الإستدلال بحديث المنزلة
قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وآله: " أنت مني بمنزلة هارون بن موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1) فاقتضى هذا الظاهر أن له كل منازل هارون من موسى، لأنه أطلق ولم يخص إلا ما دل عليه العقل، والاستثناء المذكور (2) ولولا أن الكلام يقتضي الشمول
____________
(1) حديث المنزلة أخرجه جماعة من الحفاظ وأرباب المسانيد كالبخاري في صحيحه 4 / 208، كتاب بدء الخلق باب مناقب علي بن أبي طالب و ج 5 / 129، كتاب المغازي، باب غزوة تبوك، ومسلم في صحيحه 2 / 360، كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عبد البر بترجمة علي عليه السلام من الاستيعاب 3 / 45 وعقب عليه بقوله: " وهو من أثبت الآثار وأصحها رواه عن النبي سعد بن أبي وقاص " قال: " وطرق سعد فيه كثيرة ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره " قال: " ورواه ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأم سلمة، وأسماء بنت عميس، وجابر بن عبد الله وجماعة يطول ذكرهم " ورواه أحمد في المسند بطرق عديدة عن جماعة من الصحابة (انظر الجزء الأول ص 173 و 175 و 177 و 179 و 182 و 185 و 331، والجزء السادس 369 و 438، وفي صواعق ابن حجر ص 179 قال أخرج أحمد " إن رجلا سأل معاوية عن مسألة، فقال: سل عنها عليا فهو أعلم، قال: جوابك فيها أحب إلي من جواب علي، قال بئس ما قلت لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغره بالعلم غرا، ولقد قال له: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " وكان عمر إذا أشكل عليه شئ أخذ منه قال: " وأخرجه آخرون ولكن زاد بعضهم: قم عني لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان " ونقله كل علماء السيرة عند تعرضهم لغزوة تبوك، والكلام في ذكر كل ما هنالك يطول.
(2) غ " والاستدلال " وهو خطأ ".
|
____________
(1) غ " خليفة ".
(2) غ " فيما قلناه ".
(3) غ " أو غيبة ".
(4) الأعراف 142.
(5) التكملة من " المغني ".
|
يقال له: نحن نبين كيفية الاستدلال بالخبر الذي أوردته على إيجاب النص ونورد من الأسئلة والمطالبات ما يليق بالموضع ثم نعود إلى نقض كلامك على عادتنا فيما سلف من الكتاب فنقول: إن الخبر دال على النص من وجهين ما فيهما إلا قوي معتمد أحدهما أن قوله صلى الله عليه وآله " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " يقتضي حصول جميع منازل هارون من موسى عليه السلام لأمير المؤمنين إلا ما خصه الاستثناء المتطرق (2) به في الخبر وما جرى مجرى الاستثناء من العرف، وقد علمنا أن منازل هارون من موسى هي الشركة في النبوة، وأخوة النسب والفضل والمحبة والاختصاص على جميع قومه والخلافة له في حال غيبته على أمته، وأنه لو بقي بعده لخلفه فيهم ولم يجز أن يخرج القيام بأمورهم عنه إلى غيره، وإذا خرج بالاستثناء منزلة النبوة، وخص العرف منزلة الأخوة في النسب لأن من المعلوم لكل أحد ممن عرفهما عليهما السلام أنه لم يكن بينهما أخوة نسب وجب القطع على ثبوت ما عدا هاتين المنزلتين، وإذا ثبت ما عداهما وفي جملته أنه لو بقي لخلفه ودبر أمر أمته وقام فيهم مقامه، وعلمنا بقاء أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 159.
(2) المستطرق به خ ل أيضا " المنطوق به " خ ل.
|
فإن قالوا: دلوا أولا على صحة الخبر فهو الأصل، ثم على أن من جملة منازل هارون من موسى أنه لو بقي بعد وفاته لخلفه وقام بأمر أمته، ثم على أن الخبر يصح فيه طريقة العموم، وأنه يقتضي ثبوت جميع المنازل بعد ما أخرجه الاستثناء وما جرى مجراه.
قيل: أما الذي يدل على صحة الخبر فهو جميع ما دل على صحة خبر الغدير مما استقصيناه فيما تقدم وأحكمناه، ولأن علماء الأمة مطبقون على قبوله وإن اختلفوا في تأويله والشيعة تتواتر به وأكثر رواة الحديث يرويه ومن صنف الحديث منهم أورده من جملة الصحيح، وهو ظاهر بين الأمة شائع كظهور سائر ما نقطع على صحته من الأخبار واحتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أهل الشورى يصححه، ومن يحكي أنه رده أو أظهر الشك فيه لا شك إذا صحت الحكاية عنه في شذوذه وتقدم الإجماع لقوله ثم تأخره عنه، وكل هذا قد تقدم فلا حاجة بنا إلى بسطه.
وأما الدليل على أن هارون عليه السلام لو بقي بعد موسى لخلفه في أمته فهو أنه قد ثبت خلافته له في حال حياته بلا خلاف وفي قوله تعالى:
(وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) (1) أكبر شاهد بذلك. وإذا ثبت الخلافة له في حال الحياة وجب حصولها له بعد حال الوفاة لو بقي إليها لأن خروجها عنه في حال من الأحوال مع بقائه حط له من رتبة كان عليها، وصرف عن ولاية فوضت إليه، وذلك يقتضي من التنفير أكثر مما يعترف به خصومنا من المعتزلة بأن الله تعالى يجنب أنبياءه عليهم السلام من القباحة في الخلق
____________
(1) الأعراف 142.
|
فإن قال: ولم زعمتم أن فيما ذكرتموه تنفيرا قيل له: لأن خلافة هارون لموسى عليهما السلام كانت منزلة في الدين جليلة، ودرجة فيه رفيعة، واقتضت من التبجيل والتعظيم ما يجب لمثلها لم يجز أن يخرج عنها لأن في خروجه عنها زوال ما كان له في النفوس بها من المنزلة، وفي هذا نهاية التنفير والتأثير في السكون إليه ومن دفع أن يكون الخروج عن هذه المنزلة منفرا كمن دفع أن يكون سائر ما عددناه منفرا.
فإن قال: إذا ثبت فيما ذكرتموه أنه منفر وجب أن يجتنبه هارون عليه السلام من حيث كان نبيا ومؤديا عن الله عز وجل، لأنه لو لم يكن نبيا لما وجب أن يجتنب المنفرات، فكأن نبوته هي المقتضية لاستمرار خلافته إلى بعد الوفاة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد استثنى في الخبر النبوة وجب أن يخرج معها ما هي مقتضية له وكالسبب فيه، وإذا أخرجت هذه المنزلة مع النبوة لم يكن في الخبر دلالة على النص الذي تدعونه.
قيل له: إن أردت بقولك إن الخلافة من مقتضى النبوة أنه من حيث كان نبيا تجب له هذه المنزلة كما يجب له سائر شروط النبوة فليس الأمر كذلك، لأنه غير منكر أن يكون هارون قبل استخلاف موسى له شريكا في نبوته، وتبليغ شرعه وإن لم يكن خليفة له فيما سوى ذلك في حياته ولا بعد وفاته، وإن أردت أن هارون بعد استخلاف موسى له في حياته يجب أن يستمر حاله ولا يخرج عن هذه المنزلة، لأن خروجه عنها يقتضي التنفير الذي يمتنع نبوة هارون منه، وأشرت في ذلك أن النبوة تقتضي الخلافة بعد الوفاة إلى هذا الوجه فهو صحيح، غير أنه لا يجب ما ظننته من استثناء الخلافة باستثناء النبوة، لأن أكثر ما فيه أن يكون
|
وليس له أن يقول: إن ما ذكرتم حاله لم يختلفا في جهة العطية، وما هو كالسبب لها لأن القول من الموصي هو المقتضي لها، والمذكوران يتساويان فيه، وذلك أن سبب استحقاق العطية في الحقيقة ليس هو القول، بل هو ما تقدم ثمن البيع وقيمة التلف أو ما جرى مجراهما، وهو مختلف لا محالة، وإنما يجب بالقول على الموصى إليه العطية، فأما الاستحقاق على الموصي وسببه فيتقدمان بغير شك، ويزيد ما ذكرناه وضوحا أن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح به حتى يقول: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " في خلافته له في حياته واستحقاقها له لو بقي إلى بعد وفاته إلا أنك لست بنبي كان كلامه صلى الله عليه وآله صحيحا غير متناقض ولا خارج عن الحقيقة، ولم يجب عند أحد أن يكون باستثناء النبوة نافيا لما أثبته من منزلة الخلافة بعد الوفاة، وقد يمكن مع ثبوت هذه الجملة أن يرتب الدليل في
|
|
قيل له: لو خلينا وظاهر الكلام لأوجبنا ما ذكرته، غير أن الإجماع مانع منه لأن الأمة لا تختلف في أنه عليه السلام لم يكن مشاركا للرسول صلى الله عليه وآله في فرض الطاعة على الأمة في جميع أحوال حياته حيث ما كان عليه هارون في حياة موسى ومن قال منهم: إنه مفترض الطاعة في تلك الأحوال يجعل ذلك في أحوال غيبة الرسول عن الأمة في جميع أحوال حياته حيث ما كان عليه هارون في حياة موسى ومن قال منهم: إنه مفترض الطاعة في تلك الأحوال يجعل ذلك في أحوال غيبة الرسول صلى الله عليه وآله على وجه الخلافة له لا في أحوال حضوره، وإذا خرجت أحوال الحياة بالدليل تثبت الأحوال بعد الوفاة بمقتضى اللفظ فإن قال ظاهر قوله عليه السلام: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " لم يمنع مما ذكرتموه لأنه يقتضي من المنازل ما حصل لهارون من جهة موسى واستفادة به، وإلا فلا معنى لنسبة المنازل إلى أنها منه، وفرض الطاعة الحاصل عن النبوة غير متعلق بموسى عليه السلام ولا واجب من جهته.
قيل له: أما سؤالك فظاهر السقوط على كلامنا، لأن خلافة هارون لموسى في حياته لا شك في أنها منزلة منه، وواجبة بقوله الذي ورد به القرآن، فأما ما أوجبناه من استخلافه الخلافة بعده فلا مانع من إضافته أيضا إلى موسى عليه السلام، لأنه من حيث استخلفه في حياته وفوض إليه تدبير قومه ولم يجز أن يخرج عن ولاية جعلت له، وجب حصول هذه المنزلة له بعد الوفاة، فتعلقها بموسى عليه السلام تعلق قوي، فلم يبق إلا أن نبين الجواب على الطريقة التي استأنفناها، والذي يبينه أن قوله صلى الله عليه وآله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " لا يقتضي ما ظنه السائل من حصول المنازل بموسى عليه السلام ومن جهته، كما أن قول أحدنا: أنت مني بمنزلة أخي مني أو بمنزلة أبي مني لا يقتضي كون الأخوة
|
من دخل داري أكرمته إلا زيدا فهمنا من كلامه بدخول الاستثناء إن من عدا زيدا مراد بالقول، لأنه لو لم يكن مرادا لوجب استثناؤه مع إرادة
|
ووجه آخر وهو إنا وجدنا الناس في هذا الخبر على فرقتين منهم من ذهب إلى أن المراد منزلة واحدة لأجل السبب الذي يعدون خروج الخبر عليه أو لأجل عهد أو عرف، والفرقة الأخرى تذهب إلى عموم القول بجميع ما هو منزلة لهارون من موسى عليهما السلام بعد ما أخرجه الدليل على اختلافهم في تفصيل المنازل وتعيينها، وهؤلاء هم الشيعة وأكثر مخالفيهم، لأن القول الأول لم يذهب إليه إلا الواحد والاثنان، وإنما يمتنع من خالف الشيعة من إيجاب كون أمير المؤمنين عليه السلام خليفة النبي صلى الله عليه وآله من حيث لم يثبت عندهم أن هارون لو بقي بعد موسى لخلفه، ولا أن ذلك مما يصح أن يعد في جملة منازله فكان كل من ذهب إلى أن اللفظ يصح تعديه المنزلة الواحدة ذهب إلى عمومه فإذا فسد قول من قصر القول على المنزلة الواحدة لما سنذكره، وبطل وجب عمومه لأن أحدا لم يقل بصحة تعديته مع الشك في عمومه، بل القول بأنه مما يصح أن يتعدى، وليس بعام خروج عن الإجماع.
فإن قال: وبأي شئ تفسدون أن يكون الخبر مقصورا على منزلة واحدة لأجل السبب أو ما يجري مجراه.
قيل له: أما ما تدعي من السبب الذي هو إرجاف المنافقين (1)، ووجوب حمل الكلام عليه وألا يتعداه فيبطل من وجوه:
منها، أن ذلك غير معلوم على حد العلم بنفس الخبر (2) بل غير معلوم أصلا، وإنما وردت به أخبار آحاد وأكثر الأخبار واردة بخلافه، وأن أمير المؤمنين عليه السلام لما خلفه النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة في
____________
(1) الأرجاف: واحد أراجيف الأخبار، وأرجف القوم خاضوا في أخبار الفتن وغيرها، ومنه (المرجفون في المدينة).
(2) خ " على حد تيقن الخبر ".
|
ومنها، إن الذي يقتضيه السبب مطابقة القول له، وليس يقتضي مع مطابقته ألا يتعداه وإذا كان السبب ما يدعونه من إرجاف المنافقين أو استثقاله عليه السلام أو كان الاستخلاف في حال الغيبة والسفر فالقول على مذهبنا وتأويلنا يطابقه ويتناوله، وإن تعداه إلى غيره من الاستخلاف بعد الوفاة الذي لا ينافي ما يقتضيه السبب، يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح بما ذهبنا إليه حتى يقول: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " في المحبة والفضل والاختصاص والخلافة في الحياة وبعد الوفاة لكان السبب الذي يدعي غير مانع من صحة الكلام واستقامته.
ومنها، إن القول لو اقتضى منزلة واحدة إما الخلافة في السفر أو ما ينافي من إرجاف المنافقين من المحبة والميل لقبح الاستثناء لأن ظاهره لا يقتضي تناول الكلام لأكثر من منزلة واحدة، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا لغيره منزلتك مني في الشركة في المتاع المخصوص دون غيرها منزلة فلان من فلان إلا أنك لست بجاري، وإن كان الجوار ثابتا بين من ذكره من حيث لم يصح تناول قوله الأول ما يصح دخول منزلة الجوار فيه، وكذلك لا يصح أن يقول: إن ضربت غلامي زيدا إلا غلامي عمرا، وإن صح أن يقول: ضربت غلماني إلا غلامي عمرا من حيث تناول
____________
(1) سيأتي ذكر هذه الأحوال ص 56 من هذا الجزء
|
طريقة أخرى من الاستدلال بالخبر على النص وهي أنه إذا ثبت كون هارون خليفة لموسى على أمته في حياته ومفترض الطاعة عليهم، وأن هذه المنزلة من جملة منازله، ووجدنا النبي صلى الله عليه وآله استثنى ما لم يرده من المنازل بعده بقوله " إلا أنه لا نبي بعدي " دل هذا الاستثناء على أن ما لم يستثنه حاصل لأمير المؤمنين عليه السلام بعده وإذا كان من جملة المنازل الخلافة في الحياة وثبتت بعده فقد صح وجه النص بالإمامة.
|
قيل له: لأن الاستثناء كما من شأنه إذا كان مطلقا أن يوجب ما لم يستثن مطلقا كذلك من شأنه إذا قيد بحال أو وقت أن يوجب ثبوت ما لم يستثن في ذلك الوقت، لأنه لا فرق بين أن يستثنى من الجملة في حال مخصوصة ما لم يتضمنه الجملة في تلك الحال وبين أن يستثنى منها ما لم يتضمنه على وجه من الوجوه، ألا ترى أن قول القائل: ضربت غلماني إلا زيدا في الدار، وإلا زيدا فإني لم أضربه في الدار، يدل على أن ضربه غلمانه كان في الدار لموضع تعلق الاستثناء بها، وأن الضرب لو لم يكن في الدار لكان تضمن الاستثناء لذكر الدار كتضمنه ذكر ما لا تشتمل عليه الجملة الأولى من بهيمة وغيرها، وليس لأحد أن يقول ويتعلق بأن لفظة " بعدي " في الخبر لا تفيد حال الوفاة، وأن المراد بها بعد نبوتي لأن الجواب عن هذه الشبهة يأتي فيما بعد مستقصى بمشيئة الله، ولا له أن يقول: من أين لكم ثبوت ما لم يدخل تحت الاستثناء من المنازل؟ لأنا قد دللنا على ذلك في الطريقة الأولى.
ونحن نعود إلى كلام صاحب الكتاب في الفصل.
أما الطريقة الأولى وهي التي بدأ بذكرها فقد استوفينا نصرتها.
وأما ما ذكره ثانيا فليس بمعتمد جملة لأن قوله تعالى في حكاية خطاب موسى لهارون (اخلفني في قومي وأصلح) إن كانت هذه الصيغة بعينها هي الواقعة من موسى عليه السلام لم يكن دلالة على ثبوت الاستخلاف في جميع الأحوال، فكيف ونحن نعلم أن الحكاية تناولت معنى قوله دون صيغته، وإنما قلنا إن قوله: (أخلفني في قومي) لا يقتضي عموم سائر الأحوال لأنه محتمل، وليس يجب في اللفظ المحتمل أن يحمل على سائر ما يحتمله إلا بدليل كما لا يجب ذلك في البعض.
فأما ما ذكره ثالثا فهو طريقة إثبات النص، وقد اعتمدها أصحابنا
|
فأما ما ذكره رابعا فهي الطريقة التي أوردناها وقد بينا كيفية دلالتها.
قال صاحب الكتاب: " واعلم أن قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) لا يتناول إلا منزلة ثابتة منه، ولا يدخل تحته منزلة مقدرة لأن المقدر ليس بحاصل ولا يجوز أن يكون منزلة لأن وصفه بأنه منزلة يقتضي حصوله على وجه مخصوص ولا فرق في المقدر بين (1) أن يكون من الباب الذي كان يجب لا محالة على الوجه الذي قدر أو لا يجب في أنه لا يدخل تحت الكلام، ويبين صحة ذلك أن قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) يقتضي منزلة لهارون من موسى معروفة يشبه (2) بها منزلته، فكيف يصح أن تدخل في ذلك المقدر وهو كقول القائل: حقك (3) علي مثل حق فلان على فلان، ودينك عندي مثل دين فلان إلى ما شاكل ذلك في أنه لا يتناول إلا أمرا معروفا حاصلا وإذا ثبت ذلك، فيقال: ننظر فإن كانت منزلة هارون من موسى معروفة حملنا الكلام عليها، وإلا وجب التوقف كما يجب مثله فيما مثلناه من الحق والدين، ويجب أن ننظر إن كان الكلام يقتضي الشمول حملناه عليه وإلا وجب التوقف عليه ولا يجوز أن يدخل تحت الكلام ما لم يحصل لهارون من المنزلة البتة، وقد علمنا أنه لم تحصل له الخلافة بعده فيجب أن لا يدخل ذلك تحت الخبر ولا يمكنهم أن
____________
(1) غ " في العدد ".
(2) غ " ليست بها منزلته " والظاهر تحريف " ليست " عن " يشبه ".
(3) غ " حصل علي ".
|
فإن قيل: إن المنزلة التي تقدرها لهارون هي كأنها ثابتة، لأنها واجبة بالاستخلاف في حال الغيبة، وإنما حصل فيها منع وهو موته قبل موت موسى عليه السلام، ولولا هذا المنع لكانت ثابتة فإذا لم يحصل مثل هذا المنع في أمير المؤمنين عليه السلام فيجب أن تكون ثابتة.
قيل له: إن الذي ذكرته إذا سلمناه لم يخرج هذه المنزلة من كونها غير ثابتة في الحقيقة وإن كانت في الحكم كأنها ثابتة وقد بينا (2) أن الخبر لم يتناول المقدر صح وجوبه أو لم يصح فنحن قبل أن نتكلم في صحة ما أوردته ووجوبه قد صح كلامنا (3) فلا حاجة بنا (4) إلى منازعتك في هذه المنزلة هل كانت تجب لو مات موسى قبله، أو كانت لا تجب؟ يبين ذلك أنه عليه السلام لو ألزمنا صلاة سادسة في المكتوبات أو صوم شوال لكان ذلك شرعا له ولوجب ذلك لمكان المعجز وليس بواجب أن يكون من شرعه الآن وإن كان لو أمر به للزم، وكذلك القول فيما ذكروه وليس كل مقدر حصل سبب وجوبه وكان يجب حصوله له ولولا المانع (5) يصح أن يقال:
إنه حاصل، وإذا تعذر ذلك فكيف يقال أنه منزلة وقد بينا أن كونه (6)
____________
(1) غ " المقدر ".
(2) غ " وقد ثبت أن الخبر ".
(3) غ " فيجب صحة كونه كلامنا ".
(4) غ " فلا حاجة بنا الآن ".
(5) غ " تحت حصوله لولا الصانع لصح " وهي محرفة قطعا ولو رجع محققوا " المغني " إلى " الشافي " لكانوا في غنى عن توجيه هذه التحريفات وهي كثيرة جدا!
(6) غ " وقد بينا أنه منزلة ".
|
يقال له: لم قلت: " إن ما يقدر لا يصح وصفه بأنه منزلة " فما نراك ذكرت إلا ما يجري مجرى الدعوى، وما أنكرت من أن يوصف المقدر بالمنزلة إذا كان سبب استحقاقه وجوبه حاصلا وليس يخرج بكونه مقدرا من أن يكون معروفا يصح أن يشار إليه ويشبه به غيره لأنه إذا صح وكان مع كونه مقدرا معلوما حصوله ووجوبه عند وجود شرطه فالإشارة إليه صحيحة، والتعريف فيه حاصل، وقد رضينا بما ذكرته في الدين لأنه لو كان لأحدنا على غيره دين مشروط يجب في وقت منتظر يصح قبل ثبوته وحصوله أن تقع الإشارة إليه، ويحمل غيره عليه، ولا يمتنع من جميع ذلك فيه كونه منتظرا متوقعا، ويوصف أيضا بأنه دين وحق وإن لم يكن في الحال ثابتا، ومما يكشف عن بطلان قولك: إن المقدر وإن كان مما يعلم حصوله لا يوصف بأنه منزلة أن أحدنا لو قال فلان مني بمنزلة زيد من عمرو في جميع أحواله وعلمنا أن ذلك قد بلغ من الاختصاص بعمرو، والتقرب منه، والزلفى عنده إلى حد لا يسأله معه شيئا من أمواله إلا أجابه إليه، وبذله ثم إن المشبه حاله بحاله سأل صاحبه درهما من ماله، أو ثوبا لوجب عليه إذا كان قد حكم بأن منزلته منه منزلة من ذكرناه أن
____________
(1) التكملة بين المعقوفين من " المغني ".
(2) المغني 20 ق 1 / 159.