الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

عن أن يدعى فيه التواتر، وإنما الذي يصح فيه النقل الأخبار التي يذكرونها كخبر غدير خم وغيره، مما نورده من بعد ولا يمكنهم أن يدعوا أيضا أنه غير محتمل (1) من غير جهة الاضطرار، لأنه إذا لم يكن فيه اضطرار يعلم معه قصد النبي صلى الله عليه وآله فوجه الاستدلال به كوجه الاستدلال بالقرآن والسنة على الأحكام وما هذه حاله يصح فيه طريقة التأويل، وصرف الظاهر إلى غيره بدليل، لأنه لا يكون في الألفاظ التي يذكرون (2) في ذلك أوكد من أن يقول صلى الله عليه وآله: " هذا إمامكم من بعدي " (3) فمتى لم يعلم مراده صلى الله عليه وآله باضطرار أمكن أن يقال: إن هذا القول لا يعم الإمامة، لأنه لا يمتنع أن يريد أنه إمامكم في الصلاة أو الإمامة في العلم التي هي أجل من الإمامة (4) التي تتضمن الولاية، وأمكن أن يقال فيه أن هذا القول لا يعم الإمامة، لأن قوله: (هذا إمام) (5) بمنزلة قوله هذا رئيسكم وقائدكم وسائقكم إلى غير ذلك مما يقتضي صفة لا تستوعب ولا يمكن ادعاء العموم فيها، فلا بد من بيان إذا لم يكن هناك (6) تعارف يحمل الكلام عليه، ولا يمكن أن يدعى في لفظ الإمامة التعارف من جهة اللغة لأنه لا يعقل في اللغة أنها تفيد القيام بالأمور التي تختص بالإمام ولا يمكن ادعاء العرف الشرعي فيه، والذي حصل فيه من التعارف إنما حصل باصطلاح أرباب المذاهب، وما حل

____________

(1) المحتمل: ما يحتمل عدة وجوه.

(2) غ " التي تذكر ".

(3) في حاشية المخطوطة بدون " من " وكذلك في الموضع قبله وبعده كما أنه في المغني كذلك.

(4) غ " التي هي أصل الإمامة ".

(5) في المغني وحاشية المخطوطة: (هذا إمامكم).

(6) خ " من التعارف ".

الصفحة 194
هذا المحل لا يجب حمل الخطاب عليه، ولذلك لم يرو عن الصحابة ذكر الإمامة، وإنما كانوا يذكرون الأمير والخليفة، ولذلك قالوا يوم السقيفة:

" منا أمير، ومنكم أمير " وقالوا لأبي بكر: خليفة رسول الله، ولعلي أمير المؤمنين عليه السلام ولم يصفوا أحدا منهم بالإمام وإنما روي في هذا الباب (الأئمة من قريش) ووجب حمل ذلك على ما ذكرناه من حيث عقل الكل منه هذا المراد لا بظاهره، وإنما أردنا بهذا الكلام أن نبين أن ادعاء (1) لفظ في النص غير محتمل (2) لا يمكن... " (3).

يقال له: ليس يخلو نفيك لنقل ألفاظ النص من أن تريد به أنه لا نقل فيه من جهة الخصوم، فذلك إذا أردته وصح لا يضرنا، لأنه ليس يفتقر النص في الصحة إلى نقل الخصوم إذا كان قد نقله من تقوم الحجة بنقله، وإن أردت أنه لا نقل فيه على وجه فأنت تعلم ضرورة أن الشيعة تدعي نقل لفظ النص والتواتر، وتسمع منها ذلك أنت وأسلافك من قبلك، وإن كنت تدعي أن نقلهم له غير متصل وأنه مما ولد (4) بعد زمان الرسول صلى الله عليه وآله اللهم إلا أن تكون أردت بما ذكرته في كلامك من نفي النقل نفي ما ذكرناه آنفا من الاتصال والاستمرار، وهذا إن كنت أردته غير مفهوم من كلامك والمفهوم منه خلافه، وقد مضى ما يدل على اتصال نقل الشيعة، وإن سلفهم في نقل النص كخلفهم، وليجب إذا لم يكن جميع الألفاظ التي يروونها (5) في النص مثل خبر الغدير أن تكون

____________

(1) في المغنى " دعا " وتركها المحقق على ما هي عليه مع الإشارة إليها، وكم له فيه من أمثالها.

(2) في المخطوطة " غير محتمل لا يحتمل ".

(3) المغني 20 ق 1 / 129.

(4) المولد من الكلام والشعر: هو المصنوع.

(5) خ " نرويها ".

الصفحة 195
باطلة، لأن إبطالها بهذا الوجه يؤدي إلى إبطال كل ما لم يسلمه المخالفون لخصومهم من الأخبار، وإن كان قد اختص بنقله فرقة فيهم الحجة على أن خبر الغدير لم يفارق النص الجلي من حيث الحجة لكن من حيث نقله المخالفون (1) فأجمع الناس على تسليمه، وقد ثبتت الحجة بما لا إجماع فيه ولا تسليم من جميع الأمة.

فأما قوله: " إن جميع ما نعتمده من النصوص إذا لم يعلم منه قصد النبي صلى الله عليه وآله باضطرار فلا بد أن يكون محتملا " فليس يخلو الاحتمال الذي عناه من أن يريد به ما لم يمكن القطع فيه على وجه دون وجه، وكانت الأقوال في المراد منه كالمتكافئة المتحاذية (2) فإن أراد هذا - وهو المفهوم في الأغلب من لفظ الاحتمال - فالنص عندنا بمعزل عنه، لأنه مما يقطع على المراد منه، ولا تكافؤ بين الأقوال المختلفة في تأويله، وإن أراد بالاحتمال جواز دخول الشبهة وعدم العلم الضروري فهو غلط، لأنه ليس كل ما لم يعلم ضرورة وأمكن المبطل صرفه عن ظاهره بالشبهة محتملا لأنه لو كان ما هذه صفته موهوما بالاحتمال لوجب أن تكون أدلة العقل كلها محتملة، وكذلك نصوص القرآن والسنة التي نقطع على المراد منها حتى يكون قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (3) و (ما اتخذ الله من ولد) (5) و (ليس كمثله شئ) (6) محتملا، غير أنا وإن

____________

(1) في المخطوطة " المختلفون " وفي حاشيتها " المخالفون خ ل ".

(2) المتحاذية: المتقاربة.

(3) في الأصل " المتحاذية فهذا " والتصحيح عن المخطوطة.

(4) الأنعام 103.

(5) المؤمنون 91.

(6) الشورى 11.

الصفحة 196
منعناه من إطلاق لفظ الاحتمال على ما جاز دخول الشبهة فيه لما ذكرنا أنه مؤد إليه لا يمتنع من جواز دخول الشبهة في الألفاظ التي نرويها ونعتمدها في الدلالة على النص، ومن أن يصرفها المبطل عن ظاهرها على سبيل الخطأ، وإنما منعناه من إطلاق لفظ الاحتمال، وإن أراد بالاحتمال جواز العدول عن الظاهر أو عن الحقيقة على وجه من الوجوه فإن ذلك ممكن في الكلام خاصة دون أدلة العقول فهذا أيضا مؤد إلى أن جميع أدلة الكتاب والسنة محتملة، وما نظنه يستحسن إطلاق ذلك على أن العدول عن الظاهر وعن الحقيقة لا يخلو من أن يكون مستعملا بدليل أو بشبهة، فإن كان عن دليل فسنبين إن جميع ألفاظ النص لا يجوز الانصراف عن اقتضائها النص إلى غيره بشئ من الأدلة، وأنه لا يصح قيام دليل يقتضي حملها على خلاف النص الذي نذهب إليه وإن كان العدول عن الظاهر بالشبهة فنحن نجوز أن تدخل الشبهة على بعض الناظرين فيصرف لفظ النص إلى غير موجبه ومدلوله، غير أن ذلك لا يوجب أن يكون محتملا لها تقدم فقد بطل بهذه الجملة قوله: " إنه لا شئ نورده من ألفاظ النصوص إلا وهو محتمل ".

فأما تخصيصه قوله صلى الله عليه وآله: (هذا إمامكم من بعدي) وادعاؤه أن الضرورة إذا ارتفعت أمكن أن يحمل على إمامة الصلاة أو العلم فغير صحيح.

وقد أجاب أصحابنا عن هذا الالزام وأمثاله بأن قالوا: الذي يؤمننا من تجويز ما ألزمناه من التخصيص إن الذين نقلوا إلينا ألفاظ النصوص خبرونا بأن أسلافهم خبروهم عن أسلافهم إلى أن يتصل الخبر بزمان الرسول صلى الله عليه وآله فهموا من قصده النص على الإمامة التي قد استقر في الشريعة حكمها وصفتها وعمومها لسائر الولايات، قالوا: وإذا

الصفحة 197
كان مراده عليه السلام مما يصح أن يقع الاضطرار إليه كما يصح أن يقع الاضطرار إلى خطابه وكلامه فلو جوزنا على الناقلين الكذب في أحد الأمرين جوزناه في الآخر ومن ذهب من أصحابنا إلى أن اللفظ المحتمل لأمور مختلفة على جهة الحقيقة إذا ارتفع بيان المخاطب وتخصيصه مراده بوجه دون وجه يجب حمله على سائر محتملاته إلا ما منع منه الدليل يسقط هذا المذهب السؤال عن نفسه، فنقول: إذا كان لفظ الإمامة محتملا لسائر الولايات التي تستغرقها الإمامة كاحتماله لبعضها، ولم يبين الرسول صلى الله عليه وآله مراده على سبيل التعيين والتخصيص وجب أن يحمل اللفظ على جميع ما يحتمله.

وهذا الجواب غير معتمد عندنا لأنه مخالف لأصولنا، ومبني على أصل نعتقد فساده وبطلانه، وأصح ما يجاب به عن السؤال أن يقال:

قد وجدنا الأمة في هذا الخبر المنصوص الذي تدعيه الشيعة بين قولين أحدهما قول من نحاه وحكم ببطلانه، والآخر قول من أثبته وقطع على صحته، ووجدنا كل من قطع على صحته لا يفرق في تناوله للإمامة بين ولاية وغيرها بل يحكم باستيعابه لجميع الولايات التي تدخل تحت الإمامة الشرعية، ولا يميز بين علم وصلاة وغيرهما، فالقول بإثبات الخبر مع التخصيص قول خارج عن أقوال الأمة المستقرة فوجب اطراحه.

فأما نفيه أن يكون في لفظ الإمام عرف شرعي وقوله: " إنما حصل التعارف فيها باصطلاح أرباب المذاهب) فهو طريق إلى نفي العرف الشرعي في جميع الألفاظ الشرعية، حتى يقال: إن لفظ الصلاة والزكاة ليس بشرعي وإنما اصطلح على معنى هذه الألفاظ أرباب المذاهب.

فإن قيل: كيف يصح إخراج لفظ الصلاة وما أشبهها من عرف

الصفحة 198
الشرع وقد ورد الكتاب والسنة بذكرها، وفهم المخاطبون من جميع ألفاظ الكتاب والسنة هذه الأفعال المخصوصة، وكيف ينفي كون لفظ الإمامة شرعيا ويدعي اصطلاح أهل المذاهب وقد ورد الكتاب والسنة بلفظ الإمامة وفهم المخاطبون منها الإمامة الشرعية فمما ورد به الكتاب قوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) (1) ومما ورد في السنة ما يروونه من قوله عليه السلام: (الأئمة من قريش) وقد فهم السامعون هذا القول والمخاطبون به منه الإمامة الشرعية، فإن جاز لكم أن تقولوا: إنهم فهموا ذلك لا من قبل الظاهر جاز أن يقال في جميع ما فهموه من معنى لفظ الصلاة والزكاة وجميع الألفاظ التي تنسب إلى عرف الشرع أنهم لم يفهموا معانيها المخصوصة بالظاهر وهذا يبين أن الطريق إلى إثبات العرف الشرعي في سائر الألفاظ ثابت في لفظ الإمامة فإن القادح في كونها شرعية قادح في جميع ألفاظ الشرع.

فأما قوله: " إنهم لم يسموا بالإمامة أحدا من ولاة الأمر وأنهم عدلوا عن لفظ الإمام إلى لفظ الخليفة والأمير " فقد بينا أنهم قد استعملوا لفظ الإمامة في الأنباء عن الولاية المخصوصة، كما استعملوا لفظ الأمير والخليفة، واستدللنا بما رووه من قوله: (الأئمة من قريش) وفهم جميعهم معنى الإمامة الشرعية منه وليس يجب إذا استعملوا لفظ الإمامة في موضع أن لا يستعملوا غيره مما يقوم مقامه في موضع آخر، ولفظ إمارة المؤمنين والخلافة تقوم مقام لفظ الإمامة (1) في عرفهم، وتنبئ عن معناها فهم مخيرون بين جميع هذه الألفاظ، ومستعملون لما حسن عندهم استعماله

____________

(1) البقرة 124.

(2) تقوم مقام سائر ألفاظ الإمامة، خ ل.

الصفحة 199
منها، وإنما يكون في كلامه شبهة لو كانوا لما استعملوا لفظ أمير وخليفة لم يستعملوا لفظ الإمامة في موضع من المواضع فأما مع استعمالهم للكل فلا شبهة.

فإن قالوا: قد أجبتم عمن خصص الولاية وقصرها على بعض دون بعض، فما جوابكم لمن ألزمكم تخصيص الأحوال فقال: جوزوا أن يريد بقوله: (هذا إمامكم من بعدي) بعد عثمان، فيكون مستعملا للخبر على الوجه الذي يشهد له الإجماع.

قيل له: هذا السؤال يسقط بالأجوبة الثلاثة التي تقدم ذكرها، وأحدها الاعتماد على نقل ما فهم من مراد النبي صلى الله عليه وآله والعلم بقصده، والآخر حمل اللفظ على جميع محتملاته إلا ما منع منه الدليل على مذهب من يرى ذلك، والآخر اعتبار الإجماع وطريقة اعتباره هاهنا أن الأمة مجتمعة على أن النبي صلى الله عليه وآله لم ينص على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة نصا يتناول الحال التي هي بعد قتل عثمان دون ما قبلها من الأحوال لأن من نفى النص جملة من المخالفين يمنع من حصول الإمامة لأمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحال بالنص ويثبتها بالاختيار، ومن ذهب إلى النص لا يخص تلك الحال دون ما تقدمها فالقول بأن النص تناول تلك الحال دون ما قبلها خارج من الإجماع (1) والأقوال المستقرة فيه.

فإن قال: فما الجواب لمن حمل ما يروونه من النص كقوله: (هذا خليفتي من بعدي) إلى ما شاكله من الألفاظ على الخبر دون الأمر والإيجاب فكأنه عليه السلام قال: إنه سيكون بعدي إماما في الحال التي عقدت له

____________

(1) عن الإجماع خ ل.

الصفحة 200
الإمامة فيها بالاختيار، ويكون ثبوت إمامته بالعقد له لا من جهة قول الرسول صلى الله عليه وآله.

قيل له: هذا يسقط بطريقة اعتبار ما فهمه الناقلون من مراده عليه السلام لأن من نقل ألفاظ النص ينقل عن أسلافه أنهم ذكروا عن أسلافهم حتى يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وآله أنهم فهموا من مراده عليه السلام بألفاظ النص الإيجاب والاستخلاف دون الخبر عما سيكون في المستقبل، ويسقط أيضا بطريقة حمل اللفظ على سائر محتملاته على مذهب من يراه لأن قوله: (هذا خليفتي من بعدي) و (هذا إمامكم من بعدي) يحتمل أن يكون خبرا وأمرا أو إيجابا ولا مانع يمنع من أن يريد المخاطب به الأمرين جميعا، والصحيح أن اللفظة الواحدة يجوز أن يقصد بها قائلها إلى المعاني المختلفة التي لا يمنع من إرادته لها على الاجتماع مانع، على أن ما اعترض به السائل لا يسوغ في جميع الألفاظ المنقولة في النص، ولا يصح حملها على الخبر دون الإيجاب، لأن قوله عليه السلام (سلموا على علي بإمرة المؤمنين) لا يجوز أن يكون خبرا عما يكون في المستقبل لأنه يدل على استحقاقه منزلة إمرة المؤمنين في الحال بدلالة الأمر بالتسليم المتضمن لذكرها، ولو كان إشارة إلى ما يقع في المستقبل، ونحن نعلم أن الذي يحصل في المستقبل ولما حصل سببه غير مستحق في الحال لما صح الكلام، ولما جاز أن يأمر عليه السلام بالتسليم المقتضي لحصول الاستحقاق وسببه في الحال، وكذلك قوله عليه السلام: (أيكم يبايعني يكن أخي ووصيي وخليفتي من بعدي) (1) لا يصح أن يكون خبرا عما يقع في المستقبل لأنه عليه السلام جعل المنازل المذكورة جزاء على ما دعا إليه من مبايعته وأخرجه مخرج الترغيب فيما جعل المنازل جزاء عليه، وكل

____________

(1) يعني في حديث يوم الدار وقد مر تخريجه.

الصفحة 201
ذلك لا يصح إذا حمل اللفظ على الخبر، وإنما يصح إذا حمل على الإيجاب بهذا القول، فكأنه عليه السلام قال: من يبايعني منكم فقد أوجبت كونه أخا لي ووصيا وخليفة من بعدي، ومما يبين أيضا بطلان حمل اللفظ على الخبر أنه لا شبهة في أن ما تقدم ذكر الخلافة من المنازل كالوصية، والأخوة الغرض فيها الإيجاب دون الخبر، لأنه محال أن يريد عليه السلام من بايعني صار بعدي أخا لي ووصيا لأمر لا يتعلق بإيجابي ذلك له بهذا القول، وإذا ثبت الوجوب فيما تقدم ذكر الخلافة ثبت الوجوب فيها أيضا لاستحالة أن يتسق (1) عليه السلام بعض المنازل على بعض، ويريد بالجميع الإيجاب دون الخبر ما عدا منزلة الخلافة التي حكمها في اللفظ حكم ما تقدمها، ألا ترى أنه لا يحسن من أحدنا أن يقول وقد عزم على سفر أو هم بأمر: من صحبني في سفري أو ساعدني على الأمر الذي هممت به كان شريكي في صنعتي، والمسموع القول عندي، والمقدم من بين أصحابي، وله ألف درهم، ويريد بجميع ما ضمنه الكلام الإيجاب ما عدا ذكر الألف فإنه يريد أنه سينال ألفا ويصل إليه من غير جهته، ومن غير أن يكون هو سببا في الاستحقاق، ويمكن أن يبطل تأويل من حمل جميع الألفاظ المروية في النص على الخبر بالطريق التي تقدمت في اعتبار الإجماع، لأن الناس في الأخبار التي يروونها في النص الجلي بين مثبت لها قاطع على صحتها، وبين ناف لها مكذب بها، ومن نفاها لا يشك في حملها على الإيجاب ومباينة حملها على الخبر لقوله، ومن أثبتها ذهب إلى الإيجاب فيها دون الخبر، أو إلى الأمرين جميعا على جواب من تعلق من أصحابنا بالاحتمال، وحمل اللفظ على سائر محتملاته فحملها على الخبر دون الإيجاب للإمامة قول خارج عن الإجماع.

____________

(1) يتسق: ينتظم ويجتمع.

الصفحة 202
قال صاحب الكتاب: " واعلم أن الذي به تثبت إمامة أبي بكر من الإجماع الذي ترتبه يقتضي في كل شئ يتعلقون به، ويزعمونه دالا على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وأنه مصروف عن ظاهره متأول إن كان ظاهره يدل على ما يدعونه، لأنه قد ثبت أن الإجماع حجة وصح أنه يجب لأجله صرف الكلام عن ظاهره وأنه بمنزلة الأدلة العقلية والسمعية في ذلك، وقد بينا أنه لا يمكن أن يقال في شئ من أدلتهم إنه لا احتمال فيها بل لا بد من دخول الاحتمال في جميعها فيصح لأجل ذلك أن يتأول ما يوردون في هذا الباب، ويصرف إلى غير ظاهره، أو يخص بدليل الإجماع، وإذا كان مشائخنا إنما قالوا بإمامة أبي بكر من جهة دليل الإجماع، فمتى ثبت لهم ذلك صح الطعن به في جملة أدلتهم، فلو لم نشتغل بأدلتهم أصلا لصح وللزمهم عند ذلك أن يكلمونا في هذا الدليل هل هو صحيح أم لا؟ فإن صح لنا على ما نرتبه فقد كفينا مؤونة الاشتغال بأدلتهم واحدا واحدا، وإن لم يصح ولا معول لنا في إمامة أبي بكر إلا عليه فقد كفوهم (1) مؤونة الاشتغال بهذه الأدلة لأنه لا خلاف أن إمامة أبي بكر إذا لم تصح فالصحيح إمامة علي عليه السلام وهذا يبين أن الواجب التشاغل بالدلالة (2) لأنها إن صحت فلا وجه لأدلتهم، وإن لم تصح فقد استغنوا عن أدلتهم * لأن في كلا الطرفين الإجماع يغني عن إيراد هذه الأدلة وليس لهم أن يقولوا: إن إيراد الأدلة (3) * المقصد بها إبطال قول من يدعي إمامة أبي بكر من جهة النص، لأنا قد بينا أن ذلك القول متروك، وأنه لا معول عليه لأن أحدا لم يدع النص عليه إلا من جهة أخبار

____________

(1) كفيناهم، خ ل.

(2) غ " بهذه الدلالة ".

(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".

الصفحة 203
الآحاد التي يتعلق بها أصحاب الحديث، أو من جهة التقديم للصلاة الذي يبين أنه أشد احتمالا من سائر ما يذكر من النصوص، وإنما ذكرنا المذاهب المعتمدة، وليس إلا ما ذكرناه من الوجهين، على أن ذلك يوجب أن يوردوا هذه الحجج على البكرية وأصحاب الحديث دوننا، وهم إنما يقصدون بالحجاج هذه الطائفة التي تدخل معهم في طريقة النظر، وتعتمد على قولهم، ولم نقل ذلك لأن إيرادهم هذه الأدلة لا يصح، وإنما أوردناه لنبين أن هذه الطريقة يمكن أن يعترض بها على الجميع وأنها متى صحت لم يلزمهم الاشتغال بأدلتهم إلا كما يلزم في باب التوحيد من الاشتغال بتأويل (1) الآي المتشابهة (2) ".

يقال له: الإجماع حجة كما ذكرت لكن إذا ثبت ولم يقتصر فيه على الدعوى، وسنبين بطلان ما يدعى من الإجماع على إمامة أبي بكر إذا صرنا إلى الكلام في إمامته بعون الله.

فأما دخول الاحتمال على أدلتنا فقد بينا ما فيه وأبطلنا دخول الاحتمال الذي هو بمعنى التكافؤ وتساوي الأقوال فيها، وذكرنا أن ظواهرها لا يجوز الانصراف عنها وأنه لا يصح أن يقوم دليل يقتضي العدول عما نذهب إليه في مفهومها وسندل فيما بعد على أن خبر الغدير وهو قوله عليه السلام: (من كنت مولاه فعلي مولاه) وخبر المنزلة وهو قوله عليه السلام: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) لا يصح أن يحملا إلا على الإمامة لا حقيقة ولا مجازا، وأن حملها على خلاف الإمامة يقتضي إخراج الخطاب عن حد الحكمة والصواب، وأن إيجاب

____________

(1) غ " بتأويل المتشابه ".

(2) المغني 20 ق 1 / 129.

الصفحة 204
الإمامة يتناول الحال التي تلي وفاته عليه السلام بلا فصل، ولا نذكر في ذلك إلا أدلة قاطعة لا يدخلها تأويل ولا احتمال، على أن ما يدعيه المخالفون من الإجماع على إمامة أبي بكر محتمل أيضا لأن إطباق الكل على الرضا بإمامته غير معلوم ضرورة، وإنما يتعلق فيه بالامساك عن النكير والكف عن المنازعة والمخالفة، وذلك غير معلوم ولا مسلم في جميع الأحوال، ولو سلم في جميعها لم يكن فيه دلالة على الرضا، لأن الرضا لا يعلم بوقوع الكف عن النكير فقط دون أن يعلم أنه لا وجه للكف إلا الرضا، فقد تقرر بما ذكرناه دخول الاحتمال على ما يدعونه من الإجماع، وجاز أن يصرف عن ظاهره لو كان له ظاهر يقتضي الرضا، وليس كذلك على الحقيقة، وإذا ثبتت هذه الجملة فلو لم يصح ما قدمناه من نفي الاحتمال عن أدلتنا الذي إذا ثبتت قضي على ما يدعونه من الإجماع الذي هو محتمل في نفسه، ودخلها الاحتمال على ما يدعيه المخالف لوجب إذا كان الاحتمال داخلا في الأمرين أن يبطل الترجيح، ويجب أن ينظر كل واحد من الأمرين على حدته، فإذا صح قضينا به على فساد الآخر.

فأما قوله: " فمتى ثبت لهم ذلك - يعني دليل الإجماع - صح الطعن به في جملة أدلتهم " إلى قوله: " وهذا يبين أن الواجب التشاغل بهذه الدلالة لأنها إن صحت فلا وجه لأدلتهم وإن لم تصح فقد استغنوا عن أدلتهم " فعليه فيه مثل (1) ما له لأنا نقول له: وإذا صح ما يستدل به على صحة النص، وقامت حجته صح الطعن به في جملة أدلة من خالفنا التي من جملتها التعلق بالاجماع، فلو لم نشتغل بأدلتهم أصلا لصح، وللزمهم أن يكلمونا فيما نعتمده هل هو صحيح أم لا. فإن صح فقد كفيناهم

____________

(1) كل ما له، خ ل.

الصفحة 205
مؤونة الاشتغال بأدلتهم، وإن لم يصح شئ مما نعتمده من أدلة النص فقد كفاهم مؤونة الاشتغال بأدلتنا، لأن إمامة أمير المؤمنين عليه السلام إذا لم تصح فالصحيح إمامة أبي بكر، وهذه مقابلة له بمثل لفظه أو بقريب منه، فإن وجب بما ذكره العدول عن الكلام في أدلتنا إلى الكلام فيما يدعي من الإجماع وجب بمثله العدول عن الكلام في الإجماع إلى الكلام في أدلتنا.

ومن العجب أنه يعارض فيما تقدم ما نرويه من النص الجلي على أمير المؤمنين عليه السلام بما يحكى عن العباسية (1) ما تدعيه من النص على صاحبهم العباس ويسوي بين القولين، وهو يقول في هذا الفصل: " إنه لا خلاف أن إمامة أبي بكر إذا لم تصح فالصحيح إمامة علي " فهو هاهنا لا لا يحفل بقول العباسية، ويسقطه عن جملة أقوال المجمعين، وفيما تقدم يجعله مساويا لقول الشيعة التي لا يخرج قولها من الإجماع وهكذا صنع في باب البكرية لأنه عارض بقولهم قول الشيعة فيما تقدم، وأنكر على من حكم فيهم بالشذوذ، وجعلهم كشيعة أمير المؤمنين عليه السلام في سائر الأحوال، وقال في هذا الفصل " إن قولهم متروك لا معول عليه " فهو إذا شاء أن يحتج بقولهم قواه وشيده وإذا رأى أن الحجة في قولهم عليه ضعفه ووهنه، وهذه صورة من ينصر الباطل.

وليس مقصدنا بإيراد أدلتنا إبطال قول من يدعي إمامة أبي بكر من جهة النص حسب ما سأل عنه، بل مقصدنا بإيرادها إبطال كل قول يخالف النص على أمير المؤمنين عليه السلام فكيف يظن أن أدلتنا تتناول

____________

(1) العباسية: القائلون بأن العباس منصوص على إمامته، وقد ذكرهم المرتضى في غير موضع من هذا الكتاب وأشار إلا أنهم كانوا قلة في زمانهم، وأنهم من الفرق المنقرضة في زمانه، وقد ألف الجاحظ كتاب حكى فيه مقالتهم وحجاجهم.

الصفحة 206
خلاف البكرية دون خلاف من أثبت إمامة أبي بكر من جهة الاختيار، والوجه الذي منه يتناول خلاف البكرية من مثله يتناول خلاف من عداهم، لأنه كما يبطل قول من ادعى النص على أبي بكر متى ثبت النص على أمير المؤمنين عليه السلام كذلك يبطل قول من ادعى ثبوت إمامة أبي بكر من جهة الاختيار متى ثبت النص عليه السلام.

فأما قوله: " ولم نقل ذلك لأن إيرادهم هذه الأدلة لا يصح " إلى آخر الفصل، فمبطل لفائدة جميع ما تكلفه لأنه إذا كان إيرادنا لأدلتنا يصح ويجب أن يتكلم فيها متى احتججنا بها ولا يعدل بنا إلى الكلام فيما يعتمده المخالف، فأي ترجيح بين الأدلة وأي ثمرة لما تكلفه وأطال الكلام فيه؟

ولا شك أن طريقتهم يمكن أن يعترض بها على جميع طرقنا لأنها لو صحت لم يلزم الاشتغال بأدلتنا إلا كما يلزم الاشتغال بتأويل الآي المتشابهة حسب ما ذكره غير أن ذلك ثابت أيضا في أدلتنا، لأنه لا إشكال في أن كل طريقة نعتمدها في النص يعترض ما يعتمدونه في إمامة أبي بكر، وأنها متى صحت لم يجب أن نشتغل بما يدعونه من الأدلة إلا كما يشتغل بتأويل الآي المتشابهة، فقد ثبت على كل حال أن الكلام في أدلتنا متى اعتمدناها يجب عليهم، وإن من حاد عن الكلام عليها ونقله إلى الإجماع وادعى أنه هو الواجب مطالب بما لا يلزم.

قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر: ربما سلكوا في الإمام مسلك من يدعي أنه لا يصح (2) للإمامة سواه ويزعم أن الإمامة إذا لم يصح أن تكون إلا بنص (3) فيجب أن يكون النص عليه حاصلا وإن لم ينقل، ولهم

____________

(1) " آخر " ساقطة من " المغني ".

(2) غ " يصلح " وكذلك في المخطوطة.

(3) غ " إذا لم تكن إلا بنص ".

الصفحة 207
في ذلك طرق وأما أن يقولوا إذا كان الإمام لا بد من أن يكون معصوما ولم يثبت في الصحابة من يعلم عصمته غيره فيجب أن يكون هو الإمام وربما قالوا: إذا ثبت أن الإمام لا يكون إلا الأفضل وثبت فيه عليه السلام أنه الأفضل فكأن النص على إمامته منقول وإن لم ينقل، وربما قالوا إذا صح في غيره أنه لا يصلح للإمامة لوجوه من القدح يذكرونها في أبي بكر وغيره، فيجب أن يكون الإمام عليا وإن يكون هناك نص وإن لم ينقل... " (1).

يقال له: قد أوردت دليل التعلق بالعصمة على غير وجهه ورتبته على وجه لا يدل معه على ما جعلناه دليلا عليه ولو جعلت بدلا من قولك ولم يثبت في الصحابة من يعلم عصمته غيره أنه لم يكن فيمن ادعيت له الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله إلا من تقطع الأمة على ارتفاع العصمة عنه غيره عليه السلام لصح الكلام،.

ونحن نرتب هذا الدليل على وجهه ثم نبين ما وليه من الأدلة التي ذكرها.

أما الدليل الأول فمبني على أصلين (2):

أحدهما: إن الإمام لا يكون إلا معصوما كعصمة الأنبياء.

والأصل الثاني أن الحق لا يجوز خروجه عن جميع الأمة.

فأما الأصل الأول فقد تقدمت الأدلة عليه ومضى الكلام فيها مستقصى.

____________

(1) المغني 20 ق 1 / 131.

(2) اثنين، خ ل.

الصفحة 208
والأصل الثاني لا خلاف بيننا وبين صاحب الكتاب فيه، وإن كنا مختلفين في علته لأنا نوجب أن الحق لا يخرج من جملتهم من حيث ثبت أن بينهم معصوما لا يجوز أن يخلو منه زمان من الأزمنة، وصاحب الكتاب يوجب مثل ما أوجبنا بغير علتنا وقد تقدمت الأدلة على أن الإمام لا يخلو الزمان منه، وأنه لا يكون إلا معصوما فقد صار الأصل الثاني أيضا مدلولا عليه ولحق بالأول، وإذا ثبت الأصلان اللذان ذكرناهما ووجدنا الأمة في الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله على ثلاثة أقوال ليس وراءها رابع.

أحدها - قول من ذهب إلى أن الإمام بعده أمير المؤمنين عليه السلام بنصه صلى الله عليه وآله بالإمامة وهو قول الشيعة على اختلافها.

والآخر - قول من ذهب إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده على اختلاف مذاهبهم في اعتقاد النص عليه أو الاختيار وهو قول أكثر مخالفينا في الإمامة من المعتزلة وأصحاب الحديث والمرجئة (1) ومن وافقهم.

والثالث - قول العباسية الذين ذهبوا إلى أن العباس رضي الله عنه هو الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله على شذوذهم وانقراضهم، وقلة عددهم في الأصل، ووجدنا قول من أثبت إمامة أبي بكر وقول من أثبت

____________

(1) المرجئة حصرهم الشهرستاني في الملل والنحل 1 / 139 في أربعة أصناف مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة، وذكر أقوالهم وما ينفرد به كل صنف من الآراء، وقال البغدادي في الفرق بين الفرق ص 19: هم خمس فرق، ثم ذكر آرائهم بما لا يخرج عما ذكره الشهرستاني، وعلى كل حال فإن اسمهم مشتق من الارجاء بمعنى التأخير لأن بعضهم يؤخر حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، أو أن اسمهم مأخوذ من إعطاء الرجاء، وعلى هذا المعنى فإنهم يقولون: لا تضر مع الأيمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة.


الصفحة 209
إمامة العباس باطلين لإجماع الأمة على أن صاحبيهما لم يكونا معصومين بالعصمة التي عنيناها، وإذا لم يكونا معصومين وثبت بالعقل أن الإمام لا يكون إلا معصوما بطلت دعوى من ادعى إمامتهما، وإذا بطل هذان القولان ثبت قول الشيعة وأنه حق، لأنه لو لحق بهما في البطلان لكان الحق خارجا من الأمة فقد ثبت بهذا الترتيب أن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين عليه السلام بنصه صلى الله عليه وآله بالإمامة لأن كل من قال: إنه صلوات الله عليه الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله بلا فصل لم يثبت الإمامة له عليه السلام إلا بالنص.

وليس لأحد أن يقول: كيف يدعون الإجماع على ارتفاع العصمة عن أبي بكر وفي الناس من يذهب إلى عصمته لأنا لم ننف بالاجماع العصمة التي يمكن أن يدعيها بعض الناس لأنهم وإن قالوا فيه وفي غيره أنه معصوم بالإيمان، أو بما يرجع إلى هذا المعنى، فليس فيهم من يثبت له العصمة التي نوجبها للأنبياء عليهم السلام ولا اعتبار بقول من حمل نفسه على ما يخالف المعلوم من المذاهب المستقرة.

فأما دليل التعلق بالأفضل فهو على النحو الذي ذكره صاحب الكتاب لأنه إذا دل الدليل على أن الإمام لا يكون إلا الأفضل وثبت أنه عليه السلام الأفضل وجبت إمامته وقد يستدل أيضا على إمامته عليه السلام بما يقارب هذا الوجه وهو أن يقال: قد ثبت بالأدلة القاطعة أن الإمام لا يكون إلا أعلم الأمة بجميع الدين دقيقه وجليله، حتى لا يشذ عنه شئ من علومه، وقد ثبت بالاجماع أن أبا بكر والعباس وهما اللذان ادعى مخالفوا الشيعة إمامتهما بعد الرسول صلى الله عليه وآله لم يكونا بهذه الصفة بل كانا فاقدين لكثير من