الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى
علوم الدين وذلك ظاهر من حالهما فبطلت إمامتهما وثبتت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام لأنه لا قول لأحد من الأمة بعد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها.
فأما طريقة الطعن في أن غيره لا يصلح للإمامة فواضحة وقد اعتمدنا شيوخنا رحمهم الله قديما، وربما ذكروا فيما يخرج أبا بكر من الصلاح للإمامة ارتفاع العصمة عنه، وإخلاله بكثير من علوم الدين وهو الأقوى وإن رجع إلى ما تقدم، وربما ذكروا أنه أخر عن الولايات وقدم عليه غيره وأنه عزل عن أداء سورة براءة بعد أن توجه بها وعزل أيضا عن الجيش المبعوث لفتح خيبر بعد أن بأن قبح أثره فيه وأورد الرسول صلى الله عليه وآله عقيب عزله من القول ما لا شك في خروجه مخرج التهجين والتوبيخ حتى أن كثيرا من أصحابنا ذهبوا إلى أن ما تضمنه قوله صلى الله عليه وآله في تلك الحال في الوصف لأمير المؤمنين عليه السلام محبته لله ورسوله ومحبة الله ورسوله له تدل على انتفائه عمن عزل عن الولاية، ويذكرون أشياء كثيرة في هذا الجيش هي مذكورة في الكتب مشهورة يستخرجون من جميعها كون الرجل ممن لا يصلح للإمامة وسيأتي الكلام فيها مشروحا عند انتهائنا إلى الكلام في إمامة أبي بكر بمشيئة الله وعونه (1).
قال صاحب الكتاب: " وأما ادعاؤهم أن الإمام لا يكون إلا معصوما، فقد قلنا فيه بما وجب فلا يمكنهم جعل ذلك أصلا في هذا الباب على أن طريق العلم بأن أمير المؤمنين عليه السلام معصوم ثبوت
____________
(1) كما سيأتي مصادر تلك الوقائع، وتخريج تلك الأحاديث إن شاء الله تعالى.
|
فأما قولهم: أنه الأفضل ففيمن يخالفهم من يقول أن الأفضل أبو بكر فكيف يمكن إثبات النص بذلك وفيمن يخالفهم من لا يسلم أن الأحق بالإمامة الأفضل بل يجوز إمامة المفضول على كل وجه أو يجوز إمامة المفضول إذا كان في الفاضل علة تقعده أو كان هناك عذر وفيهم من يقول يجوز إمامة من غيره مثله في الفضل،... " (4).
يقال له: أما ما أحلت عليه من كلامك في العصمة فقد تقدم نقضه وبيان فساده، ودللنا على وجوب كون الإمام معصوما بما استحكمناه واستقصيناه، ولو كان طريق العلم بأن أمير المؤمنين عليه السلام معلوم ثبوت النص عليه ولا طريق إليه غيره حسب ما ظننت لا يلزمنا شئ مما أوردته، لأنك بنيته على ما لا نعتمده فقلت: " ومتى قالوا: إنه منصوص عليه لكونه معصوما وإنما يحصل معصوما بالنص وجب كذا وكذا " وهذا مما لم نقله ولا نقوله، والذي اعتمدناه في كونه عليه السلام منصوصا عليه فقد تقدم، وجملته أن الدليل إذا دلنا على أن الإمام في الجملة لا بد من عصمته وأجمعت الأمة على ارتفاع العصمة عمن ادعيت إمامته بعد
____________
(1) " من جهة العقل " ساقطة من المغني.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من " الشافي " وأعدناه من " المغني ".
(3) ما بين المعقوفين ساقط من " الشافي " وأعدناه من " المغني ".
(4) المغني 20 ق 1 / 132.
|
فإن قيل: فكيف السبيل إلى العلم بعصمته عليه السلام من هذا الاستخراج وعلى هذه الطريقة، وأنتم تعلمون أنه ليس كل من قال بأنه المنصوص عليه بعد الرسول يذهب إلى عصمته لأن من ذهب من الزيدية إلى النص يثبته ويخالف في العصمة؟
قلنا: إذا ثبت أنه عليه السلام المنصوص عليه بالإمامة وكان العقل دالا على أن الإمام لا يكون إلا معصوما وجب عصمته فأما التعلق بمنازعة من نازعنا في كونه عليه السلام الأفضل فغير نافع، لأنا لم نعتمد ذلك على أنه لا خلاف فيه، وليس كل ما وقع فيه خلاف يجب أن يبطل الاعتماد عليه وإذا دللنا على أنه الأفضل سقط خلاف المخالف وسندل عليه عند الكلام في التفضيل.
وأما الدليل على أن المفضول لا يجوز أن يكون إماما فقد تقدم فيما مضى من الكتاب.
قال صاحب الكتاب: " فأما توصلهم إلى النص بما يقدح في سائر من يقال: إنه إمام فبعيد لأن من خالفهم ينفي عنهم ما يذكرون، ويزعمون أنهم يصلحون للإمامة كصلاح أمير المؤمنين عليه السلام بل فيمن خالفهم من يعلو فيقول: لا يصلح بعد الرسول للإمامة غير أبي بكر، ويقول في كل وقت إن الذي يصلح للإمامة ليس إلا من تولى.
____________
(1) لعدم الإجماع على ارتفاع عصمته عليه السلام باعتبار قول الإمامية بها.
|
قيل له: لأن الوجوه التي لا يصلح معاوية للإمامة معها (2) ظاهرة ولا شبهة فيها فنقرب بذكرها عليهم لا أنا نجعل ذلك أصلا لأن عندنا أن الإمامة فيمن يصلح لها لم تثبت إلا بوجوه لم تثبت في معاوية وثبتت في أمير المؤمنين عليه السلام وإنما يدفع شيوخنا إلى ذكر ذلك عند سؤال يورد عليهم (3) نحو قولهم: إنهم أجمعوا (4) على إمامة معاوية وأنه عند تسليم الحسن عليه السلام سمي عام الجماعة فإذا لم يوجب ذلك إمامته فكذلك القول في إمامة أبي بكر فنذكر عند ذلك أن هذا الكلام إنما يقال فيمن يصلح للإمامة ويكون في أمره شبهة ولا يتأتى مثله في معاوية كما لا يتأتى مثله في الخوارج وغيرهم وتبين بهذا الوجه وبغيره اختلال كلامهم فأما أن يجعل ذلك أصلا في الإمامة فبعيد، على أن ما يقتضي ثبوت إمامة أبي بكر يبطل القدح فيه، ويمنع من القول بأنه لا يصلح للإمامة فيجب أن يكون الكلام في إثبات إمامته فإن ما عداه تابع له، وهذا يبين أنه لا شبهة فيما جرى هذا المجرى من الحجاج في إثبات النص، فإن الواجب أن يذكروا دليلا بعينه من كتاب أو سنة ليصح التعلق به، وليس القوم بهذه الطريقة أسعد حالا ممن خالفهم بأن يقول (5): ليس بعد إبطال النص إلا طريقة الاختيار وقد ثبت في إمامة أبي بكر فيجب أن يقال بإمامته ويكونوا محيلين
____________
(1) في الأصل " في معاوية " وآثرنا ما في " المغني ".
(2) غ " لها ".
(3) " عليهم " ساقطة من " المغني ".
(4) غ " اجتمعوا ".
(5) غ " ممن يقول ".
|
يقال له: ليس كل ما طعن به أصحابنا في صلاح أبي بكر للإمامة مما يتمكن المخالفون من إنكاره، وإن خالفوا في كونه دليلا على أنه لا يصلح للإمامة، لأن إخلاله بكثير من علوم الدين وحاجته فيها إلى غيره وتوقفه في مواضع منها معلوم ظاهر، وكذلك كونه غير معصوم، وأنه ممن يجوز عليه الخطأ أيضا مجمع عليه، وقد تقدمت الأدلة على أن من كانت هذه حاله لا يصلح أن يكون إماما.
فأما تأخيره عن الولايات، وتقديم غيره عليه وعزله عن ولاية أداء سورة براءة على الوجه الذي ذكرناه فمما لا خلاف أيضا فيه، وسنتكلم على ذلك وما أشبهه إذا انتهينا إلى الكلام في إمامة أبي بكر إن شاء الله عز وجل، وفي الجملة ليس ثبوت الخلاف في الشئ دليلا على بطلانه، ومانعا من الاعتماد عليه، والمراعى في هذا الباب ما تدل الأدلة على صحته سواء وقع الخلاف فيه أو الوفاق.
ثم يقال له: في اعتماده في جواب السؤال الذي أورده على أن الوجوه التي لا يصلح لها معاوية للإمامة ظاهرة: أليس مع ظهورها عندك قد خالفك فيها الخلق الكثير ممن يعتقد إمامة معاوية وذهبوا في كثير مما يعتقد كون معاوية عليه من الأسباب المانعة من صلاحه للإمامة إلى أنه باطل لا أصل له، وفي البعض الذي سلموا حصوله إلى أنه غير دال على ارتفاع صلاحه للإمامة، وإذا جاز أن تثبت حجتك عليهم في أن معاوية لا يصلح للأمر مع ما ذكرناه من خلافهم وساغ لك الاعتماد على ما يخالفون فيه، فألا ساغ لنا مثله في إمامة أبي بكر فكيف جعلت وقوع
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 133
|
ومن العجب قوله: " فنقرب بذكرها عليهم ولا نجعلها أصلا، لأنه لا مانع من جعل كون من يدعي له الإمامة ما لا يصلح لها أصلا في إبطال إمامته، بل هو الأولى عند قيام الدليل عليه، لأن كونه ممن لا يصلح للإمامة مفسد لإمامته كما أن انتفاء ما به يثبت الإمامة عنه من عقد وغيره مبطل لها، وإنما كان الوجه الأول أكد وأولى لأنه مانع من وقوع الإمامة وجواز وقوعها، والثاني مانع من ثبوتها وغير مانع من جوازه، ألا تعلم إنا لو ألزمنا إمامة كافر أو متظاهر بالفسق أو من ليس له نسب في قريش لكان الأولى أن نبين أنه لا يصلح للإمامة، ونجعل بيان حاله مبطلا لإمامته، ولا نعدل إلى ذكر انتفاء ما به تثبت الإمامة من عقد وما يجري مجراه، ولسنا نعلم بين إيراد ما ذكره من كون معاوية لا يصلح للأمر في جواب السؤال الذي حكاه وبين إيراده ابتداء فرقا (1) يقتضي أن يستحسن جوابا وينكره ابتداء، لأنه إذا ساغ أن يقول لمن يدعي الإجماع على إمامة معاوية أن ذلك لا يتأتى في معاوية لأنه لا يصلح للإمامة ساغ أن يقول أيضا في الأصل لمن يسأل عن ثبوت إمامة معاوية أن ثبوت الإمامة إنما يتأتى فيمن يصلح لها ومعاوية ممن لا يصلح لها.
فإن قال: لم أرد أني لا أجعل ذلك أصلا في نفي إمامة معاوية وإنما أردت أن أجعله أصلا في باب انتفاء الإمامة.
قيل له: ولم لا يكون ما ذكرته أصلا في نفي إمامة كل من ثبت أنه لا يصلح للإمامة سواء كان معاوية أو غيره؟ اللهم إلا أن يريد أنني لا
____________
(1) " فرقا " مفعول " نعلم ".
|
وهذا إذا أردته خارج عما نحن فيه، وعما كلامنا عليه، لأن الكلام إنما هو في صحة التطرق يكون من يدعى له الإمامة لا يصلح لها إلى نفي إمامته كما يصح أن يتطرق إلى نفيها بغيره من عدم العقد أو ما يجري مجراه، على أن الجواب عن السؤال الذي حكى أن شيوخه دفعوا إليه ما نراه إلا مؤكدا للسؤال أو محققا له، لأنه إذا جاز أن يحصل الإجماع على الصورة التي كانت عليها في أيام أبي بكر الذي يصلح عنده للإمام في ولاية من ليس بإمام، ولا يصلح للإمامة، فقد بطل أن يكون الامساك عن النكير، وإظهار التسليم، دلالة على حصول الإجماع في الحقيقة، ووقوع الرضا في موضع من المواضع لحصولهما فيمن ليس بإمام ولا يصلح للإمامة.
فأما قوله: " إن الذي يقتضي ثبوت إمامة أبي بكر يمنع من القول بأنه لا يصلح للإمامة، ويبطل القدح فيه " فإنما يصح لو ثبتت إمامة أبي بكر وقام على صحتها دليل، ونحن نبين بطلان ما يظنه دليلا على إمامته إذا بلغنا إليه، على أن الاعتبار القياسي الذي اعتمدناه ليس مما يمكن أن يدعى دخول الاحتمال والتخصيص فيه كألفاظ النص، فالكلام فيه أولى من العدول إلى الكلام فيما يدعونه من الإجماع على أبي بكر الذي قد بينا أنه يحتمل ويجوز الانصراف عن ظاهره.
وقوله: " ليس بعد إبطال النص إلا طريقة الاختيار " صحيح أيضا غير أنه لم يقم دليلا على بطلان ما نذهب إليه من النص، وقد بينا صحة الأصلين اللذين جعلناهما مقدمة لطريقتنا وهما العصمة، وأن الحق لا يخرج عن الأمة، فصح ما بنيناه عليهما، وبطل ما بناه صاحب الكتاب
|
قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر ربما تعلقوا بقوله تعالى:
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1) ويقولون: المراد بالذين آمنوا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام لأنه وصفه بصفة لم تثبت إلا له وهي إيتاء الزكاة في حال الركوع، وربما ادعوا في ذلك أخبارا منقولة أنه الذي أريد به، ويقولون: قد يذكر الواحد بلفظ الجمع تفخيما لشأنه، ويقولون:
المراد بالولي في الآية لا يخلو من وجهين أما أن يراد من له التولي في باب الدين أو يراد نفاذ الأمر وتنفيذ الحكم ولا يجوز أن يراد به الأول لأن ذلك لا يختص الرسول ولا (2) أمير المؤمنين عليه السلام لأن الواجب تولي كل مؤمن (3) فلا يكون لهذا الاختصاص وجه فلم يبق إلا أن المراد ما ذكرناه،... " (4).
يقال له: ترتيب الاستدلال بهذه الآية على النص هو أنه قد ثبت أن المراد بلفظة (وليكم) المذكورة في الآية من كان متحققا بتدبيركم والقيام بأموركم ويجب طاعته عليكم وثبت أن المعنى بـ (الذين آمنوا) أمير المؤمنين عليه السلام. وفي ثبوت هذين الوصفين دلالة على كونه عليه السلام إماما لنا.
فإن قال: دلوا أولا على أن لفظة ولي تفيد في الاستعمال ما ادعيتموه من المتحقق بالتدبير والتصرف، ثم دلوا على أن المراد بها في الآية
____________
(1) المائدة 55.
(2) " لا " ساقطة.
(3) غ " كل قوم " وهو خطأ بين.
(4) المغني 20 ق 1 / 133.
|
قيل له: أما كون لفظة ولي مفيدة لما ذكرناه فظاهر لا إشكال في مثله، ألا ترى أنهم
يقولون: فلان ولي المرأة، إذا كان يملك تدبير إنكاحها والعقد عليها، ويصفون عصبة
المقتول بأنهم أولياء الدم من حيث كانت إليهم المطالبة بالقود
(1)
والإعفاء، وكذلك يقولون في السلطان أنه ولي أمر الرعية، وفيمن يرشحه لخلافته عليهم
بعده أنه ولي عهد المسلمين، قال الكميت:
(2)
ونعم ولي الأمر بعد وليه | ومنتجع التقوى ونعم المؤدب |
إنما أرادوا ولي الأمر والقائم بتدبيره.
____________
(1) القود - بفتحتين - القصاص، يقال: أقاد القاتل بالقتيل: قتله به.
(2) الكميت: هو ابن زيد الأسدي، شاعر مقدم، عالم بلغات العرب، خبير بأيامها، فصيح من شعراء مضر وألسنتها وكان في أيام بني أمية ولم يدرك الدولة العباسية، ومات قبلها، وكان معروفا بالتشيع، مشهورا بذلك وقصائده الهاشميات من جيد شعره ومختاره، على أن يد التحريف مدت إليها، وأسقطت منها - كما تجد تفصيل ذلك في الغدير 2 / 181 - وقد ترجم للكميت جماعة منهم أبو الفرج في " الأغاني " 15 / 113 فما بعدها، وابن قتيبة في " طبقات الشعراء " ص 368 - 371، والعباسي في " معاهد التنصيص " 3 / 93 وغيرهم والبيت في المتن من هاشميته التي أولها:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب | ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب |
|
فأما الذي يدل على أن المراد بلفظة " ولي " في الآية ما بيناه من معنى الإمامة، فهو أنه قد ثبت أولا أن المراد بـ (الذين آمنوا) ليس هو جميعهم على العموم، بل بعضهم، وهو من كانت له الصفة المخصوصة التي هي إيتاء الزكاة في حال الركوع، لأنه تعالى كما وصف بالأيمان من أخبر بأنه ولينا بعد ذكر نفسه، وذكر رسوله صلى الله عليه وآله كذلك وصفه بإيتاء الزكاة في حال الركوع، فيجب أن يراعى ثبوت الصفتين معا.
وقد علمنا أن الصفة الثانية التي هي إيتاء الزكاة لم تثبت في كل مؤمن على الاستغراق، لأن مخالفينا وإن حملوا نفوسهم على أن يجوزوا مشاركة غير أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك الفعل له فليس يصح أن يثبتوه لكل مؤمن وسندل فيما بعد على أن المراد وصفهم بإعطاء الزكاة في حال الركوع دون أن يكون أراد أن من صفتهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ومن صفتهم الركوع ونبطل أيضا أن يكون المراد بالركوع الخضوع دون الفعل المخصوص عند الكلام على ما أورده صاحب الكتاب.
وإذا ثبت توجه الآية إلى بعض المؤمنين دون جميعهم ووجدناه تعالى قد أثبت كون من أراده من المؤمنين وليا لنا على وحيه يقتضي التخصيص
____________
(1) العبارة: من كتب المبرد وموضوعه في صفات الله سبحانه كما يظهر من المتن، والمبرد هو محمد بن يزيد الثمالي الأزدي إمام من أئمة الأدب مشهور ومؤلفاته في مختلف العلوم تناهز المائة أشهرها الكامل توفي ببغداد أيام المعتضد العباسي سنة 5 أو 286 ودفن في مقابر باب الكوفة في دار اشتريت له.
|
قال الأعشى:
(1)
ولست بالأكثر منهم حصى | وإنما العزة للكاثر (2) |
____________
(1) الأعشى: لقب لعدة من الشعراء أنهاهم الآمدي في المؤتلف والمختلف إلى سبعة عشر من جاهليين وإسلاميين والمراد به هنا أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل، وهو أعشى قيس، ويعرف بالأعشى الكبير أحد الشعراء المشهورين في الجاهلية وأدرك الاسلام ولم يسلم، وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله ليسلم فبلغ قريشا خبره فقالوا هذه صناجة العرب ما يمدح أحدا إلا رفع قدره، فرصدوه على طريقه فلما ورد عليهم، قالوا: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأسلم على يديه، فقالوا: إنه ينهاك عن خلال ويحرمها عليك، وكلها بك رافق، ولك موافق، قال: وما هن؟ قال أبو سفيان: الزنى قال: لقد تركني الزنى وما تركته - يعني كبر وضعف - قال: ثم ماذا؟ قال: القمار، قال: لعلي إن لقيته أصبت منه عوضا من القمار، قال: ثم ماذا؟ قال: الربا، قال: ما دنت ولا أدنت قط، قال: الخمر، قال: أوه أرجع إلى صبابة بقيت لي في المهراس فأشربها، فقال أبو سفيان: فهل لك في شئ خير لك مما هممت به؟ قال: وما هو؟ قال: نحن وهو الآن في هدنة فتأخذ مائة من الإبل وترجع إلى بلدك سنتك هذه وتنظر ما يصير إليه أمرنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفا، وإن ظهر علينا أتيته، قال: ما أكره ذلك، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش هذا الأعشى والله لئن أتى محمدا واتبعه ليضرمن عليكم نيران العرب، فاجمعوا له مائة من الإبل، ففعلوا فأخذها وانطلق إلى بلده فلما كان بقاع منفوحة رماه بعيره فقتله، وذلك سنة 7 هـ. (أنظر معاهد التنصيص 1 / 201).
(2) البيت المذكور في المتن من قصيدة للأعشى قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل والقصيدة طويلة تجدها في ديوانه ص: 104 - 108 وأولها:
شاقتك من قلة أطلالها | بالشط فالوتر إلى حاجر |
إلى أن يقول:
ولست بالأكثر منهم حصى | البيت... |
وقد تمثل أمير المؤمنين عليه السلام ببيت من هذه القصيدة في خطبته الشقشقية.
شتان ما يومى على كورها | ويوم حيان أخي جابر |
|
وقد بينا فيما تقدم أن هذه الطريقة غير سديدة ولا معتمدة ومنهم من يقول أيضا إن ظاهر قوله تعالى (إنما وليكم) يقتضي توجه الخطاب إلى جميع المكلفين مؤمنهم وكافرهم لأن أحدنا لو أقبل على جماعة فشافههم بالخطاب بالكاف يحمل خطابه على أنه متوجه إلى الجميع من حيث لم يكن بأن يتناول بعضهم أولى من أن يتناول كلهم وجميع المكلفين فيما توجه إليهم من خطاب القديم تعالى بمنزلة من شافهه أحدنا بخطابه لأنهم جميعا
____________
(1) التوبة 71.
|
فأما الذي يدل على توجه لفظة (الذين آمنوا) إلى أمير المؤمنين على السلام فوجوه:
منها، أن الأمة مجمعة مع اختلافها على توجهها إليه عليه السلام لأنها بين قائل إنه عليه السلام المختص بها وقائل إن المراد بها جميع المؤمنين الذي هو عليه السلام أحدهم.
ومنها، ورود الخبر بنقل طريقتين مختلفتين ومن طريق العامة والخاصة بنزول الآية في أمير المؤمنين عليه السلام عند تصدقه بخاتمه في حال ركوعه والقصة في ذلك مشهورة ومثال الخبر الذي ذكرنا إطباق أهل النقل عليه ما يقطع به.
ومنها، أنا قد دللنا على أن المراد بلفظة (ولي) في الآية ما يرجع إلى الإمامة ووجدنا كل من ذهب إلى أن المراد بهذه اللفظة ما ذكرناه يذهب إلى
____________
(1) البقرة 183.
|
قال صاحب الكتاب: " واعلم أن المتعلق بذلك لا يخلو (1) من أن يتعلق بظاهره أو بأمور تقارنه فإن تعلق بظاهره فهو غير دال على ما ذكر وإن تعلق بقرينة فيجب أن يبينها ولا قرينة في ذلك من إجماع أو خبر مقطوع به.
فإن قيل: ومن أين أن ظاهره لا يدل على ما ذكرناه.
قيل له: من وجوه، أحدها: إنه تعالى ذكر الذين آمنوا من غير تخصيص بمعين (2) أو نص عليه والكلام بيننا وبينهم في واحد معين فلا فرق بين من تعلق بذلك في أنه الإمام وبين من تعلق به في أن الإمام غيره وجعله نصا فيه على أنه تعالى ذكر الجمع فكيف يحمل الكلام على واحد معين وقوله (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) لو ثبت أنه لم يحصل إلا لأمير المؤمنين عليه السلام لم يوجب ذلك أنه المراد بقوله: (والذين آمنوا) لأن صدر الكلام إذا كان عاما لم يجب تخصيصه لأجل تخصيص الصفة كما ذكرناه في قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (3) إلى ما شاكله، وليس يجب إذا ما خصصنا الذي ذكره ثانيا لدليل أن نخص
____________
(1) غ " لا يخلو إما ".
(2) غ " تخصيص لعلي ".
(3) آل عمران 110.
|
يقال له: قد بينا كيفية الاستدلال بالآية على النص ودللنا على أنها متناولة لأمير المؤمنين عليه السلام دون غيره وفي ذلك إبطال لما تضمنه صدر هذا الفصل وجواب عنه.
فأما حمل لفظ الجمع على الواحد فجائز معهود استعماله في اللغة والشريعة، قال الله تعالى: (والسماء بنيناها بأيد) (3) و (إنا أرسلنا نوحا) (4) و (إنا نحن نزلنا الذكر) (5) وإنما المراد العبارة عنه تعالى دون غيره، وهو واحد، ومن خطاب الملوك والرؤساء فعلنا كذا وأمرنا بكذا، ومرادهم الوحدة دون الجمع والأمر في استعمال هذه الألفاظ على التعظيم في العبارة عن الواحد ظاهر، فإن أراد صاحب الكتاب بقوله: " إنه تعالى ذكر الجمع فكيف يحمل الكلام على واحد معين " السؤال (6) عن جواز ذلك في اللغة، وصحة استعماله فقد دللنا وضربنا له الأمثلة، وإن سأل عن وجوب حمل اللفظ مع أن ظاهره للجمع على الواحد، فالذي يوجبه هو ما ذكرناه فيما تقدم.
فأما إلزامه أن يكون لفظ (الذين آمنوا) على عمومه وإن دخل التخصيص في قوله: (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) فغير صحيح، لأن اختصاص الصفة التي هي إيتاء الزكاة في حال الركوع يدل على
____________
(1) غ " أولا، لا من دليل ".
(2) المغني 20 ق 1 / 134.
(3) الذاريات 47.
(4) نوح الآية التالية للبسملة.
(5) الحجر: 9.
(6) السؤال مفعول لأراد.
|
فإن قال: أراكم قد حملتم الآية على مجازين أحدهما، أنكم جعلتم لفظ الجمع للواحد والمجاز الآخر حملكم لفظ الاستقبال على الماضي لأن قوله: (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) لفظه لفظ الاستقبال وأنتم تجعلونه عبارة عن فعل واقع فلم صرتم بذلك أولى منا إذا حملنا الآية على مجاز واحد وهو أن يحمل قوله تعالى: (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) على أنه أراد به أن من صفتهم إيتاء الزكاة ومن صفتهم أنهم راكعون من غير أن يكون إحدى الصفتين حالا للأخرى، هذا إذا ثبت أنه إذا حمل على ذلك كان مجازا على نهاية اقتراحكم أو تحمله لفظة (إنما) إذا عدلنا عن تأويل الركوع بما ذكرناه على المبالغة لا على تخصيص الصفة بالمذكور ونفيها عمن عداه، فنكون أولى منكم، لأن معكم في الآية على تأويلكم مجازين ومعنا مجاز واحد.