الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى
فمن كنت أولى به من نفسه فعلي أولى به، لتكون المقدمة مطابقة لما تقدم ذكره، وما قصد إليه من الذكر بعد المقدمة يكون مطابقا لها، وقد علمنا أنه لم يرد بقوله: " ألست أولى بكم منكم بأنفسكم " إلا في الطاعة والاتباع والانقياد، فيجب فيما عطف عليه أن يكون هذا مراده به، وذلك لا يليق إلا بالإمامة واستدل بعضهم بدلالة الحال في ذلك وهو أنه تعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وآله: " (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (1) فأمر النبي صلى الله عليه وآله عند ذلك في غدير خم بجمع أصحابه، وقام وأخذ بيد أمير المؤمنين عليه السلام فرفعها حتى رأى قوم بياض إبطه، وقال هذا القول مع كلام تقدم أو تأخر ولا يجوز أن يفعل ذلك إلا لبيان أمر عظيم، وذلك لا يليق إلا بالإمامة التي فيها أحياء معالم الدين دون سائر ما يذكر في هذا الباب مما يشركه فيه غيره، ومما قد بأن وظهر من قبل.
وقال بعضهم في وجه الاستدلال بذلك أنه صلى الله عليه وآله لما قال " من كنت مولاه فعلي مولاه " لم يخل من أن يريد بذلك مالك الرق أو المعتق وابن العم أو يريد بذلك العاقبة كقوله تعالى (النار هي موليكم) (2) أي عاقبتكم أو يريد بذلك ما يليه خلفه أو قدامه لأنه قد يراد ذلك بهذا اللفظ أو يراد بذلك مالك الطاعة، لأن ذلك قد يراد بهذا اللفظ، فإذا بطلت تلك الأقسام من حيث يعلم أنه صلى الله عليه وآله لم يرد مالك الرق ولا المعتق أو المعتق (3) فيجب أن يكون هذا هو المراد
____________
(1) المائدة: 67.
(2) الحديد: 15.
(3) المعتق والمعتق كلاهما بصيغة بالبناء على المجهول ولكن الأول بكسر التاء فاعل العتق والثاني بفتحها مفعوله.
|
وفيهم من استدل بذلك بأن قال: إنه صلى الله عليه وآله قال هذا القول فلو لم يرد به الإمامة على ما نقول لكان بأن يكون محيرا لهم وملبسا عليهم أقرب من البيان والحال حال بيان، فلا بد من حمله على ما ذكرناه، وإن يقال: إن القوم عرفوا قصده صلى الله عليه وآله في ذلك لأنهم لو لم يعرفوا مراده في إثبات الإمامة بما يقول لكان قوله هذا خارجا عن طريقة البيان، وزعم أن الذي له قاله معروف بالتواتر وإنما كتمه بعضهم وعدل عنه بغضا ومعاداة،... " (1).
يقال له: الوجه المعتمد في الاستدلال بخبر الغدير على النص هو ما نرتبه فنقول: إن النبي صلى الله عليه وآله استخرج من أمته بذلك المقام الاقرار بفرض طاعته، ووجوب التصرف بين أمره ونهيه، بقوله صلى الله عليه وآله: (ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟) وهذا القول وإن كان مخرجه مخرج الاستفهام فالمراد به التقرير، وهو جار مجرى قوله تعالى:
(ألست بربكم) (2) فلما أجابوه بالاعتراف والاقرار رفع بيد أمير المؤمنين عليه السلام وقال عاطفا على ما تقدم: (فمن كنت مولاه فهذا مولاه) وفي روايات أخرى (فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره واخذل من خذله) فأتى عليه السلام بجملة يحتمل لفظها معنى
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 144.
(2) الأعراف 172.
|
فإن قال: دلوا على صحة الخبر، ثم على أن لفظة " مولى " محتملة لأولى وأنه أحد أقسام ما يحتمله، ثم على أن المراد بهذه اللفظة في الخبر هو الأولى دون سائر الأقسام، ثم على أن الأولى يفيد معنى الإمامة.
قيل له: أما الدلالة على صحة هذا الخبر فما يطالب بها إلا متعنت (1) لظهوره وانتشاره، وحصول العلم لكل من سمع الأخبار به، وما المطالب بتصحيح خبر الغدير، والدلالة عليه، إلا كالمطالب بتصحيح غزوات الرسول الظاهرة المشهورة، وأحواله المعروفة، وحجة الوداع نفسها، لأن ظهور الجميع، وعموم العلم به بمنزلة واحدة.
وبعد، فإن الشيعة قاطبة تنقله وتتواتر به، وأكثر رواة أصحاب الحديث يروونه بالأسانيد المتصلة، وجميع أصحاب السير ينقلونه ويتلقونه عن أسلافهم خلفا عن سلف، نقلا بغير إسناد مخصوص، كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة، وقد أورده مصنفوا الحديث في جملة الصحيح، فقد استبد هذا الخبر بما لا يشركه فيه سائر الأخبار لأن الأخبار على ضربين أحدهما لا يعتبر في نقله الأسانيد المتصلة كالخبر عن وقعة بدر وحنين
____________
(1) المتعنت: طالب الزلة.
|
وما نعلم أن فرقة من فرق الأمة ردت هذا الخبر واعتقدت بطلانه، وامتنعت من قبوله، وما تجمع الأمة عليه لا يكون إلا حقا عندنا وعند مخالفينا، وإن اختلفنا في العلة والاستدلال.
فإن قال: فما في تأويل مخالفيكم للخبر ما يدل على تقبلهم له، أوليس قد يتأول المتكلمون كثيرا مما يقبلونه كأخبار المشبهة وأصحاب الرؤية فما المانع من أن يكون في الأمة من يعتقد بطلانه أو يشك في صحته.
قيل له: ليس يجوز أن يتأول أحد من المتكلمين خبرا يعتقد
|
فإن قال: أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني (1) دفع الخبر، وحكى مثله عن الخوارج، وطعن الجاحظ في كتاب " العثمانية " (2) فيه.
____________
(1) هو أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ولد بسجستان ولاية واسعة من كور خراسان - سنة 230 وطاف مع أبيه، أبي داود (صاحب السنن المشهور) في كثير من البلدان، وحضر معه على شيوخه ثم نزل بغداد أخيرا، فكان من كبار الحفاظ فيها، إلى حد أن قيل: إنه أحفظ من أبيه، كان يتهم الانحراف عن علي والميل عليه " فأراد أن يدفع عنه هذه الشبهة فجعل يقرأ على الناس فضائل علي عليه السلام إلى درجة أن ابن جرير الطبري استغرب ذلك لما بلغه فقال: " تكبيرة من حارس " وروى عنه أنه كان يقول: " كل من كان بيني وبينه شئ أو ذكرني بشئ فهو في حل إلا من رماني ببغض علي بن أبي طالب " كف بصره أخيرا وتوفي ببغداد سنة 316 ودفن فيها، له كتب منها التفسير والسنن والمسند، والناسخ والمنسوخ (أنظر تاريخ بغداد 9 من ص 464 - 468، ومعجم البلدان: 3 / 190).
(2) العثمانية من رسائل الجاحظ، وقد نقضه أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي المتوفى سنة 240 هـ وهو من أكابر علماء المعتزلة ومتكلميهم صنف سبعين كتابا في الكلام ومن كتبه كتاب " المقامات في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام و " نقض العثمانية " وقد لخص ابن أبي الحديد العثمانية ونقضها في شرح نهج البلاغة م 3 / 254 كما أن لابن أبي الحديد نقض عليها أيضا أشار إليه في م 1 / 113 بقوله عن معاوية " وقد ذكرنا في " نقض العثمانية " على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه " الخ.
|
على أنه قد قيل: إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر وإنما أنكر كون المسجد الذي بغدير خم متقدما، وقد حكي عنه التنصل من القدح في الخبر، والتبري مما قذفه به محمد بن جرير الطبري والجاحظ أيضا لم يتجاسر على التصريح بدفع الخبر، وإنما طعن في بعض رواته، وادعى اختلاف ما نقل من لفظه، ولو صرحا وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحا لما قدمناه.
أما الخوارج فما يقدر أحد على أن يحكي عنهم دفعا لهذا الخبر، أو امتناعا من قبوله، وهذه كتبهم ومقالاتهم موجودة معروفة وهي خالية مما ادعي، والظاهر من أمرهم حملهم الخبر على التفضيل وما جرى مجراه من ضروب تأويل مخالفي الشيعة، وإنما آنس (1) بعض الجهلة بهذه الدعوى على الخوارج ما ظهر منهم فيما بعد من القول الخبيث في أمير المؤمنين عليه السلام فظن أن رجوعهم عن ولايته يقتضي أن يكونوا جاحدين لفضائله
____________
(1) آنس - بالمد وهي هنا بمعنى أبصر.
|
قالوا: وإذا اعترف به من حضر الشورى من الوجوه، واتصل أيضا بغيرهم من الصحابة ممن لم يحضر الموضع كما اتصل به سائر ما جرى، ولم يكن من أحد نكير ولا إظهار شك فيه مع علمنا بتوفر الدواعي إلى إظهار ذلك لو كان الخبر بخلاف ما حكمنا به من الصحة، فقد وجب القطع على صحته، هذا على أن الخبر لو لم يكن في الوضوح كالشمس لما جاز أن يدعيه أمير المؤمنين عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله لا سيما (2) في ذلك المقام الذي ذكرناه، لأنه عليه السلام كان أنزه وأجل قدرا من ذلك.
قالوا: وبمثل هذه الطريقة يحتج خصومنا في تصحيح ما ذكره
____________
(1) احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام يوم الشورى تجده مفصلا في الغدير 1 / 159 فما بعدها.
(2) في الأصل " سيما " والمظنون أن " لا " ساقطة من سهو القلم، فإن " سيما " لا تستعمل إلا مع الجحد خصوصا إذا أريد ترجيح ما بعدها على ما قبلها حيث لا يستثنى بها إلا ما أريد تعظيمه.
|
فإن قال: كيف يصح احتجاجكم بهذه الطريقة وغاية ما فيها أن يكون الحاضرون للشورى صدقوا بخبر الغدير، وشهدوا بصحته وأن يكون من عداهم من الصحابة الذين لم يحضروا وبلغهم ما جرى أمسكوا عن رده، وإظهار الشك فيه على سبيل التصديق أيضا، وليس في جميع ذلك حجة عندكم، لأنكم قد رددتم فيما مضى من الكتاب على من جعل تصديق الصحابة بخبر الإجماع وإمساكهم عن رده حجة في صحته.
قيل له: إنما رددنا على من ذكرت من حيث لم يصح عندنا أو لا إطباق الصحابة على الخبر المدعى في الإجماع (1) ثم لما سلمنا للخصوم ما يدعونه من إطباق الصحابة أريناهم أنه لا حجة فيه على مذاهبهم وأصولهم لأنهم يجيزون على كل واحد منهم عقلا الغلط، واعتقاد الباطل بالشبهة، فلا أمان قبل صحة ما يدعونه من السمع من وقوع ما جاز عليهم، وأبطلنا ما يتعلقون به من عادة الصحابة في قبول الصحيح من الأخبار ورد السقيم، وبينا أنهم لم يقولوا في ذلك إلا على دعوى لا يعضدها برهان، وأنهم رجعوا في أن الخطأ لا يجوز عليهم إلى قولهم أو ما يجري مجرى قولهم، وهذا لا يمنعنا من القطع على صحة ما يجمع عليه الأمة على مذاهبنا لأنا لا نجيز على كل واحد منهم الخطأ والضلال كما أجازوه من طريق العمل وإنما وإنما نجيزهما على من عدا الإمام، لأن العقل قد دلنا على وجود المعصوم في كل زمان، ومنعنا من اجتماع الأمة على الباطل إنما هو
____________
(1) يريد بالخبر (لا تجتمع أمتي على ضلال) وقد تقدم وانظر الملل والنحل ج 1 / ص 1.
|
فإن قال: جميع ما ذكرتموه إنما يصح في متن الخبر أعني هو قوله صلى الله عليه وآله: (من كنت مولاه فعلي مولاه) دون المقدمة المتضمنة للتقرير لأن أكثر من روى الخبر لم يروها (1) والإطباق من العلماء على القبول واستعمال التأويل غير موجود فيها لأنكم تعلمون خلاف خصومكم فيها وإنشاد أمير المؤمنين عليه السلام أهل الشورى لم يتضمنها في شئ من الروايات، ودليلكم على إيجاب الإمامة من الخبر متعلق بها فدلوا على صحتها.
قيل له: ليس ينكر أن يكون بعض من روى خبر الغدير لم يذكر المقدمة إلا أن من أغفلها ليس بأكثر ممن ذكرها ولا يقاربه، وإنما حصل الاخلال بها من آحاد من الرواة، ونقلة الشيعة كلهم ينقلون الخبر بمقدمته، وأكثر من شاركهم من رواة أصحاب الحديث أيضا ينقلون المقدمة ومن تأمل نقل الخبر وتصفحه علم صحة ما ذكرناه، وإذا صح فلا نكير في إغفال من أغفل المقدمة، لأن الحجة تقوم بنقل من نقلها، بل ببعضهم.
فأما إنشاد أمير المؤمنين عليه السلام أهل الشورى وخلوه من ذكر المقدمة فلا يدل على نفيها أو الشك في صحتها لأنه عليه السلام قررهم من الخبر بما يقتضي الاقرار بجميعه على سبيل الاختصار، ولا حاجة به إلى أن يذكر القصة من أولها إلى آخرها وجميع ما جرى فيها لظهورها، ولأن الاعتراف بما اعترف به منها هو اعتراف بالكل، وهذه عادة الناس
____________
(1) يريد بالمقدمة قوله صلى الله عليه وآله: (ألست أولى بكم من أنفسكم؟).
|
وأما الدليل على أن لفظ (مولى) تفيد في اللغة أولى فظاهر لأن من كان له أدنى اختلاط باللغة وأهلها يعرف أنهم يضعون هذه اللفظة مكان أولى كما أنهم يستعملونها في ابن العم، وما المنكر لاستعمالها في الأولى إلا
____________
(1) إجمال حديث الطائر أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وآله طائر مشوي بين رغيفين فقال صلى الله عليه وآله: (اللهم ائتني بأحب خلقك إليك) وفي رواية (وإلى رسولك يأكل معي من هذا) فجاء علي عليه السلام... الحديث وقد رواه جماعة من أصحاب المسانيد والسنن باختلاف يسير ومعنى واحد منهم الترمذي 2 / 299، والخطيب في التاريخ 3 / 171 و 9 / 369 والحاكم في المستدرك 3 / 130 و 131 وأبو نعيم في الحلية 6 / 339 وابن الأثير في أسد الغابة 4 / 30 وقال: " وقد رواه عن أنس غير واحد ".
|
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه | مولى المخافة خلفها وأمامها (3) |
وليس أبو عبيدة ممن يغلط في اللغة، ولو غلط فيها أو وهم لما جاز أن يمسك عن النكير عليه والرد لتأويله غيره من أهل اللغة ممن أصاب ما غلط فيه على عادتهم المعروفة في تتبع بعضهم لبعض، ورد بعض على بعض فصار قول أبي عبيدة الذي حكيناه مع أنه لم يظهر من أحد من أهل اللغة رد له، كأنه قول للجميع، ولا خلاف بين المفسرين في أن قوله
____________
(1) أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي بالولاء من العلماء باللغة والشعر والأدب، وأيام العرب وأخبارها قال فيه الجاحظ: " لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه " وهو أول من صنف في غريب الحديث توفي سنة 209.
(2) الحديد 15.
(3) البيت من المعلقة، ويروى " فعدت " بالعين المهملة، أي أنها خائفة من كلا جانبيها، من خلفها وأمامها، والفرج: الواسع من الأرض، والفرج أيضا:
الثغر، والثغر موضع المخافة، ومولى المخالفة معناه ولي المخالفة، أي الموضع الذي فيه المخالفة، (أنظر شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 150).
|
وقال الأخطل (2):
فأصبحت مولاها من الناس بعده | وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا |
وقال أيضا مخاطبا بني أمية:
أعطاكم الله جدا تنصرون به | لا جد إلا صغير بعد محتقر |
لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه | ولو يكون لقوم غيركم أشروا (3) |
وقال غيره:
____________
(1) النساء 33.
(2) الأخطل: غياث برغوث التغلبي، لقب بالأخطل لبذاءة لسانه، وروي أنه هجا رجلا من قومه فقال له إنك لأخطل، نشأ في أطراف الحيرة ثم اتصل بالأمويين فكان شاعرهم المفضل، وكان أحد الشعراء الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل زمانهم جرير والفرزدق والأخطل توفي سنة 90. والبيت من قصيدة له في مدح يزيد بن معاوية وقد أجاره من النعمان بن بشير حين هجا الأخطل الأنصار فأراد النعمان الانتصاف منه مطلعها:
صحا القلب إلا من ضغائن فاتني | بهن أمير مستبد فأصعدا |
(ديوان الأخطل ص 84).
(3) هما من قصيدة للأخطل في مدح عبد الملك بن مروان مطلعها:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا | وأزعجتهم نوى في صرفها غير |
وهي كما في ديوانه ص 98 أربعة وثمانون بيتا، ويروى أن عبد الملك لما أنشده الأخطل هذه القصيدة أمر غلامه أن يغمره بالحلل، وأمر له بجفنة كانت بين يديه فملئت له دراهم، وقال: إن لكل قوم شاعرا، وإن شاعر بني أمية الأخطل. (أنظر معاهد التنصيص 1 / 272 - 276 وديوان الأخطل ص 163).
|
كانوا موالي حق يطلبون به | فأدركوه وما ملوا وما تعبوا |
وقال العجاج (1):
الحمد لله الذي أعطى الخير | موالي الحق أن المولى شكر |
وروي في الحديث: (أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل) (2) كل ما استشهدنا به لم يرد بلفظ مولى فيه إلا معنى أولى دون غيره، وقد تقدمت حكايتنا عن المبرد قوله: " إن أصل تأويل الولي الذي هو أولى أي أحق ومثله المولى " وقال في هذا الموضع بعد أن ذكر تأويل قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) (3) " والولي والمولى معناهما سواء وهو الحقيق بخلقه المتولي لأمورهم ".
وقال الفراء (4) في كتاب " معاني القرآن ": الولي والمولى في كلام
____________
(1) العجاج: هو أبو الشعثاء بن رؤبة السعدي، والعجاج لقب له، ولد في الجاهلية، وقال الشعر فيها ثم أسلم، من الشعراء المجيدين، وهو أول من رفع الرجز وشبهه بالقصيدة، توفي حدود سنة 90، والبيت ثاني بيت من أرجوزته في مدح عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان وذلك لما وجهه إلى أبي فديك عبد الله بن ثور القيسي الحروري فقتله وأصحابه فقال العجاج:
قد جبر الدين الإله فجبر | وعور الرحمن من ولي العور |
فالحمد لله الذي أعطى الحبر | موالي الحق أن المولى شكر |
وعور: أفسد، وولى: جعله وليا له، وقيل: العور: الحق فعلى المعنى الأول يكون ضمير " من " للمقتول وعلى الثاني للقاتل، والحبر: السرور، يقال هو في حبرة من العيش أي مسرة (وانظر ديوان العجاج ج 1 ص 4).
(2) سنن الترمذي 1 / 204 أبواب النكاح، وفي نهاية ابن الأثير ج 4 / 229 مادة (ولا) عن الهروي، وقال بعد نقل الحديث: " وليها " أي والي أمرها.
(3) سورة محمد 11.
(4) الفراء: أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي من أئمة اللغة والأدب ومن تلامذة الكسائي، قال فيه ثعلب: " لولا الفراء ما كانت اللغة، ولد بالكوفة ونشأ بها، ثم انتقل إلى بغداد فعهد إليه المأمون تأديب ولديه، توفي سنة 207 في طريق مكة، والفراء - بتشديد الراء - لأنه كان يفري الكلام بحثا وتحقيقا، ويقال لأبيه الأقطع لأن يده قطعت يوم فخ وكان مع الحسين بن علي بن الحسين بن الحسن بن علي عليهم السلام.
|
وقال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري في (1) كتابه في القرآن المعروف ب (المشكل): " والمولى في اللغة ينقسم على ثمانية أقسام، أولهن المولى المنعم المعتق ثم المنعم عليه المعتق والمولى الولي والمولى الأولى بالشئ " وذكر شاهدا عليه الآية التي قدمنا ذكرها وبيت لبيد " والمولى الجار، والمولى ابن العم، والمولى الصهر، والمولى الحليف " واستشهد على كل قسم من أقسام المولى بشئ من الشعر لم نذكره لأن غرضنا سواه.
وقال أبو عمرو غلام ثعلب في تفسير بيت الحارث بن حلزة (2):
الذي هو:
____________
(1) أبو بكر الأنباري محمد بن القاسم بن محمد نسبة إلى الأنبار، كان من أعلم أهل زمانه بالأدب واللغة، ومعرفة أيام العرب، ومن أكثرهم حفظا للأشعار وشواهد القرآن حتى قيل: كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا للقرآن وثلاثمائة ألف شاهد من شواهده توفي ببغداد سنة 328.
(2) يعني أبا عمرو بن العلاء.
(3) الحارث بن حلزة اليشكري شاعر جاهلي من أهل بادية العراق، ومن أصحاب المعلقات، ومطلع معلقته:
آذنتنا ببينها أسماء | رب ثاو يمل منه الثواء |
ارتجلها بين يدي عمر بن هند ملك الحيرة، وأكثر من الفخر بها حتى ضرب به المثل فقيل: (أفخر من الحارث بن حلزة).
|
زعـمـوا أن كـل مـن ضـر | ب العير موال لنا، وأني الولاء (1) |
أقسام المولى وذكر في جملة الأقسام، أن المولى السيد وإن لم يكن مالكا، والمولى الولي.
وقد ذكر جماعة ممن يرجع إلى مثله في اللغة أن من جملة أقسام المولى السيد الذي ليس بمالك ولا معتق، ولو ذهبنا إلى ذكر جميع ما يمكن أن يكون شاهدا فيما قصدناه لأكثرنا، وفيما أوردناه كفاية ومقنع.
فإن قيل: أليس ابن الأنباري قد أورد أبيات الأخطل التي استشهدتم بها وشعر العجاج والحديث الذي رويتموه وتأول لفظه مولى في جميعه على ولي دون أولى فكيف ذكرتم أن المراد بها الأولى؟
قيل له: الأمر على ما حكيته عن ابن الأنباري غير معلوم في اللغة أن لفظة ولي تفيد معنى أولى، وقد دللنا على ذلك فيما تقدم من الكلام في تأويل قوله: (إنما وليكم الله) وجميع ما استشهدنا به من الشعر والخبر لا يجوز أن يكون المراد بمولى فيه ألا الأولى ومن كان مختصا بالتدبير ومتوليا للقيام بأمر (ما قيل إنه مولاه، لأنه متى لم يحمل على ما قلناه لم يفد فكيف يصح حمل قوله: بغير إذن مولاها) إذا قيل: إن المراد به وليها على غير من يملك تدبيرها وإليه العقد عليها.
فإن قيل: قد دللتم على استعمال لفظة " مولى " في أولى فما الدليل على أن استعمالهم جرى على سبيل الحقيقة لا المجاز، والمجاز قد يدخل في الاستعمال كما تدخل الحقيقة.
____________
(1) البيت من المعلقة و " العير " الوتد أو الحمار، وغالبية الناس في زمانه من أهل
الوبر يضربون الأوتاد عند إقامتهم، أو الحمير عند ركوبهم والمعنى أنهم يلزموننا
ذنوب جميع الناس مع أنهم غير موالين لنا، وتقرأ " أنا " فيكون المعنى نحن أهل
الولاء فحذف المضاف.