الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

وما أشبهها لو وقع من قاصد إليه لما اشتبه أمره على أحد، ولظهر انسلاخه عن الاسلام، ولفاته بكتمان ذلك ما قصده وجرى إليه بكتمان غيره، ونحن نعلم أن العادة جارية بأن بعض الأشياء لا يتمكن من كتمانه إلا بإظهار غيره، حتى لو جمع بينهما في الكتمان لفات الغرض، وظهر الأمر، وقد قال بعضهم: " إني لأصدق في اليسير مما يضرني لأكذب في الكثير مما ينفعني ".

فإن قيل: فيجب على ما ذكرتموه أولا أن تشكوا في حصول أسباب داعيه إلى كتمان الفرائض وتجوزوا أن يكون اتفق فيها ما اتفق في النص.

قلنا: قد مضى الفرق بين الأمرين، ودللنا على استحالة ثبوت أسباب كتمان النص فيما ألزمناه، ومما يبطل هذا الاعتراض أنا نعلم وكل عاقل علما لا يخالجنا فيه شك، ولا يعارضنا ريب، أنه صلى الله عليه وآله لم ينص على قبلة وصلاة مخالفة لقبلتنا وصلاتنا، ولا يجوز أن يعتقد عاقل خلاف ما اعتقدناه حتى أنا ننسب من أظهر لنا خلاف ما ذكرناه من الاعتقاد إلى الاختلال ونقصان العقل أو المعاندة، فلو كان حكم النص على أمير المؤمنين عليه السلام حكم النص على صلاة أخرى لوجب أن يكون العلم بانتفائه كالعلم بانتفاء النص على الصلاة التي تقدم ذكرها ويكون حال من أظهر لنا اعتقاد أحد الأمرين كحال من أظهر اعتقاد الآخر وفي العلم بتباين الأمرين، وبعدما بينهما دليل على بطلان إلزامنا تجويز وقوع النص على فرائض لم تنقل قياسا على ما نذهب إليه في النص على أنه إذا قيل لنا: جوزوا أن يتفق في كتمان ما عارضناكم به من الفرائض ما اتفق في كتمان النص كان جوابنا أن نقول: وكان يجب إذا اتفق في أحد الأمرين ما اتفق في الآخر أن ينقل ناقل من جملة الأمة النص على هذه الفرائض المدعاة كما قد نجد ناقلين ينقلون النص، وإذا قيل

الصفحة 177
أجيزوا أن لا ينقل ذلك أحد مع ظهوره قياسا على النص لم يكن ذلك معارضة ولا إلزاما صحيحا.

فأما قوله: " فأما أن يكون المتروك نقله هو الأعظم والحاجة إليه أشد فلا يجوز " فإنما يجب ما ذكرناه إذا كانت الحال حال سلامة.

فأما مع ثبوت دواعي الكتمان، واعتقاد الكاتمين أن في نقل ما بالناس إليه حاجة من جهة الدين، وهو أعظم في نفسه ضررا عليهم وفي كتمانه نفعا لهم فلا يجب ما قدره، والقول فيما ضرب به المثل كالقول فيما تقدم، لأن أهل الجامع لو اعتقدوا أن في أخبارهم بالفتنة ضررا عظيما يلحقهم لجاز أن لا يخبر أكثرهم بحالها، وإن أخبروا بقراءة الإمام.

قال صاحب الكتاب في تمام الحكاية عن أبي هاشم: " قال: ولا يمكن أن يفصل بين الأمة وغيرها بأن يقال: إن من تولى الإمامة وسلب الإمام حقه كان يقصد إلى أن يعفي على (1) أخبار النص فلذلك ضعفت وقلت، وذلك لأن الأمر لو كان كما قالوا لكنا نحن وهم شرعا (2) واحدا فكان يجب إذا لم يتصل بنا أن لا يتصل بهم، فكيف يصح والحال هذه أن يدعوا العلم بهذا النص؟ وإن كان ضعف نقله لم يقدح في معرفتهم، فكيف يقدح في معرفتنا؟ على أنه إن أثر في معرفة فقد سقط عنا التكليف فيها على أنا قد بينا بما ذكرناه من الأحوال المنقولة عن الصحابة أنه لم يكن هناك النص الذي ادعوه على أن من عادى أمير المؤمنين عليه السلام بعد ما بويع له، وصار إماما فمعاداته له أظهر ممن تقدم وكيف ضعف نقل النص ولم يضعف نقل رضا الناس به وجعلهم إياه إماما ". قال: " وهذه

____________

(1) يعفي: يغطي، والعفاء: التراب.

(2) يقال: هم شرع - بالتحريك والاسكان أيضا - في الأمر: أي سواء.

الصفحة 178
الدعوى نعلم أنها وقعت من متأخريهم بالأخبار المنقولة، وقد روي عن السيد (1) أنه قال: ما لأمير المؤمنين عليه السلام فضيلة إلا ولي فيها قصيدة وشعر، وليس في أشعاره ادعاء مثل هذا النص، وإنما ذكر فيها الأخبار المروية، ويقال: إن أول من جسر على هذه الدعوى ابن الراوندي ومن جرى مجراه ".

قال: " وكيف وقع نقل فضائله، ومقاماته، المحمودة في الحروف

____________

(1) في حاشية المغني " من هذا السيد " وقد خفي على الأستاذ المحقق والدكاترة المشرفون بما فيهم طه حسين الذي طبع جزء الإمامة من المغني بإشرافه: أن المراد بالسيد إسماعيل بن محمد الحميري الشاعر المشهور الذي ملأ لقبه هذا كتب الأدب والشعر والتراجم وإليك نماذج من ذلك ففي الأغاني 7 / 236: عن عبد الله بن إسحاق الهاشمي: " جمعت للسيد ألفين وثلاثماية قصيدة، وقال أبو الفرج في 7 / 256 " كان السيد يأتي الأعمش سليمان بن مهران فيكتب عنه فضائل علي بن أبي طالب ". وسماه صاحب العقد الفريد بالسيد في أكثر من موضع منها ج 5 / 404 و 406 وقال ابن المعتز في طبقات الشعراء ص 32 " كان السيد أحذق بسوق الأحاديث والمناقب والأخبار في الشعر لم يترك لعلي بن أبي طالب فضيلة معروفة إلا نقلها " وفي رجال الكشي " إن أبا عبد الله الصادق عليه السلام لقي السيد الحميري فقال: سمتك أمك سيدا وفقت في ذلك وأنت سيد الشعراء فقال السيد في هذا المعنى:


ولقد عجبت لقائل لي مرة علامة فهم من الفقهاء
سماك قومك سيدا صدقوا به أنت الموفق سيد الشعراء

والأساتذة المشرفون على تحقيق المغني أجل من أن يخاطبوا:


وإذا خفيت على الغبي فعاذر أن لا تراني مقلة عمياء

ولا يعقل أن طه حسين يجهل هذا اللقب للحميري وهو القائل عنه في ذكرى أبي العلاء: " وليس بين أهل الأدب من يجهل سخافات الحميري ".

الصفحة 179
وغير ذلك، ولم يتكاتموها وتكاتموا إمامته مع أن حالها أظهر وأشهر؟ وكيف يصح ذلك؟ وقد رووا أشياء كثيرة لا يصححها أهل النقل مثل حمله باب خيبر وكان لا يقله إلا أربعون رجلا فرمى به أربعين ذراعا إلى غير ذلك (1) فبأن يرووا حديث النص أولى ".

قال صاحب الكتاب: " وهذه الجملة من كلامه يمكن أن يتعلق بها في إبطال النص الضروري (2) وبكثير منها في إبطال النص على غير هذا الوجه أيضا... " (3).

يقال له: ليس المراد بقول من قال: إن أخبار النص ضعفت للوجه الذي ذكرته أنها خرجت من أن تكون حجة ودلالة، وإنما المراد أن ناقليها قل عددهم، وإن كانت الحجة فيهم، ونقلوا على وجه الخفاء في كثير من الأحوال التي تقدمت، وليس يجب إذا كان ما وقع ممن قصد إلى أن يعفى خبر النص سببا في ضعف نقله على الوجه الذي سردناه أن يكون سببا في بطلانه، وسقوط الحجة به، لأنه إنما ضعف من حيث اغتر قوم فكتموا واشتبه على آخرين فعدلوا ولم يعم هذا كل الأمة لأن من نفذت بصيرته وقويت في الدين عزيمته لم تدخل عليه شبهة ولا اغتر بشئ جرى، ونقل على الوجه الذي تمكن منه.

____________

(1) أشار ابن أبي الحديد إلى ذلك في العينية:


يا قالع الباب التي عن هزها عجزت أكف أربعون وأربع

وفي مسند. الإمام أحمد ج 6 ص 8 عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله قال - بعد وصفه قتل علي عليه السلام لمرحب: " ألقاه من يده - يعني الباب - فلقد رأيتني في نفر من سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه ".

(2) غ " إبطال الضروري ".

(3) المغني 20 ق 1 / 125.

الصفحة 180
وقوله: " فكان يجب إذا لم يتصل بنا أن لا يتصل بهم " إن أراد به السماع للخبر فنحن وهم سواء فيه، وإن أراد العلم وعمومه للجميع فلا يجب ما ظنه لأنا إنما علمناه من حيث نظرنا في دليله وسلكنا الطريق المفضي إلى العلم ومخالفنا عدل عن النظر الصحيح للشبهة وغيرها فضعف نقل النص لم يقدح في معرفتنا من حيث نفينا عن أنفسنا الشبهة، وأثبتنا الحق من وجهه، والمخالف قصر فقدح تقصيره في معرفته، ومن خالف في هذه الجملة كانت المحنة بينا وبينه.

فأما سقوط التكليف عن المخالف فقد مضى ما فيه.

وقد قلنا أن المخالف وإن قدح تقصيره في معرفته وآثر فيها فله طريق إلى المعرفة وإنما عدل عنها بالشبهة والتقصير وهي ممكنة معرضة فليس يجب ما ظنه من سقوط التكليف وقد مضى إذ الذي اعتبره من أحوال الصحابة لا دلالة فيه على ما اعتقده من بطلان النص.

فأما إلزامه أن يضعف نقل رضا الناس به صلوات الله عليه لأجل عداوة من عاداه بعد مصير الأمر إليه يشبه أن يكون عنى بذلك معاوية ومن كان في حيزه، وكيف يتم لمعاوية كتمان رضا الناس بإمامته عليه السلام والحال في رضاهم مشاهدة موجودة وإنما يتم الكتمان على بعض الوجوه فيما تقدم وقوعه، ويقتضي وجوده، هذا مع علمنا بأن جميع من بقي إلى تلك الحال من الصحابة ووجوه التابعين كان مظهرا من نفسه الرضا بإمامته عليه السلام والاجتماع عليه، وناقلا لما انعقدت عليه إمامته عليه السلام في ابتدائها من وقوع الرضا والتسليم من الجماعة فأي تأثر لكتمان ما يجري هذا المجرى؟ وليس يشبه ذلك حال النص لأنه في الحال التي وجب

الصفحة 181
أن يقع فيها العمل به وعليه وقع بخلافه للأسباب التي تقدم ذكرها، وكان الناس فيه بين رجلين مظهر للعمل بخلافه ومبطن مثل ذلك وآخر مظهر للعمل بخلافه ومبطن للعمل به فشتان بين النص وما اتفق فيه وبين نقل الرضا بإمامته عليه السلام والحال في أحد الأمرين بالعكس منها في الآخر.

على أنه غير منكر أن يتم لمعاوية وأشياعه من التلبيس والتمويه على بعض اعتام (7) أهل الشام، ومن لا معرفة عنده منهم، ولا بصيرة في كثير من فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ومقاماته المحمودة ورضا الناس به وإطباقهم عليه ما يقتضي الشبهة.

ألا ترى ما روي من قول بعضهم وقد سئل عن معاداته لأمير المؤمنين عليه السلام ومحاربته له وسببهما: " بلغني أنه لا يصوم ولا يصلي " وما روي عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه من قوله: " حملت يوم الجمل على رجل برمحي فلما غشيته قال أنا على دين عمر بن أبي طالب، فعلمت أنه يريد عليا فأمسكت عنه " غير أن هذا إنما يجوز ويلتبس على من شملته الغفلة، وغره الجهل، وليس يشبه في جواز دخول الشبهة وتمام الحيلة حال النص.

فأما تعلقه بخلو شعر السيد من ذكر النص الجلي فلا شبهة فيه لأن السيد أولا أحد من لم يضبط شعره من الشعراء، ولم يحص ديوانه منهم، وقد ذكره الناس وعدوه في جملة من كانت هذه صفته من الشعراء، وإذا لم يكن شعره مضبوطا فكيف يقطع على خلوه من شئ دون شئ، على أن

____________

(1) اعتام - جمع العتامى - وهو الأحمق، أو أغتام جمع أغتم: وهو الذي لا يفصح شيئا.

الصفحة 182
السيد رحمه الله قد صرح في كثير من شعره بما يدل على النص الجلي وإضافته إلى الرسول صلى الله عليه وآله كقوله إنه جعله أميرا وأوجب الإمامة له، والخلافة بعده، وقد تكرر في شعره أمثال هذه الألفاظ، وليس لأحد أن يقول: إنه ليس في هذه الألفاظ تصريح بالنص الجلي، بل مراد السيد بها ما كان يعتقده من دلالة الأخبار على النص الجلي، كخبر الغدير وأمثاله لأن هذا تحكم من قائله بغير حجة، وأقل أحوال الألفاظ التي ذكرناها أن تكون محتملة للكناية عن النص الجلي وعن النص الخفي، وإذا كانت محتملة لم يقطع على خلو شعره من النص الجلي.

وبعد، فغير ممتنع أن يكون السيد معتقدا للنص الخفي دون الجلي على ما تذهب إليه الزيدية، وشذاذ من الإمامية، فإنه لم يكن معصوما وتجوز عليه دخول الشبهة فيكون الوجه في عدوله عن ذكره شكه فيه وليس يجب أن يعجب من قولنا.

ويقال: كيف يصح أن يشك السيد في النص الجلي وهو يضمن شعره من بدائع الأخبار وصنوف الدعاوى للمعجزات والآيات ما لا يصح أن يقر به من يشك في النص، لأن الاستبعاد لما ذكرناه هو البعيد من قبل أنه غير ممتنع أن يدخل الشبهة في بعض الأشياء ولا تدخل في أمثاله، ولا فيما هو أغمض منه بحسب ما عليه الناظر من الأسباب والدواعي المقربة إلى قبول الشبهة، والمبعدة منها وقد علمنا أن من شك من الإمامية في النص الجلي هو مصدق بجميع ما صدق به السيد من الفضائل والمعجزات، ولم يكن تصديقه بجميع ذلك عاصما له من دخول الشبهة عليه في النص الجلي.

فأما إضافة ادعاء النص إلى ابن الراوندي ومن يجري مجراه فقد

الصفحة 183
تقدم الكلام عليه مستقصى.

وأما التعلق بنقل الفضائل التي من جملتها حمل باب خيبر والالزام لنا مساواتها للنص في وجوب الكتمان أو الإظهار فالفرق بين ما روي من الفضائل وبين النص واضح، لأن نقل الفضائل لم يكن شاهدا على القوم بارتكاب القبيح، ومخالفة الرسول إلى غير ما ذكرناه من الأحوال، المعلوم شهادة نقل النص بها.

وقد قلنا فيما تقدم: أن نقل بعض الأشياء ربما جعل ذريعة إلى كتمان غيره، ولو لم ينقل القوم الفضائل إلا ليقول قائل: لو كانت العداوة والحسد والمناقشة هي المانعة من نقل النص لكانت مانعة من نقل الفضائل لكان وجها.

فأما نقل حمل باب خيبر مع أنه كان لا يقله إلا أربعون رجلا وأنه عليه السلام رمى به أربعين ذراعا فلم ينقله أيضا إلا مختصون (1) من النقلة، والدلالة على ذلك قول أبي هاشم: " وقد رووا أشياء كثيرة لا يصححها أهل النقل مثل حمله باب خيبر " وقد نقل النص الذي نذهب إليه أضعاف عدد من نقل حمل باب خيبر والزامه هذا يدل على أنه يعتقد أنا نذهب إلى أن النص كتم حتى لم ينقله أحد، وإلا كيف يصح قوله " فبأن يرووا النص أولى ".

وليس يخلو أن يريد بقوله: " بأن يرووه أولى " من روى حمل باب خيبر أو جميع الرواة فإن أراد الأول فهو يعلم أن من ادعى الرواية من الشيعة في حمل الباب على الشرائط المذكورة التي يزعم أن أهل النقل لا

____________

(1) محصون، خ ل.

الصفحة 184
يصححونها يدعي رواية النص ويجمع بين الأمرين في النقل وإن أراد الثاني فليس ذلك فيما ذكره من حمل باب خيبر الذي استشهد به وألزم عليه، لأنا قد بينا أنه لم يجمع عليه كل الرواة فقد انكشف بجملة كلامنا بطلان ما حكاه من شبه أبي هاشم، وصح أن جميع ما أورده غير طاعن على ضروب النص الذي نذهب إليه جليها وخفيها والمنة لله تعالى.

قال صاحب الكتاب: " وقد ذكر بعض الإمامية في كتابه أن الذي يدل على النص أن الشيعة بأجمعها على اختلافها روت كل عن كل عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلفه وأوصى إليه، وفرض طاعته، وأقامه مقامه لأمته، ولا يجوز أن يتعمد الكذب في ذلك، ولا يجوز في الشيعة أن يتواطؤا على الكذب فيجب بذلك إثبات النص ".

قال: " وهذا أبعد مما تقدم لأن الذي رواه عن علي عليه السلام فيه تنازع وكل الطوائف المخالفة له تروي عنه الرضا ببيعة من تقدمه وأنه كان يمدحهم، ويظهر عنه الاعتراف بإمامتهم، وأنه لم يدع لنفسه الإمامة إلا عند البيعة، وأنه في المواقف المشهورة كان يتعلق بذكر البيعة (1) دون النص حتى قال لطلحة والزبير " بايعتماني ثم نكثتما بيعتي " إلى غير ذلك مما يروى عنه فليس هذا المستدل بأن يصحح إمامته بما ادعاه أولى ممن رد ذلك لما نقله من خالفه، وكما لا يجوز التواطؤ على الشيعة فكذلك على من خالفهم، ولا يجوز أن يتعلقوا بحديث التقية لما قدمنا ذكره ولأن تجويز التقية مع السلامة يطرق عليهم تجويز إظهار الشئ والمراد خلافه ومتى

____________

(1) في المغني " الشيعة " ولا معنى لذلك.

الصفحة 185
ادعوا الاضطرار في الذي نقلوه عن أمير المؤمنين عليه السلام (1) كلمناهم بما تقدم في ادعاء الاضطرار إلى نص الرسول صلى الله عليه وآله... " (2).

يقال له: المعروف من احتجاج الشيعة في صحة النص هو ما ترويه عن الرسول صلى الله عليه وآله من الأقوال الدالة بصريحها أو بمعناها على النص، وإن كانت الأخبار متظاهرة عن أمير المؤمنين عليه السلام وأولاده وشيعته وأوليائه رحمهم الله بذكر النص والتصريح باستحقاقه عليه السلام للإمرة والتظلم من القوم على وجه يدل على وجوب الأمر له وكونه حقا من حقوقه والروايات التي أشرنا (إليها) مشهورة في الشيعة تغنينا شهرتها عن التكثير بذكرها.

فأما طعنه بوقوع التنازع فيما رويناه فالتنازع ليس بمبطل لحق ولا ارتفاعه مصححا لباطل.

وما رواه المخالفون: من الرضا بالبيعة إنما معتمدهم فيه على الامساك عن النكير والكف عن المحاربة والبراءة وكل ذلك لا يدل على الرضا إلا بعد أن يعلم أنه لا وجه له إلا الرضا هذا مع التجويز لصرفه إلى غير جهة الرضا، فلا دلالة فيه وما يدعى من المدح للقوم والاعتراف بإمامتهم غير ظاهر كظهور ما تقدم ولا مسلم، ولو ثبت لم يكن فيه دلالة لما ذكرناه آنفا من جواز صرفه إلى غير جهة الموالاة والتعظيم في الحقيقة كما لم يكن في إظهار الحسن بن علي عليه السلام بعد تسليمه الأمر إلى معاوية وصلحه

____________

(1) غ " كذبناهم " وقال محققوا المغني " كذبناها " ولا أدري إلى من أعادوا الضمير.

(2) المغني 20 ق 1 / 126.

الصفحة 186
والاعتراف بإمامته ومخاطبته بإمرة المؤمنين من دلالة على ولاية باطنة، واعتراف بإمامة حقيقة وسائر الصالحين والمحقين في دول الظالمين هذه حالهم في أنهم يظهرون تقية وخوفا الاعتراف بما يبطنون إنكاره، وبإزاء ما يرويه المخالفون ويعتقدون أنه دال على الرضا والتسليم، وإن كنا قد بينا أنه ليس يدل عليهما ما يرويه الشيعة من جهره عليه السلام بالتظلم والانكار ظاهرا وباطنا على وجه لا يمكن أن يجعل فيه محتملا، ولا شك في أنه عليه السلام لم يدع الإمامة ظاهرا إلا عند البيعة غير أن ذلك لم ينف أن يكون عليه السلام ادعاها على خلاف هذا الوجه، ونقل ما سمع منه من أوليائه من يقوم الحجة بنقله.

فأما احتجاجه عليه السلام على طلحة والزبير بالنكث دون النص، فلأنهما كانا معترفين بالبيعة وجاحدين للنص فاحتج عليه السلام عليهما بما هما معترفان به، ولأن في الاحتجاج بالنص تنفيرا للجمهور من أصحابه وأعوانه على قتال الرجلين لأن من المعلوم تولي هؤلاء القوم للمتقدمين عليه وأنهم كانوا يعتقدون صحة إمامتهم، وليس يجوز أن يقابلوا بما يطعن عليهم ويفسد إمامتهم.

فأما كون مخالفي الشيعة ممن لا يجوز عليه التواطؤ كالشيعة فمما لا يضرنا لأنهم لم يعتقدوا نفي النص من طريق الرواية لأن ما لم يكن لا يروى نفيه، وإنما اعتقدوا ذلك لشبهات دخلت عليهم في طرق الاستدلال وبألفاظ رووها وأفعال تعلقوا بها، وظنوا أنها تدل على نفي النص ونحن نوافقهم على وقوعها وصحتها أو صحة أكثرها، ونخالفهم فيما توهموه من دلالتها على نفى النص ونحمل كل ما تعلقوا بظاهره من قول أو فعل على التقية.


الصفحة 187
فأما نفي التقية وقوله: " أن تجويزها مع السلامة يطرق كذا وكذا " فهو صحيح ويبقى أن يثبت السلامة، ولو تثبت له لصح كلامه، غير أن دون ثبوتها خرط القتاد.

وقد تقدم أنا لا ندعي الاضطرار في ثبوت النص المنقول عن الرسول عليه السلام وهكذا حكم ما ينقل عن أمير المؤمنين عليه السلام عندنا في أنه معلوم بثبوته بالاستدلال.

قال صاحب الكتاب: (على أنه يقال لهم: ألا يجوز أن يكون الدليل على إمامته قوله ودعواه، وإنما تثبت عصمته متى حصل إماما وذلك يوجب أنه لا بد من الرجوع إلى أمر سوى قوله ولا بد من ذلك بوجه آخر لأنه لا يصير إماما إلا بنص الرسول صلى الله عليه وآله ولا يجوز في ذلك النص أن يعلمه هو دون غيره لأن ذلك يؤدي إلى أنه عليه السلام لم يقم دلالة النص كما يجب، فيقال له: عند ذلك فيجب أن تذكر تلك الدلالة، وتعدل عن التعلق بقول أمير المؤمنين عليه السلام، وإذا وجب أن يرجع إلى تلك الدلالة فإن كانت ضرورة فقد قلنا فيها ما وجب، وإن كانت دلالة من جهة الاكتساب فسنذكر القول فيه من بعد هذا، على أنا لا نمضي ما ذكره في الشيعة من قوله " إنها كثيرة عظيمة " لأنا عندنا أن هذا المذهب حدث قريبا، وإنما كان من قبل يذكر الكلام في التفضيل ومن هو أولى بالإمامة وما يجري مجراه فكيف يصح التعلق بما قاله،...) (1).

يقال له: ليس يفتقر في صحة ما ادعاه من إمامته عليه السلام إلى

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 126.

الصفحة 188
أن تثبت عصمته حسب ما ظننت، لأن الأمة على اختلافها مجمعة على أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يدع لنفسه في الإمامة على النبي صلى الله عليه وآله باطلا، لأن من خالف الشيعة على تفرق نحلهم معترفون بذلك، ونافون لصحة ما يضاف إليه من ادعاء الإمامة بالنص، والشيعة أمرها ظاهر في نفي ما حكمنا بحصول الإطباق على نفيه عنه، فإذا تقرر بالاجماع الذي ذكرناه أنه لم يضف إلى الرسول صلى الله عليه وآله باطلا في الإمامة وثبت عنه (1) ادعاؤها وجب القطع على صحة قوله لتقدم الإجماع الذي أشرنا إليه، على أن في الشيعة من يثبت عصمة أمير المؤمنين عليه السلام بغير النص، ولا يفتقر في الدلالة عليها على كل حال إلى تقدم النص بالإمامة، لأنه لا خلاف في صحة ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: (علي مع الحق والحق مع علي يدور حيث ما دار) (2) وقوله صلى الله عليه وآله: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (3) قد ثبت عموم الخبرين، وفي ثبوت عمومهما دلالة على نفي سائر الأفعال القبيحة عنه عليه السلام، لأن من لا يفارقه الحق لا يجوز أن يرتكب الباطل، ومن حكم له بأن الله تعالى ولي وليه وعدو عدوه وناصر ناصره وخاذل خاذله لا يجوز أيضا منه أن يفعل قبيحا، لأنه لو فعله لكان يجب معاداته فيه وخذلانه والامساك عن نصرته، فقد ثبت من الوجهين جميعا صحة

____________

(1) الضمير في " عنه " لأمير المؤمنين عليه السلام.

(2) تقدم في تخريج (علي مع الحق الخ).

(3) هذا الدعاء من جملة حديث الغدير وقد تقدم تخريجه ونضيف إلى ذلك أن هذا الدعاء بحروفه مروي في كثير من الكتب نذكر منها مسند أحمد 4 / 372 و 468 ومواطن أخرى، خصائص النسائي 15 و 25 سنن ابن ماجة 21 و 29 أسد الغابة 1 / 308 سنن الترمذي 2 / 298، وقال في إسعاف الراغبين بعد روايته له: " كثير من طرقه صحيح أو حسن ".

الصفحة 189
الاستدلال بقوله عليه السلام على إمامته.

فأما قوله: " إنه لا يصير إماما إلا بنص الرسول صلى الله عليه وآله ولا بد أن يعلم النص عليه غيره " فلسنا ندري من أي وجه ظنه طاعنا على ما حكاه من الاستدلال؟ لأن وجوب علم الغير به في ظهوره له ووجوب نقله أيضا لو سلمناه على غاية ما يقترحه المخالفون لا يمنع من الاستدلال بقوله عليه السلام من الوجه الذي بيناه، وإنما يمكن أن يطعن بما ذكره على من اعتمد في النص على قوله عليه السلام ونفى أن يكون معلوما من غير هذه الجهة فيكون ما أورده بيانا عن وجوب ظهوره ونقله من جهة الغير ونفي اختصاصه، وليس المقصد بما حكاه عنا من الاستدلال إلى هذا لكن إلى إثبات النص من هذه الجهة المخصوصة.

فأما منازعته في إثبات سلف الشيعة فقد سلف الكلام فيه، ودللنا على بطلان دعوى المخالفين انقطاع نقلهم وبينا اتصاله وسلامته من الخلل بما لا طائل في ادعائه.

قال صاحب الكتاب: " وقد قال هذا الرجل (1) عند هذا الكلام أن جاز أن يقدح في نقل الشيعة لهذه الدعوى ليجوزن لليهود وغيرهم أن يقدحوا بمثله في نقل المعجزات وغيرها فكأنه جعل بإزاء ما ادعيناه من القلة (2) فيمن يدعي النص من الشيعة ادعاؤه لقلة من نقل المعجز، وأنهم كثروا من بعد ومن أنزل نفسه هذه المنزلة فهو بمنزلة من كابر (3) في المشاهدات لأنا نعلم كثرة المسلمين وكثرة الناقلين للمعجز،

____________

(1) يعني بالرجل الذي تقدم ذكره في الفصل السابق والذي عناه بقوله " وقد ذكر بعض الإمامية في كتابه، الخ... " ولم يصرح به ولا بكتابه وكذلك لم يتعرض المرتضى لذكره.

(2) في المغني " العلة " و " القلة " أوجه.

(3) غ " من كانوا ".

الصفحة 190
وبعد: فإنا لا نثبت كون المعجز بنقل المسلمين فيجوز أن يتعلق بهذه الطريقة بل نثبته بالتواتر والضرورة.

وعندنا أن المسلم والكافر في ذلك لا يختلف، ولذلك لم يختلفوا في نقل كون المعجزات وإنما وقع الخلاف في دلالتها (1) على ما بيناه في باب النبوءات (2)، وهذه الجملة تسقط دعوى كل من ادعى إثبات الأمة بنص ضروري ولا يبقى من بعد إلا الكلام في النصوص التي يقال: إنها دلالة على الإمامة، ويتوصل إلى معرفة الإمامة بالاستدلال بها كما يتوصل بها إلى معرفة الأحكام بالنظر في الكتاب والسنة، ولا يمكن في هذه القسمة (3) الإحالة على نص غير مبين بقول (4) معروف لفظه، لأنهم متى أحالوا على نص لا يعرف لفظه لم يكونوا بأن يدعوا أنه (5) دلالة النص على أمير المؤمنين عليه السلام بأولى ممن يدعي ضده وخلافه (ويكون هذا المدعي بمنزلة من يدعي مذهبا يجعل الدلالة عليه نص الكتاب، ولا يتلو آية إلا نظر فيها وفي دلالتها، وإنما يمكن أن لا تقع الإحالة على قول بعينه لم يدع النص الضروري، لأن ما حل هذا المحل الحجة فيه وقوع العلم بقصده ودينه، ولا معتبر باللفظ كما لا يعتبر بأعيان المخبرين، فأما فيما ذكرناه) (6) فلا بد من ذكر النص الدال ليتم الغرض وهذه الطريق تحوج (7) القوم إلى ذكر ما يدعون أنه يدل على النص (على

____________

(1) في " الشافي " دلالتهما " وآثرنا ما في " المغني ".

(2) يعني من كتابه " المغني " وباب النبؤات في الجزء الخامس من كتاب المغني.

(3) غ " الفسحة ".

(4) غ " مبين منقول معروف ".

(5) أي النص غير المبين بقول معروف.

(6) ما بين المعقوفين ساقط من " الشافي " وأعدناه من " المغني ".

(7) غ " تخرج ".

الصفحة 191
أمير المؤمنين) (1) من كتاب أو سنة حتى ينظر فيه، وفي دلالته (ويكون الكلام معهم في كيفية الدلالة ووجهها وربما وقع الكلام معهم في طريق إثبات تلك الدلالة، وهل هي ثابتة بالتواتر أو بخبر يكون من جهة الأثبات، أو يلحق بأخبار الآحاد) (1) وكل ذلك مما لا يستنكر وقوع الخلاف فيه ولا يحل في المكابرة محل ما قدمناه (2) من دعوى الاضطرار... " (3).

يقال له: كما أن مخالف الملة يعلم ضرورة كثرة المسلمين في هذه الأزمان وما والاها، ولا يصح أن يشك في كثرتهم وانتشارهم حتى أنا نعد من أظهر الشك في ذلك مكابرا فكذلك المخالفون في النص على أمير المؤمنين عليه السلام يعلمون ضرورة كثرة من يدعي نقل هذا النص في هذه الأزمان فإنما يصح أن يشكوا في اتصال نقلهم، وكثرة سلفهم في النقل كما يشك مخالفوا الملة في هذه الحال من نقل المسلمين للمعجزات، فقد صح بما ذكرناه أن الموضع الذي ادعى فيه المكابرة على المخالف لنا مثله في نقل النص وكثرة ناقليه، وبقي الموضع الذي لا يمكنه أن يدعي فيه الضرورة، كما لا يمكننا ادعاؤها في إثبات سلفنا واتصالهم، ولزمه أن ينفصل من دعوى مخالف الملة عليه انقطاع نقل المعجزات، وأن ادعاءها ظهر في المستقبل من الأوقات، فإنه لا يمكن من إيراد حجة في ذلك إلا وهي بعينها كانت حجتنا عليه فيما طعن به في نقلنا.

فأما نفيه أن يكون الطريق إلى إثبات المعجز هو النقل وادعاؤه

____________

(1) الزيادة في الموضعين من المغني.

(2) غ " على ما تقدم ذكره ".

(3) المغني 20 ق 1 / 128.

الصفحة 192
الضرورة فإنما يصح إذا كان الكلام في القرآن (1) فأما ما عداه من المعجزات فليس يجوز أن لو يدعي في ثبوتها الضرورة وهو يعلم كثرة من يخالفه فيها من طوائف أهل الملل ثم من المسلمين، فإنا نعلم أن جماعة من المتكلمين قد نفوا كثيرا من المعجزات، وليس ما يدعونه من حصول العلم بظهور ذكرها في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وفي الصدر الأول بين الصحابة بمعلوم أيضا ولا مسلم لأن من خالف المسلمين ينكر ذلك ويقول: لو كان جرى في الزمان الذي أشاروا إليه من ذكر هذه المعجزات ما يدعونه لوجب أن ينقله إلي أسلافي كما نقلوا سواه، ومن خالف من المسلمين في معجزات بأعيانها ينكر أيضا ظهور ذكر ما أنكره فيما تقدم فقد وضح بطلان ما ادعاه من الضرورة في إثبات المعجزات، فظن أن دعواه هذه تغنيه عن اعتبار التواتر والاستدلال به على صحة النقل فرارا من أن يلزمه من الطعن من كثرة الناقلين واتصالهم ما ألزمناه.

فأما قوله: " إنه لم يبق إلا الكلام في النصوص التي يدعى أنها دلالة على الإمامة، وأنه لا بد من ذكر ألفاظها لننظر في كيفية دلالتها " فقد بينا أنه لم تثبت النصوص إلا من هذه الجهة لأنه لا بد فيه عندنا من اعتبار الألفاظ المنقولة وكيفية دلالتها، وإنا لم نحل في ثبوته ولا في المراد به على علم الضرورة.

قال صاحب الكتاب: (فأما ما يدعون من ألفاظ غير منقولة نحو ادعائهم أنه صلى الله عليه وآله قال في أمير المؤمنين عليه السلام وقد أشار إليه: " هذا إمامكم من بعدي " إلى ما شاكله فغير مسلم ولا نقل فيه فضلا

____________

(1). في حاشية الأصل " يجري مجرى القرآن ".