فصل
في تتبع كلامه على من طعن في الاختيار(1)
قال الشريف المرتضى: إعلم أن كلامنا في وجوب النص، وأنه لا بد منه ولا يقوم غيره في
الإمامة مقامه تقدم، وذلك كاف في فساد الاختيار، لأن كل شئ أوجب النص بعينه فهو
مبطل للاختيار فلا معنى لتكلف كلام مستقل
(2) في إفساد
الاختيار.
واعلم أن الذي نعتمده في إفساد اختيار الإمام هو بيان صفاته التي لا دليل للمختارين عليها، ولا يمكن إصابتها بالنظر والاجتهاد، ويختص علام الغيوب تعالى بالعلم بها كالعصمة والفضل في الثواب والعلم على جميع الأمة، لأنه لا شبهة في أن هذه الصفات لا تستدرك بالاختيار، ولا يوقف عليها إلا بالنص، وهذا مما تقدم شرحه وبيانه في هذا الكتاب، وبينا أيضا أنه لا يمكن أن يقال بصحة الاختيار مع اعتبار هذه الصفات بأن يعلم الله تعالى أن المكلفين لا يتفق منهم إلا اختيار من هذه صفاته، وقلنا: إن ذلك تكليف قبيح من حيث كان مكلفا لما لا دلالة عليه، ولا إمارة تميز الواجب من غيره. وبينا أنه يلزم على ذلك جواز تكليفنا اختيار
____________
(1) انظر المغني ج 20 ق 1 / 297 - 320.
(2) في الأصل " مستقبل " والتصحيح من ض وع.
|
ولما تتبعنا ما أورده صاحب الكتاب في هذا الفصل وجدناه قد جمع فيه وحشد (2) القوي والضعيف، والبعيد والقريب، وما أورده أصحابنا على سبيل التحقيق وعلى سبيل التقريب، وقد بينا ما نعتمده في هذا الباب، ونصرناه فيما تقدم من الكتاب بأدلته، وأوردنا الجواب عما يرد عليه، وما عدا ذلك فهو غير معتمد، ولا دال لما ذكره صاحب الكتاب وغيره، ومن أورد من أصحابنا فإنما قرب بإيراده، ولم يرد التحقيق، وليس ذلك بعيب، فإنه لم يعر (3) المصنفون من الجمع بين المقرب والمحقق، وصاحب الكتاب يعلم أنه لما تتبع هو أدلة الموحدين على التوحيد في بعض كتبه لم يصحح منها إلا دليلين أو ثلاثة، وطعن على الباقي وزيفه، فإن كان على أصحابنا عيب بأن ذكروا في فساد الاختيار شيئا لا يلزم عند التحقيق والتفتيش فهذا العيب لازم لخصومهم فيما هو أعظم من باب الاختيار وأفحم، (4) وهذه الجملة
____________
(1) ع " يميز ".
(2) حشد: أي جمع.
(3) المراد لم يخل.
(4) في ض وع " بالخاء المعجمة " ومعناه بالمهملة إسكات الخصم، وبالمعجمة من الفخامة أي العظمة.
|
____________
(1) أي إن هذه الجملة تغني في رد كلامه في صحة الاختيار على طوله.
(2) ما بين المعقوفين من ا وع.
|
|
فصل
في اعتراض كلامه:
في أن أبا بكر يصلح
للإمامة(1)
اعتمد في ذلك على أن الإجماع إذا ثبت في إمامته ثبت أنه يصلح لها لأنه لو لم يصلح لما أجمعوا على إمامته، وادعى أن الصفات المراعاة في الإمامة مجتمعة فيه من علم وفضل ورأي ونسب وغير ذلك، ثم أجاب عن سؤال من سأله عن سر الدلالة على إيمانه وخروجه عن الكفر المتيقن منه بأن قال كما نعلم أنه كان كافرا من قبل بالتواتر نعلم انتقاله إلى الإيمان، والتصديق بالرسول صلى الله عليه وآله ولا يجوز أن يكون باقيا على حالته، بل اليقين قد حصل بانتقاله.
قال: " على أنا نعلم ضرورة أنه كان على دين الرسول صلى الله عليه وآله بما نقل من الأخبار، وذلك يمنع من التجويز والشك، وقد بينا أنه لا يمتنع في الاعتقادات أن تعلم ضرورة، فلا يجوز أن يقال: إذا كان ذلك باطنا (2) فكيف يدعي الاضطرار فيه وعلى هذا الوجه يدعي في كثير من الأمور إنا نعلم ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وآله، وبعد فإنا
____________
(1) أنظر المغني 20 ق 1 / 322.
(2) غ " باطلا ".
|
فأما ما اعتمده في ذلك من دعوى الإجماع على إمامته فقد سلف من الكلام على بطلان هذه الدعوى ما فيه كفاية وبينا إن الإجماع لم يثبت قط على إمامته.
فأما ادعاؤه أن الخلال المراعاة في الإمامة مجتمعة فيه فهذا منه أيضا بناء على أصله الفاسد الذي قد دللنا على بطلانه، لأنه لا يراعي في الإمام العصمة ولا كمال العلم، ولا كونه أفضل عند الله تعالى، وقد دللنا على أن ذلك معتبر وفقده مؤثر فيما تقدم من الكتاب فبطل قوله " إن الخلال المراعاة مجتمعة فيه ".
____________
(1) المغني 20 ق 1 / 322.
|
فأما قوله: " إن النبي صلى الله عليه وآله كان يعظمه ويمدحه على الحد الذي يعلم ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام " فأول ما فيه. أن ذلك غير معلوم، ولا وارد من طريق يوجب اليقين، ويرفع الريب، وما نجد في ذلك إلا أخبار آحاد مظنونة (1) مقدوحا في ورودها بضروب القدح يرويها بعض الأئمة ويدفعها بعض آخر، ويقسم (2) على بطلانها، ثم هي مع ذلك متأوله مخرجة عن وجوه تمنع من الغرض المقصود بها.
ثم يقال له: ما في مدحه وتعظيمه لو ثبت مما يدل على صلاحه
____________
(1) مبعوثة خ ل.
(2) ض " ويقيم ".
|
فإن قال: إنما نفيت بتعظيمه ومدحه من كونه كافرا ليثبت إيمانه ولم اقتصر في صلاحه للإمامة على تعظيمه ومدحه.
قيل له: إنما يمنع تعظيمه ومدحه من كونه يظهر الكفر ولا يمنع من كون مبطنا له إذا كان لا يعلم باطنه، فمن أين لك أن المدح والتعظيم يدلا على الإيمان الباطن.
فإن قال: يقنعني (1) في صلاحه للإمامة أن يكون مظهرا للإيمان ولست أحتاج إلى العلم بباطنه.
قيل له: وقد بينا أن ذلك غير مقنع، وإذا كان إظهار الإيمان يقنعك فمن الذي يخالف فيه حتى أحوجك إلى الاستدلال عليه، وإذا كنت تقنع بالظاهر فما الحاجة بك إلى ذكر الاعتقادات؟ وإنها قد تعلم ضرورة.
فإن قال: كيف تسلمون أن النبي صلى الله عليه وآله كان يعظمه على الظاهر وعندكم أنه عليه السلام كان يعلم أنه سيدفع النص وذلك عندكم كفر وردة، والكفر والردة الذي يوافى به صاحبه على مذاهبكم لا يجوز أن يتقدمه إيمان، فكيف يجوز على هذا أن يعظمه النبي صلى الله عليه وآله وهو يعلم من باطنه ما يقتضي خلاف التعظيم؟
قيل له: ليس يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله غير عالم بأنه سيدفع النص لأن هذا لا طريق إليه إلا بإعلام الله تعالى وفي الجائز أن لا يعلمه ذلك.
____________
(1) في آ وع " يقتضي " وفي نسخة أخرى " يقضي ".
|
قلنا: ليس يمتنع أن يكون عالما في الجملة دون التفصيل بأنه سيغدر به، ويدفع النص وأنذر بذلك على هذا الوجه من الاجمال، وما عدا هذا من التفضيل فليس (1) ينقطع العذر به على أنه لو سلم أنه عليه السلام كان عالما على التحديد والتعيين لجاز أن يكون تعظيمه للرجل متقدما لهذا العلم ولما علم منه هذه الحال لم يكن منه تعظيم ولا مدح، وليس معنا في العلم تاريخ ولا في المدح والتعظيم، والتجويز في هذا كاف.
وبعد، فليس يكفي في نفي تقدم الإيمان العلم بوقوع كفر في المستقبل دون أن يعلم أنه يوافى به، وليس يمنع أن يعلم النبي صلى الله عليه وآله بحال الدافعين للنص ولا يعلم بعاقبتهم، وما يموتون عليه، ومتى جوز أن يتوبوا، ولو قبل الوفاة بلحظة لم يكن قاطعا على نفي الإيمان منهم فيما تقدم بل لا بد مع التجويز لأن يتوبوا من التجويز لأن يكون الإيمان الظاهر منهم صحيحا في الباطن، وبعد، فليس جميع أصحابنا القائلين بالنص يذهبون إلى الموافاة وإلى أن من مات على كفره لا يجوز أن يتقدم منه الإيمان ومن لا يذهب إلى ذلك لا يحتاج أن يتكلف ما ذكرناه.
فأما ادعاؤه أنه كان عليه السلام كان يسميه صديقا فدون صحة ذلك خرط القتاد، وليس يقدر أحد على أن يروي عنه عليه السلام في ذلك خبرا معروفا. وإنما معولهم على المشهور والظاهر، وليس في ذلك دلالة على الصحة لأنه قد يتقرب إلى ولاة الأمور، وملاك الحمل والعقد من
____________
(1) المصدر السابق.
|
ولو قيل لمدعي ذلك أشر إلى الحال التي لقبه النبي صلى الله عليه وآله فيها بالصديق، والمقام الذي قام بذلك فيه لعجز عن إيراد شئ مقنع.
قال صاحب الكتاب: " وقال الشيخ أبو حذيفة واصل بن عطاء:
الذي يدل على بطلان طريقهم في سوء الثناء على المهاجرين والأنصار ورميهم إياهم بشرك ونفاق ما خلا طائفة يسيرة قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) (1) وقد علم من بايع تحت الشجرة فكذلك قوله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك وهم الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (2) وقال تعالى:
(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار والذين اتبعوه في ساعة العسرة) (3) وقال: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم) (4) فلو كانوا كفارا
____________
(1) الفتح 18.
(2) الحشر 8 و 9.
(3) التوبة 117.
(4) آل عمران 115.
|
قال: " وقد ثبت من مناقبه أنه سبق إلى الاسلام، وبايع الرسول صلى الله عليه وآله وواساه بنفسه وماله، ثم كان ثاني اثنين في الغار، وصاحبه في الهجرة وأنيسه في العريش يوم بدر، ووزيره والمستشار في أموره، وأميره على الموسم (3) في الحج وحين افتتحت مكة والمقدم في الصلاة أيام مرضه، والمخصوص بتسميته الصديق والمشبه من الملائكة بميكائيل، ومن الأنبياء بإبراهيم عليهم السلام ثم هو وعمر بشرا بأنهما سيدا كهول أهل الجنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله: (هما مني بمنزلة يميني من شمالي) وكل ذلك يبطل نسبتهما إلى الكفر والنفاق والردة ".
قال: " وقد بينا ما ورد في الأخبار من تعظيم أمير المؤمنين عليه السلام له والجماعة (4) وأن النبي صلى الله عليه وآله بشره وغيره بالجنة بألفاظ مختلفة، ووصفه بأنه خليله وأخوه، إلى غير ذلك مما يمنع أن يكون
____________
(1) الحشر 10.
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) غ " على الصلاة ".
(4) غ " له وللجماعة ما يغني عن إعادة ذكره ".
|
قال: " بعد ولو عدلنا (2) عن كل ذلك وجدنا ما ظهر من أحوال أبي بكر دلالة على ظاهر الفضل العظيم، والعلم بالرأي وقد بينا أنه لا يجب في الإمام أن يكون معصوما فكيف يصح أن يدعي أنه كان لا يصح للإمامة، وقد بينا أن الوجوه التي قلنا لها في معاوية وغيره أنهم لا يصلحون للإمامة لا يتأتى فيه (3) وبينا ما روي مما يدل على أنه يصلح لذلك نحو قوله: (إن وليتم أبا بكر) ونحوه من الأخبار التي يتضمن بشارته بالخلافة نصا أو تنبيها وذلك يعني عن إعادته " وحكي عن أبي علي " أن قول من يقول كان كافرا فجوزوا بقاءه على ما كان عليه بمنزلة قول من يقول كان بمكة مقيما (4) فجوزوا بقاءه على ما كان عليه لأنا كما نعلم أنه انتقل إلى المدينة نعلم انتقاله إلى الاسلام [ والدين ] (5) وقد ثبت أن الله تعالى كان يحذر نبيه المنافقين، ويمنعه من صحبتهم والاختصاص بهم، وصح أنه كان يختص أبا بكر بأعظم المنازل في سفره وحضره واختاره صاحبا له ومعينا ومشيرا ولا فرق بين ما قالوا في أبي بكر وعمر وبين من ادعى من الخوارج عليهم اللعنة أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن مؤمنا
____________
(1) غ " بل يوجب ".
(2) " قال وبعد " ساقطة من ض.
(3) غ " وكشفنا الحال فيه ".
(4) " مقيما " كانت في المغني " مغنما " فجعل المصحح مكانها " مغنم " ظنا منه أنها اسم كان ولم يفطن للمعنى، وكم له من أمثالها.
(5) الزيادة من " المغني ".
|
يقال له: قد جمعت في هذا الفصل بين أشياء كثيرة مختلفة واستقصاء كل فصل منها وإيراد جميع ما يجب أن يورد فيه يطول، لكنا نتكلم على ذلك بأخصر ما يمكن مع الاستيفاء لشرائط الحجة.
أما قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة) فأول ما فيه أنا لا نذهب أن الألف واللام للاستغراق لكل من يصلحان له، بل الظاهر عندنا مشترك متردد بين العموم والخصوص، وإنما يحمل على أحدهما بدلالة غير الظاهر.
وقد دللنا على ذلك في مواضع كثيرة، وخاصة في كلامنا المنفرد للوعيد من جملة جواب مسائل أهل الموصل (3) وإذا لم يكن الظاهر يستغرق جميع المبايعين تحت الشجرة فلا حجة لهم في الآية.
على أنا لو سلمنا ما يقترحونه من استغراق الألف واللام لم يكن في الآية أيضا دلالة على ما ادعوه لأن الله تعالى علق الرضى في الآية بالمؤمنين ثم قال: " إذ يبايعونك تحت الشجرة " فجعل البيعة حالا للمؤمنين أو تعليلا لوجه الرضى عنهم وأي الأمرين كان فلا بد فيمن وقع الرضى عنه عن أمرين:
____________
(1) الحازمية كانت في المغني " الحار " وقال المصحح: كذا بالأصل و " العجردية " " العمرون " ولم يكلف المحقق نفسه الفحص عن معناهما.
(2) ما نقله المرتضى من أول هذا الفصل إلى هنا يبدأ في المغني من 222 - 224.
(3) الحشر 8.
|
فأما قوله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم
|
فأما قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة) فالكلام فيه يجري مجرى ما تقدم لأن الظاهر لا يقتضي العموم.
ثم الظاهر من الكلام يقتضي أنهم تابوا فتاب الله عليهم، وقبل
____________
(1) الحشر 8.
|
فأما قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم) (1) فلنا أن ننازع في اقتضاء ظاهر العموم على ما تقدم وإذا سلمنا ذلك جاز أن يحمل على العفو عن العقاب المعجل في الدنيا دون المستحق في الآخرة، فقد روى هذا المعنى بعينه وقد يجوز أن يعفو الله تعالى عن الجماعة عن عقاب هذا الذنب خاصة بأن يكون سبق من حكمه ووعده أن يعفو عنه، وإن كان منهم من يستحق عقابا على ذنوب أخر لم يعف عنها. فإن العقل لا يمنع من العفو عن بعض العقاب دون بعض كما لا يمنع من العفو عن الجميع والسمع أيضا لا يمنع من ذلك إلا في أقوام مخصوصين.
فأما قوله تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان) (2) فلا حجة فيه لأنه علق المغفرة بالسبق إلى الإيمان وهذا شرط يحتاج إلى دليل في إثباته للجماعة، ومع هذا فهو سؤال وليس كل سؤال يقتضي الإجابة.
فأما ادعاؤه أنه أذهب الرجس عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله فلا أدري أي مدخل لذكر الأزواج في هذا الباب المخصوص بالكلام في أن أبا بكر هل يصلح للإمامة (3) على أنا قد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب
____________
(1) آل عمران 155.
(2) الحشر 10.
(3) لا يصلح للإمامة، خ ل.
|
فأما قوله: " كيف تزوج بهن وهن كافرات ".
فالجواب عن ذلك قد تقدم معناه عند كلامنا في تعظيمه عليه السلام لهم مع علمه بأنهم سيدفعون النص وجملة الأمر في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وآله إذا كان قد اطلع على ما سيكون من حرب زوجته لأخيه وابن عمه فلا يمتنع أن يكون ما اطلع على عاقبتها وكان مجوزا لأن تموت على الاصرار أو التوبة ومع هذا التجويز لا نقطع على كفرها في الحال مع إظهار الاسلام، فإذا قيل: إنه عليه السلام كان يعلم العاقبة لم نمنع أن يكون نكاحه لهن لأجل ما يظهرن من الإيمان والاسلام جايزا وإن لم يجز نكاح كل كافرة ولا إنكاح الكفار، وما طريقه الشرع والعقل يجوز فيه الأمور المختلفة فلا دليل فيه أوضح من فعله صلى الله عليه وآله وسلم.
فأما قوله: " إن من مناقبه أنه سبق إلى الاسلام " فباطل لأنه لا شبهة في أمير المؤمنين عليه السلام هو السابق إلى اتباع النبي صلى الله عليه وآله والإيمان به، والأمر في ذلك بين أهل النقل متعارف، وإنما ادعى قوم من أهل النصب والعناد أن إسلامه وإن كان سابقا فإنما كان على سبيل التلقين دون المعرفة واليقين لصغر سنة عليه السلام، وفضلوا لأجل ذلك إيمان أبي بكر وإن كان متأخرا.
وقد أجابت الشيعة عن هذه الشبهة وبينوا أن الأمر في سنه عليه السلام كان بخلاف ما ظنه الأعداء، وأنه كان في تلك الحال ممن يتناوله التكليف، ويصح منه المعارف، وبينوا ذلك بالرجوع إلى تاريخ وفاته
|
فإن قال: فهبوا أن أبا بكر لم يسبق الناس كلهم إلى الاسلام أليس كان من السابقين إليه؟ وهذا يدل على صلاحه للإمامة وعلى أنه لم يكن كافرا منافقا.
قيل له: ليس كل من سبق إلى إظهار الاسلام أو كان أسبق الناس
____________
(1) عندها، خ ل.
(2) ورد ذلك عنه عليه السلام في غير واحد من الصحاح والمسانيد وبحسبك أن تنظر صحيح الترمذي 2 / 301 وخصائص النسائي ص 2 ومستدرك الحاكم 3 / 112 ومسند أحمد 1 / 99 الخ.
(3) انظر الحكمة 68 من الحكم المنثورة في آخر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
(4) ع " إسلاما ".
(5) أخرجه جماعة من الحفاظ وأرباب المسانيد كالإمام أحمد في المسند 5 / 26 من طريق معقل بن يسار، وابن الأثير في أسد الغابة 5 / 520، والمتقي في كنز العمال 5 / 153 و 397 وقال: أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن بريدة، والمحب في الرياض النضرة 2 / 182 وغيرهم.
|
فأما نفي الكفر فإن أريد به نفي إظهاره وإعلانه في تلك الحال فلا شبهة في ذلك، وإن أريد به نفي إبطانه فليس في السبق إلى إظهار الاسلام نفي لذلك.
فأما ادعاؤه أنه واساه بماله ونفسه فالمواساة بالنفس إنما تكون بأن يبذل في نصرته والمدافعة عنه، ومكافحة الأعداء وذبهم عن وجهه، ومعلوم بلا شبهة حال أبي بكر.
فأما المواساة بالمال فما يحصل مع المخالفين فيها إلا على دعوى مجردة متى طالبناهم بتفصيلها وذكر الوجوه التي كان إنفاقه فيها ألطوا (1) وحاجزوا ولم يحصل منهم على شئ مقنع. ولو كان إنفاق أبي بكر صحيحا لوجب أن تكون وجوهه معروفة كما كانت نفقة عثمان في تجهيز جيش العسرة وغيره معروفة لا يقدر على إنكارها منكر، ولا يرتاب في جهاتها مرتاب، وكما كانت جهات نفقات أمير المؤمنين عليه السلام معروفة ينقلها الموافق والمخالف فمن ذلك أنه عليه السلام كان يقوم بما يحتاج النبي صلى الله عليه وآله مدة مقامه بالشعب إليه ويتمحله.
وقد روي أنه آجر نفسه من يهودي صرف أجره إلى بعض ما كان يحتاج إليه النبي صلى الله عليه وآله، وإنفاق أمير المؤمنين عليه السلام مع الاقتار والإقلال أفضل وأرفع من إنفاق أبي بكر لو ثبت مع الغنى والسعة ومن ذلك تقديمه الصدقة بين يدي النجوى ونزول القرآن بذلك
____________
(1) ألطوا بها: مجدوها.