنوا له ولم ينكروه، علم أنه صحيح، بل إنما تكون هذه النتيجة إذا تقدم مع أن الواجب أن يردوه
____________
(1) أنعم النظر: زاد فيه تمعنا.
(2) المغني 17 / 191.
|
فأما قوله: " ونظير ذلك أن نجد إنسانا يروي خبرا عن مجلس حافل، ومجمع عظيم، فالمعلوم أنه متى كان كاذبا أنكر عليه من يحضر ذلك المجلس، وإذا لم ينكره علم صدقه في خبره (2) " فباطل لأنه غير ممتنع أن يمسك أهل المجمع الذي ذكره عن كاذب يعرفون كذبه إذا كان هناك غرض لهم، أو كان في الامساك عن تكذيبه دفع ضرر عنهم، أو جر نفع إليهم، لأنا نعلم أنه لو كان لأهل هذا المجمع ببعض الناس عناية، وكان شريكا لهم في أموالهم، أو قريبا إليهم في نسبهم، وكانوا قد أحسوا من بعض السلاطين الظلمة يطمع في حاله وماله (3)، وقام هذا المخبر الكاذب بحضرة ذلك السلطان، أو بحضرة من يبلغه من أصحابه، فقال وأهل المجمع حضور: هؤلاء يعلمون أن فلانا - وأشار إلى الذي ذكرناه - أنه شريك للقوم، أو هم على عناية شديدة به فقير لا حال له ولا مال، وأنه حضرهم في يوم كذا فسألهم ما يصلح به حاله، ويلم به شعثه (4)، لكان جميع أهل المجمع يمسكون عن الرد عليه مع علمهم بكذبه، بل ربما صدقوه، وشهدوا لفظا بمثل قوله، ومن دفع هذا كان مكابرا لعقله، على أن ما ضربه من المثل غير مشبه لما نحن فيه، ولو سلم له لأن خبر الاجماع لم يدعيه الراوي على الصحابة، ولا استشهدهم عليه، لأنا قد بينا بطلان
____________
(1) هيهات: كلمة تبعيد وهي مبنية على الفتح وبعضهم يكسرها على كل حال.
(2) المغني 17 / 192.
(3) الحال: التراب اللين الذي يقال له: السهلة، والطين الأسود ويسمى اللبن الذي عن كراع حالا، والمال في الأصل: الذهب والفضة ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك، فعليه يكون الحال والمال كل ما يملك من نقد وغيره، وفي حديث فدك قال أبو بكر لفاطمة عليها السلام لما طالبته بها: " وهذه مالي لا تزوى عنك ولا تدخر دونك ".
(4) الشعث - بالتحريك - إنشار الأمر.