الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

غيره يقتضي المجاز فغلط، لأن لفظة يفعلون وما أشبهها من الألفاظ التي تدخل عليها الزوائد الأربع الموجبة للمضارعة وهي الهمزة والتاء والنون الياء (1) ليست مجردة للاستقبال، بل هي مشتركة بين الحال والاستقبال، وإنما تخلص للاستقبال بدخول السين أو سوف، وقد نص على ما ذكرناه النحويون في كتبهم، فمن حملها على الحال دون الاستقبال لم يتعد الحقيقة، ولا تجاوز باللفظة ما وضعت له، وعلى هذا تأولنا الآية لأنا جعلنا لفظة (يؤتون الزكاة) عبارة عما وقع في الحال من أمير المؤمنين عليه السلام، وليس يمتنع أن نذكر في الجواب عن السؤال وجها آخر وإن كنا لا نحتاج مع ما ذكرنا إلى غيره لأنه الظاهر من مذهب أهل العربية، وهو أن يقال: إن نزول الآية وخطاب الله تعالى بها يجوز أن يكونا قبل الفعل الواقع في تلك الحال فتجري اللفظة على جهة الاستقبال وهو الحقيقة، بل الظاهر من مذاهب المتكلمين في القرآن أن الله تعالى:

أحدثه في السماء قبل نبوة النبي صلى الله عليه وآله بمدد طوال وعلى هذا المذهب لم يجر لفظ الاستقبال في الآية إلا على وجهه، لأن الفعل المخصوص عند أحداث القرآن في الابتداء لم يكن إلا مستقبلا، وإنما يحتاج إذا كان القول في القرآن على ما حكيناه إلى أن تتأول ألفاظه الواردة بلفظة الماضي مما يعلم أنه وقع مستقبلا، وإلا فما ذكر بلفظ الاستقبال لا حاجة بنا إلى تأوله لوقوعه على وجهه فأما لفظة (الذين) فإنها وإن كانت موضوعة في الأصل للجمع دون الواحد فغير ممتنع أن تكون بالعرف وكثرة الاستعمال قد دخلت في أن تستعمل في الواحد المعظم أيضا على سبيل الحقيقة، يدل على ذلك أن قوله تعالى: (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه) وما أشبهه من الألفاظ لا يصح أن يقال أنه مجاز وكذلك قول أحد الملوك نحن

____________

(1) ويجمعها لفظة " أنيت ".

الصفحة 227
الذين فعلنا كذا لا يقال أنه خارج عن الحقيقة لأن العرف قد ألحقه ببابها، ولا شك في أن العرف يؤثر هذا التأثير كما أثر في لفظة غائط (1) وما أشبهها علي أنا لو سلمنا أن استعمال لفظة الذين في الواحد مجاز وعلى وجه العدول عن الحقيقة لكنا نحمل الآية على هذا الضرب من المجاز أولى منكم بحملها على أحد المجازين اللذين ذكرتموهما في السؤال من وجهين:

أحدهما، أن المجاز الذي لم يشاهد في الاستعمال وجرت عادة أهل اللسان باستعماله أولى مما لم يكن بهذه الصفة وقد بينا الشاهد باستعمال مجازنا من القرآن والخطاب وأنه لقوته وظهوره قد يكاد يلحق بالحقائق، وليس يمكن المخالف أن يستشهد في استعمال مجازه لا قرآنا ولا سنة ولا عرفا في الخطاب لأن خلو سائر الخطاب من استعمال مثل قوله: (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) إلا على معنى يؤتون الزكاة في حال الركوع ظاهر وكذلك خلوه من استعمال لفظة (إنما) على وجه التخصيص وإن وجدت هذه اللفظة فيما يخالف ما ذكرناه فلن يكون ذلك إلا على وجه الشذوذ والمجاز ولا بد أن يكون هناك شبه قوي يختص بالصفة ولا تثبت إلا له حتى يكون المسوغ لاستعمالها قوة الشبه بما يبلغ الغاية في الاختصاص، والوجه الآخر إنا إذا حملنا الآية على أحد المجازين اللذين في خبر المخالف ليصح تأولها على معنى الولاية في الدين دون ما يقتضي وجوب الطاعة والتحقق بالتدبير لم نستفد بها إلا ما هو معلوم لنا، لأنا نعلم وجوب تولي المؤمن في الدين بالقرآن، وقد تأولنا الآية الدالة على ذلك فيما تقدم وبالسنة والاجماع والأمر فيه ظاهر جدا لأن كل أحد يعلمه من دين الرسول صلى الله عليه

____________

(1) فإن الغائط في الأصل المطمئن من الأرض الواسع ولما كان من يريد قضاء الحاجة يطلب ذلك المكان قيل: جاء من الغائط ثم نقلها العرف إلى المعنى المشهور حتى ترك المعنى الأول.

الصفحة 228
وآله وإذا عدلنا إلى المجاز الذي اخترناه في تأويل الآية استفدنا معه بالآية فائدة ظاهرة لا تجري مجرى الأولى، وكلام الحكيم كما يجب حمله على الوجه الذي يفيد عليه كذلك حمله على ما كان أزيد فائدة فظهرت مزية تأويلنا على كل وجه.

وبعد، فمن ذهب من مخالفينا إلى أن الألف واللام إذا لم يكونا للعهد اقتضتا الاستغراق وهم الجمهور وصاحب الكتاب أحد من يرى ذلك فلا بد له في تأويل الآية من جاز آخر زائد على ما تقدم، لأن لفظه (الذين آمنوا) تقتضي الاستغراق على مذهبه، وهو في الآية لا يصح أن يكون مستغرقا لجميع المؤمنين لأنه لا بد أن يكون خطابا للمؤمنين، لأن الموالاة في الدين لا تجوز لغيرهم، ولا بد أن يكون من خوطب بها ووجه بقوله (إنما وليكم الله ورسوله) خارجا عمن عني بالذين آمنوا وإلا أدى إلى أن يكون كل واحد ولي نفسه فوجب أن يكون لفظ (الذين آمنوا) غير مستغرق لجميع المؤمنين، وإذا خرج عن الاستغراق خرج عن الحقيقة عند من ذكرناه من مخالفينا ولحق بالمجاز، وانضم هذا المجاز إلى أحد المجازين المتقدمين، فصارا مجازين وعلى تأويلنا إذا سلمنا أن العبارة عن الواحد بلفظ الجمع على سبيل التعظيم يكون مجازا لا يتحصل إلا مجاز واحد فصار تأويلنا في هذه أولى من تأويله.

قال صاحب الكتاب: " وبعد، فمن أين أن المراد بالثاني هو أمير المؤمنين عليه السلام وظاهره يقتضي الجمع (1)؟

وليس يجب إذا روي أنه عليه السلام تصدق بخاتمه وهو راكع ألا

____________

(1) غ " الجميع ".

الصفحة 229
يثبت غيره مشاركا له في هذا الفعل بل (1) يجب لأجل الآية أن يقطع (2) في غيره بذلك وإن لم ينقل (3) لأن نقل ما جرى هذا المجرى لا يجب وبعد فمن أين أن المراد بقوله: (ويؤتون الزكاة وهم راكعون) ما زعموه دون أن يكون المراد به أنهم يؤتون الزكاة وطريقتهم التواضع والخضوع ليكون ذلك مدحا لهم في إيتاء الزكاة وإخراجا لهم (4) من أن يؤتوها مع المن والأذى وعلى طريقة (5) الاستطالة والتكبر فكأنه تعالى مدحهم غاية المدح فوصفهم بإقامة (6) الصلاة وبأنهم يؤتون الزكاة على أقوى وجوه القربة وأقوى ما تؤدى عليه الزكاة مع ما ذكرناه وليس من المدح إيتاء الزكاة مع الاشتغال بالصلاة لأن الواجب في الراكع أن يصرف همته ونيته إلى ما هو فيه ولا يشتغل بغيره ومتى أراد الزكاة فعلها تالية للصلاة فكيف يحمل الكلام على ذلك ولا يحمل على ما يمكن توفية العموم (7) حقه معه أولى مما يقتضي تخصيصه،... " (8).

يقال له: قد دللنا على أن المراد باللفظ الأول الذي هو الذين آمنوا أمير المؤمنين عليه السلام وإن كان لفظ جمع واللفظ الثاني الذي هو يقيمون

____________

(1) غ " بل يجب بالأثر أن نقطع على غيره بذلك ".

(2) لأجل أن لا يمتنع أن يقطع، خ ل.

(3) لو كان لنقل ولو من طريق ضعيف وقد روي عن أحد الصحابة أنه قال:

" لقد تصدقت بأربعين خاتما وأنا راكع لينزل في ما نزل بعلي فما نزل " (سفينة البحار 1 / 378 مادة ختم).

(4) غ " فإخراج حالهم ".

(5) غ " طريق ".

(6) غ " بإدامة الصلاة " وما في المتن أوجه.

(7) غ " ما يمكن فيه العموم ".

(8) المغني 20 ق 1 / 135.

الصفحة 230
الصلاة ويؤتون الزكاة إذا كان صفة للمذكور باللفظ الأول فيجب أن يكون المعني بهما واحدا ولم نعتمد في أنه عليه السلام المخصوص بقوله تعالى: (ويؤتون الزكاة) دون غيره على نقل الخبر بل اعتمدنا الخبر في جملة غيره من الوجوه في الدلالة على توجه الآية إليه عليه السلام واعتمدنا في أنه عليه السلام المتفرد بها دون غيره على الوجهين اللذين قدمناهما.

فأما حمله لفظة الركوع على التواضع فغلط بين لأن الركوع لا يفهم منه في اللغة والشرع معا إلا التطأطؤ المخصوص دون التواضع والخضوع وإنما يوصف الخاضع بأنه راكع على سبيل التشبيه والمجاز لما يستعمله من التطامن وترك التطاول.

قال صاحب الكتاب " العين " (1): " كل شئ ينكب لوجهه فيمس

____________

(1) صاحب كتاب " العين " هو الخليل بن أحمد الفراهيدي أعلم الناس بالنحو والغريب في زمانه، وواضع علم العروض، عاش زاهدا قانعا في اخصاص البصرة، وعاش الناس بعلمه لم يطرق أبواب الملوك والأمراء، وكانوا يخطبون وده فيمتنع عليهم، فقد روي: أن سليمان بن قبيصة المهلبي أرسل إليه هدية قيمة - وكان واليا على السند - وطلب إليه أن يسير إليه، فرد الهدية وكتب إليه:


أبلغ سليمان أني عنه في سعة وفي غنى غير أني لست ذا مال
الرزق عن قدر لا الضعف ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتال

غير أن للخليل صلة وثيقة ورابطة أكيدة بليث بن نصر بن سيار كاتب البرامكة، لا لمنصبه ولا لماله بل لما يجمع بينهما من العلم والمعرفة، فقد كان الليث بارع الأدب، بصيرا بالنحو والشعر والغريب فارتحل إليه الخليل فوجده بحرا، وأحسن وفادته، وأكرمه غاية الاكرام، فألف له كتاب العين المذكور فوقع منه موقعا عظيما، ووصله بمأتي ألف درهم واعتذر إليه من التقصير، وأقبل الليث على كتاب العين ينظر فيه ليلا ونهارا إلى أن حفظ نصفه، وكانت تحته ابنة عم له جميلة ونبيلة تحبه حبا جما، فبلغها عنه أنه اشترى جارية فائقة الجمال، وأبعدها في منزل صديق له فوجدت عليه وقالت: والله لأغيضنه، وقالت: إني أراه مشغوفا بهذا الكتاب، وقد هجر كل لهو ولذة، وأقبل على النظر فيه، فلأفجعنه به، ثم عمدت إلى الكتاب فأحرقته، فلما عاد افتقد الكتاب فظن أنه سرق، فجمع غلمانه وتهددهم وأوعدهم، فأخبره أحدهم أنه رأى زوجته أخذته، فأقبل إليها، وقال: ردي الكتاب، والجارية لك، وقد حرمتها على نفسي، فأخذت بيده وأدخلته الحجرة التي أحرقته فيها، فلما رآه رمادا أسقط في يده، وصار كأنه فجع بمال عظيم، أو ولد حبيب، فكتب منه النصف الأول من حفظه حيث لم يكن للكتاب - نسخة غير نسخته - وكان الخليل قد توفي - وكلف جماعة من العلماء في زمانه فقال لهم: مثلوا عليه، فمثلوا عليه فلم يلحقوه، ولذا قيل: إن النصف الأول أتقن وأحكم من النصف الأخير، وكانت نسخة من هذا الكتاب في مكتبة المرحوم الشيخ محمد الشيخ طاهر السماوي - فيما أخبرني أحد العلماء - ولا يدرى بمصيرها الآن، حيث أن هذه المكتبة تبعثرت بعد وفاته ووقعت في يد من لا يعرف لها قدرا، وتوجد نسخة من كتاب العين في مكتبة الآثار العراقية (مكتبة المتحف الآن) تحت رقم 509 / 373 لغة في 2500 ورقة كما عن مجلة لغة العرب للأستاذ الكرملي، توفي الخليل سنة 170 هـ.

الصفحة 231
بركبتيه الأرض أو لا يمس بعد أن تطأطأ رأسه فهو راكع وأنشد للبيد (1) أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع " وقال صاحب الجمهرة (2) " الراكع الذي يكبو على وجهه، ومنه الركوع في الصلاة قال الشاعر:

____________

(1) البيت من قصيدة للبيد بن ربيعة مطلها:


بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

(2) صاحب الجمهرة أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد - بالتصغير - الأزدي إمام من أئمة اللغة والشعر والأدب توفي ببغداد سنة 321 يوم وفاة أبي هاشم الجبائي - المكرر ذكره في الشافي - فقال الناس: مات علم اللغة وعلم الكلام في يوم واحد، وكتابه " الجمهرة في اللغة " تنقيح وتهذيب لكتاب " العين " الذي تقدم ذكره آنفا حتى قيل:


وهو كتاب العــ ـين إلا أنه قد غيره

ويقال: إنه كان يملي أكثر هذا الكتاب من حفظه.

الصفحة 232

وأفلت حاجب فوت العوالي على شقاء تركع في الظراب

أي يكبو على وجهها " وإذا ثبت أن الحقيقة في الركوع ما ذكرناه لم يسغ حمله على المجاز لغير ضرورة.

ويقال له: في قوله: " ليس من المدح إيتاء الزكاة مع الاشتغال بالصلاة وأن الواجب على الراكع أن يصرف همته إلى ما هو فيه " إنما لا يكون ما ذكرته مدحا إذا كان قطعا للصلاة وانصرافا عن الاهتمام بها والاقبال عليها.

فأما إذا كان مع القيام بحدودها والأداء بشروطها فلا يمتنع أن يكون مدحا على أن الخبر الذي بينا وروده من طريقين مختلفين مبطل لتأويله هذا لأن الرواية وردت بأن النبي صلى الله عليه وآله لما خرج إلى المسجد وسأل عمن تصدق على السائل فعرف أن أمير المؤمنين عليه السلام تصدق بخاتمه هو راكع قال: " إن الله تعالى أنزل فيه قرآنا " وقرأ الآيتين وفي هذا دلالة واضحة على أن فعله عليه السلام وقع على غاية ما يقتضي المدح والتعظيم فكيف يقال إنه يتنافى في الجمع بين الصلاة والزكاة؟ وبعد فإنا لم نجعل إيتاء الزكاة في حال الركوع جهة لفضل الزكاة حتى يجب الحكم بأن فعلها في حال الركوع أفضل بل مخرج الكلام يدل على أنه وصف بإيتاء الزكاة في حال الركوع المذكور أولا على سبيل التمييز له من غيره وللتعريف فكأنه تعالى لما قال: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) أراد أن يعرف من عناه بالذين آمنوا فقال تعالى (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) غير أن وجه الكلام وإن كان ما ذكرناه فلا بد أن يكون في إعطائه الزكاة في حال الركوع غاية الفضل

____________

(1) الأشق من الخيل: الذي يشتق بعدوه يمينا وشمالا، مؤنته شقاء. والظراب: جمع ظرب: ما نتأ من الحجارة وحد طرفه، والجبل المنبسط، والرابية الصغيرة.


الصفحة 233
وأعلى وجوه القرب بدليل نزول الآية الموجبة للمدح والتعظيم فيه عليه السلام وبما وقع من مدحه عليه السلام أيضا يعلم أن فعله للزكاة لم يكن شاغلا عن القيام بحدود الصلاة.

قال صاحب الكتاب - بعد أن أورد كلاما يتضمن أن إثباته وليا لنا لا يمنع من كون غيره بهذه الصفة، وقد تقدم الكلام على ذلك -: " وبعد فإن صح أنه المختص بذلك فمن أين أنه يختص بهذه الصفة في وقت معين ولا ذكر للأوقات فيه؟

فإن قالوا: لأنه تعالى أثبته كذلك فيجب أن يكون هذا الحكم ثابتا له في كل وقت.

قيل لهم: إن الظاهر إنما يقتضي أنه كذلك في حال الخطاب وقد علمنا أنه لا يصح أن يكون إماما مع الرسول صلى الله عليه وآله فلا يصح التعلق بظاهره.

ومتى قيل إنه إمام من بعد في بعض الأحوال فقد زالوا عن الظاهر، وليسوا بذلك أولى ممن يقول: إنه إمام في الوقت الذي ثبت أنه إمام فيه (1) هذا لو سلمنا أن المراد بالولي ما ذكروه فكيف وذلك غير ثابت لأنه تعالى بدأ بذكر نفسه ولا يصح إن يوصف تعالى بأنه ولينا بمعنى إمضاء الحدود والأحكام على الحد الذي يوصف به الإمام، بل لا يقال ذلك في الرسول (2) فلا بد من أن يكون محمولا على تولي النصرة في باب الدين، وذلك مما لا يختص بالإمامة ولذلك قال من بعد (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) فبين ما يحصل لمن يتولى الله من

____________

(1) غ " في الوقت الذي أقيم فيه ".

(2) غ " في الرسول صلى الله عليه وآله ".

الصفحة 234
الغلبة والظفر، ذلك لا يليق إلا بتولي النصرة ولذلك ذكر في الآية الأولى الولي (1) وفي الآية الثانية التولي، وفصل بين الإضافتين ليبين أن المراد تولي النصرة في باب الدين، لأن ذلك هو الذي يقع فيه الاشتراك،... " (2).

يقال له: أما الذي يدل على اختصاصه بموجب الآية في الوقت الذي ثبت له عليه السلام الإمامة فيه عندنا فهو أن كل من أوجب بهذه الآية الإمامة على سبيل الاختصاص أوجبها بعد الرسول صلى الله عليه وآله بلا فصل، وليس يعتمد على ما حكاه من أن الظاهر إثبات الحكم في كل وقت ومن قال بذلك من أصحابنا فإنه ينصر هذه الطريقة بأن يقول:

الظاهر لا يقتضي الحال فقط، بل يقتضي جميع الأوقات التي الحال من جملتها، فإذا خرج بعضها بدليل بقي ما عداه ثابتا بالظاهر أيضا، ولم يسغ الزوال عنه، ويقول: إنني أخرجت الحال بدليل إجماع الأمة على أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وآله إمام غيره ولا دليل يقتضي إخراج الحال التي تلي الوفاة بلا فصل، والمعتمد هو الأول.

فأما الجواب لمن قال: لستم بذلك أولى ممن يقول: إنه إمام في الوقت الذي تثبت عنده إمامته فيه، يعني بعد وفاة عثمان، فهو أيضا ما قدمناه لأنه لا أحد من الأمة يثبت الإمامة بهذه الآية لأمير المؤمنين عليه السلام بعد عثمان دون ما قبلها من الأحوال بل لا أحد يثبتها له عليه السلام بعد عثمان دون ما تقدم من الأحوال على وجه من الوجوه، وبدليل من الأدلة والقديم تعالى وإن لم يوصف بأنه ولينا بمعنى إقامة الحدود علينا، فهو

____________

(1) " الولي " ساقطة من " المغني ".

(2) المغني 20 ق 1 / 136.

الصفحة 235
يوصف بذلك بمعنى أنه أملك بتدبيرنا وتصريفنا، وأن طاعته تجب علينا، وهذا المعنى هو الذي يجب للرسول والإمام، ويدخل تحته إمضاء الحدود والأحكام وغيرها، لأن إمضاءها جزء مما يجب طاعته فيه غير أن ما يجب لله تعالى لا يصح أن يقال: إنه مماثل لما يجب للرسول والإمام بالاطلاق، لأن ما يجب له عز وجل آكد مما يجب لهما من قبل أن ما يجب لهما راجع إلى وجوب ما وجب له عز وجل ولولا وجوبه لم يجب.

وقول صاحب الكتاب: (لا يقال ذلك في الرسول صلى الله عليه وآله) طريف لأنا لا نعلم مانعا من أن يقال ذلك في الرسول صلى الله عليه وآله وهو أحد ما يجب طاعته فيه، وكيف لا يقال، ونحن نعلم أن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله خليفة له وقائم فيما كان يتولاه ويقوم به مقامة، وإذا كان إلى الإمام إقامة الحدود وإمضاء الأحكام، فلا بد أن يكونا إلى من هو خليفة له وقائم فيها مقامه.

وليس له أن يقول: إنما عنيت إن الرسول لا يوصف بإمضاء الحدود وإقامة الأحكام على الحد الذي يوصف به الإمام، ولم أرد أنه لا يوصف بهما أصلا، لأنه لا مانع من أن يوصفا جميعا بما ذكره على حد واحد من قبل أن المقتضي له فيهما واحد وهو فرض الطاعة وإن كانا يختلفان من حيث كان أحدهما نبيا والآخر إماما، وليس لاختلافهما من هذا الوجه مدخل فيما نحن فيه.

فأما حمله لفظة (ولي) على معنى التولي في الدين المذكور في الآية الثانية (1) فغير صحيح لأنه غير ممتنع أن يخبر تعالى بأنه ولينا ورسوله ومن

____________

(1) وهي قوله تعالى: (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) المائدة 56.

الصفحة 236
عناه بـ (الذين آمنوا) ثم يوجب علينا في الآية الثانية توليهم ونصرتهم، ويخبرنا بما لنا فيهما من الفوز والظفر، وإذا لم يمتنع ما ذكرناه وكنا قد دللنا على وجوب تناول الآية الأولى لمعنى الإمامة فقد بطل كلامه.

قال صاحب الكتاب - بعد أن ذكر شيئا قد مضى الكلام عليه " وقد ذكر شيخنا أبو علي (1) أنه قيل -: إنها نزلت في جماعة من أصحاب النبي (2) صلى الله عليه وآله في حال كانوا فيها في الصلاة وفي الركوع فقال تعالى: (الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) في الحال ولم يعن أنهم يؤتون الزكاة في حال الركوع، بل أراد أن ذلك طريقتهم، وهم في الحال راكعون، وحمل الآية على هذا الوجه أشبه بالظاهر ويبين ذلك أن الغالب من حال أمير المؤمنين عليه السلام أن الذي دفعه إلى السائل ليس بزكاة لوجوه منها أن الزكاة لم تكن واجبة عليه على ما نعرف من غالب أمره في أيام النبي صلى الله عليه وآله ولأن دفع الخاتم بعيد أن يعد في الزكاة ولأن دفع الزكاة منه عليه السلام لا يقع إلا على وجه القصد عند وجوبه (3) وما فعله فالغالب منه أنه جرى على وجه الإنفاق (4) لما رأى السائل المحتاج، وأن غيره لم يواسه فواساه وهو في الصلاة فذلك بالتطوع أشبه، ولم نقل ذلك إلا نصرة للقول الذي حكيناه لا أنه يمتنع في الحقيقة أن يكون ذلك زكاة لماله،... " (5) ".

يقال له: ليس يجوز حمل الآية على ما تأولها شيخك أبو علي من

____________

(1) هو أبو علي الجبائي وقد جاء ذكره مرارا في هذا الكتاب.

(2) غ " من فضلاء أصحاب النبي صلى الله عليه " وآله.

(3) غ " وجوده ".

(4) على وجه الأنعام، خ ل.

(5) المغني 20 ق 1 / 137.

الصفحة 237
جعله إيتاء الزكاة منفصلا من حال الركوع ولا بد على مقتضى اللسان واللغة من أن يكون الركوع حالا لإيتاء الزكاة والذي يدل على ذلك أن المفهوم من قول أحدنا الكريم المستحق للمدح الذي يجود بماله وهو ضاحك، وفلان يغشي إخوانه وهو راكب معنى الحال دون غيرها حتى أن قوله هذا يجري مجرى قوله: إنه يجود بما له في حال ضحكه ويغشي إخوانه في حال ركوبه، ويدل أيضا عليه أنا متى حملنا قوله تعالى: (يؤتون الزكاة وهم راكعون) على خلاف الحال، وجعلنا المراد بها أنهم يؤتون الزكاة ومن وصفهم أنهم راكعون من غير تعلق لأحد الأمرين بالآخر كنا حاملين الكلام على معنى التكرار لأنه أفاد تعالى بوصفه لهم بأنهم يقيمون الصلاة وصفهم بأنهم راكعون، لأن الصلاة مشتملة على الركوع وغيره، وإذا تأولناها على الوجه الذي اخترناه استفدنا بها معنى زائدا وزيادة الفائدة بكلام الحكيم أولى.

فإن قال: إنما قبح أن يحمل قولهم فيمن يريدون مدحه فلان يجود بماله وهو ضاحك على خلاف الحال من قبل أن وقوع الجود منه مع طلاقة الوجه يدل على طيب نفسه بالعطية، وهو أن المال لا يعظم في عينه فصار ذلك وجها تعظم معه العطية ويكثر المدح المستحق عليها، وليس الحال في الآية هذه لأنه لا مزية لإعطاء الزكاة في حال الركوع على إتيانها في غيرها، وليس وقوعها في تلك الحال يقتضي زيادة مدح أو ثواب ففارق حكمها حكم المال الذي أوردتموه.

قيل له: لو كانت العلة في وجوب حمل الكلام الذي حكيناه على الحال، وقبح حمله على خلافها ما ذكرته لوجب أن يحسن حمل قولهم:

فلان يغشي إخوانه وهو راكب، ولقيت زيدا وهو جالس، على خلاف

الصفحة 238
الحال لمفارقته للمثال الأول في العلة حتى يفهم من قولهم أنه يغشي إخوانه، ومن صفته أنه راكب ولقيت زيدا ومن صفته أنه جالس من غير أن يكون حالا للغشيان والجلوس حالا للقاء، وإذا كان المفهوم خلاف هذا فقد بطل أن تكون العلة ما ذكرته، ووجب أن يكون الظاهر في كل الخطاب الوارد على هذه الصفة معنى الحال فأما قوله: " إن الزكاة لم تكن واجبة على أمير المؤمنين عليه السلام على ما يعرف من غالب أمره في تلك الحال " فظاهر البطلان لأنه غير واجب أولا حمل اللفظ على الزكاة الواجبة دون النافلة، ولفظ الزكاة لو كان إطلاقه مفيدا في الشرع للعطية الواجبة فغير ممتنع أن نحمله على النفل الذي يشهد بمعناه أصل اللغة، لأن الزكاة في اللغة النماء والطهارة، والواجب من الزكاة والنفل جميعا يدخلان تحت هذا الأصل، ويكون الموجب للانتقال عن ظاهر اللفظ لو كان له ظاهر علمنا بالخبر توجه الآية إلى من يستبعد وجوب الزكاة عليه.

وبعد، فإن الاستبعاد لوجوب الزكاة عليه لا معنى له، لأنه غير ممتنع وجوبها عليه في وقت من الأوقات بحصول أدنى مقادير النصاب الذي تجب في مثله الزكاة، وليس هذا من اليسار المستبعد فيه، لأن ملك مائتي درهم لا يسمى مؤسرا.

فأما دفع الخاتم فما نعلم من أي وجه استبعد أن يكون زكاة لأن حكم الخاتم حكم غيره وكل ما له قيمة وينتفع الفقراء بمثله جائز أن يخرج في الزكاة.

فأما القصد إلى العطية، فمما لا بد منه، وإنما الكلام في توجهه إلى الواجب أو النفل وليس في ظاهر فعله صلوات الله عليه ما يمنع من القصد إلى الواجب لأنه عليه السلام وإن لم يعلم بأن السائل يستحضر فيسأله لا

الصفحة 239
يمتنع أن يكون أعد الخاتم للزكاة فلما حضر من يسأل اتفاقا تصدق به عليه، أو يكون عليه السلام يعده لذلك، فلما حضر السائل ولم يواسه أحد دفعه إليه ونوى الاحتساب به في الزكاة، وقد يفعل الناس هذا كثيرا فأي وجه لاستبعاده والقول بأنه بالتطوع أشبه؟.

فأما اعتذاره في آخر الكلام من إيراده وتضعيفه له فقد كان يجب أن لا يورد ما يحوج إلى الاعتذار والتنصل (1) فإن ترك إيراد ما يجري هذا المجرى أجمل من إيراده مع الاعتذار.

قال صاحب الكتاب: " وقد قال شيخنا أبو هاشم يجب أن يكون المراد بذلك الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة الواجبتين دون النقل الذي وجوده كعدمه في أنه يكون المؤمن مؤمنا معه، فلا بد من حمله على ما لولاه لم يكن مؤمنا، ولم يجب توليه لأنه جعله من صفات المؤمنين فيجب أن يحمل على ما لولاه لم يكن مؤمنا (ولا كان كذلك (2)) ". قال:

" والذي فعله أمير المؤمنين عليه السلام كان من النفل لأنه عليه السلام وغيره من جلة الصحابة (3) لم يكن عليهم زكاة، وإنما الذي وجب عليه زكاة عدد يسير وذلك يمنع من أن لا يراد بالآية سواه ".

قال: " ومثل هذا الجمع في لغة العرب لا يجوز أن يراد به الواحد وإنما يجوز ذلك في مواضع مخصوصة ".

قال: " والمقصد بالآية مدحهم فلا يجوز أن يحمل على ما لا يكون

____________

(1) التنصل: التبرء، يقال: تنصل من ذنبه أي تبرأ.

(2) التكملة من المغني.

(3) غ " عامة الصحابة ممن ".

الصفحة 240
مدحا وإيتاء الزكاة في الصلاة مما ينقض (1) أجر المصلي لأنه عمل في الصلاة، فيجب أن يحمل على ما ذكرناه من أنه أداء الواجب، ومما يبين صحة هذا الوجه أنه أجرى الكلام على طريق الاستقبال لأن قوله: (الذين يقيمون الصلاة) لا يدخل تحته الماضي من الفعل فالمراد الذين يتمسكون بذلك على الدوام ويقومون به، ولو كان المراد به أن يزكوا في حال الركوع لوجب أن يكون ذلك طريقة لفضل الزكاة في الصلاة وأن يقصد إليه حالا بعد حال، فلما بطل ذلك علم أنه لم يرد به هذا المعنى، وأنه أريد به الذين يقيمون الصلاة في المستقبل، ويدومون عليها، ويؤتون الزكاة وهم في الحال متمسكون بالركوع وبالصلاة فجمع لهم بين الأمرين، أو يكون المراد بذكر الركوع الخضوع على ما قدمنا ذكره لأن الركوع والسجود قد يراد بهما هذا المعنى.

وقد أنشد (2) أبو مسلم (3) لما ذكر هذا الوجه ما يدل عليه، وهو قول الأضبط بن قريع (4):

____________

(1) في المغني بالصاد المهملة والمعنى متقارب.

(2) غ " وقد استدل ".

(3) أبو مسلم: هو محمد بن علي بن محمد الإصبهاني النحوي المفسر صنف تفسيرا كبيرا في عشرين مجلدا قال الداوودي في طبقات المفسرين " وكان عارفا بالنحو غاليا في الاعتزال " ولد سنة 366 ومات سنة 366 (طبقات المفسرين 2 / 211).

(4) الأضبط بن قريع السعدي هو أخو جعفر بن الأضبط المعروف بأنف الناقة، وكان الأضبط قد أساء قومه مجاورته فانتقل عنهم إلى آخرين فكانوا كذلك فقال المثل المشهور: " بكل واد سعد " وفي رواية: " أينما أوجه ألق سعدا "، أما البيت في المتن فمن أبيات له رواها ابن قتيبة في الشعر والشعراء 1 / 242 وفي روايته " لا تهين الفقير " والبيت من شواهد النحو، استشهد به النحاة على أن نون التوكيد تحذف لالتقاء الساكنين، والأصل " لا تهينن " فحذفت النون وبقيت الفتحة دليلا عليها لأنها مع المفرد المذكر.

الصفحة 241

لا تحقرن الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه

وقال والذين وصفهم في هذا الموضع بالركوع والخضوع هم الذين وصفهم (1) من قبل بأنه يبدل المرتدين بهم (2) بقوله: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين) وأراد به طريقة التواضع (أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (3) وكل ذلك يبين أن المراد بالآية الموالاة في الدين لأنه قد قيل فكأنه قال: إنما الذي ينصركم ويدفع عنكم لدينكم هو الله ورسوله والذين آمنوا.

وقد روي أنها نزلت في عبادة بن الصامت (4) لأنه كان قد دخل في حلف اليهود ثم تبرأ منهم ومن ولايتهم، وفزع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قال فأنزل الله تعالى هذه الآية مقوية لقلوب من دخل في الإيمان، ومبينا له أن ناصره هو الله ورسوله والمؤمنون،... " (5).

____________

(1) غ " هو الذي وصف ".

(2) غ " منهم ".

(3) المائدة 54. وهذه الآية من الآيات النازلة في علي عليه السلام وإن كاد بعضهم أن يزحزح سبب نزولها فيه بأقوال لا تقوم أمام الأدلة الواضحة، والشواهد المؤيدة لذلك قال الرازي في تفسيره 12 / 20: " أنها نزلت في علي، ويدل عليه وجهان، الأول: أنه صلى الله عليه وسلم لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال: (لأدفعن الراية غدا إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) وهذه هي الصفة المذكورة في الآية، والوجه الثاني أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) وهذه الآية في حق علي فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا في حقه (وانظر تفسير النيسابوري هامش تفسير الطبري 6 / 143).

(4) عبادة بن الصامت الأنصاري الخزرجي صحابي كبير شهد العقبة وبدرا وسائر المشاهد بعدها توفي بالرملة وقيل بالقدس سنة 38 هـ.

(5) المغني 20 ق 1 / 138.