الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

ابتداعها لمقالتها، كما حكوا في جملة المقالات قول الشذاذ والاغفال (1) من ذوي النحل المبتدعة، والمقالات المعلوم سبق الإجماع إلى خلافها، ثم إنا لا نجد في وقتنا هذا ممن لقيناه أو أخبرنا عنه منهم إلا الواحد والاثنين، ولعل أحدنا يمضي عليه عمره كله لا يعرف فيه بكريا بعينه، ولو كان إلى إحصاء من ذهب إلى هذه المقالة في العراق كله، وما والاه وجاوزه من البلدان سبيل لما بلغ عدتهم خمسين إنسانا، وليس يمكن فيما كان طريقه الوجود إلا الإشارة والتنبيه (2)، فالاعتراض بمن وصفنا حاله، وادعاء مساواته للشيعة مع تفرقها في البلاد، ومع انتشارها في الآفاق، فإنه لا يخلو كل بلد، بل كل محلة من جماعة كثيرة منهم، هذا إلى ما نعلمه من غلبتهم على كثير من كور (3) البلاد، حتى أن مخالفهم في تلك المواطن يكون شاذا مغمورا، إلى ما نعلمه من كثرة العلماء فيهم والمتكلمين والفقهاء والرواة، ومن صنف الكتب، ولقي الرجال، وناظر الخصوم، واستفتي في الأحكام في نهاية البعد، والمعول عليه على غاية الظلم، وليس لأحد أن يقول: كيف يصح أن تضعفوا هذه المقالة وأصحاب الحديث، أو أكثرهم داخلون فيها، لأن هذا القول غفلة من قائله، وتكثر في المذاهب لمن هو خارج عن جملته، لأن أصحاب الحديث كلهم ينكرون النص على أحد بعد الرسول صلى الله عليه وآله، ويثبتون إمامة أبي بكر من طريق الاختيار، وإجماع المسلمين، وليس يذهب من جملتهم إلى النص على أبي بكر من ذهب إليه من حيث كان صاحب الحديث، وإنما يذهب إلى النص من حيث ارتضاه مذهبا يتميز به عن جملة أصحاب

____________

(1) الاغفال: ذوو الغفلة.

(2) " والتبيين " في حاشية المخطوطة فقط.

(3) كور - جمع كورة بوزن صورة -: المدينة والصقع.

الصفحة 110
الحديث، ويلحق بأهل المقالة (1) المخصوصة التي أخبرنا عن شذوذها، وقلة عددها (2) فالتكثير بأصحاب الحديث لا وجه له.

ومنها، (3) إن الذي ترويه هذه الفرقة، وتحتج به للنص على أبي بكر ليس في صريحه ولا فحواه نص على إمامته، هذا على أن طريقه كله الآحاد، ولو سلم لراويه، ولم ينازع في صحته لما أمكن المعتمد عليه أن يبين فيه وجها للنص بالإمامة، وذلك مثل تعلقهم بالصلاة وتقديمه فيها، وبما يروون من قوله: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " (4) و (إن الخلافة بعدي ثلاثون) (5) وقد ذكر في غير موضع الكلام على هذه الأخبار

____________

(1) أي مقالة البكرية.

(2) لعله: وقلة عدد القائلين بها.

(3) أي ومن الوجوه التي تدل على فساد ادعاء البكرية النص.

(4) حديث الاقتداء لم يصححه العلماء من السنة والشيعة، قال ابن حزم في الفصل: 4 / 108 " لو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحا، أو أبلسوا أسفا لاحتججنا بما روي: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) ولكنه لم يصح ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصح " وقال الذهبي في ميزان الاعتدال ج 1 / 105، في " أحمد بن صليح عن ذنون المصري عن مالك عن نافع عن ابن عمر، بحديث (اقتدوا. الحديث) وهذا غلط وأحمد لا يعتمد عليه " ورواه ج 3 / 610 من طريق محمد بن عبد الله بن عمر بن القاسم عن مالك عن نافع عن ابن عمر وقال: " العمري - يعني محمد بن عبد الله المذكور - يحدث عن مالك بالأباطيل " وقال في ج 1 / 142 بترجمة أحمد بن محمد بن غالب الباهلي: " ومن مصائبه حدثنا محمد بن عبد الله العمري عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا.. الحديث) فهذا ملصق بذلك، وقال أبو بكر النقاش: وهو واه " ومثله في ميزان الاعتدال ج 1 / 188.

(5) هذا الخبر يرده الواقع لأنه لو صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله قاله فاللازم أن الثلاثين سنة لا تزيد ولا تنقص حتى يكون هذا الخبر كسائر الأخبار المعدودة من أعلام النبوة، لأن سني الخلافة من يوم بيعة أبي بكر (رض) إلى وفاة أمير المؤمنين عليه السلام تزيد على الثلاثين شهورا وإذا ضممت إليها أيام الحسن عليه السلام قبل الصلح فإنها تكون أزيد، ووجود الزيادة كوجود النقصان في إخراج الخبر أن يكون صدقا، مضافا إلى أنه يخالف الخبر الصحيح المروي في البخاري ومسلم وغيرهما في حصر الخلافة في اثني عشر خليفة، وقد قيل إن هذا الخبر مروي عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه موقوف عليه وما كان كذلك لا يكون حجة.

الصفحة 111
وبطلان دلالتها على نص بإمامة فشتان بين قولهم وقول الشيعة، لأن الشيعة تدعي نصا صريحا لا مجال للتأويل عليه، وما تدعيه من النصوص التي يمكن أن تدخل شبهة فيها، وفي تأويلها قد بينوا كيفية دلالتها على النص، وبطلان ما قدح به خصومهم فيها، وسنذكر ذلك في مواضعه وكل هذا غير موجود في البكرية (1).

ومنها، ظهور أفعال وأقوال من ادعي النص عليه ومن غيره تنافي النص وتبطل قول مدعيه مثل احتجاج أبي بكر على الأنصار لما نازعت في الأمر، ورامت جره إليها بقوله عليه السلام: (الأئمة من قريش) وعدوله عن ذكر النص، وقد علمنا أن النص عليه لو كان حقا كما تدعيه البكرية لما جاز من أبي بكر مع فطنته ومعرفته بمواقع الحجة أن لا يحتج به ويذكر الأنصار سماعه إن كانوا سهوا عنه أو نسوه، أو أظهروا تناسيه، أو يفيدهم إياه إن كانوا لم يسمعوا به - وإن كان ذلك بعيدا - كما أفادهم حصر (الأئمة من قريش) وهم لا يسمعوه إلا من جهته (2) فيقبله من يقبله منهم حسن ظن به، ونحن نعلم أن الاحتجاج بالنص في ذلك المقام أولى وأحرى، لأن الاحتجاج به يتضمن حظر ما رامته الأنصار في الحال،

____________

(1) أي فيما تدعيه من النص.

(2) الضمير في جهته لأبي بكر (رض).

الصفحة 112
لأن المنصوص عليه إن كان أبو بكر لم يجز لأحد من الأنصار في تلك الحال الإمامة، ويتضمن أيضا تخصيص الإمامة في من خصه الرسول بها، وليس لأحد أن يجعل الحجة بالخبر الذي احتج به أبو بكر أثبت من جهة أن فيه إخراجا لكل من عدا قريشا من الإمامة، وليس مثله في ذكر النص على أبي بكر، لأنه وإن كان كذلك ففي الاحتجاج بغير النص إخلال بتعيين موضع الإمامة الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وآله، وأوجب على من أشار إليه باستحقاق القيام به، والذب عنه فلا أقل من أن يجب ادعاؤه وإمراره على سمع الحاضرين، وإن لم يسغ الاقتصار على الاحتجاج بالخبر الذي رواه لما بيناه من الاخلال لم يسغ أيضا الاقتصار على ذكر النص لما ذكروه وسلمناه تبرعا، فالواجب الجمع بين الأمرين في الاحتجاج ليكون أخذا للحجة بأطرافها ومزيلا للشبهة في أنه ليس بمنصوص عليه، وليس لهم أن يقولوا: مثل هذا لازم لكم من قبل أن أمير المؤمنين عليه السلام مع أنه منصوص عليه عندكم لم يحضر السقيفة ولا احتج بالنص عليه على من رام دفعه في ذلك الموطن، ولا في غيره من المواطن كالشورى وغيرها لأن الفرق بين قولنا وقولهم في هذا الموضع ظاهر واضح من قبل. إن أمير المؤمنين عليه السلام أولا لم يحضر السقيفة ولا اجتمع مع القوم، ولا جرى بينه وبينهم في الإمامة خصام ولا حجاج وأبو بكر حضر وخاصم ونازع واحتج واستشهد، وعذر أمير المؤمنين عليه السلام إذا قيل فما باله لم يحضر ويحاج القوم وينازعهم؟ ظاهر لائح لأنه عليه السلام رأى من إقدام القوم على الأمر وإطراحهم للعهد فيه وعزمهم على الاستبداد به مع البدار منهم إليه، والانتهاز له (1) ما آيسه من الانتفاع

____________

(1) في المخطوطة " والابتهار له " والبهر - كالمنع -: الدفع الشديد، والضرب في الصدر باليد.

الصفحة 113
بالحجة وقوي في نفسه صلوات الله عليه ما تعقبه المحاجة لهم من الضرر في الدين والدنيا، هذا إلى ما كان متشاغلا به من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه عليه السلام لم يفرغ من بعض ما وجب عليه من تجهيزه ونقله إلى حفرته، حتى اتصل به تمام الأمر ووقوع العقد، وانتظام أمر البيعة، وليس هذا ولا بعضه في أبي بكر لأنه لم يشغله عن الحضور والمنازعة شاغل، ولا حال بينه وبين الاحتجاج حائل، ولا كانت عليه من القوم تقية لأنه كان في حيز المهاجرين الذين لهم القدم (1) والتقدم، وفيهم الأعلام، ثم انحاز إليه أكثر الأنصار، وكل أسباب الخوف والاحتشام (2) عنه زائلة لا سيما وعند جماعة مخالفينا أن القوم الحاضرين بالسقيفة إنما حضروا للبحث والتفتيش والكشف عمن يستحق الإمامة ليعقدوها له، ولم يكن حضورهم لما تدعيه الشيعة من إزالة الأمر عن مستحقيه، والعدول به عن وجهه، فأي عذر لمن لم يذكر من حاله في الإنصاف وطلب الحق هذه بعهد الرسول صلى الله عليه وآله ونصه عليه، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى زيادة في كشفه فأما المانع لأمير المؤمنين عليه السلام من الاحتجاج بالنص في الشورى فهو المانع الأول مع أنه في تلك الحال قد ازداد شدة واستحكاما لأن من حضر الشورى من القوم كان معتقدا لإمامة المتقدمين، وبطلان النص على غيرهما، وأن حضورهم إنما كان للعقد من جهة الاختيار فكيف يصح أن يحتج على مثل هؤلاء بالنص الذي لا شبهة في أن الاحتجاج به تظليم للمتقدمين وتضليل لكل من دان بإقامتهما، وامتثل حدودهما، وليس بنا حاجة إلى ذكر ما كان عليه صلوات الله عليه في ذلك لظهوره.

____________

(1) القدم: السابقة في الأمر.

(2) الاحتشام: الانقباض والاستحياء.

الصفحة 114
ومما يدل من أقواله على بطلان النص عليه قوله (1) مشيرا إلى أبي عبيدة وعمر في يوم السقيفة: بايعوا أي الرجلين شئتم، وليس هذا قول من لزمه فرض الإمامة، ووجب عليه القيام بها لأنه قد عرض بهذا القول عقد الرسول للحل وأمره للرد وليس يجوز هذا عند مخالفينا على أبي بكر جملة ولا عندنا فيما يختص به ويرجع إليه، وقوله في خلافته لجماعة المسلمين " أقيلوني " (2) وليس يجوز أن يستقيل الأمر من لم يعتقده له ولا تولاه من جهته، وقوله عند وفاته " وددت أني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذا الأمر فيمن هو فكنا لا ننازعه أهله " (3) وهذا قول صريح في إبطال النص عليه ويدل أيضا على ذلك قول عمر: " كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه " (4) وليس يصح

____________

(1) الضمير في " قوله " يعود لأبي بكر، وانظر (تاريخ الطبري 3 / 221 حوادث سنة 11 ومسند أحمد 1 / 56.

(2) استقالة أبي بكر (رض) من الخلافة متواترة ومن رواتها ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 50 بلفظ " أقيلوني، أقيلوني لست بخيركم " وفي الرياض النضرة 1 / 175، والإمامة والسياسة ج 1 / 14 " لا حاجة لي في بيعتكم أقيلوني " وفيه أيضا 1 / 16 أنه احتجب عن الناس ثلاثا يشرف كل يوم يقول: " أقلتكم بيعتي ".

(3) روى هذا الكلام عنه جماعة منهم الطبري في التاريخ 2 / 430 حوادث سنة 13 والمسعودي في مروج الذهب 1 / 141 وابن عبد ربه في العقد الفريد 4 / 268.

(4) قول عمر (رض): كانت بيعة أبي بكر فلتة الخ، رواه البخاري في صحيحه ج 8 / 25 في كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى، وابن هشام في السيرة 4 / 308 وابن الأثير في الكامل 2 / 347، وابن كثير في البداية والنهاية 5 / 246 وابن حجر في الصواعق المحرقة ص 36 وانظر نهاية ابن الأثير 3 / 467 وتاج العروس 5 / 568 مادة " فلت " والسبب في قوله هذا على ما رواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة عن الجاحظ " إن عمار بن ياسر قال: لو مات عمر لبايعت عليا " وقد ذكر ابن أبي الحديد أقوال العلماء في هذه الفلتة، وتوجيههم لها في شرح نهج البلاغة م 1 من ص 123 - 127.

الصفحة 115
أن يوصف ما عقده الرسول وعهد فيه بأنه فلتة، وقوله لأبي عبيدة: " أمدد يدك أبايعك " حتى قال له أبو عبيدة: " ما لك في الاسلام فهة (1) غيرها " لأن النص على أبي بكر لو كان حقا لكان عمر به أعلم، ولو علمه لم يجز منه أن يدعو غيره إلى العمل بخلافه، ولا حسن من أبي عبيدة أيضا:

ما روي عنه من الجواب لأن المروي " مالك في الاسلام فهة غيرها أتقول هذا وأبو بكر حاضر " على سبيل التفصيل لأبي بكر، والتقديم له على نفسه، وذكر النص على أبي بكر لو كان حقا في الجواب أولى وأشبه بالحال، وقول عمر أيضا لما حضرته الوفاة: " إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني " يعني أبا بكر " وإن أترك فقد ترك من هو خير مني " (2) يعني رسول الله صلى الله عليه وآله ومثل هذا لا يجوز أن يقوله عمر وهو يعلم بحال النص على أبي بكر، ولو قاله بحضرة المسلمين لما جاز أن يمسكوا عن رده لو كان النص على أبي بكر حقا.

ومنها، أنه لو كان النص عليه حقا لوجب أن يقع العلم به لكل من سمع الأخبار على حد وقوعه بما كان منه من النص على عمر، وبما وقع من نص عمر على أصحاب الشورى، إلى غير ما ذكرناه من الأمور الظاهرة، وفي علمنا بمفارقة ما يدعى من النص على أبي بكر لما عددناه دليل على انتفائه وإنما أوجبنا وقوع العلم به على الحد الذي نعتناه من حيث كانت جميع الأسباب الموجبة لخفاء ما تدعيه الشيعة من النص على أمير المؤمنين عليه السلام عنه مرتفعة، وجميع ما يقتضي الظهور وارتفاع

____________

(1) المراد بالفهة - هنا -: السقطة (أنظر نهاية ابن الأثير 3 / 482 مادة " فهه ".

(2) أنظر صحيح البخاري ج 8 / 129 كتاب الأحكام، باب الاستخلاف.

الصفحة 116
الشك والشبهات فيه حاصلا لأن الرئاسة بعد الرسول صلى الله عليه وآله له انعقدت، وفيه حصلت، ولم يكن بعد استقرار إمامته من أحد خلاف ولا رغبة عنه، ثم استمرت ولايته على هذا الحد وتلاها من الولايات ما كانت كالمبنية (1) عليها، والمشيدة لها، فلا سبب يقتضي خفاء النص عليه وانكتامه لأنه إذا ارتفعت فيما يقتضي الكتمان أسباب الخوف ودواعي الرغبة والرهبة وقامت دواعي الإظهار والإشاعة، فلا بد من الظهور، وكيف يجوز أن لا يدعي النص - لو كانت له حقيقة - أبو بكر نفسه في طول ولايته، وفي حال العقد لنفسه، ويقول لمن قصد إلى أن يعقد الإمامة له ويوجبها من طريق الاختيار - لا حاجة إلى اختياركم إياي إماما وقد اختارني رسول الله صلى الله عليه وآله لكم، ورضيني للتقدم عليكم.

وكيف يجوز أن يمسك مع سلامة الحال وزوال كل سبب للخوف والتقية عما ذكرناه وفي إمساكه عن ذلك تضييع لما لزمه، وإغفال لتنبيه القوم على موضع النص عليه وأقل الأحوال أن يكون الامساك موهما لارتفاع النص وموقعا للشبهة؟.

وكيف يجوز أيضا إذا لم يدع ذلك هو لنفسه أن لا يدعيه له أحد في طول أيامه وأيام عمر التي تجري مجرى أيامه ولا يذكره ذاكر؟ ونحن نعلم يقينا أن الرؤساء وذوي السلطان والمالكين للأمر والنهي والرفع والوضع يتقرب إليهم في الأكثر بما يقتضي تعظيمهم وتبجيلهم وإن كان باطلا توضع فيهم الأخبار ويوضع لهم المدائح، وإذا كانت هذه العادة مستقرة فكيف يجوز أن يعلموا تفضيله الذي يجري مجرى النص بالإمامة فلا

____________

(1) كالمرتبة، خ ل.

الصفحة 117
يذكرونها ويشدون (1) بها ولا تقية عليهم، ولا مانع لهم، وهذا أظهر من أن يخفى، وليس لأحد أن يقول: إنكم جعلتم حصول الأمر في أبي بكر وإجماع الناس عليه سببا لظهور النص وهو بالضد مما ذكرتموه لأنه وإن كان انعقد له فإنما انعقد بالاختيار لا بالنص، فكيف يكون حصول ضد الشئ سببا لظهوره؟ وذلك أن الأمر وإن كان جاريا على ما ذكره هذا المعترض ففيه أوضح دلالة على بطلان النص لأن وقوع العقد له من جهة الاختيار لو كان هناك نص عليه لم يجز أن يقع من تلك الجهة لأنه إذا كان القوم الذين عقدوا له لم يرغبوا عنه، ولا عدلوا إلى غيره، ولا همت نفس أحدهم بجر الأمر إليها والاستبداد به، فلا بد من امتثالهم النص ولو كانت له حقيقة والعمل عليه دون غيره، اللهم إلا أن يكون القوم إنما كان قصدهم خلاف الرسول صلى الله عليه وآله مجردا لأنهم غير متهمين بقصد المنصوص عليه، وقد عقدوا له واجتمعوا معه وناضلوا من خالفه حتى استوسق (2) الأمر له وانتظم، ولم يبق في عدولهم عن ذكر النص وامتثاله مع ارتفاع التهمة عنهم فيما رجع إلى المنصوص عليه إلا أن يكونوا قصدوا إلى خلاف الرسول صلى الله عليه وآله الذي وقع النص منه وليس القوم عند مخالفينا ولا عندنا بهذه الصفة.

ومنها، اتفاق الكل على ارتفاع العصمة عن أبي بكر، وإذا كنا قد دللنا فيما تقدم على أن الإمام لا بد أن يكون معصوما وجب نفي الإمامة عمن علمنا انتفاء العصمة عنه، ووجب علينا القضاء ببطلان النص عليه، لأن النص من الرسول صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يقع على من لا يصلح أن يكون إماما.

____________

(1) ويشيدون بها، خ ل.

(2) استوسق الأمر: انتظم.

الصفحة 118
ثم يقال لمن عارضنا بالبكرية وادعى أن نقلهم مساو لنقلنا: بأي شئ تنفصل ممن عارضك وجماعة المسلمين فيما تدعيه من نقل معجزات الرسول وأعلامه وبيناته صلى الله عليه وآله بنقل الحلاجية (1) والبنانية (2) أصحاب بنان والخطابية أصحاب أبي الخطاب (3) ونقل المانوية (4) والمجوس لما يدعونه من معجزات أصحابهم، وجعل كل شئ تدعيه في تميز نقل المسلمين حاصلا في نقل هذه الفرق، وهذا ما لا يمكنك الانفصال عنه والإشارة إلى فرق معقول فيه إلا بما يمكن الشيعة أن تنفصل به وتجعله فرقا بين نقلها ونقل البكرية، ومن شك في ذلك فليتعاطه ليعلم صدق قولنا.

فأما قول صاحب الكتاب: " ومتى قالوا في هذه الطائفة - يعني البكرية -: إنها قليلة قيل لهم في طائفتهم مثله لأن شيوخنا قالوا كيت وكيت) فقد بينا أن من يدعي النص من البكرية

____________

(1) الحلاجية: أتباع الحسين بن منصور الحلاج أصله من فارس نشأ بواسط وانتقل إلى البصرة ثم إلى بغداد وتنقل في البلدان وتبعه خلق كثير، واختلف الناس فيه بين قادح ومادح والله أعلم بحقيقة حاله وشى به إلى المقتدر، فقبض عليه وسجنه، ثم أخرجه وأمر بقطع أطرافه، وظهر منه عند ذلك من الصبر والجلد شئ عجيب وحز رأسه ونصب على الجسر ببغداد ثم أحرقت جثته وذريت رمادا في دجلة - وذلك سنة 309.

(2) البنانية من فرق المعتزلة أتباع بنان بن سمعان التميمي.

(3) الخطابية أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي بالولاء وهم فرق منها المعمرية، والبزيعية، والعجلية.

(4) المانوية أصحاب ماني بن فاتك الذي ظهر في زمان سابور بن أردشير وقتله بهرام بن هرمز بن سابور، وذلك بعد عيسى عليه السلام أحدث دينا بين المجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة المسيح عليه السلام ولا يقول بنبوة موسى عليه السلام أنظر الملل والنحل 1 / 244.

الصفحة 119
لا يجوز أن يتوهم عاقل مساواتهم في هذه الأزمان لفرقة من فرق الإمامية، بل لأهل محلة منهم فضلا عن أن يقال: إن حالهم كحالهم ومن دعته الضرورة إلى أن يسوي بين من يدعي النص على أمير المؤمنين عليه السلام وبين من يدعيه لأبي بكر في هذه الأزمان كانت صورته معروفة اللهم إلا أن يدعي في أصل نقل الشيعة الشذوذ والقلة ومساواة البكرية في ذلك، وهذا إذا ادعى كان أقرب من الأول.

وقد بينا فيما سلف أن أول الشيعة في نقل النص كآخرهم بما لا حاجة بنا إلى تكراره.

فأما قوله: " إن أول من تجاسر على ذلك ابن الراوندي وأبو عيسى وهشام بن الحكم " فما قدمناه يبطله على أنه لو كان ما ادعاه حقا لوجب أن يقع لنا العلم ولكل من سمع الأخبار إذا خالط أهلها من ملي وذمي وشيعي وناصبي بأن ادعاء النص لم يتقدم زمن هؤلاء المذكورين، وأنه لم يعرف قبلهم كما علم كل من سمع الأخبار أن قول الخوارج لم يتقدم زمان حدوثهم، وكذلك قول الجهمية والنجارية إلى سائر الفرق التي نشأت وأحدثت أقوالا لم يسبق إليها، وفي علمنا باختلاف الأمرين في باب العلم وإن من خالفنا لا يحيل فيما يدعيه من كون النص مبتدأ في زمان من ذكره إلا على التظني والتوهم والأشبه والأليق دليل على بطلان دعوى القوم فإن ارتكب منهم مرتكب أنه يعلم حدوث النص في زمن من ذكره كما نعلم ما ذكرناه لم يجد فرقا بينه وبين الشيعة إذا ادعت أنها تعلم أن النص متقدم لزمان ابن الراوندي وهشام، كما نعلم أن القول بالعدل، والمنزلة بين المنزلتين متقدم لزمان النظام وأبي الهذيل وأن من ادعى كون النص موقوفا على ابن الراوندي وعندنا بمنزلة من ادعى كون القول بالعدل والوعيد موقوفا على زمن النظام.


الصفحة 120
وبعد، فمن ارتكب ما حكيناه في نفسه وادعاه علينا عليها لا يمكنه أن يدعيه على سائر الناس السامعين للأخبار والمخالطين لأهلها وإذا كنا لا نجد غيره يعلم ما ادعى علمه وجب أن نقطع على بطلان دعواه لأن ما يوجب تساوي الناس في العلم بسائر الأمور الظاهرة وحدوث المذاهب الحادثة يقتضي تساويهم في هذا العلم إن كان صحيحا، وليس يجب أن يكون القول مقصورا على من صنف الكلام في نصرته وجمع الحجاج والنظر ولا يقدر على تصنيف الكتب، وإذا صح هذا بطلت الشبهة في كون النص مبتدأ من جهة هشام أو من جهة ابن الراوندي، لأنها إنما دخلت على المخالفين من حيث لم يجدوا للشيعة كلاما مجموعا في نصرة النص وتهذيب طرق الحجاج فيه متقدما لزمان من أشاروا إليه وذلك لو صح على ما فيه لم يكن فيه شبهة لما بيناه من أن التصنيف والجمع لا يكونان دلالة على ابتداء القول فيه من المصنف.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فلو جاز حصول النص على هذه الطريقة، ويختص بمعرفته قوم دون قوم على بعض الوجوه ليجوزن ادعاء النص على العباس وغيره، وإن اختص بمعرفته قوم دون قوم ثم انقطع النقل لأنه إن جاز ارتفاع النقل فيما يعم تكليفه عن بعض دون بعض جاز انقطاعه عن جميع المكلفين كذلك لأن ما أوجب إزاحة العلة في كلهم يوجب إزاحة العلة في بعضهم... " (1).

يقال له: إن المعارضة بما يدعي من النص على العباس أبعد من الصواب من المعارضة بالنص على أبي بكر والذي يبين بطلان هذه المقالة

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 119.

الصفحة 121
والفرق بينها وبين ما يذهب إليه الشيعة في النص على أمير المؤمنين عليه السلام وجوه:

منها، أنا لا نسمع بهذه المقالة إلا حكاية، وما شاهدنا قط ولا شاهد من أخبرنا ممن لقيناه قوما يدينون بها والحال في شذوذ أهلها أظهر من الحال في شذوذ البكرية، فإن البكرية وإن كنا لم نلق منهم إلا آحادا (1) لا تقوم الحجة بمثلهم، فقد وجدوا على حال وعرف في جملة الناس من يذهب إلى المقالة المروية عنهم، وليس هذا في العباسية، ولولا أن الجاحظ صنف كتابا حكى فيه مقالتهم (2) وأورد فيه ضربا من الحجاج ونسبه إليهم لما عرف لهم شبهة ولا طريقة يعتمد في نصرة قولهم، والظاهر أن قوما ممن أراد التسلق والتوصل إلى منافع الدنيا تقرب إلى بعض خلفاء ولد العباس بذكر هذا المذهب وإظهار اعتقاده، ثم انقرض أهله، وانقطع نظام القائلين به لانقطاع الأسباب والدواعي لهم إلى إظهاره، ومن جعل ما يحكى من هذه المقالة الضعيفة الشاذة معارضة لقول الشيعة في النص فقد خرج عن الغاية في البهت (3) والمكابرة.

ومنها، أن الذي يحكى من هذه الفرقة التي أخبرنا عن شذوذها وانقراضها مخالف أيضا لما تدين به الشيعة من النص، لأنهم يعولون فيما يدعونه من النص على صاحبهم رحمة الله عليه (4) على أخبار آحاد ليس في شئ منها تصريح بنص ولا تعريض به، ولا دلالة عليه من فحوى ولا ظاهر، وإنما يعتمدون على أن العم وإرث، وأنه يستحق وراثة المقام كما يستحق وراثة المال، وعلى ما روي من قوله عليه السلام (ردوا علي

____________

(1) في الأصل " أحدا " والتصحيح عن المخطوطة.

(2) برسالة سماها " العباسية ".

(3) البهت: التقول على الغير بما لم يقل.

(4) يعني العباس.

الصفحة 122
أبي) (1) وما أشبه هذا من الأخبار التي إذا سلم نقلها، وصحت الرواية المتضمنة لها لم يكن فيها دلالة على النص ولا إمارة، ولا اعتبار بمن يحمل نفسه من مخالفينا على أن يحكي عنهم القول بالنص الجلي الذي يوجب العلم ويزيل الريب كما تقول الشيعة، لأن هذا القول من قائله لا يغني عنه شيئا مع العلم بما حكى من مقالة هذه الفرقة، وسطر في احتجاجها واستدلالها، ولو لم يرجع في ذلك إلا إلى ما صنفه الجاحظ لهم لكان فيه أكبر حجة، وأوضح دلالة، وما وجدناه مع توغله، وشدة توصله إلى نصرة هذه المقالة أقدم على أن يدعي على الرسول صلى الله عليه وآله نصا صريحا بالإمامة، بل الذي اعتمده هو ما قدمنا ذكره وما يجري مجراه، مثل قول العباس رضي الله عنه وقد خطب رسول الله خطبته المشهورة في الفتح وانتهى إلى قوله (إن مكة حرام حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى خلاها (2) ولا يعضد شجرها): إلا الإذخر يا رسول الله، فأطرق صلى الله عليه وآله وقال: (إلا الإذخر) ومثل ما روي من تشفيعه عليه السلام في مجاشع بن مسعود السلمي (3) وقد التمس البيعة على الهجرة بعد أن قال عليه السلام (لا هجرة بعد الفتح) (4) فأجابه عليه

____________

(1) أي العباس بن عبد المطلب.

(2) الخلي - بفتح المعجمة مقصور - الرطب من الحشيش، الواحدة خلاة، والإذخر - بكسر فسكون - نبات طيب الرائحة وانظر صحيح البخاري ج 5 / 85 آخر.

أحاديث غزوة الفتح.

(3) مجاشع بن مسعود بن ثعلبة السلمي صحابي كان أميرا على بني سليم من أصحاب الجمل، وقتل قبل الوقعة.

(4) صحيح البخاري ج 3 / 200 كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد، و ج 4 / 38 باب " لا هجرة بعد الفتح " وص 253 في كتاب مناقب الأنصار باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه بقية أصحاب السنن.

الصفحة 123
السلام إلى ذلك، ومثل ادعائه سبقه الناس إلى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله عند وفاته وتعلقه بحديث الميزاب (1) وحديث اللدود (2) إلى غير ما ذكرناه مما هو مسطور في كتابه (3) ومن تصفحه علم أن جميع ما اعتمده لا يخرج عما حكمنا فيه بخلوه من الإشارة إلى النص أو الدلالة عليه، وقد علمنا عادة الجاحظ فيما ينصره من المذاهب أنه لا يدع غثا ولا سمينا ولا يغفل عن إيراد ضعيف ولا قوي، حتى أنه ربما خرج إلى ادعاء ما لا يعرف، ودفع ما يعرف فلو كان لمن ذهب إلى مذهب العباسية خبر ينقلونه يتضمن نصا صريحا على صاحبهم لما جاز أن يعدل عن ذكره مع تعلقه حكينا بعضه واعتماده على أخبار آحاد أكثرها لا يعرف.

____________

(1) إجمال خبر الميزاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد عدا باب علي بن أبي طالب عليه السلام طلب العباس من رسول الله صلى الله عليه وآله أن تبقى بابه شارعة كما بقيت باب علي فقال صلى الله عليه وآله (ليس إلى ذلك سبيل)، فقال: فميزاب أتشرف به فترك له الميزاب وقال صلى الله عليه وآله: (إن الله قد شرف عمي بهذا الميزاب) فلما كان في أيام عمر صعدت جارية على السطح تغسل ثوبا للعباس - وكان العباس يومئذ مريضا - فجرت الغسالة إلى المسجد، فلما نظر عمر إلى ذلك غضب وأمر غلامه أن يصعد ويقلع الميزاب فلما علم العباس ذلك شكاه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وكان عمر قد حلف أن لا يعاد وهدد من يعيده، فأقبل علي ومعه قنبر مولاه وأمره أن يعيده، وهدد من يقلعه وحلف على ذلك، فلما جاء عمر إلى المسجد وجد الميزاب مكانه، فسأل من أعاده قيل: علي، ونقل إليه كلامه فقال: لا يغضب أحد أبا الحسن، ونحن نكفر عن اليمين (أنظر سفينة البحار م 2 / 150 مادة " عبس ".

(2) اللدود - كصبور - الدواء الذي يصب في المعطس أو يؤجر في أحد شقي المريض، قال في تاج العروس مادة " لد ": أنه - أي النبي صلى الله عليه وآله -، لد في مرضه فلما أفاق، قال: (لا يبقى في البيت أحد إلا لد) ا هـ وفي النفس من هذا الحديث شئ اللهم إلا أن يكون لمصلحة طيبة تعود لمن في البيت لم يكشفها العلم بعد.

(3) أي المراد بكتابه رسالته " العباسية ".

الصفحة 124
ومنها، قول العباس رحمه الله لأمير المؤمنين عليه السلام: أمدد يدك أبايعك حتى يقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه وآله بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، وهذا القول منه والحال حال سلامة لا تقية فيها، ولا خوف ولا إكراه، دلالة واضحة على أنه لم يكن منصوصا عليه.

ومنها، ما قدمناه في فساد النص على أبي بكر وهو أن الإمام إذا دلت العقول على أنه لا بد أن يكون معصوما وجب نفي النص عمن علمناه غير معصوم، وقد أجمعت الأمة على أن العباس لم يكن معصوما فوجب نفي النص عليه.

ومنها، أن الإمام على ما دللنا عليه من قبل يجب أن يكون عالما بجميع الدين دقيقه وجليله حتى لا يشذ عنه منه شئ وقد أطبقت الأمة على أن العباس رضي الله عنه لم يكن بهذه الصفة، وزاد جميع مخالفي الشيعة من المعتزلة وغيرهم على هذا حتى ذهبوا إلى أنه لم يكن محيطا من العلوم بالقدر الذي يحتاج إليه الإمام عندهم، وهو التوسط في علوم الدين ومساواة أهل الاجتهاد والفتوى فيها، ويكفي في بطلان النص عليه عندنا أن لا يكون عالما بالكل ومضطلعا بالجميع.

فأما قول صاحب الكتاب: " ليجوزن ادعاء النص على العباس ويختص بمعرفته قوم ثم ينقطع النقل، لأنه إن جاز انقطاعه عن الكل " فطريف لأن انقطاع النقل عن الكل يسقط الحجة، ويرفع الطريق إلى العلم، وليس كذلك عنه انقطاعه عن البعض، والنص الذي نعتقده وإن لم ينقله جميع الأمة فقد نقله عندنا من يقوم الحجة بنقله، على أن القول إذا ظهر ثم انقطع فبانقطاعه مما يصير الإجماع منعقدا على خلافه، ويقتضي