الصفحة الرئيسية \ الشريف المرتضى

 

من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وشرحنا هذه الوجوه أتم شرح، وذكرنا غيرها وكل ذلك يبطل المعارضة بالنص على أبي بكر.

ومما يفيد كل خبر رواه متضمنا للإشارة إلى استخلاف الرسول صلى الله عليه وآله لعمر مضافا إلى استخلاف أبي بكر إن هذا الاستخلاف لو كان حقا لكان أبو بكر به أعرف وله أذكر، فقد كان يجب لما أنكر طلحة عليه نصه على عمر وإشارته إلى بالإمامة حتى قال له: ما تقول لربك إذا سئلت وقد وليت علينا فظا غليظا فقال: أقول يا رب وليت عليهم خير أهلك، أن يقول بدلا من ذلك أقول وليت عليهم من نص عليه الرسول صلى الله عليه وآله واستخلفه، واختاره وقال فيه: بشروه بالجنة والخلافة، وقال فيه كذا وكذا، مما روي وادعي أنه نص بالخلافة وإشارة إلى الإمامة فلما لم يكن ذلك علمنا أنه لا أصل لما يدعى في هذا الباب، على أن الخبر الذي يتضمن البشارة بالجنة والخلافة يرويه أنس بن مالك ومذهب أنس بن مالك في الإعراض عن أمير المؤمنين عليه السلام، والانحراف عن جهته معروف، وهو الذي كتم فضيلته (2) ورده في يوم الطائر عن الدخول إلى النبي صلى الله عليه وآله والقصة في ذلك مشهورة، وبدون هذا يتهم روايته، ويسقط عدالته.

____________

(1) وذلك أن عليا عليه السلام ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة فقال: أنشدكم الله رجلا سمع رسول الله يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع " من كنت مولاه فهذا علي مولاه، الحديث " فقام رجال فشهدوا بذلك، فقال عليه السلام لأنس بن مالك: لقد حضرتها فما بالك! فقال: يا أمير المؤمنين كبرت سني وصار ما أنساه أكثر مما أذكره، فقال له: إن كنت كاذبا فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة، فما مات حتى أصابه البرص، روى ذلك جماعة منهم ابن قتيبة في المعارف ص 351 وأبو نعيم في الحلية 5 / 26 والثعالبي في لطائف المعارف ص 105 وإذا أردت المزيد من ذلك فعليك بالغدير لشيخنا الأميني ج 1 ص 166 - 194.


الصفحة 104
فأما الخبر الذي رواه عن جبير بن مطعم في المرأة التي أتت رسول الله صلى الله عليه وآله فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن رجعت فلم أجدك فقال: (إن لم تجديني فائتي أبا بكر) فإنه قد دس فيه من عند نفسه (1) شيئا لو لم نرده لم يكن في ظاهره دلالة، لأنه فسر قولها فلم أجدك بأن قال: يعني الموت، وهذا غير معلوم من الخبر ولا مستفاد من لفظه، وقد يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله أمرها بأنها متى لم تجده في الموضع الذي كان فيه أن تلقى أبا بكر لتصيب منه حاجتها، أو لأنه كان تقدم إليه في معناها بما تحتاج إليه ويكون ذلك في حال الحياة لا حال الموت، فمن أين يدعي الاستخلاف بعد الوفاة، والخبر الذي يلي هذا الخبر يجري في خلو ظاهره من شبهة في الاستخلاف (2) مجرى الأول لأن قوله للذي كان يعطيه التمر في كل سنة إن أبا بكر يعطيكه لا يدل على استخلافه، وإنما يدل على وقوع العطية كما خبر، فأما أن تكون العطية صدرت عن ولاية مستحقة أو إمامة منصوص عليها، فليس في الخبر، وليس يدل هذا الخبر على أكثر من الأخبار بغيب لا بد أن يقع وقد خبر النبي صلى الله عليه وآله عن حوادث كثيرة مستقبلة على وجوه لا يدل على أن الذي خبر عن وقوعه، مما لفاعله أن يفعله، وأنه من حيث خبر عن كونه حسن خارج عن باب القبح، وهذا مثل إخباره لعائشة بأنها تقاتل أمير المؤمنين وتنبحها كلاب الحوأب (3) وإخباره عن الخوارج وقتالهم له

____________

(1) الدس: الاخفاء ودفن الشئ، والضمير في " نفسه " للقاضي.

(2) من الاستخلاف أو شبهته، خ ل.

(3) الحوأب: منزل بين الكوفة والبصرة روى ابن عبد البر في الاستيعاب 2 / 745 بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب يقتل حولها قتل كثير وتنجو بعد ما كادت " قال:

وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وفي تاريخ الطبري 3 / 485 إنها لما سمعت نباح الكلاب قالت: أي ماء هذا فقالوا: الحوأب، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيه قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه:

" ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب " فأرادت الرجوع فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم أنه قال: كذب من قال إن هذا الحوأب ولم يزل بها حتى مضت فقدموا البصرة، وقال العسقلاني في فتح الباري 16 / 165 أخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزاز وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيحين، ا ه أقول: والأدبب: طويل الوبر، ورواه بعضهم الأذنب أي طويل الذنب.


الصفحة 105
عليه السلام (1)، وغير ذلك مما يطول ذكره والخبر الذي ذكره عقيب الخبرين اللذين تكلمنا عليهما يجري مجراهما في هذه القضية لأنه ليس في أخباره بأن فلانا أو فلانا، يلي صدقاتهم بعده ما يدل على استحقاق هذه الولاية، لأنهم لم يسألوه من يولى صدقاتنا بعدك، أو من يستحق هذه الولاية، وإنما قالوا من يلي الصدقات، فقال فلان وقد يلي الشئ من يستحقه ومن لا يستحقه، فلا دلالة في الخبر.

فأما حديث سفينة فالذي يبطله ويبطل الأخبار التي ذكرناها آنفا وتكلمنا عليها وكل خبر يدعى في النص على أبي بكر وعمر على سبيل التفصيل ما تقدم من كلامنا، وأدلتنا على فساد النص عليهما على سبيل الجملة، ويبطل هذا الخبر زائدا على ذلك أنا وجدنا سني خلافة هؤلاء الأربعة تزيد على ثلاثين سنة شهورا لأن النبي صلى الله عليه وآله قبض لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة عشر وقبض أمير المؤمنين

____________

(1) أخباره صلى الله عليه وآله عن الخوارج رواه البخاري في صحيحه 4 / 189 كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة في الاسلام، ومسلم في صحيحه 1 / 750 كتاب الزكاة باب الخوارج شر الخلق، والحاكم في المستدرك 2 ص 145 و 147 و 148 و 154، وفي رواية ابن أبي الحديد 2 / 267 والبداية والنهاية 7 / 297 و 303 " هم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة "، وفي رواية ابن كثير 7 / 304 (شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي).


الصفحة 106
لتسع ليال بقيت من شهر رمضان سنة أربعين فهاهنا زيادة على ثلاثين سنة بينه ولا يجوز أن يدخل مثل ذلك فيما يخبر به صلى الله عليه وآله لأن وجود الزيادة كوجود النقصان في إخراج الخبر من أن يكون صدقا على أن توزيع السنين لم يسنده سفينة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وإنما هو شئ من جهته، وما لم يسنده لا يلتفت إليه، ولا حجة فيه، ويمكن على هذا إن كان الخبر صحيحا أن يكون المراد به استمرار الخلافة بعدي بخليفة واحد يكون مدة ثلاثين سنة، وهكذا كان فإن أمير المؤمنين عليه السلام كان وحده الخليفة في هذه المدة عندنا، وقد دللنا على ذلك، فمن أين لهم أن الخلافة في هذه المدة كانت لجماعة؟ وليس لهم أن يتعلقوا بما يوجد في الخبر من توزيع السنين على الخلفاء، لأن ذلك معلوم أن سفينة لم يسنده، وأنه من قبله.

فأما خبر الرقمين والرؤيا فالكلام عليه كالكلام على سائر ما تقدم من الأخبار، وليس في أخباره أنه يلي الخلافة دلالة على الاستحقاق، ولا على حسن الولاية، على ما تقدم فأما الخبر الذي يتضمن (أنهما سيدا كهول أهل الجنة) فمن تأمل أصل هذا الخبر بعين إنصاف علم أنه موضوع في أيام بني أمية معارضة لما روي من قوله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين عليهما السلام: (أنهما سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما) (1) وهذا الخبر الذي ادعوه يروونه عن عبيد الله بن عمر وحال عبيد الله ابن عمر في الانحراف عن أهل البيت معروفة، وهو أيضا كالجار إلى نفسه، على أنه لا يخلو من أن يريد بقوله: (سيدا كهول أهل الجنة) أنهما سيدا الكهول في الجنة) أو يريد أنهما سيدا من يدخل الجنة من كهول الدنيا،

____________

(1) صحيح الترمذي 2 / 306 سنن ابن ماجة 1 / 44 مسند أحمد 3 / 62 / 64 / 82 و 5 / 391 و 392.


الصفحة 107
فإن كان الأول فذلك باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد وقفنا وأجمعت الأمة على أن أهل الجنة جرد مرد، وأن لا يدخلها كهل وإن كان الثاني فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين عليهما السلام: (أنهما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما) لأن هذا الخبر يقتضي أنهما سيدا كل من يدخل الجنة إذا كان لا يدخلها إلا شباب وأبو بكر وعمر وكل كهل في الدنيا داخلون في جملة من يكونان عليهما السلام سيديه، والخبر الذي رووه يقتضي أن أبا بكر وعمر سيداهما من حيث كانا سيدي الكهول في الدنيا، وهما من جملة من كان كهلا في الدنيا.

فإن قيل: لم يرد بقوله: (سيدا شباب أهل الجنة) ما ظننتم، وإنما أراد أنهما سيدا من يدخل الجنة من شباب الدنيا كما قلنا في قوله: (سيدا كهول أهل الجنة).

قلنا: المناقضة بين الخبرين بعد ثابتة لأنه إذا أراد أنهما سيدا كل شباب في الدنيا من أهل الجنة فقد عم بذلك جميع من كان في الدنيا من أهل الجنة من الشباب والكهول والشيوخ لأن الكل كانوا شبابا فقد تناولهم القول، وإذا قال في غيرهما أنهما سيدا الكهول فقد جعلهما بهذا القول سيدين لمن جعلهما بالقول الأول سيديهما لأن أبا بكر وعمر إذا كانا شابين فقد دخلا فيمن يسودهما الحسن والحسين عليهما السلام إذا بلغا سنا من التكهيل (1) فقد دخلا فيمن يسودهما أبو بكر وعمر بالخبر الذي رووه وإذا كانت هذه صورة الخبرين وجب العمل على الظاهر في الرواية المنقولة المتفق عليها عنه عليه السلام واطراح الآخر وذلك موجب لفضل الحسن

____________

(1) في المخطوطة " سن التكهل ".


الصفحة 108
والحسين وأبيهما عليهم السلام على جميع الخلق.

فإن قيل: إنما أراد بقوله: (سيدا كهول أهل الجنة)، من كان في الحال كذلك دون من يأتي من بعد فكأنه قال: هما سيدا كهول أهل الجنة في وقتهما وزمانهما، وكذلك القول في الخبر الآخر الذي رويتموه فلا تعارض بين الخبرين على هذا.

قلنا: لو كان معنى الخبر الذي رويتموه ما ذكرتموه لم يكن فيه كثير فضيلة، ولا ساغ أن يدعى به فضل الرجلين على سائر الصحابة، وأن يستدل به على فضلهما على أمير المؤمنين وعلى غيره ممن لم يكن كهلا في حال تكهلهما، على أنه إذا حمل الخبر على هذا الضرب من التخصيص ساغ أيضا لغيرهم حمله على ما هو أخص من ذلك، ويجعله متناولا لكهول قبيلة من القبائل أو جماعة من الجماعات، كما جعلوه متناولا للكهول في حال من الأحوال دون غيرها، وهذا يخرجه من معنى الفضيلة جملة، على أنهم قد رووا عن النبي صلى الله عليه وآله ما يخالف فائدة هذا الخبر ويناقضها، لأنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (بنو عبد المطلب سادة أهل الجنة أنا وعلي وجعفر ابنا أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب، والحسن والحسين، والمهدي) (1) ولا شبهة في أن هذا الخبر يعارض في الفائدة الخبر الذي ذكروه، وإذا كان العمل بالمتفق عليه أولى وجب العمل بهذا واطراح خبرهم.

____________

(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 9 / 434، والحاكم في المستدرك 3 / 211، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، والمحب في الرياض 2 / 209، وقال:

أخرجه ابن السري، وابن حجر في الصواعق ص 160، وقال: أخرجه الديلمي وفي ص 235 وقال: أخرجه ابن السري والديلمي.


الصفحة 109
وبعد، ففي ضمن هذا الخبر ما يدل على فساده، لأن في الخبر أن أمير المؤمنين عليه السلام كان عند الرسول صلى الله عليه وآله إذ أقبل أبو بكر وعمر فقال: (يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما بذلك يا علي) (1) وما رأينا النبي صلى الله عليه وآله قط أمر بكتمان فضل أحد من أصحابه ولا نهى عن إذاعة ما تشرف وتفضل به أصحابه، وقد روي من فضائل هؤلاء القوم ما هو أعلى وأظهر من فضيلة هذا الخبر من غير أن يأمر صلى الله عليه وآله أحدا بكتمانه، بل أمر بإذاعته ونشره كروايتهم أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال (إئذن له وبشره بالجنة) واستأذن عمر، فقال: (إئذن له وبشره بالجنة) واستأذن عثمان، فقال:

(إيذن له وبشره بالجنة) (2) فما بال هذه الفضيلة من بين سائر الفضائل تكتم وتطوى عنهما!.

فأما ما روي عنه من قوله: (ادعوا لي أخي وصاحبي) (3) فالذي يبطله المتظاهر من قول أمير المؤمنين عليه السلام في مقام بعد آخر (أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب مفتري) (4) وإن أحدا لم

____________

(1) أخرجه الخطيب في التاريخ 7 / 118 من طريق بشار بن موسى الشيباني الخفاف وفي تهذيب التهذيب 1 / 441 قال ابن معين: " ليس بثقة - يعني بشارا - إنه من الدجالين، وقال البخاري: منكر الحديث قد رأيته، وكتبت عنه، وتركت حديثه، وكذلك في ميزان الاعتدال 1 / 310.

(2) في تاريخ بغداد 9 / 339: " عن عبد الله بن علي المديني إنه سئل عن هذا الحديث فقال: " كذب موضوع " وروى الخطيب في هذا الحديث، " وبشره بالجنة والخلافة " وعلق ابن حجر في لسان الميزان 3 / 193 على ذلك بقوله: " لو صح هذا لما جعل عمر الخلافة في أهل الشورى، وكان يعهد إلى عثمان بلا نزاع ".

(3) يعني أبا بكر (رض) وفي بعض الروايات " دعوا لي ".

(4) تقدم تخريجه.


الصفحة 110
يقل له: وأبو بكر أيضا أخو رسول الله صلى الله عليه وآله، ولأن المشهور المعروف هو مؤاخاته لأمير المؤمنين عليه السلام بنفسه، ومؤاخاة أبي بكر لعمر.

فأما روايتهم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) (1) فقد تقدم في كتابنا هذا الكلام عليه مستقصى عند اعتراضه بهذا الخبر ما يستدل به من خبر الغدير على النص وأشبعنا الكلام فيه فلا طائل في إعادته.

فأما الخبر الذي يروونه عن جعفر بن محمد عليه السلام عن أبيه أن أمير المؤمنين عليه السلام قال ما حكاه، فمن العجائب أن يروى مثل ذلك من مثل هذا الطريق الذي ما عهد منه قط إلا ما يضاد هذه الرواية، وليس يجوز أن يقول ذلك من كان يتظلم تظلما ظاهرا في مقام بعد آخر، وبتصريح بعد تلويح، ويقول فيما قد رواه ثقات الرواة، ولم يرد من خاص الطرق دون عامها: (اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم ظلموني الحجر والمدر) ويقول: (لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله) (2) ويقول فيما رواه زيد بن علي بن الحسين، قال كان علي عليه السلام يقول: (بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا فكظمت غيظي، وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض ثم إن أبا بكر هلك واستخلف عمر وقد والله علم أني أولى بالناس مني بقميصي هذا، فكظمت غيظي، وانتظرت أمري، ثم إن عمر هلك وجعلها شورى، وجعلني فيها في سادس ستة كسهم الجدة فقال اقتلوا الأقل فكظمت غيظي وانتظرت أمري، وألزقت كلكلي بالأرض حتى ما وجدت إلا القتال أو

____________

(1) تقدم الكلام عليه.

(2) انظر ص 226 من هذا الجزء.


الصفحة 111
الكفر بالله) (1) وهذا باب تغني فيه الإشارة فإنا لو شئنا أن نذكر ما يروى في هذا الباب عنه عليه السلام، وعن جعفر بن محمد وأبيه اللذين أسند إليهما الخبر الذي رواه عنهما عليهما السلام، وعن جماعة أهل البيت لأوردنا من ذلك ما لا يضبط كثرة، وكنا لا نذكر إلا ما يرويه الثقات المشهورون بصحبة هؤلاء القوم، والانقطاع إليهم، والأخذ عنهم، بخلاف الخبر الذي ادعاه لأنه متى فتش عن أصله وناقله لم يوجد إلا منحرفا متعصبا غير مشهور بالصحبة (2) لمن رواه عنه من أهل البيت عليهم السلام، ومن أراد استقصاء النظر في ذلك فعليه بالكتب المصنفات فيه، فإنه يجد فيها ما يشفي الغليل وينقع الصدى (3) ومن البديع أن يقول في مثل ما روي من قوله صلى الله عليه وآله: (علي ولي كل مؤمن بعدي) و (إنه سيد المسلمين وإمام المتقين) (4) إنه لا يعرف ويرميه بالشذوذ، وقد روي من طرق العامة والخاصة، وورد من جهات مختلفة ثم يورد في معارضته مثل هذه الأخبار.

فأما ما روي عنه صلوات الله عليه من قوله: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر ولو شئت أن اسمي الثالث لفعلت) فقد تقدم الكلام عليه على سبيل الجملة، وأفسدنا ما رواه عنه صلوات الله عليه من قوله: (إن أراد الله بالناس خيرا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم) بما يفسد به هذا الخبر وكل ما جرى

____________

(1) المنقول هنا عن ابن هلال الثقفي ورواه ابن عساكر 3 / 174 باختلاف في بعض الألفاظ.

(2) في المخطوطة " بالصحة وما في المتن أرجح.

(3) نقع الماء العطش نقعا ونقوعا: سكنه، والصدى: العطش.

(4) الترمذي 2 / 297 ومسند أحمد 3 / 111 و 4 / 447 و 5 / 356، ومستدرك الحاكم 3 / 137 وتاريخ بغداد 3 / 123.


الصفحة 112
مجراه، على أن هذا الخبر قد روي على خلاف هذا الوجه وأوردت له مقدمة أسقطت عنه ليتم الاحتجاج به وذاك أن معاذ بن الحرث الأفطس (1) حدث عن جعفر بن عبد الرحمان البلخي (2) وكان عثمانيا يفضل عثمان على أمير المؤمنين عليه السلام قال: أخبرنا أبو خباب الكلبي (3) - وكان أيضا عثمانيا - عن الشعبي ورأيه في الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام معروف قال سمعت وهب بن أبي جحيفة (4) وعمرو بن شرحبيل (5) وسويد بن غفلة (6) وعبد الرحمان الهمداني (7) وأبا جعفر الأشجعي (8) كلهم يقولون سمعنا عليا عليه السلام على المنبر

____________

(1) معاذ بن الحارث الأفطس لم اهتد لمعرفته وهو غير معاذ بن الحارث الأنصاري المعروف بابن عفراء، وغير معاذ بن الحارث الأنصاري النجاري الذي هو أحد من أقامه عمر بمصلى التراويح، المقتول يوم الحرة.

(2) حفص بن عبد الرحمن خ ل.

(3) في الأصل " أبو حباب " بالحاء المهملة وتشديد الموحدة التحتية، والصحيح " أبو جناب " بالجيم والنون - وهو أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 4 / 371 " روى عن الشعبي وطبقته " ثم نقل ضعفه عن علماء الرجال وتدليسه وعدم استحلال بعضهم لروايته وتركهم لها.

(4) وهب بن أبي جحيفة: هو وهب بن عبد الله السوائي المسمى " وهب الخير " قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: " مات النبي صلى الله عليه وآله قبل أن يبلغ الحلم، كان على شرطة علي، ويقال: إن عليا هو الذي سماه وهب الخير " توفي سنة 74.

(5) عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني تابعي توفي بالكوفة سنة 63 (تهذيب التهذيب 8 / 47).

(6) سويد بن غفلة تقدم ذكره.

(7) هو عبد الرحمن بن عوسجة النهمي قتل يوم الزاوية مع ابن الأشعث سنة 82 (تهذيب التهذيب 6 / 244).

(8) أبو جعفر الأشجعي هو ميسرة بن عمار، ويقال: ابن تمام الكوفي (تهذيب التهذيب 10 / 386 والجرح والتعديل 1 / 252).


الصفحة 113
يقول: (ما هذا الكذب الذي يقولون، ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) فإذا كانت هذه المقدمة قد رواها من روى الخبر ممن ذكرناه مع انحرافه وعصبيته فلا يلتفت إلى قول من يسقطها، فالمقدمة إذا ذكرت لم يكن في الخبر احتجاج لهم، بل يكون فيه حجة عليهم من حيث ينقل الحكم الذي ظنوه إلى ضده.

وقد قال قوم من أصحابنا: لو كان هذا الخبر صحيحا لجاز أن يحمل على أنه عليه السلام أراد به ذم الجماعة أي خاطبها بذلك، والازراء (1) على اعتقادها فكأنه قال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها في اعتقاداتها وعلى ما تذهب إليه فلان وفلان، ولهذا نظائر في الكتاب والاستعمال، قال الله تعالى: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) (2) ولم يكن إلهه على الحقيقة، بل كان كذلك في اعتقاده، وقال تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) (3) أي أنت كذلك عند نفسك وبين قومك، ويقول أحدنا: فلان بقية هذه الأمة، وزيد شاعر هذا العصر، وهو لا يريد إلا أنه كذلك في اعتقاد أهل العصر دون أن يكون على الحقيقة بهذه الصفة.

فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه وإن جاز فالظاهر بخلافه والكلام على ظاهره إلى أن يقوم دليل.

قلنا: لو كان الأمر في الظاهر على ما ادعيتم لوجب العدول عنه للأدلة القاهرة الموجبة لفضله عليه السلام على جميع الأمة على أنه قد روي ما يقتضي العدول بهذا القول عن ظاهره، وأنه خارج مخرج

____________

(1) الازراء: النقص.

(2) طه 97.

(3) الدخان 49.


الصفحة 114
التعريض، فروى عون بن أبي جحيفة قال سمعت عليا عليه السلام يقول (إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فلئن أخر من السماء فتخطفني (1) الطير أحب إلي من أن أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يقل، وإذا حدثتكم عن نفسي فإني محارب مكايد إن الله قضى على لسان نبيكم " إن الحرب خدعة " (2) ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، ولو شئت لسميت الثالث). وهذا الكلام يدل على أنه على سبيل التعريض وقد يحتاج صلوات الله عليه إلى التعريض فيحسن منه بعد أن تكون الأدلة المؤمنة من اللبس (3) واشتباه الشبهة بالحجة متقدمة، ومعلوم أن جمهور أصحابه وجلهم كانوا ممن يعتقد إمامة من تقدم عليه عليه السلام، وفيهم من يفضلهم على جميع الأمة.

وقد قيل إن معاوية بث الرجال في الشام يخبرون عنه عليه السلام بأنه يتبرأ من المتقدمين عليه، وأنه شرك في دم عثمان لينفر الناس عنه، ويصرف وجوه أكثر أصحابه عن نصرته، فلا ينكر أن يكون قال ذلك إطفاء لهذه النائرة، ومراده بالقول ما تقدم مما لا يخالف الحق.

وقال أيضا بعض أصحابنا: مما يدل على فساد هذا الخبر ما يتضمنه

____________

(1) خطف الشئ استلبه، وخطف من باب سمع وضرب والثاني قليل الاستعمال أو رديه.

(2) قال ابن الأثير في النهاية 2 / 14 مادة " خدع ": " الحرب خدعة، يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، فالأول معناه: أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة، من الخداع أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم تكن لها إقالة وهي أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثاني هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث أي إن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم، كما يقال: فلان لعبة وضحكة أي كثير اللعب والضحك ".

(3) اللبس - بفتح فسكون -: الخلط، يقال: ليس الأمر أي خلط بعضه ببعض.


الصفحة 115
لفظه من الخلل لأن قوله: (ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها) يقتضي دخول النبي صلى الله عليه وآله في الكلام الأول وتحت لفظ الأمة، لأن الأمة مضافة إليه فكيف يكون منها، وهذا يقتضي أنه من أمة نفسه، وقد دفع أيضا أصحابنا احتجاج من احتج بهذا الخبر في التفضيل بأن قالوا:

قد يتكلم المتكلم بما جرى هذا المجرى وهو خارج من جملة كلامه، وغير داخل فيه، واستشهدوا بما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله من قوله: (لا ينبغي لأحد أن يقول أني خير من يونس بن متى) (1) مع قوله:

(أنا سيد الأولين والآخرين) ومع قوله: (أنا سيد ولد آدم) (2) وإجماع الأمة على أنه أفضل الأنبياء فلولا أنه خارج من قوله: (لا ينبغي لأحد) لكان القول منه فاسدا، وكذلك روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال:

(أبو سفيان بن الحارث خير أهلي) (3) وقال: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) (4) وهو صلى الله عليه وآله خارج من ذلك، وقد يحلف الرجل أيضا ألا يدخل داره أحدا من الناس، وهو خارج من يمينه، وإذا كان صلى الله عليه وآله خارجا من الخبر من حيث كان المخاطب به لم يدل على التفضيل عليه.

____________

(1) أخرجه المناوي في كنوز الحقائق 1 / 184 عن الطبراني بلفظ (لا ينبغي لنبي أن يقول الخ).

(2) رواه وما بعده بهذا المضمون السيوطي في الجامع الصغير 1 / 107.

(3) في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله رجلان بهذه الكنية هما أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضيع رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عمه، والثاني أبو سفيان بن الحارث بن قيس الأنصاري الأوسي والظاهر أن المقصود الأول منهما، كما لم اهتد للحديث رغم طلبي له من مظانه.

(4) أخرجه الترمذي 2 / 221 والحاكم 3 / 242 وابن ماجة 1 / 68 وأحمد في مسنده 2 / 163 و 175 و 223 و 5 / 197 و 6 / 442 وغير هؤلاء.


الصفحة 116
ومن ظريف الأمور أن يستشهد القوم بهذا الخبر على التفضيل وهم يروون أن أبا بكر قال: (وليتكم ولست بخيركم) فصرح باللفظ الخاص بأنه ليس بالأفضل، ثم يتأولون ذلك على أنه خرج مخرج التخاشع والتخاضع، فألا استعملوا هذا الضرب من التأويل فيما يدعونه من قوله:

(ألا إن خير هذه الأمة) ولكن الانصاف عندهم مفقود.

فأما ما رواه عن جعفر بن محمد عليه السلام من قول أمير المؤمنين علي عليه السلام لأبي سفيان عند استخلاف أبي بكر، وقد قال له: أبسط يدك أبايعك، فوالله لأملأنها على أبي فصيل خيلا ورجلا: (إن هذا من دواهيك، وما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والاسلام) فهو خبر متى صح لم يكن فيه دلالة على أكثر من تهمة أمير المؤمنين لأبي سفيان وقطعه على خبث باطنه، وقلة دينه، وبعده عن النصح فيما يشير به، ولا حجة فيه ولا دلالة على إمامة أبي بكر، ولا تفضيله لأن أمير المؤمنين عليه السلام لم يعدل عن محارجة (1) القوم والتصريح بادعاء النص والمجاذبة عليه (2) إلا لما اقتضته الحال من حفظ أصل الدين، ولعلمه بأن المخاصمة والمغالبة فيه تؤديان إلى فساد لا يتلافى فلا بد من مخالفته في هذا الباب لكل مشير لا سيما إذا كان متهما منافقا، غير نقي السريرة، فليس في رده عليه السلام على أبي سفيان ما رآه من إظهار البيعة والمحاربة أكثر مما ذكرناه من أن الرأي كان عنده في خلافه، وليس لأحد أن يقول: لولا استحقاق متولي الأمر له لما جاز أن ينهى أمير المؤمنين عن الإجلاب عليه، والمحاربة له، ولا أن يمتنع من مبايعة أبي سفيان له بالإمامة، لأنا قد بينا أن ذلك أجمع لا يدل على استحقاق الأمر، وأن المصلحة إذا اقتضت

____________

(1) مفاعلة من الخروج.

(2) والمحاربة خ ل.


الصفحة 117
الامساك وجب وإن لم يكن هناك استحقاق من التلبس بالأمر، وأن هذا إن جعل دلالة في هذا الموضع لزم أن يكون الامساك عن الظلمة والمتغلبين على أمور المسلمين من بني أمية وغيرهم دلالة على استحقاقهم لما كان في أيديهم، ونحن نعلم أن الحسن عليه السلام لو أشار عليه مشير بعد صلح معاوية بمحاربته وبمخارجته لعصاه وخالفه، بل قد عصى جماعة أشاروا عليه بخلاف ما رآه من الامساك والتسليم، وبين لهم أن الدين والرأي يقتضيان ما فعله عليه السلام.

فأما ما رواه عن أمير المؤمنين عليه السلام من التمني لأن يلقى الله بصحيفة عمر، فهذا لا يقوله من فضله النبي صلى الله عليه وآله على الخلق بالأقوال والأفعال المجمع عليها، الظاهرة في الرواية، وقد تقدم طرف منها ولا يصدر عمن كان يصرح بتفضيل نفسه على جميع الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله ولا يقدر (1) أن يصرح بذلك أيضا، وقد تقدم الكلام على نظائر هذا الخبر على أن قوله: (وددت أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجى) أو (ما على الأرض أحد أحب إلي من أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى) لا يجوز أن يكون محمولا على ظاهره، لأن الصحيفة إنما يشار بها إلى صحيفة الأعمال، وأعمال زيد لا يجوز أن يكون بعينها لعمرو، وتمني ذلك مما لا يصح على مثله عليه السلام فلا بد من أن يقال: إنه أراد بمثل صحيفته، وبنظير أعماله، وإذا جاز أن يضمروا شيئا في صريح اللفظ جاز لخصومهم أن يضمروا خلافه، ويجعلوا بدلا من اضمار المثل الخلاف، وإذا تكافأت الدعويان لم يكن في ظاهر الخبر حجة لهم، على أن في متقدمي أصحابنا من قال: إنما تمنى أن يلقى الله بصحيفته ليخاصمه بما فيها، ويحاكمه بما تضمنته، وقالوا أيضا في

____________

(1) في حاشية المخطوطة: " ولا يقدر أحد غيره " خ ل.


الصفحة 118
ذلك وجها غير هذا معروفا، وكل ذلك يسقط تعلقهم بالخبر.

فأما ما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: " لو كنت متخذا خليلا " فقد تقدم الكلام عليه فيما مضى من الكتاب فلا وجه لإعادته، وقد تقدم أيضا في أول هذا الفصل الكلام على أن جميع ما رواه من الأخبار لا يعارض في الثبوت والصحة أخبارنا، وإن لأخبارنا في باب الحجة المزية الظاهرة، والرجحان القوي.

فأما قوله عن أبي علي: " وعلى " أن هذه الأخبار لا تقتضي النص بل هي محتملة لأن قوله صلى الله عليه وآله " إمام المتقين " أراد به في التقوى، ولو أراد به الإمامة لم يكن بأن يكون إماما للمتقين بأولى من أن يكون إماما للفاسقين " فتأويل باطل لأن حمل ذلك على أنه إمام في شئ دون شئ تخصيص ومذهبه الأخذ بالعموم، إلا أن يقوم دليل، على إنا قد بينا فيما مضى إن معنى الإمامة، وحقيقة هذه اللفظة والصفة تتضمن الاقتداء بمن كان إماما من حيث قال وفعل، فإذا ثبت أنه إمام لبعض الأمة في بعض الأمور فلا بد من أن يكون مقتدى به في ذلك الأمر على الوجه الذي ذكرناه، وذلك يقتضي عصمته، وإذا ثبتت عصمته وجبت إمامته لأن كل من أثبت له العصمة وقطع عليها أوجب له الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه وآله بلا فصل.

فأما تخصيص المتقين باللفظ دون الفاسقين فلا يمتنع وإن كان إماما للكل، كما قال تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (1) وإن كان هدى للكل فإن حمل ذلك على أن المتقين لما انتفعوا (2) بهدايته، ولم ينتفع بها الفاسقون جاز هذا القول، وكان لنا أن نقول مثل ذلك في

____________

(1) البقرة 2.

(2) في المخطوطة " إن المنافقين ما انتفعوا ".